بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى خلق البشر وهو غني عنهم، وهو أعلم بمصالحهم، وقد أرسل إليهم الرسل لإقامة الحجة عليهم ولإظهار المحجة لهم، وقفَّى على آثارهم بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، فجاء بالحنيفية السمحة، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وجاء على فترة من الرسل واقتراب من الساعة، وجهالة من الناس، فهدى الله به من أراد هدايته من أهل الأرض إلى هذه المحجة، فشرفهم على سائر الأمم من سبق ومن يأتي، فجعل هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، وجعلها شهداء على الناس، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهيداً عليها، وجعل هذا الملة خير الملل، وجعلها كفالةً وضماناً لمصالح البشر، فهي ضمان لمصالحهم الدينية والدنيوية، فلا يصلح البشرية إلا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله، ولا يمكن أن يصلوا إلى رضوان الله، ولا تحقيق مراده فيهم إلا عن طريق هذه الرسالة المشرفة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل من طلب الصواب في غير ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو ضال عن الصواب لا يمكن أن يناله.
وهذا الدين هو الدين الحق عند الله، فكل الأديان التي قبله كانت مرحلية تصلح لمرحلة محددة، وإذا تجاوزت تلك المرحلة لم تعد صالحة للتطبيق، ولذلك قال الله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، فكل الشرائع الأخرى إنما تصلح لمدة محددة ثم تزول صلاحيتها وتنتهي بعد ذلك، فمن أراد تطبيق الشرائع حتى ولو لم تحرف ولم تبدل، فإذا أراد تطبيق التوراة التي أنزلت على موسى، أو الإنجيل الذي أنزل على عيسى، وغير ذلك من الشرائع الآن، لا يستطيع ذلك؛ لأن حياة الناس لم تعد موافقة لما كانت شرعت فيه تلك الشرائع.
وما يوجد اليوم من هذه الشرائع كله محرف مبدل زيادة على ذلك، وقد عصم هذه الشريعة من التحريف والتبديل، فعصمها بهذا القرآن الذي هو حجة قائمة على الثقلين الإنس والجن إلى يوم القيامة، وكل الشرائع الأخرى كانت معجزة أنبيائها مادية، لا تقوم بها الحجة إلا على من رآها أو من نقلت إليه تواترا، كناقة صالح وعصا موسى وغير ذلك من المعجزات المادية.
أما معجزة هذا الدين فهي هذا الكتاب الذي نحفظه في صدورنا، ونقرأه في مصاحفنا وألواحنا، وهو محفوظ معصوم من التغيير والتبديل: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، لا يستطيع أحد أن يحذف منه حرفاً واحداً، ولا أن يزيد فيه حرفاً واحداً، ولا أن يغير شيئاً منه، ولذلك جاء في الحديث: ( هو حبل الله المتين، وصراطه المستقيم، من تمسك به عصم، ومن تركه من جبار قصم الله ظهره )، فهذا القرآن هو أحدث الكتب بالله عهداً، فيه خبر ما قبلنا وخبر من بعدنا، وفصل من بيننا، وهو الذي ارتضاه الله سبحانه وتعالى حكماً لأهل الأرض، وجعله حكماً مستمراً، صالحاً لكل زمان ومكان، ولذلك شرع فيه ما يكفل مصالح الناس في علاقاتهم فيما بينهم وفي علاقاتهم بربهم، فنظم للناس العبادات، ونظم لهم المعاملات، ونظم لهم الأخلاق، ونظم لهم الحقوق، فما من شيءٍ يحتاج الناس إلى تفصيله إلا جاء مفصلاً في القرآن، ولذلك قال الله تعالى: تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ [الأنعام:154]، وقال تعالى: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38]، وقال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القرآن بسنته، فجاءت الشريعة متكاملة في القرآن والسنة، فيهما بيان كل ما يحتاج إلى البيان، وأتيا على كل حاجة البشرية، وأتيا بما يرضي الله سبحانه وتعالى من عباده، فمن اقتصر على ما جاء فيهما ولم يتعده كان ناجياً في الدنيا والآخرة.
وخطاب الله ينقسم إلى قسمين: إلى قدر، وشرع، فالقدر تعبدنا الله بجهله ولم يكلفنا به وهو نافذ علينا، والشرع تعبدنا الله بتعلمه وكلفنا به.
فالشرع هو الذي نكلف بتطبيقه وتنفيذه، والقدر ليس لنا قدرة على تنفيذه ولا تطبيقه فهو نافذ علينا، لكن القدر دائماً في مصلحة من تبع الشرع، فمن تبع شرع الله كان الله له، ونصره وأيده، وما يجده من الآلام والمشكلات في هذه الحياة تكفيراً لسيئاته، ورفعاً لدرجاته، وتكون العاقبة له في النهاية والعاقبة للمتقين.
ومن خالف شرع الله ونبذه كان القدر على خلاف مراده، فإذا جاء ما ظاهره مصلحة له كان باطنه مفسدة عليه، ومضرة له، مثلما يقيضه الله للكفرة والطغاة والظلمة مما يقوون به في هذه الحياة الدنيا ويزيدون به تكبراً وعناداً، فظاهره أنه في مصلحتهم؛ لأنه يحقق هواهم في هذه الدار، ولكنه مفسدة لهم، فإنه يوصلهم إلى نهايتهم وهلكتهم في الحياة الدنيا، ويكونون به مسلطين على أنفسهم، وهو كذلك المضرة الكاملة لهم في الآخرة، فضرره بارز عليهم، فكل من تبع الشرع ورضي بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم رسولا، لا يكتب الله له في قدره إلا ما هو خير له، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( عجباً لأمر المؤمن كل أمر المؤمن له خير )، وفي رواية ( إن أمره كله له خير، إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن )، فهذا مختص بأهل الإيمان.
أما أهل الكفر والعصيان والنفاق، فما يكون لهم في هذا الدار مما يوافق هواهم، أو يحقق لهم مصلحة دنيوية، فهو وبال عليهم في آخرتهم، وأيضاً خسارة لهم في دنياهم، فلننظر إلى ما فتحه الله من الكنوز لفرعون وجنوده، ولنتذكر عاقبته ومآله، ولنتذكر ما قيض الله لعادٍ في هذه الأرض من القوة حتى قالوا: من أشد منا قوة، ولنتذكر ما قيضه الله لثمود الذين كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً فارهين، ثم بعد ذلك ماذا كانت العاقبة؟ وهكذا في كل ما يقيضه الله للطغاة والملحدين والمعتدين، الذين يخالفون شرعه فيكون القدر على خلاف مرادهم، وتكون النتيجة النهائية خسرانهم في الدنيا وفي الآخرة.
وهذا الشرع الحنيف الذي هو دين الإسلام، هو الذي يكفل السعادة لهذا الجنس البشري، فلا يمكن أن ينال البشر سعادة إلا منه، فعلى مستوى الفرد يجد الفرد فيه سعادته الروحية، فهو يحس بأنه ذو قيمة وأن لحياته معنىً، وأن لوجوده فائدة، بخلاف الذي لا يلتزم هذا الشرع، فإنه لا يحس بهذه القيمة ولا يستشعرها؛ ولذلك يعيش مثل حياة البهائم كما قال الله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ [محمد:12]، فالأنعام ليس لحياتها معنىً، فتمضي السنوات والسنوات على الإبل وهي ترعى في وقت الربيع وتجوع في وقت الصيف، ويذللها أضعف الناس وأذلهم: وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ [يس:72]، وهكذا في البهائم كلها، فنرى الكبش السمين الكبير يضجعه أضعف البشر ويذبحه، فيقضي على حياته في طرفة عين، ويسلخه ويجزئ أعضاءه، فهذه أمور ليس للحيوانات فيها أي اعتبار ولا قيمة، ومن هنا فإن الحياة الحقيقة هي السعادة بهذا الدين أن يستشعر الإنسان قيمته بانتمائه لهذا الدين ومثوله له.
وإذا أراد الإنسان أن يعرف أثر هذه السعادة الروحية، فلينظر إلى كبار السن من غير الملتزمين بالشرع، سواءً كانوا يهوداً أو نصارى أو من المسلمين الجهال المعرضين عن الله، إذا تقدم بهم العمر ووصلوا إلى أرذل العمر كان الناس يستقذرونهم، ولم يكونوا أهلاً لأن يجالسوا، ولا أهلاً لأن يستمع منهم، فقد ضعفت عقولهم فلم يبقَ لديهم تفكير، وضعفت قواهم وتغير ما فيهم من جمال وحسن، فانتقصت قيمتهم فأصبحوا كالبهائم تماماً، ومن أراد ذلك فلينظر إلى حفلات النصارى التي يجتمع فيها كبار السن، فيرى الشيخ المسن العجوز الذي يتوكأ على العصا، وهو يأتي مع الفتيان الصغار ليسمع أغنية أو ليشرب خمرةً أو غير ذلك، ويرى العجوز الكبيرة التي تخرج من بيتها ليس لها شغل إلا لعب القمار، وهكذا وما نشاهده أيضاً في بلادنا من المسلمين الكبار السن، الذين أعرضوا عن هذا الدين فلم يتعلموه بشبابهم وقوتهم ولم يعملوا به، فعاشوا ما عاشوا تبعاً لهواهم، فلما كبروا وتقدم بهم العمر وصلوا إلى أرذل العمر، فالناس ينظرون إليهم بازدراء.
وإن كبير القوم لا علم عنده صغير إذا التفت عليه المحافل
هم كبار السن، وربما تكون لهم من قبل مكانه أو مال أو غير ذلك، لكن إذا تقدم بهم العمر ووصلوا إلى الضعف والشيبة كانوا أذل البشرية، ليس لهم أي اعتبار ولا أية قيمة، وهذا يدل على أن الالتزام بهذا الدين هو الذي تحصل به السعادة؛ لأننا في مقابله نرى الملتزمين من كبار السن من كان منهم من أهل العلم والتقوى، يجله الناس إجلالاً عظيماً ويقتربون منه ويلتمسون دعاءه ويخدمونه، ويحملونه على رقابهم، وإذا مات أجتمع لجنازته الخلائق وهكذا.
كما قال أحمد بن حنبل رحمه الله: إن الموعد بيننا وبينهم الجنائز، فهذا البون الشاسع الكبير جداً، بين حال هؤلاء وهؤلاء مؤذن بأن هذا الإسلام هو الذي تنال به السعادة الحقيقية، والسعادة الروحية أولاً، ويدرك الإنسان ذلك عندما يستيقظ والناس نيام، فيذكر الله ويتوضأ ويستاك ويصلي ركعتين، عندما يسجد فتمس جبهته الأرض لأول وهلة، يتذكر أن الله أذن له في المناجاة في هذه اللحظة، التي صرف فيها كثير من الناس عن مناجاته، منهم من صرفه بالكفر، ومنهم من صرفه بالغفلة لا يدور أمر الآخرة في خلده، ولا يفكر في الموت ولا بالعرض على الله، ومنهم شغله بالجهل، فإذا استيقظ ذهب إلى التلفزيون يقلب قنواتها، أو ذهب إلى أي أمرٍ من الأمور التافهة، ومنهم من شغله بالمرض، فهو يتقلب على فراشه يميناً وشمالاً بسبب ألم في ضرسه أو في أذنه أو في عينه أو في غير ذلك، وإذا أذن الله لعبده وأمته بالمناجاة والناس نيام، فإنه ينال بذلك سعادة لا يدركها إلا من مذاق طعمها، وهي سعادة رهيبة عجيبة، يحس فيها الإنسان بلذة التقريب، وبأنه فتحت أمامه الأبواب، وأمن له في مناجاة الملك الديان في هذا الوقت، فيستشعر قول عبد الحق الإشبيلي رحمه الله: الحمد لله الذي أذن لعباده بطاعته فخروا بين يديه متذللين، ولوجهه معظمين، لم يغلق بينه وبينهم بابا، ولا أسدل دونهم حجابا، ولا خفض أودية ولا رفع شعاباً، فأثنوا عليه بما ألهمهم من الثناء، وسبحوه وحمدوه فضاهوا بذلك ملائكة قدسه في السماء، ورفعوا إليه حوائجهم لا يرفعونها إلى من سواه، يكتمونها عن الخلائق ويفضون بها إلى رب الخلائق جل جلاله، فيلبي لهم رغباتهم، وأولى هذا الترغيب أنه أذن لهم بالمسألة، فلو لم يقربهم لما أذن لهم برفع الحوائج إليه أصلا.
وهذه النعمة العظيمة الجسيمة إذا استشعرها الإنسان نال بها سعادة عجيبة، ومثل ذلك سعادته ولذته إذا أذن له بالصلاة في وقتها، فهو على موعد مع الله ينتظره وموعده للسجود غروب الشمس، وموعده بعد ذلك للسجود والمناجاة غروب الشفق، وموعده بعد ذلك طلوع الفجر، وموعده بعد ذلك وهو ينتظر بلهفة زوال الشمس عن كبد السماء، فعندما يحل النفل يبادر إلى اللقاء؛ لأنه اشتاق إلى الملك الديان، وسعد بلقائه، فإذا أذن له في وقت اللقاء بادر إليه.
ولذلك فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يبتدرون السواري إذا سمعوا أذان المغرب، كانوا إذا تأخر الإمام عن الإحرام لا يصلون لأنهم كانوا في وقت نهي، وقد أذن لهم بالصلاة فبادروا إليها شوقاً إلى الله ومحبة له.
وهذه السعادة العظيمة ينالها الإنسان كذلك في غير الصلاة من القرب، إذا فتح المصحف وقرأ القرآن، وبدأ يتذكر أن هذا الكلام الذي يقرؤه كلام الله جل جلاله، الذي نزل به الروح الأمين على قلب محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وهو أشرف ما على وجه الأرض وأكرمه على الله، ومن تشريف الله لنا أنه لم يرفعه عنا، وسيرفع عن أقوام، فلنقارن بين حالنا وحال بقية هذه الأمة عندما يرفع عنهم القرآن، ماذا يفعلون، وكيف ستكون حياتهم؟
إننا الآن في سعادة رهيبة عجيبة بهذا القرآن، إذا مرض أحدنا لجأ إليه يقرأ فينال به الشفاء: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ [فصلت:44]، وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82]، وإذا ضاقت عليه أبواب الرزق رجع إلى القرآن فوسع عليه ضيق الدنيا، وإذا اتسعت عليه أبواب الرزق عاد إلى القرآن فضيق عليه أبواب الدنيا بعد سعتها، وإذا مرض أو تألم عاد إليه، وإذا سجن عاد إليه، فهو أنيسه الذي لا يفارقه أبدا، وهذا القرآن عجائبه لا تنتهي، ففيه مائدة الله سبحانه وتعالى الموضوعة في الأرض، لا يشبع منه العلماء، ولا تنتهي عجائبه كما قال ابن عباس رضي الله عنهما.
ما من إنسان يتدبره بقلب صادق ولو لم يكن من أهل العلم، إلا فتح له أبواب من الخير والعلم لم تفتح لمن سواه، ولذلك لا تنفذ عجائبه، فكل امرأة أو كل ولد قرأ المصحف بنية التدبر لا بد أن يفتح الله له أمراً لم يفتح لمن قبله، إذا أخلص وصدق.
وكذلك غير هذا من القربات، فالإنسان المقبل على الذكر إذا جلس في وقت غفلات الناس فذكر الله خالياً ففاضت عيناه، وأقبل عليه يردد الثناء بالتسبيح والتهليل والتحميد، وهو يعلم أنها رسالة مباشرة إلى الملك الديان جل جلاله، فالملائكة المكلفون بالإنسان على الجوارح إذا قرأ القرآن وضع الملك فمه على فم الإنسان، فإذا خرج الحرف قرقر في جوف الملك، وكذلك في الذكر، ثم يرتفع به إلى الملك الديان كتاباً ورسالة إلى الله جل جلاله.
وهذه السعادة العجيبة بذكر الله سبحانه وتعالى يدركها الإنسان الذي له خبيئة من الذكر يفعلها في خلواته، إذا كان يحافظ على أذكار المساء والصباح والنوم والاستيقاظ، يحافظ على ذكرٍ معينٍ في أول النهار، أو في أول الليل؛ لأنه يعتبر النهار والليل بمثابة الجمل، إذا أمسك الإنسان بزمامه أو بخطامه انقاد له، وإذا تأخر عنه لعله يفوته ولا يدركه، فهو يريد أن يجلس على رقبته من أول الأمر، إذا غربت الشمس بادر إلى الأذكار أذكار الليل، وإذا طلع الفجر بادر إلى أذكار النهار، وهكذا حتى يمسك اليوم من أوله والليلة من أولها، ويحافظ عليها دون أن تفوت ودون أن تضيع، ويستشعر هذه السعادة عندما يكمل ورده وينظر، فيأوي إلى فراشة يريد الراحة والنوم، وهو يتذكر أنه ولله الحمد قد وفق، فلم يبقَ ذكر إلا أتى بمائة منه، قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير مائة مرة، وقال: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم مائة مرة، واستغفر الله مائة مرة، وحمد الله وكبره وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله مائة مرة، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم مائة مرة، وذكر هذه الأذكار ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى وطلب تقريبه ومرضاته، وأداءً لحقه لا طلباً لحظوظ الدنيا، فإنه بذلك ينال سعادة عجيبة، وكثير من الناس ينامون دون أن يتهيئوا للنوم، فينامون على غير ذكر الله وهي إحدى المصائب والطوام الكبرى.
ولذلك قال النووي رحمه الله: باب التحذير من النوم على غير ذكر الله، فالإنسان إذا نام على غير ذكر الله فيمكن أن يموت في نومته، فيكون قد ختم بخاتمة السوء، نسأل الله السلامة والعافية، لكن إذا نام على ذكر الله، فقد ختم على الأقل هذا اليوم الذي هو فيه، ختمه بذكر الله بخير ختام.
كذلك ينال الإنسان هذه السعادة العجيبة بهذا الإسلام عندما يتصدق ابتغاء مرضات الله، فيخفي صدقته ويعلم أنه أخذها من حلها ووضعها في محلها، واختار لها مصرفها المناسب، فعندئذٍ ينال سعادةً عجيبة، ولذةً رهيبة، تدخل إلى باطنه فيتذكر أن الله أنعم عليه وميزه حين جعل الحاجة إليه، ولم يجعله هو محتاجاً، وحين وفقه وحين قيض له المصرف المناسب، فكل ذلك ينال به الإنسان سعادة عجيبة.
وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه متمثلاً في طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه لما قتل يوم الجمل:
فتىً كان يدنيه الغنى من صديقه إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر
فتىً لا يعد المال رباً ولا يرى به نخوة إن نال مالاً ولا كبر
وكذلك ينال الإنسان هذه السعادة بالإسلام إذا حال الإسلام بينه وبين أمرٍ محرم، إذا كان في وظيفة فقيل له: إن هذه الوظيفة حرام عليه، وإن ما تتقاضاه من المال منها حرام عليك، فخرج منها لوجه الله ينال سعادة عجيبة؛ لأنه حال الإسلام بينه وبين مكاسب دنيويه لا خير له فيها، وهي مضرة على عمره ورزقه وبركته وصحته، وهكذا إذا ترك الصفقة المربحة الدنيوية ابتغاء مرضاة الله؛ لأنه علم أن فيها رباً، فتركها لوجه الله، ينال بذلك سعادة عجيبة وراحة وطمأنينة، وهكذا في أمرٍ يتركه ابتغاء مرضاة الله، لا يتركه إلا لذلك، ينال به سعادةً عجيبةً جداً؛ ولذلك كان الذي تدعوه امرأة ذات منصب وجمال، فيقول: إني أخاف الله، من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله؛ لأنه نال هذه السعادة العجيبة.
وهذه السعادة بالإسلام في هذه الحياة يجدها الفرد في هذه الأمور التي ذكرناها، سواء كانت امتثالاً أو اجتناباً، وكذلك ينالها في الأمور العقدية في الإسلام، فإذا كانت عقيدته صحيحة، وهو يرى المنحرفين والمبتدعين والضالين عن يمينه وشماله وقد وفق هو للاعتقاد الحق، وعلم أنما هو عليه برهانه من الكتاب والسنة، وأنه موافق تماماً لما كان يعتقده رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتذكر قول الله تعالى: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ [البقرة:137]، فسيحمد الله تعالى، وينعم بصفاء عقيدته وصحة تصوره.
وكذلك فيما يتعلق بالخلق إذا هدي الإنسان بخلق الإسلام، فكان صاحب رحمة ورأفة، إذا رأى مريضاً رق له، وإذا رأى كبير السن رق له، وإذا رأى صغير السن رق له، وإذا رأى فقيراً محتاجاً رق له، وإذا رأى مصاباً بأية بلية رق له، هذه صفة من صفات الإسلام، والرحمة خلق الإسلام، خلق كتبه الله على نفسه وكتبه على عباده: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:54]، ( الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء )، ( إنما يرحم الله من عباده الرحماء )، فيسعد الإنسان بهذه الرحمة عندما يجدها، وكذلك الحال بالنسبة للحياء، إذا كان الإنسان يستحي مما لا يرضي الله سبحانه وتعالى، فيستحي من الأقوال غير المرضية ومن الأفعال الغير مرضية، ومن كل ما هو غير مرضي لدى الله سبحانه وتعالى، فيجد حياءه يمنعه من فعل المحرم أو المكروه، أو من قوله فإنه يسعد بهذا الحياء؛ لأنه خلق من أخلاق الإسلام، وهو شعبة من شعبه، والحياء شعبة من الإيمان.
وكذلك في غير هذا من الأخلاق، إذا كان الإنسان لا يغضب، أو كان يحلم عندما يشتد به الغيظ فيكظم الغيظ، ويستطيع أن يمسك نفسه عند الغضب، فإنه يسعد بذلك سعادة رهيبة؛ لأنه يرى الذين يغضبون يتصرفون تصرفات غير مناسبة، ولا يحمدون غبها وعقباها، بل يندمون عليها، فكم شاهدنا ممن غضب فتصرف تصرفاً ندم عليه غاية الندم، ويغضب الإنسان غضباً لأتفه الأسباب، فيطلق أهله فتقع مشكلة اجتماعية كبيرة، ويتعب نفسه ويتعب المفتي ويتعب غيره في سبيل إصلاح ما أفسده هو، ويغضب فيقول كلمة تفسد عليه علاقاته أو صلة رحمه، ويغضب فيتصرف تصرفاً يفسد مروءته أو يؤثر على دينه، فلا يصعد إلا بترك الغضب، ولا يمكن أن يتركه الإنسان إلا باتباعه لهذا الدين، وبأخذه بهذا الإسلام الحق الذي يمنع من الغضب، فقد قال الله تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134] وقال تعالى: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى:37].
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن رجلاً أتاه، فقال: يا رسول الله! أوصني، قال: لا تغضب، فردد مراراً قال: لا تغضب ).
أما على مستوى الأسرة، فإن الأسرة السعيدة لا تسعد إلا بالإسلام، فهذا الإسلام هو الذي يقتضي من الرجل والمرأة أن ينعما بسعادة يؤدي كل واحد منهما إلى الآخر ما له من الحق، ولا يعتدي على شيءٍ من حقوقه، ويحرص على العدل والإنصاف, ولا يتصف بالتنطع، ولا يتصف كذلك بالتطفيف، فكثير من الناس مبنى علاقاتهم الأسرية على التطفيف، فالمرأة تريد أن تأخذ كل حقوقها، ولا تريد أن تؤدي إلى الزوج حقوقه، وتحاول أن تنقص حقوقه ما استطاعت، وتحاول أن تأخذ هي كل حقوقها، إذا اعتدي على أي شيءٍ من حقها غضبت ولم تقبل ذلك ولم ترضَ به بوجه من الوجوه، وإذا جاء وقت أداء حقوقه حاولت أن تنتقص منها، فهذا النوع تطفيف، وقد قال الله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:1-6].
وقد قال مالك رحمه الله: يقال لكل شيءٍ وفاء وتطفيف. وكذلك الزوج إذا كان يريد من زوجته وأولاده أن يطيعوه طاعة مطلقة، وأن يؤدوا إليه كل حقه، ولكنه هو لا ينصح لهم ولا يعلمهم ولا يحرص على أداء حقوقهم فهذا مطفف، كذلك لا ينعم ولا يسعد في أسرته.
أما إذا كانت الأسرة ملتزمة بالإسلام في سلوكها وأداء حقوق كل طرفٍ من أطرافها، فإنها تكون أسرة سعيدة، فيها من المحبة والألفة والرحمة ما امتن الله به على عباده في قوله: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21].
وكذلك العلاقة بالأولاد داخل الأسرة، فكثير من الناس يتعب ويشقى في طلب النسل، فإذا ولد له أولاد كانوا وبالاً لديه وأذىً، فلا ينعم بوجودهم ولا ينال برهم، شقي بهم قبل الوجود، وشقي بهم في صغرهم بعد الوجود، ثم بعد ذلك كانوا كباراً، فلم ينل منهم نفعاً، وكان أذاهم أقرب إليه من نفعه، فهؤلاء إنما هم شقاء في شقاء؛ لأنهم لم يتمسكوا بهذا الدين الحنيف، وكذلك بعض الناس يكون أذىً لأولاده، فلا يعينهم على بره، ولو بذلوا كل الجهود في سبيل استرضائه لما قدروا، فيكون وبالاً عليهم وأذىً لهم، فلا يمكن أن تكون هذه الأسرة سعيدة؛ لأنها لم تأخذ بالإسلام، لكن إذا أخذوا بالإسلام، فأدى الأولاد إلى الوالدين ما لهم من البر والحقوق، وتذكروا قول الله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [النساء:36]، وقوله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، وقوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا [العنكبوت:8]، فإنهم سيبادرون إلى استرضاء الوالدين وخدمتهم، ويفعلون ما أمر الله به في قوله: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:23-24].
ونحن ندرك اليوم في عالم الحضارة وفي الدول المتقدمة دور الرعاية التي يدخلها كبار السن، فكل أسرة عندما يكبر أبوها أو أمها، ولم يكن مشاركاً في الإنتاج الدنيوي، يذهب به أولاده، أو يذهب بها أولادها إلى دار الرعاية فيسلمونها لأجانب عنها، لا علاقة لها بهم ليتولوا رعايتها، ولا يزورها أهلها ولا يذكرونها، كأنما ماتت وهي حية.
والغريب في هذا الأمر أنني شاهدت في بعض البلدان الإسلامية في العالم العربي، قبل مدة يسيرة إعلاناً كبيراً على الشارع، فيه ترويج لإحدى دور رعاية العجزة، وكتب فيه أداء دين الوالدين، بئس هذا الأداء، أداء دينهما أن تسلمهما إلى أشخاص آخرين أجانب، وأن تكل رعايتهما وبرهما إلى آخرين، كيف يكون هذا أداءً لحق الوالدين ودينهما؟ وقد قال ابن عمر رضي الله عنهما: لما رأى رجلاً يحمل أمه ويطوف بها حول الكعبة، وهو يقول: هل كافأتك؟ قال ابن عمر : لا، ولا زقية واحدة، لم يكافئها أية مكافأة، ولا زقية واحدة مما بذلته، والزقية: هي الزَّية، معناه: أن الألم الذي وجدته عند وضعه لم يكافئه له بحملها على ظهره، ولا يقارن شيئاً مما بذلته الأم في سبيله.
وكذلك ما نشاهده أيضاً في كثيرٍ من المجتمعات من قطيعة الأرحام، وعدم العناية بحقوق الأخوال والخالات والأعمام والعمات، وذوو الرحم الماسة، فقطيعتها مخالفة للإسلام، وقد قال الله تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22-23].
وأنا أتعجب عندما أرى أقارب بعض الأغنياء، وبينهم الرحم الماسة، وهو يعيش في غنىً وبذخ وإسراف وأقاربه لا يجدون عشاءً يتعشون به ولا لباساً يلبسونه، فهذا من المشكلات الكبرى ومن الأمور التي لا تطاق، ولذلك يقول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90]، فقد أمر الله بإيتاء ذي القربى، معناه: بإعطاء ذوي القرابة، وقد قال البخاري رحمه الله في الصحيح في تعريف صلة الرحم، قال: هي إشراك القرابات فيما أوتي الإنسان من أنواع الخيرات، وهذا يشمل الدعاء، ويشمل التلطف والزيارة والمال، وغير ذلك، فعلى الإنسان أن يبذل جاهه لأقاربه وذوي رحمه، وأن يبذل لهم ماله ونصحه ودعاءه حتى يكون واصلاً لهم، فلا يكون واصلاً إلا إذا أشركهم في أنواع الخيرات، ولا ينبغي أن يلتمس مقابل ذلك جزاءً ولا شكوراً، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ليس الواصل بالمكافئ )، المكافئ إذا كانت المرأة إذا أهدت إليها ابنة خالتها أو ابنة عمتها ثوباً كافأتها فأهدت إليها مقابل تلك الهدية، هذه ليس واصلة، ( ليس الواصل بالمكافئ ).
فالصلة أعظمها عندما يكون الرحم كاشحاً، أي: حاسداً للإنسان وبينه وبينه عداوة، فكان يصله ويؤدي حقه، فهذا أعظم صلة الرحم وأزكاها.
وينعم الإنسان بذلك عندما يصل أرحامه ابتغاء مرضات الله، ويؤدي حقوق ذويه ابتغاء مرضات الله، وكذلك الجيران، فإن الجار له حق كبير، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما زال جبريل يحثني على الجار، حتى ظننت أنه سيورثه )، وكذلك قال: ( الجار أحق بصقبه )، أي: أحق بالذي بقربه، فهو أحق بمعروف جاره، وقال: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره )، وقال: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره )، وقال: ( الجار المسلم له حقان، والجار الكافر له حق واحد ).
ونحن اليوم في هذه المدن التي بنيت في أصل حضارتها إلا من رحم الله على قطيعة الجيران، فالجاران اللذان ليس بينهما إلا جدار لا يعرف أحدهما اسم الآخر، ولا جنسه ولا ألمه ولا أمله، ولا ما يعيش فيه، وبينهم قطيعة كاملة، وهذا ليس من سعادة هذا الدين ولا من الأخذ به، بل إنما تحصل به السعادة إذا تعرف الإنسان على جيرانه، فعم خيره ووصل نفعه إلى كل جيرانه، وأربعون داراً جار، فاستطاع أن يتعرف عليهم جميعاً, وأن يوصل إليهم ما لديه من الخير ولو كان مجرد زيارة، ولذلك ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تحقرن جارة لجارتها أن تهدي إليها ولو فرسن شاه )، مجرد فرسن، وكذلك في الحديث الآخر في صحيح مسلم ( ولو ظلف محرقاً)، والظلف هو الفرسن، محرقاً: قد أكلته النار.
وثبت في صحيح البخاري عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصاه: ( إذا طبخ لحماً أن يكثر مرقته وأن يتعاهد جيرانه )، واللحم يطبخه وهو متقلل متزهد للدنيا، يطبخ قليلاً من اللحم يكثر ماءه ومرقته ويتعاهد جيرانه بمجرد تلك المرقة، هذا أبو ذر وهذه وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالجار له حق عظيم حتى ولو كان كافراً، ولو كان منافقاً، ولو كان عاصياً، فإن ذلك لا يقطع حقه، وحقه منه الدعاء له بالهداية، ودعوته إلى الخير ونصحه بالتي هي أحسن وتعليمه ما جهل، وغير ذلك من أنواع الحقوق.
فقد أخرج الطبراني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما بال أقوامٍ لا يعلمون جيرانهم ولا يذكرونهم، فليعلمن قوم جيرانهم وليذكرونهم أو لتعاجلنهم العقوبة، قالوا: ومن تعني يا رسول الله؟ قال: الأشعريين )، فكان الأشعريون يعلمون جيرانهم بعد ذلك، فهذا التعليم حق لجيرانك، ومن المؤسف أن كثيراً من الجيران الآن لا يعرفون أحكام الطهارة، ولا أحكام الاستطابة، وكثيراً من مسائل العقيدة، وكثيراً من أحكام أداء القرآن، لا يستطيعون قراءة الفاتحة على الوجه الصحيح، ولا يعرفون أحكام الصلاة، وهم جيران لمسلمين قد ائتمنوا على هذا الدين، فكيف ينعمون ويسعدون وجيرانهم بهذه الحال.
إن سلفنا الصالح نالوا هذه السعادة العظيمة بإحسانهم إلى جيرانهم، فكانوا يحسنون إليهم ويعودونهم، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعود المرضى في المدينة حتى من كان بعيداً منهم يعوده ويركب حماره: ( وقد ذهب إلى غلام من اليهود، ذكر أنه مريض فذهب إليه يعوده، وخرج معه سعد بن أبي وقاص ، فلما آتاه وجده في السياق عند الموت، فقال: قل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فرفع الشاب اليهودي رأسه إلى أبيه يستأمره، فقال له أبوه: قل ما أمرك به أبو القاسم، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ومات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار، ثم قال لـسعد : خذوا صاحبكم، فأخذوه وغسلوه وصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفن في مقبرة المسلمين )، وأصبح بهذه اللحظة والكلمة الواحدة سيداً من سادة الأمة ومن أفضل القرون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن هذه السعادة تفوت كثيراً من المجتمعات المتحضرة، فيبدأ الإنسان في زخارف بيته وتزيينه وتزيين مزرعته وحديقته، ويغفل أن حوله بيوت صفيح، وحوله الخيام التي تأكلها الأغنام وأهلها يسكنون فيها، وحوله الناس الذين هم في مجاعة، لا يجدون عشاءً ولا غداء، بل قد نشاهد في كثيرٍ من الأحيان كثيراً من الأطعمة التي ترمى في القمامات وأهلها يعيشون في مدينة يموت فيها بعض الناس في بعض الأحيان من الجوع، فهذا ليس من هذا الدين بوجه من الوجوه، ولا هو مقبول فيه؛ بل لا بد أن يقع التآخي والتكامل بين المسلمين حتى يسعدوا بهذا الدين.
كذلك فإن سعادة الإسلام تظهر أيضاً في المجتمع فإنه يسعد به، فالمجتمع المسلم الطاهر يأمن فيه الإنسان على نفسه، لا يخاف من يؤذيه، ولا يخاف أن تؤكل غيبته ولا أن ينتهك عرضه، ولا يخاف أن يوجه إليه ما يؤذيه من الأقوال أو الأفعال، ويأمن على أهله إذا سافر أو غزى في سبيل الله، أو خرج لطلب العلم أو في التجارة، أو سافر إلى أرض بعيدة، يأمن على أهله، ويأمن كذلك على ماله؛ لأنه يعلم أن هذا المجتمع مسلم ملتزم، لا يمكن أن يعتدى فيه على مال المسلم، وهكذا ينعم أهله بالتعاون على البر والتقوى، فيسعدون باجتماعهم في الصلوات وأدائهم للقربات.
وقد شاهدت في رمضان في إحدى الدول الغربية مرة من المرات، سعادة عجيبة للمسلمين المغتربين، كل أسرة تأتي في سيارتها تحمل فطورها وعشاءها، فتأتي به إلى المركز الإسلامي في المسجد من بعيد، فيجتمع جميع المسلمين في تلك المدينة، فيستمعون إلى الدرس، ثم يفطرون معاً فيصلون صلاة المغرب، ثم يستمعون إلى الدرس والدعاء وإجابة الأسئلة، ثم يصلون صلاة العشاء وصلاة التراويح، ثم يتعشون ويقومون الليل قليلاً، فيطلع الفجر فيصلون صلاة الفجر ثم يؤوبون مسرورين إلى ديارهم، وقد اشتركوا في أزوادهم وتعاونوا على قيام هذه الليلة، وإحيائها من قبل المغرب إلى بعد الفجر، فيسعدون سعادة عجيبة، وينعمون بهذا الوقت الإسلامي الذي قضوه في المسجد، وهذا الحال ينبغي أن يكون عليه المسلمون دائماً من التعاون والتآخي، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أثنى على الأشعريين فقال: ( إنهم كانوا إذا أرملوا خلطوا أزوادهم في ثوب، فاقتسموها بإناء فهم مني وأنا منهم ).
هذه السعادة في المجتمع تقتضي كذلك أداء كل حق لصاحبه، وأن يحرص كل من تولى أمراً من أمر المجتمع على أداء الحق الذي عليه، فمن كان رئيساً أو ملكاً أو قائداً شعر بأن المسئولية على عاتقه أكبر، وأنه مسئول عن رعيته من الشعب جميعاً، وقد قال عمر رضي الله عنه: والله لو عثرت بغلة في سواد العراق في الليلة الظلماء لخشيت أن أحاسب عليها، فهو يسعى لرعاية دين الناس ودنياهم وتقويم شخصياتهم وتقويم خلقهم، ويرعى كل أمورهم.
فقد كان عمر رضي الله عنه يتعهد أفراد الأمة في المسجد لصلاة الفجر، وذات يومٍ خرج من صلاة الفجر فنظر إلى شاب من الأنصار كان يلزم مكاناً في المسجد يصلي فيه دائماً فلم يره، فخرج عمر من المسجد إليه فطرق الباب على أمه فسألها أين فلان؟ قالت: قام الليل فنام عن صلاة الفجر، فقال: ما أود لو أنني لم أشهد صلاة الفجر لقيام الليل، فشهود صلاة الفجر في المسجد أفضل من قيام الليل.
وكذلك فإنه صلى بالناس فجعل يطوف بعينه في الصف ويقول: أين معاذ ؟ فأتاه معاذ بن جبل فقال: ها أنا ذا يا أمير المؤمنين، قال: لقد ذكرتك البارحة فلم استطع أن أنم شوقاً إليك فجعلت أدعو لك، فالتزمه وبكيا وقتاً لشدة حب كل واحد منهما للآخر، وهذا النوع من الرعاة والقادة هم الذين يدعو الناس لهم بالخير، ويأسفون عليهم إذا ماتوا ويحبونهم حباً شديداً، وهم أفضل الأئمة كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( خير أمرائكم الذين تصلون عليهم ويصلون عليكم، وشر أمرائكم الذين تلعنونهم ويلعنونكم )، فالذين تصلون عليهم أي: تدعون لهم، ويصلون عليكم أي: يدعون لكم، محبة لهم؛ لأنهم قد أدوا الحق كاملاً فأحبهم الناس لذلك، كما قال الفارسي لما وقف على عمر وهو مضطجع في ظل نخلة، وقد نام في وقت الضحى، بعد جهدٍ، وقد بات يعث في المدينة يتابع الشوارع ويرعى حرمات المجاهدين وبيوتهم، فجاء إليه ذلك الرجل الفارسي الذي عهده بـكسرى متربعاً على إيوانه، وعلى مملكته وفوق رأسه تاجه، وهو يلبس سواريه، يلبس الذهب، فجاء إلى عمر وهو يلبس مرقعة وهو نائم تحت الشجرة، فقيل له: هذا أمير المؤمنين، فلم يصدق ذلك فلما عرف أنه هو قال: عدلت فأمنت فنمت، أي: لما عدلت بين الرعية أمنت من أن يتسلط عليك أحد منهم فنمت.
فالعدل سبب لانتشار الأمن والأمان، وبه ينعم الناس جميعاً وهذا العدل هو من الإسلام، وإذا أداه الإنسان على هذا الوجه، وكان بهذا الحال برعاية الغيب والمجاهدين والمسافرين يرعاهم في أهليهم، ويقوم على شئونهم كما كان عمر يفعل، فإن الأمن والأمان سينتشر.
فالمجاهدون في عهد عمر كانوا يخرجون إلى الثغور ويتركون أهليهم في المدينة، ليس لهم قيم إلا أمير المؤمنين، فأمير المؤمنين هو الذي يحتلب شياههم بيده، وهو الذي يجتلب لهم قوتهم من السوق فيشتريه لهم، وهو الذي يرعى اليتامى منهم، فأين هو من كثير من زعماء المسلمين اليوم، الذين إذا ادعي على إنسان تهمة الجهاد رموا به في ظلمات السجون ونسوه، فهذا الفرق شاسع بين الحالين هذا الذي يرعاهم ويقوم على شئونهم ويقوم على شئون ذويهم بعدهم.
وهكذا كان عثمان بن عفان رضي الله عنه بعده يعلم الناس القرآن في المسجد، يأتي في آخر الليل فيرتفق في مؤخرة المسجد، فيجتمع الناس عليه يعلمهم القرآن، وقد حفظه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من أحسن الناس حفظاً للقرآن، وقد سئل عن ذلك، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه )، والحديث في صحيح البخاري ، فحرص عثمان على أن يكون من الذين يعلمون القرآن وقد تعلموه حتى في خلافته، وهو مسئول كبير السن، قد تجاوز الثمانين والغريب أنه اليوم لا يوجد أي إسناد للقرآن في أنحاء العالم إلا ولـعثمان أجر منه؛ لأن الأسانيد تمر به؛ ولأنه الذي كتب المصاحف فدونها للناس، وهو راوي هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه )، لا يقرأ أحد منا في أية ساعة من ليل أو نهار آية واحدة أو حرفاً واحداً من القرآن إلا وحصل لـعثمان أجر منه في قبره.
كذلك فإن قيام كل إنسان بما عليه من الحقوق، وأداؤه لها هو مما يؤدي إلى هذه السعادة وهو مما يدعو إليه الإسلام، فإتقان الإنسان لوظيفته إذا كان في أية وظيفة، وعدم غشه وعدم خيانته، وأداؤه للأمانة التي ائتمن عليها، وأداء التاجر للأمانة وعدم غشه، وعدم تطفيفه في الكيل والوزن، كل هذا مما ينعم به الإنسان من سعادة هذا الإسلام.
فهذا مما يسعد به الناس من هذا الإسلام إذا كان كل إنسان يتقن ما تولاه من الوظيفة ويؤديه على أحسن الوجوه، وهكذا قيام المرأة بشئون بيتها إذا كانت تنظف المنزل وترعى الأولاد، وتؤدي الحقوق كاملة على أحسن الوجوه، وإذا خرج أهل البيت منه رتبت كل أموره، فأتوه كأنما هو بيت جديد، فهذا مما تحصل به السعادة، وهو مأمور به وهو من البرور الذي هو واجب عليها.
وكذلك إتقان الرجل لما تولاه من الوظائف إذا قام بها، فإذا كان مدرساً أتقن التدريس، وراعى حقوق الطلاب وتفهيمهم، وعدل بينهم بالتصحيح، وإذا كان قاضياً لم يرتشِ ولم يحف ولم يجر، وإذا كان والياً أدى عمله على أحسن الوجوه، وهكذا في كل الأمور بهذا تنال هذه السعادة العامة التي جاء بها هذا الدين، وإذا حصل اختلال أو اختلاف فستنخرم هذه السعادة، لكن انخرامها ليس راجعاً إلى هذا الدين؛ لأنه جاء بخلاف هذا، إنما هو راجع إلى مخالفته وعدم العناية بأداء أمره.
إن هذه السعادة العظيمة شهدها المسلمون ونعموا بها في العصور الأول، فلما كانوا يطبقون الإسلام كما أنزل كانوا خير القرون، فلذلك خير القرون القرن الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، هم أصفى الناس قلوباً وألينهم أفئدة، وأخشاهم لله وأتقاهم لله، وأقلهم زيغاً وأقلهم انحرافاً، وأحسنهم خلقاً، وأكثرهم جهاداً، وأكثرهم تضحية، وأكثرهم صدقة، وأكثرهم صياماً وقياماً وقراءة للقرآن، ثم جاء بعدهم التابعون فجروا على آثارهم ما استطاعوا، ولكن هيهات أن يدركوا الصحابة، فقد قال خفاف بن نبدة رضي الله عنه في مرثيته لـأبي بكر الصديق رضي الله عنه:
إن أبا بكر هو الغيث إن لم يصب الأرض سحاب بماء
من يسعى كي يدرك أيامه يجتهد الشد بأرض الفضاء
لا يمكن أن يدرك أحد أيامه، ولذلك قال له عمر : رحمك الله يا أبا بكر لقد أتعبت من يأتي بعدك، ثم كان التابعون رضوان الله عليهم مثلاً يقتدى، وأسوة صالحة، فكانوا كذلك علماء عاملين مجاهدين زهاداً، داعين إلى سبيل الحق، متعاونين على البر والتقوى، فكانوا خير قرنٍ بعد الصحابة، ثم جاء أتباع التابعين فجدوا على الأثر واجتهدوا، وحصل التعاون بينهم على ذلك بشيء عجيب حتى إن أم زكريا بن أبي زائدة كانت تتعهد موضع سجوده، فتمس البلل فيه، تمس بلل دموعه وهو ولدها في الظلام، تمد يدها إلى موضع سجوده تتلمس دموعه.
وقد قال عبد الله بن المبارك رحمه لله في أبياته التي أرسل بها إلى الفضيل بن عياض قال:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لوجدت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب نحره بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
وقد كانوا رضوان الله عليهم أهل جدٍ وتشميرٍ واجتهاد، وأهل نصرة للحق وتعاونٍ عليه، ولذلك كانوا بجدٍ وحقٍ خير هذه الأمة، وأسوتها وقدوتها، فتحوا الأمصار ونشروا الإسلام إلى مشارق الأرض ومغاربها.
وقد أخرج البخاري في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من رأى من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم )، نالوا شرفاً عجيباً وكانوا أسوة وقدوة، وبقينا على آثارهم، ونحن مكلفون بتكليفهم، ومخاطبون بالخطاب الذي وجه إليهم، وليسوا أشد منا رغبة في الآخرة، ليسوا أشد منا رغبة في الجنة، ولا أشد منا خوفاً من النار، ولكنهم أهل همم وأهل تضحية، وقد علم الله فينا ضعفاً، ولذلك جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أنتم في زمان من ترك فيه عشر ما آمر به هلك، وسيأتي على الناس زمان من أتى فيه بعشر ما آمر به نجا ).
فمن أخذ بهذا الإسلام وشمر وجد واجتهد فيه، فسينال هذه السعادة التي نالوها، حتى لو لم يكن على مستواهم، ولم يصل إلى ما وصلوا إليه، لكنه ينال سعادة عجيبة رهيبة، فإذا عاش عاش حميداً، وإذا مات مات شهيداً، وكانت حياته في هذه الدنيا ذات أثرٍ، وتاركة أثراً بعده إذا انتقل من الدنيا ترك أثراً بعد موته، وكان من انتمى إلى دعوته أو انتسب إلى ما كان عليه كذلك في ميزان حسناته، وهكذا أعمالهم وأعمال أولادهم وأتباعهم إلى يوم القيامة، وهو أجر عظيم، وامتداد كبير في العمر، وتحصل به سعادة للإنسان جسيمة، وكل من له مشروع إذا رآه بعينيه وشاهده بعد حصوله يسعد عند رؤيته، فالإنسان الذي يبني بيتاً إذا تتامَّ بناؤه وكمل، فإنه يسعد لرؤيته؛ لأنه مشروع تعب فيه، وأولى مشروع بالتعب هو إعلاء كلمة الله ونصرة هذا الدين والتمكين له في الأرض، فهذا المشروع يسعد به أهله إذا رأوه وقد قال الله تعالى: وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ [الروم:4-5]، وهذا النصر كان يوم بدرٍ ففرح المؤمنون بنصر الله، عندما رأوا دينهم ينتصر وتزهق أمامه جبابرة الباطل، وهم يرون أبا جهل يجر إلى القليب، ويرون عتبة بن ربيعة يجر إلى القليب، ويرون أبا حكيمة يجر على وجهه إلى القليب، وهكذا فقد شاهدوا كل ذلك ففرحوا بنصر الله حين نصرهم بهذا.
وعندما فتح بيت المقدس في أيام صلاح الدين الأيوبي وطهر من الصليبين وانهزموا، وخرجوا منه أذلة صاغرين، بكى أحد العلماء بكاءً شديداً، فقيل له: أتبكي في مثل هذا اليوم الذي أعز الله فيه الدين وأظهر فيه الإسلام، فقال: إني لا أبكي لذلك، ولكني أبكي أن هؤلاء القوم كانوا أهل عزة، فلما عصوا أمر الله أذلهم، فيخاف أن تكون هذه الأمة كذلك إذا عصت أمر الله أن يذلها كما أذل هؤلاء، فأيام الله في الآخرين واعظ ومذكر، ولذلك أرسل الله موسى عليه السلام أن ينذر قومه بأيام الله قال: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ [إبراهيم:5].
فأيام الله فيها تذكير وعبرة، إذا تذكر الإنسان الصباح الباكر الذي كان فيه فرعون يرسل الحاشرين من صحافته إلى الأمصار ويبعث في المدائن حاشرين: إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ [الشعراء:54-56]، هذا في الصباح يتخذ هذا القرار، فيخرج في كبريائه وعتوه وما هي إلا دقائق حتى يلتطم البحر عليهم، فلا يبقى لهم أثر، إذا تذكر الإنسان هذا الموقف وهذه اللحظات وهو يرى بني إسرائيل يخرجون من البحر لم تبتل ثيابهم ولا نعالهم، وقد شق الله لهم طريقاً في البحر يبساً، لا يخافون دركاً ولا يخشونه منه، وهم مستضعفون أذلة.
أو تذكر يوم فتح مكة، تذكر عندما كان المسلمون يخرجون منها مهاجرين إلى المدينة أذلة، فكانت المرأة تخرج وحدها كـأم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط تفر من أبيها وأمها وتخرج مهاجرة إلى الله سبحانه وتعالى، وكـحمنة بنت جحش تخرج من مكة كذلك تحمل قربتها على ظهرها إلى المدينة، فتقطع أربعمائة كيلو، وهي تحمل قربتها على ظهرها مهاجرة إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ويتذكر خروج الوليد بن الوليد من السجن لما كسره وفيه الحديد، فخرج يزحف حتى وجد قدوماً فقطع بها الحديد ثم خرج يشتد عدواً حتى مات في الطريق، أو وصل إلى المدينة ومات، وفيه أنزل الله تعالى: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء:100].
ثم تذكر بعد هذا دخول النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار والمؤمنين مكة يوم الفتح في عشرة آلاف مقاتل لا يرى منهم إلا الحدق تحت الحلق، والسيوف في أيديهم لا يستطيع أحد مواجهتهم ولا الوقوف في وجههم حتى قال أحد شعراء مكة:
إنك لو شهدت يوم الخندمة إذ فر صفوان وفر عكرمة
واستقبلتنا بالسيوف المسلمة لهم نهيت حولنا وهمهمة
لم تنبس في اللوم أدنى كلمة
من تذكر ذلك الموقف ورأى النبي صلى الله عليه وسلم يأمر العباس أن يحبس أبا سفيان عند أصل الوادي حتى يمر عليه الجيش، و أبو سفيان مربوط عند أصل الوادي و العباس واقف على رأسه كلما مرت كتيبة يسأله من هؤلاء؟ فيقول: بني سليم، فيقول: ما لي ولسليم، ثم تمر أخرى فيقول: من هؤلاء؟ فيقول: مزينة، فيقول: ما لي ولمزينة، حتى مرت الكتائب جميعاً، فإذا الكتيبة الخضراء كتيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحال الذي وصفه عمرو بن سالم الخزاعي رضي الله عنه عندما قال:
يا رب إني ناشدٌ محمداً حلف أبينا وأبيه الأتلدا
قد كنتم ولداً وكنا والدا ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا
فانصر هداك الله نصراً أيدا وادعو عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا أبيض مثل السيف يسمو صعدا
إن قريشاً أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وزعموا أن لست تدعو أحداً وهم أذل وأقل عددا
هم بيتونا بالوتير هجداً وقتلونا ركعاً وسجدا
تأتي هذه الكتيبة وفيها رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الحال، وبين يديه وعن يمينه وعن شماله ومن ورائه المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلا الحدق، أي: الأعين، تحت الحلق، أي: حلق الحديد، فلما رآه أبو سفيان قال: من هذه الكتيبة فما رأيت منذ ولدتني أمي كتيبةً أهيب منها، فقال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار، فقال أبو سفيان : لقد ظهر أمر ابن أخيك وعز ملكه اليوم، فقال: إنها النبوة، فقال: إنها النبوة إذاً، فكان ذلك أول إعلان أبي سفيان لإسلامه.
فإذا رأى الإنسان ذلك وتذكر الحال الأول وقول الله تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال:26]، يتذكر أيام الله وسرعة أخذه الوبيل، وكيده ونصرته لأنبيائه وأوليائه، وأن الأمر بيده: لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ [الروم:4].
كذلك فإن سعادة الإنسان بهذا الدين تحصل أيضاً في البرزخ، عندما يضطجع تلك الضجعة الأولى في قبره، وقد ترك الدنيا وراء ظهره، وانقطع عنها وانقطعت عنه أخبارها، وانقطعت عن الدنيا أخباره، لا يتابع خبراً في التلفزيون ولا يتابع خبراً في الإعلام، ولا يجيب منادياً، ولا يسمع نداءً ولا يكلم إنساناً، ولا يتقي برداً ولا حراً، ولا يستطيع أن يرفع وسخاً عن بدنه ولا أذىً، وهو في تلك الضجعة مستسلم تماماً، لا يستطيع انتصاراً، حاله ما قال الله تعالى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ [الصافات:24-26].
تلك الضجعة العجيبة التي ينتظرها كل إنسان منا عندما يكون الإنسان فيها متزوداً من هذه الدار، وقد صحب العمل الصالح فإنه لا يبقى وحده، بل يرجع أهله وماله ويبقى معه عمله مؤنساً له، ومصاحباً له في قبره، عندما يضطجع تلك الضجعة في قبره يحمد غب ما كان يعمله، كما في الحديث: ( فيأتيه عمله في أحسن صورة وأحسن رائحة، فيقول: أبشر بخير، فيقول: وجهك الوجه الذي يبشر بخير فمن أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح وأنا أنيسك في غربتك ).
ويسعد بذلك سعادة غامرة كذلك عندما يأتيه منكر ونكير فيقولان له: ( ما ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: ربي لله، وديني الإسلام، والرجل المبعوث فينا محمد صلى الله عليه وسلم، هو محمد، هو محمد، هو محمد ثلاثا، جاءنا بالبينات والهدى فآمنا واتبعنا، فيقولان له: قد صدقت وبررت قد علمنا إن كنت لموقنا، نم نومة عروس )، سعادة غامرة ينالها فيملأ عليه قبره روحاً وريحاناً ونوراً، ويسعد فيه سعادة كان ينتظرها.
وأبلغ من ذلك سعادته يوم العرض على الله يوم القيامة، عندما يعرض على الله وقد كان محسناً في هذه الحياة، فيأتي الناس حفاةً عراةً غرلاً مشاة: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:104]، وهم مستظلون بظل صدقاتهم، فمن مستقل أو مستكثر، فمن كان متزوداً من هذه الدار حمد ذلك، فوجد ظلاً ظليلاً، ووجد شرباً لا يظمأ بعده، واستطاع حينئذٍ أن يحشر في زمرة الناجين، وأن يثبت عندما ينادي المنادي: وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس:59]، فلا يكون معهم، ويكون مرافقاً للنبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
ويسعد سعادة غامرة عندما يؤتى كتابه بيمينه وهو يرى الناس، يرى الذين أوتوا كتبهم بشمائلهم وراء ظهورهم، وقد أخذت أيمانهم فغلت إلى أعناقهم بالنحاس، نسأل الله السلامة والعافية.
ثم ثقبت صدورهم من بين الثدي حتى خرج الثقب من بين الكتفين، ثم بعد ذلك أدخلت شمائلهم من بين ثديهم فأخرجت من وراء ظهورهم، فأوتوا بها كتبهم بشمائلهم وراء ظهورهم، نسأل الله السلامة والعافية.
فيؤتى به ويتقدم، فيبيض وجهه حتى يحترق بالنور مسيرة خمسمائة عام، وتمد يده اليمنى وتطيب ويؤتى كتابه فيها بيمينه، فيصيح فرحاً فيقول: هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:19-24]، فسينعم ويسعد بما أسلفه في الأيام الخالية، عندما ينال هذه الفرحة الغامرة التي لا تعدلها فرحة.
ثم بعد ذلك لا شك أن سعادته ستزداد، فكل مشهد ينسي ما قبله، فإذا نجا على الصراط وهو يرى الهاوين يهوون على وجوههم في قعر جهنم، ويرى المخدوشين الذين تقطع أشداقهم أو أعينهم أو أنوفهم أو آذانهم أو أيديهم أو أرجلهم، ثم ينجون حبواً على الصراط، وينجو هو فيمر عليه كالبرق الخاطف أو كالريح المرسلة، ويتجاوزه فينجو من جهنم، وقد ركبها ورأى أهوالها وغبارها ودخانها ورائحتها بعضها يركب بعضا، وهي تتغيظ لأصحابها: إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا [الفرقان:12-14]، إذا نجا من ذلك لا شك أنه سيحمد غبه ويسعد به.
ثم تأتي السعادة الكبرى بعد ذلك بدخول جنات النعيم، عندما يأتي في الوفد الذين كأن وجوههم الشموس، ملابسهم الديباج الأبيض وقد كسوا منه جميعا، وقد طيبوا، وعرقهم ورشحهم المسك، ومباخرهم ومجامرهم الألوة، ويأتون فيتقدم أمامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحرك الحلقة كأنما يقرع باب الجنة فتفتح الأبواب الثمانية، وتنزل فيها اللوائح، كل بابٍ يدعى منه أهله، ومن الناس من يدعى من كل الأبواب، كما قال أبو بكر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا رسول الله! ما على من دعي من أبوابها الثمانية من بأس، قال: أجل، وإني لأرجو أن تكون منهم ).
فيدخلون الجنة بترحيب الملائكة وهم يقولون: سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين، وولدانهم يفرحون بهم، ولأحدهم في الجنة أشد معرفة لبيته من بيته في الدنيا، لا يتحير عنه ولا يميل عنه يميناً ولا شمالا، والأولاد يغنون لهم ويمدحونهم ويثنون عليهم، ويسبقونهم إلى منازلهم في الجنة، فيقولون: جاء أهل الجنة وفيهم فلان، فيجتمع نساؤه فيقولون: أنت رأيته؟ فيقول أحدهم: نعم أنا رأيته وهو على أثري، فتتقدم إحدى نسائه، فتقف على عتبة الباب، فإذا جاء وقد لبست سبعين حلة وضع يديه بين كتفيها، فيرى أصابعه بين ثدييها.
ثم بعد ذلك يدخلون في ذلك النعيم المقيم، فإذا دخلوه واجتمعوا فيه، ناداهم المنادي من عند الله: ( يا أهل الجنة! إن لكم أن تشبوا فلا تهرموا، وأن تصحوا فلا تسقموا، وأن تَنْعموا وتُكْرموا، أو أن تُنَعموا وتُكَّرموا، ويؤتى بالموت على صورة كبشٍ أقرن، فيعرض عليهم فيشمئزون منه، فيقال: أعرفتموه؟ فيقولون: نعم، هو الموت، ويعرض على أهل النار فيقال: أعرفتموه فيقولون: نعم، ويشمئزون منه، ويقولون: هو الموت، ثم يرجع فيذبح، فينادي المنادي: يا أهل الجنة! خلود فلا موت، ويا أهل النار! خلود فلا موت ).
وبينما هم في ذلك النعيم المقيم، وهم فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، كل قبة من قبابها يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطع ظلها، وهي من جوهرة واحدة مجوفة، وترابها المسك والكافور، وجدرانها وحيطانها مبنية لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وفيها أنواع الثمار التي لا تمل ولا يتغير طعمها ولا لونها، وفيها الأنهار من اللبن الصافي، والأنهار من العسل المصفى، والأنهار من الخمر الذي لا يصدع شاربه ولا ينزف عنه، أي: لا يسكر، والأنهار من المياه الصافية التي لا تتغير، وهم في ذلك النعيم المقيم، ونساؤهم لو أن إحداهن كشفت الحجاب عن وجهها لأضاء لها ما بين المشرق والمغرب، ولو بصقت في البحر لصار عذباً من بصاقها، ويرى مخ ساقها من خارجه، وأهدابها كجناح النسر، وحاجبها كالهلال في الاستقواس والسعة.
وبينما أهل الجنة في نعيم إذ سطع عليهم نور من فوقهم، فإذا الرب جل جلاله يناديهم من فوقهم: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58]، فلا ينظرون إلى شيءٍ مما هم فيه ما داموا ينظرون إلى وجه الله الكريم، وهي الزيادة التي وعد الله بها المؤمنين فقد قال الله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]، وقال تعالى: وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35]، وقال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، جعل الله وجهي ووجوهكم أجمعين من الوجوه الناضرة، الناظرة إلى وجه الله الكريم.
ونضطر لختم هذا الحديث، ولعلها أن تكون إن شاء الله تعالى خاتمة حسنة، فيرزقنا الله جميعاً لذة النظر إلى وجهه الكريم، والشوق إلى لقائه في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة..
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر