إسلام ويب

الأمر بالمعروفللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • امتحن الله عز وجل عباده بالمعاصي، وأمر المؤمنين بالنهي عنها والأمر بالمعروف، وبترك هذه الفريضة يقع البلاء وعدم استجابة الدعاء، وتكثر الفتن وينتشر الوباء، ولكثير من الناس شبهات حائلة بينهم وبين هذه الفريضة يجب إزالتها، وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر آداب، يجب على القائم بها أن يتحلى بها ويمارسها.

    1.   

    الصراع بين الحق والباطل

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فإن العليم الخبير ديان السموات والأرض قد شاء بحكمته وإرادته أن يقع في هذه الأرض طاعة وعصيان، وأن يكون فيها حزبان: حزب هو حزب الله الغالبين، وحزب هو حزب الشيطان الذين هم الخاسرون، ولا بد أن يستمر الصراع بين هذين الحزبين، ولا يمكن أن يتنازل أحد الحزبين عن عمله أو أن يتراجع عن خطته، فلا بد أن يستمر حزب الشيطان موجوداً في الأرض، يعيث فيها فساداً، ولا بد أن يستمر حزب الله في الأرض، يدافع عن أهلها؛ لئلا يغرقوا في الفساد، وهذا هو دفع الله الناس بعضهم ببعض، الذي ذكر الله أنه من حكمة صلاح أهل الأرض، كما قال تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ [البقرة:251].

    فلذلك من ضرورات هذه الأرض أن يبقى هذا الصراع موجوداً مستمراً، ولا يمكن أن يستمر هذا الصراع في غلبة أحد الطرفين؛ بل لا بد أن ينتفش الباطل تارة ويرتفع، ولكن مصيره الاضمحلال والزوال: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81].

    ولا يمكن أن يستمر الحق في منزلته الطبيعية، ووضعه المعتاد؛ لأن ذلك فساد في اختلال الميزان المذكور، ومن أجل هذا فإن الله سبحانه وتعالى قد أرسل رسله عليهم الصلاة والسلام لإصلاح البشرية، فجاءوا بالتي هي أقوم، وأظهر الله على أيديهم الحجة وبين المحجة، فأوضحوا الطريق للناس ولم يقع ذلك إلا بعد صراع وحرب، وانتصر فيها الحق وانهزم الباطل، ورجع حزب الشيطان يجر وباله وخسائره، وارتفعت راية الحق، لكن شاء الله ألا يستمر هذا؛ لأن هذا امتحان للناس، وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4]، فلو لم يقع في الأرض فساد أصلاً لكان هذا الامتحان يسيراً جداً، ولو وقع فيها من الفساد أدنى وأقل مما كان يقع في الأمم السابقة، أو في بداية هذه الأمة لكن هذا حيفاً وجوراً في الامتحان، والله هو الحكم العدل، الذي لا يظلم العباد شيئاً.

    ومن أجل هذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يوم بعث بهذا الدين الحق لم يكن على وجه الأرض موحد، وقد نظر الله إلى أهل الأرض إذ ذاك بعين سخطه ومقته، وهذا ما أخرجه مسلم في الصحيح من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم، غير بقايا من أهل الكتاب وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك )، لكنه لم تمضِ سنوات قليلة بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم حتى دانت جزيرة العرب كلها لدين الله، وصلح أهلها واستقامت أمورهم، ولم تمضِ مدة يسيرة بعد ذلك حتى دانت الحضارات الكبرى كلها لدين الإسلام، ودخلت الأمم العظمى في دين الإسلام واستقامت، وأنفقت خزائن كسرى وقيصر في سبيل الله، وزال الاستبداد واستقام أمر الناس.

    تلقى الأمان على حياض محمدٍ ثولاء مخرفة وذئب أطلس

    لا ذي تخاف ولا هذا صولة تهدى الرعية واستقام الريس

    ولكن من حكمة الله تعالى وعدله ألا نستمر ودولة الإسلام مرفوعة العماد وارفة الظلال، يتفيأ الناس ظلالها وينعمون بخيراتها؛ لأنه لو كان كذلك لكان الامتحان شاقاً على أمثال سعد بن أبي وقاص و مصعب بن عمير وأضرابهم من الذين عانوا العناء المبين في سبيل إقامة هذه الدولة، وكان سهلاً رخيصاً في حق الذين ينعمون بظلالها وقد عاشوا فيها، فمن أجل هذا لم تدم هذه الدولة على هيئتها التي تركهم عليها الرسول صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثين سنة، وهي متوسط أعمار هذه الأمة تقريباً، فالجيل الذي حضر إقامة هذه الدولة وجاهد فيها هو أفضل الأجيال: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [الحديد:10]، والجيل اللاحق الذي نشأ في ظلال هذه الدولة لم يطل عمره حتى شاهد الفتن والمشكلات، وحتى دخلت الأزمات العظيمة التي أنسته ما نعم به في ظلال الدولة، حتى إن أنس بن مالك وكان من هذا الجيل الصغير، كان عمره يوم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة عشر سنين، قال: لقد عشت حتى لا أعرف مما أدركت عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلا هذه الصلاة، فقد تغيرت الأمور، واختلف واقع الناس، وبدأ التدهور من ذلك الوقت إلى زماننا هذا يرتفع الحق تارة، وينهزم الباطل أمامه، ثم تأتي دورة أخرى من دورات الباطل.

    مدافعة أهل الحق للباطل ومنطلقهم في الدفاع عنه

    ولكنه في كل دورة للباطل يلقى حزب الله مستعداً للدفاع عن دين الله، يبقى أهل الحق قد تزودوا بزاد الإيمان، وعلموا أن النعم لا تدوم.

    ولا يحسبون الخير لا شر بعده ولا يحسبون الشر ضربة لازب

    فهم مستعدون متهيئون دائماً، كحال ذلك الذي وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ( ممسك بعنان فرسه، كلما سمع هيعة طار إليها )، وكحال الآخر الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ألا أخبركم بخير الناس منزلاً، رجل أشعث أغبر رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الساقة كان في الساقة، وإن كان في الميمنة كان في الميمنة، وإن كان في الميسرة كان في الميسرة، وإذا استأذن لم يؤذن له، وإذا شفع لم يشفع ).

    هم مستعدون دائماً للدفاع عن هذا الدين الذي بايعوا الله تعالى على الدفاع عنه: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111]. ومنطلقهم في دفاعهم عن الحق أمران:

    الأمر الأول: قول الله تعالى: قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ [التوبة:52]، يعلمون أن الله سبحانه وتعالى هو مدبر السموات والأرض، وهو الذي أرسل الرسول بهذا الدين، وليس الدين دين الناس، بل هو دين الله، والله لا يمكن أن يضعه بدار هوان، ولا بد أن ينصره: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40]، وبهذا يعلمون أن المصير للحق دائماً، وأن العاقبة للمتقين، وأن الله سبحانه وتعالى لم يكن ليدع الناس على ما هم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب، كما قال تعالى: مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران:179]، فهنا استوعبوا هذا الأمر وانطلقوا منه في الدفاع عن دينهم.

    الأمر الثاني: أنهم أيقنوا أنهم لا شك صائرون إلى الله؛ لأن مصير كل شيءٍ إليه، عرفوا أن الجبن لا يمنع الموت.

    ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد

    والموتة واحدة محتمة وكل الناس لاقيها: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185]، فعلموا أنهم موتى لا محالة، وأن أرواحهم بيد الله لم يكونوا ليتعجلوا عن وقت موتهم، ولم يكونوا ليتأخروا فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34].

    عرفوا أنه قد رفعت الأقلام وجفت الصحف عما هو كائن، ومن هنا لم يخشوا في الله لومة لائم، ولم يخافوا من دونه أي ند، بل تحقق لديهم أن الله سبحانه وتعالى مصير كل شيءٍ إليه، وهو سائلهم عما مكنهم فيه، فاستعدوا للقائه وتمثلوا قول موسى عليه السلام فيما حكى الله عنه: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84]، فالمهم تحصيل رضوان الله؛ لأن الموت آتٍ لا محالة:

    من لم يمت عبطةً يمت هرماً للموت كأس والمرء ذائقها

    فلا بد أن يموت، فاختاروا أن تكون موتتهم لله، من هنا كانت شجاعتهم وتقدمهم لعلمهم أن هذه الموتة لا تتأخر ولا تتعجل.

    1.   

    مثل الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر

    الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر حراس لهذا الدين على ثغوره وأبوابه، يلاحظون كل نقص فيه، فيعجلون في إصلاحه قبل أن يتسع الخرق على الراقع، ويعلمون أن الناس أهل عادات مأسورون بها، وأن هذه العادات إذا برز منها ما يخالف الشرع، فما هي إلا لحظات ويسكت الناس عنه فيصير المنكر معروفاً والمعروف منكراً، وهذه هي الفتنة، ولهذا كانوا يخافون الفتن دائماً، وينطلقون من التسليم في أمر الله سبحانه وتعالى، فيرجعون إليه ويجأرون بأن يقيهم من الفتن، متمثلين دعوة موسى عليه السلام: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ [الأعراف:155-156].

    من هنا استشعروا أن عليهم أن يعرفوا المنكر لتوقيه وعلاجه، وأن يبحثوا عنه، وأن يعرفوا المعروف لأدائه وإظهاره، وعلموا أن مسئوليتهم تتعدى أنفسهم وذواتهم؛ لأن هذه المسئولية مسئولية مشتركة، مسئولية من في السفينة عن بقية الأفراد؛ لأنها إذا غرقت سيغرق الجميع، وهذا المثل الذي ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرج عنه البخاري من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فكان بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذِ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً )، فهم يحاولون انتشال هذه السفينة من الغرق، ويحاولون الحيلولة بين أهل الباطل وبين ما يريدونه لأنفسهم ولمن سواهم من الوقوع في سخط الله ومقته وعذابه.

    فمثلهم هو المثل الآخر الذي ضربه الرسول صلى الله عليه وسلم لنفسه فيما أخرج عنه البخاري و مسلم في الصحيحين: ( إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً، حتى إذا أضاءت ما حوله، جعل الفراش يتساقط فيها وهذه الدواب، فجعل ينفيهن بيده وهن يقتحمن فيقعن فيها، ألا وإني ممسك بحجزكم عن النار ).

    آمنوا بالجنة والنار وتحققوا ذلك رأي العين، فإذا رأوا منكراً رأوا صاحبه كأنما يهوي بنفسه في النار، فحاولوا أن يمسكوه، وإذا رأيت إنساناً سيتردى في النار وهو أعمى لا يراها فمن حقه عليك أن تمسكه وتنقذه.

    إن معصية الله هي التردي في النار، وإن المنكر ما هو إلا قفزة توقع صاحبها في نار جهنم، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى )، وهو الذي جنى على نفسه، ومن أجل هذا اجتهدوا على أن يكونوا رجال إنقاذ، اجتهدوا في أن يكونوا سداً منيعاً يحول بين عباد الله وبين سخطه.

    1.   

    علة النهي عن المنكر

    ومن هنا فهم يطلبون أمرين في الحيلولة بين الناس وبين المنكر:

    الأمر الأول: متحقق لا محالة، وهو مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ [الأعراف:164]، أن يعذروا إلى الله الذي أمرهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

    والأمر الثاني: مظنون الحصول، وهو: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأعراف:164]، قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأعراف:164]، معذرة إلى ربكم متحققة، ولعلهم يتقون مظنونة الحصول، والأمر فيها إلى الله سبحانه وتعالى.

    1.   

    منزلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

    إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة من وظائف رسل الله، والمصطفين من خلقه، والذين يقومون به هم لجنة الإنقاذ التي تنقذ الناس من النار، فالذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر هم لجنة الإنقاذ، ولذلك فهذه الأمة هي أمة الإنقاذ للبشرية، يقول الله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، وقد اختلف المفسرون في متعلق قول الله تعالى (للناس) هذا الجار والمجرور بماذا يتعلق؟ فقبله فعلان في الآية، فالأول: قوله تعالى: (كنتم)، والثانية قوله تعالى: (أخرجت)، فهذان فعلان كل واحد منهما يمكن أن يتعلق به الجار والمجرور، فعلى القول بأن الجار والمجرور متعلق بـكنتم، معناها: كنتم للناس خير أمة أخرجت، فهذه الأمة هي خير الأمم للناس؛ لأنها التي تحول بينهم وبين النار، تنقذهم.

    والقول الثاني في التفسير: أن (للناس)، هذا الجار والمجرور متعلق بقوله: أخرجت، معناه: كنتم خير أمة أخرجت للناس، معناها أخرجها الله لا لأنفسها بل للناس، فوظيفتها الأساسية هي إنقاذ الناس من النار، فكثير من الناس يظن أنه خلق لنفسه ليحيا ويعيش في هذه الدنيا فقط، وحال هذه الأمة يختلف عن ذلك، بل هي أمة أخرجت للناس؛ لتكون آمرةً بالمعروف ناهيةً عن المنكر، ولهذا قال: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [آل عمران:110]، فهذا أول خصائص هذه الأمة ووظائفها.

    والمعروف هو ما يرتضيه الله لعباده، من توحيده وعبادته والالتزام بأوامره، والمنكر هو ما يسخطه الله لعباده ولا يرضاه لهم من الكفر والفسوق والعصيان، فأعظم المنكر الشرك بالله، ويليه كبائر الإثم ثم الفواحش، وأعظم المعروف توحيد الله سبحانه وتعالى والإيمان به، ويليه أركان الإسلام، وكبريات الفرائض في الدين.

    والإنسان أمام تكليفين أحدهما يختص بشخصه، وهو أن يمتثل المعروف وأن ينتهي عن المنكر، والثاني: أن يأمر بالمعروف غيره، وأن ينهاه عن المنكر، فإذا فرط في التكليفين معاً فقد خاب وخسر، وأصبح من حزب الشيطان، وإذا أدى التكليف الأول وترك التكليف الثاني لم يلتحق بحزب الله، وكان أيضاً معدوداً على حزب الشيطان؛ لأنه انتقص به عدد المصلحين، وإن الله سبحانه وتعالى رتب رفع العذاب على وجود المصلحين لا على وجود الصالحين، فقال تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117]، ولم يقل: وأهلها صالحون.

    وقد أخرج الشيخان في الصحيحين من حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استيقظ ذات ليلة فزعاً، يقول: لا إله إلا الله، ويل للعرب من شرٍ قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج و مأجوج مثل هذه، وحلق بأصبعيه الإبهام والتي تليها، فقلت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث )، فالصالحون إذاً وجودهم لا يرفع العذاب عن الأمة، وإنما يرفع العذاب عن الأمة المصلحون، الذين يؤدون التكليفين معاً، فيمتثلون المعروف ويجتنبون المنكر، وينهون عن المنكر ويأمرون بالمعروف.

    ولهذا فإن الميزة الأولى للمؤمنين في القرآن دائماً هي هذه الميزة يقول الله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [التوبة:71]، فبدأ بالتكليف العام قبل التكليف الخاص، التكليف العام رعاية الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بدأ الله به في الآية قبل التكليف الخاص، وهو إقام الصلاة وإيتاء الزكاة: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ [التوبة:71].

    1.   

    مقتضيات ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

    وقوع السخط والعذاب

    كذلك فإن الله سبحانه وتعالى بين أن عدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مقتضٍ لحصول سخطه وعذابه، فقال تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:78-79].

    وكذلك قال تعالى: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ [المدثر:42-47]، وكذلك قال تعالى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الماعون:1-3]، فدع اليتيم من التكاليف الخاصة، وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الماعون:3]، هذا الأمر بالمعروف الذي هو من التكاليف العامة، فسبب سخط الله ولعنته هنا هو ما ذكر من أنه يدع اليتيم يظلم، ولا يأمر بالمعروف، وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الماعون:3]، وهو كافر؛ لأنه يكذب أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ [الماعون:1].

    فإذاً اقترن الكفر بترك الأمر بالمعروف؛ لأنه شعبة من شعبه، ولذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين لأصحابه أن ارتفاع العقاب لا يتم إلا إذا كان الناس يأمر بعضهم بعضاً بالمعروف وينهى بعضهم بعضاً عن المنكر، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أن الرجل كان يلقى الرجل، فيقول: يا هذا! اتقِ الله ودع ما تصنع، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وقعيده وشريبه، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم على بعض، ثم قال: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [المائدة:78-81]، ثم قال: كلا! والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً، أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعضٍ، ثم ليلعنكم كما لعنهم )، هذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يصدق بلا يمين فهو الصادق المصدوق، ومع ذلك أقسم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    عدم استجابة الدعاء

    كذلك فإنه صلى الله عليه وسلم بين أن من أسباب عدم استجابة الدعاء، وانقطاع الصلة بالله عدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والناس محتاجون دائماً إلى أن يستجيب الله دعاءهم وأن يقضي حوائجهم، وما من أحدٍ إلا يسوؤه أن يرد عليه دعاؤه، وأن يحكم عليه بأن دعاءه غير مستجاب، وما من أحدٍ إلا ويسره استجابة دعائه، واستماع الله تعالى لدعوته.

    فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يحل عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم )، فهذا مانع من موانع استجابة الدعاء، وموانع استجابة الدعاء المصرح بها في الحديث الصحيح عدداً، منها أكل الحرام، وأنتم اليوم في زمان الربا، فالذي لم يأكل منه ناله من غباره، ورسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا [المؤمنون:51]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب! ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك ).

    السبب الثاني: عدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي ذكرناه في حديث حذيفة .

    السبب الثالث: الدعاء بإثم أو قطيعة رحم، ( يستجاب لأحدكم ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ).

    السبب الرابع: التعجل في الدعاء، ( لا يزال الله يستجيب للعبد ما لم يتعجل، فيقول: قد دعوت ودعوت ولم يستجب لي ).

    فهذه الأسباب مانعة من استجابة الدعاء، وصاحبها لا يرفع دعاؤه إلى الله سبحانه وتعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10].

    1.   

    مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

    كذلك فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جعله الله تعالى على درجات متفاوتة في التكليف، فمنه ما هو فرض عين، ومنه ما هو فرض كفاية، فقد أخرج مسلم في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان )، وقد نص العلماء على أن (مَن) في قوله صلى الله عليه وسلم: ( من رأى منكم منكراً )، مِن ألفاظ العموم، وأنها تشمل الكبير والصغير، والقوي والضعيف، والعالم والجاهل، والذكر والأنثى، ومن يؤتم بأمره ويطاع ومن ليس كذلك، فهي من ألفاظ العموم التي تشمل كل ما يصلح لها.

    مرتبة النهي عن المنكر عند الرؤية وعدمها

    كذلك فإن من رأى المنكر ولم يره من سواه تعين عليه تغييره بالإجماع، فهذا فرض عين في حقه، وكذلك من كان المنكر فيمن تحت يده، كمن كان المنكر في أهل بيته فهذا يتعين عليه فرض عين تغييره؛ لقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]، فمن كان باختلاط أو فساد الأخلاق أو التبرج والسفور، أو التهاون بشأن الصلاة، أو بغير ذلك من الطاعات في أهل بيته تعين عليه تغيير هذا المنكر، ووجب عليه ذلك فرض عين، إن فرط فيه بعث مع المضيعين يوم القيامة.

    أما إذا كان الإنسان لم ينفرد برؤية المنكر، ورآه من سواه، أو لم يكن في أهل بيته، وإنما علم به في بيت آخر أو رآه في غير موقعه، فإنه لا يتعين عليه لكن يجب عليه في عموم الأمة فرض كفاية.

    وقد اختلف العلماء في فرض الكفاية وفرض العين أيهما أفضل؟ فقالت طائفة: فرض العين أفضل؛ لأن الشارع يقصد وقوعه من كل أحد.

    وقال آخرون: بل فرض الكفاية أفضل؛ لأن القائم به يسقط العقوبة عن الأمة بكاملها، فيحصل له ثواب الأمة جميعاً، وهذا الخلاف الذي حكاه السيوطي رحمه الله في الكوكب الساطع في قوله:

    فرض الكفاية مهم يقصد ونظر عن فاعل مجرد

    وذهب الأستاذ والجويني ونجله يفضل فرض العين

    وهو على كلِّ رأى الجمهور والقول بالبعض هو المنصور

    فقيل مبهم وقيل: عينا وقيل: من قام به ووهنا

    وبالشروع في الأصح يلزم ومثله سنتها تنقسم

    من شرع فيه تعين عليه على الصحيح، كل من شرع في فرض كفاية تعين عليه إكماله؛ لأنه قد بادر إليه، فتهاون به من سواه بسبب اشتغاله هو به.

    مراتب الأمر بالمعروف

    كذلك فإنه لا بد من التفريق بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من ناحية الحكم، فإن الأمر بالمعروف يكون واجباً عينياً، ويكون واجباً كفائياً، ويكون مسنوناً، ويكون مندوباً؛ لأن المعروف منه فرائض، ومنه سنن، ومنه مندوبات، فمن ترك فريضة كان الأمر بالمعروف في حقه واجباً، ومن ترك سنة كان الأمر بالمعروف في حقه مسنوناً، ومن ترك مندوباً كان الأمر بالمعروف في حقه مندوباً.

    درجة المنكر وما تصحبه من أمور

    أما النهي عن المنكر فلا يكون إلا واجباً؛ لأن المنكر معناه ما اتفق على تحريمه، ما حرمه الله تعالى، وما حرمه الله يجب إنكاره على كل حال، وذلك أن المنكر تصحبه خمسة أمور هي أضر على الناس من أصل اقترافه:

    تعظيم المنكر واحتقاره

    فأول هذه القرائن التي يقترن بها: تعظيمه، فإذا عظمه صاحبه وعظم في قلبه عن مغفرة الله، كان قد ازدرى بعض صفات الله سبحانه وتعالى، وبذلك لم يعرف الله تعالى حق المعرفة، ومن هنا فإنه سيغويه الشيطان ويمنعه من التوبة لاستعظامه لذنبه.

    القرينة الثانية: احتقاره، وهذا إنما يقع في حق مرضى القلوب الذين إذا أسرف أحدهم، وارتكب جرماً وعصى ربه التمس لنفسه الأعذار، وبدأ الشيطان يغريه، ويقول: هذه صغيرة، وهذا ذنب يسير، والناس يفعلون أكبر من هذا، وهذا هو النفاق؛ ولذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه: (إن ذنب المؤمن كجبل فوق رأسه يخاف أن يقع عليه، وذنب المنافق كذباب نزل على أنفه فنفاه بيده هكذا)، فينساه بعد وقوعه، وأما المؤمن فلا يزال يتذكره وينكسر قلبه ويستغفر ويتوب لعل الله يتوب عليه.

    الإصرار على المنكر

    القرينة الثالثة: الإصرار عليه، وذلك أن الإصرار على الذنب مبطل للحياء من الله؛ لأن الإنسان الذي يعلم أن الله يراقبه لا تخفى عليه خافية، ولا يستتر عنه إنسان طرفة عين، وله الحفظة الكرام البررة، الذين يرسلهم فيكتبون على الناس، ويرفعون إليه التقارير الصادقة، من كان يعرف هذا ويؤمن به كيف يصر على الذنب وهو يعلم أنه عندما ارتكبه في الصباح رفع الملك تقريراً إلى الله، يا رب! عبدك فلان اقترف الذنب الفلاني، وفي المساء يرتفع تقريراً آخر، من ملك آخر: يا رب عبدك فلان ما زال مصراً على الذنب الذي فعله الصباح، وفي صباح اليوم اللاحق ومسائه وهكذا في الأيام حتى تتراكم التقارير عند الله.

    إن الختم على القلب حينئذٍ قد نفدت مساحته، ومن هنا فإن الإصرار على الذنب يقتضي قسوة القلب والختم عليه نسأل الله السلامة والعافية.

    الجهر بالمنكر

    القرينة الرابعة: الجهر بالذنب، والجهر بالذنب دعوة إليه، فأهل الإيمان بفطرتهم وسلامة قلوبهم يكرهون المنكر، ولا يرضون لعباد الله إلا ما يرتضيه الله لهم، والله لا يرضى لعباده الكفر، فلا يرضون لعباد الله الشرك، ولا يرضون لهم الكبائر، ولا يرضون لهم أية معصية، ويحبون الله فأحبوا أن يعبد الله، وأهل الإيمان يحبون أن يتقرب جبريل إلى الله وأن يعبده؛ لأنهم أحبوا الله والتعبير عن محبته إنما يكون بعبادته، فما عجزوا عنه أحبوا أن يقوم به من سواهم، ولهذا يحبون كل من يحب الله، ويحبون كل من يتقرب إلى الله بعمل صالح، وهذا من تمام محبة الله.

    ومن تمام محبة الله أن تحب كل من يعبده، كذلك من تمام محبته أن تبغض كل من يعصيه، فهم يكرهون المعصية ويكرهون فاعلها؛ لأنهم يؤمنون بالله ويحبونه فلا يحبون أن يعصى، ولهذا فقلوبهم السليمة وفطرهم المستقيمة تقشعر إذا رأت المنكر، فإذا رأوا المنكر أول وهلة اقشعرت منه قلوبهم وأنكرته نفوسهم، والفرق بين من أشرب قلبه الفتن وبين من نجا منها، أن الذي نجا قلبه من الفتن هو سليم القلب ينكر المنكر إذا رآه، ولا يطمئن إليه ولا يقر بدعة؛ لأن قلبه بريء من الفتن، فلذلك يكرهها وينكرها أول ما تقع، ويقشعر قلبه منها، ويقشعر جسده منها.

    السبب في عدم إنكار المنكر

    والذي أشربت قلبه الفتن - نسأل الله السلامة والعافية- لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، مات الإحساس والوجدان في نفسه، فلو عرضت عليه كل المنكرات لاستساغها وقبلها، نسأل الله السلامة والعافية.

    فمن هنا فإن المجاهرة بالذنب تقتضي الدعوة إليه؛ لأن الناس إذا مروا على هذا الذنب في الشوارع، فرأوه في أول وهلة استنكروه وعظم لديهم، لكن إذا لم ينكروه استقر في نفوسهم وزالت غرابته؛ لأن كل ما تكرر كثيراً تزول غرابته، فلو انفجر شيء مثل صوت الرعد من الأرض لتفطرت أكباد الناس من الفزع، فلماذا لا يقع هذا إذا سمعوه في العلو وفي السماء؟ لأنهم قد تعودوا عليه فقط، فكثرة المساس تزيل الإحساس، فكذلك الملائكة مثلاً إنكارهم للمنكر مثل إنكار الناس لصوت الرعد من الأرض، وليتصور كل واحد منا لو سمع صوت رعد شديد قاصف تحت رجليه، كيف يكون فزعه؟ فكذلك: قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [البقرة:30]، من أجل هذا فإن كل منكر تكرر ولم ينكر سيستقر وتزول رعبته، والرعبة التي كانت للنفوس عند رؤيته ستزول، ومن هنا يلامس شغاف القلوب فينشأ الصغار على أنه أمر معتاد، ويتعودون عليه، وتذهب الأجيال التي كانت تنكره ولم يكن موجوداً في زمنها، وما هي إلا عشر سنوات حتى يصبح عادةً لا يمكن أن يتغير ولا أن يتبدل، ويصبح من أنكره هو المبتدع الذي يرميه الناس عن قوس واحدة.

    إذاً عندما يأتي محدث يتجرأ على الإحداث في دين الله فيحدث أي بدعة اليوم، إذا لم تبادر بإنكارها ولم يقم الناس بطرده وإزالة ما جاء به، فبعد عشر سنوات لن يتمكنوا من ذلك أبداً، بل سيعتبر الناس كل من أنكر عليه منكراً لسنة وآتياً ببدعة؛ لجبلتهم التي يتعودون بها على ما ألفوه، وتزول عنهم غرابته بسبب ذلك.

    ومن هنا فإن مخيمات الاختلاط والفساد التي تضرب على الشوارع أول ما عرفت كانت منكراً يستنكره الناس ويستهجنونه، ويستغربون أن يكون مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر يترك ابنته الساعة الثانية ليلاً تذهب إلى هذا المكان، وأما اليوم فقد جاء جيل جديد تعود على هذا ولم يستنكروه، بل إذا جاءت حملة ليس فيها ضرب خيام رأوا أن هذا بدعة وشيء منكر، وخروج عن المألوف، ونظير هذا في كل منكر من المنكرات.

    واليوم هنا لو خرجت امرأة موريتانية سافرة كاشفة عن رأسها في السوق لاستنكر الناس هذا واستعظموه، لكن إذا لم ينكروه وخرجت واحدة سافرة فالتي بعدها سيكون استهجانها أقل، والتي بعد تلك سيكون استهجانها أقل، حتى يشتهر هذا وينتشر من الحال في البلدان الأخرى، ونظير هذا في أنواع المناكر كلها، تأتي بالتدريج شيئاً ضعيفاً يسيراً، فإذا قضي عليه في نعومة أظافره ومهده زال، وإذا ترك نما واشتد ووجد أنصاراً وأعواناً.

    الجرأة على الذنب

    ثم بعد هذا الجرأة على الذنب، فالجراءة على الله سبحانه وتعالى باقتراف ما نهى عنه فساد في الأرض، وهو مقتضٍ لأن يزول الإيمان بالكلية عمن يتجرأ على الله سبحانه وتعالى ويبارزه بالمعصية، وذلك أن برهان الله في قلب كل مؤمن هو إيمانه، فإذا خف هذا الإيمان وانطفأت جلوته من القلوب فإن ذلك داعٍ نسأل الله السلامة والعافية لأن يتجرأ الإنسان على معصية الله، ولهذه: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن )، فيتعود الناس بالتدريج على الجراءة على المناكر حتى تقوى وتستمر وتصبح عادةً للناس.

    إن بداية وجود البنوك الربوية والتعامل معها في هذه البلاد مثلاً، كان أمراً مستهجناً مستقبحاً لدى الناس ينكرونه ويبغضونه، واليوم قل من ينكر عليه ذلك، ولم يعد عيباً لدى الناس ولا نقصاً، بل السوي هو الذي له حسابات في البنوك الربوية، ومن لا يريد ذلك يوصف بالرجعية، وعدم فهم الحال، ومثل هذا: ما حصل لدى الناس من تعمق النظرة المادية فيهم، فالذنوب المتعلقة بالماديات أعظم لدى الناس من الذنوب الأخرى.

    فلو خرج إنسان في السوق الآن فكذب أو غش، أو خان أو رابى أو فعل أية فعلة محرمة لم ينكر عليه أحد، وإذا أكل غيبة مسلمٍ وطعن في عرضه ضحك الناس من ذلك، لكن إذا سرق عشر أواق، أو عشرين أوقية، فسينكر عليه كل الناس، كل أحدٍ يحاول إمساكه ويقول: سارق، سارق، فهل عشر أواق أعظم من الجراءة على الله تعالى بأنواع الذنوب الأخرى؟ لا، هي ذنوب كلها والكفر ملة واحدة، ولكن الناس قد طغت عليهم المادية، فأصبحوا يزنون كل الأمور بهذا الميزان، ولا ينظرون إلى أي شيءٍ آخر.

    1.   

    درجات تغيير المنكر

    التغيير باليد

    كذلك فإن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فليغيره بيده ) يقتضي من الإنسان إذا رأى منكراً لم يقبل صاحبه تركه، ولم ينزجر عنه بالنهي عنه أن يبذل نفسه لله تعالى في تغيير هذا المنكر، وأن يتحمل تبعات ذلك فلن يصيبه إلا ما كتب له.

    إن كثيراً من الناس يرى المنكر ولا يمنعه من تغييره إلا الخوف أو الطمع، وهو ينسى أن الله وحده هو الذي يستحق أن يخاف منه وأن يطمع فيما لديه، ألا يتذكر هذا أن موتته واحدة وأنها لا تتعجل ولا تتأخر، هل يخشى أن يموت قبل وقته الذي كتب عليه؟ هل يخشى أن يموت قبل أجله، أو أن يصيبه شيء لم يكتب عليه وهو جنين في بطن أمه؟ لا يمكن أن يناله إلا ما كان قد كتب عليه، رفعت الأقلام وجفت الصحف، ( واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف ).

    وكذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: ( فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه )، يفهمها كثير من الناس خطأً، فيظنون أن على الإنسان إذا رأى المنكر في بديته أن يبادر للتغيير باليد، ولا يصير إلى اللسان حتى يكون عاجزاً عن التغيير باليد، وهذا خطأ في الفهم؛ لأن المقصود به تدرج المراتب فقط، فالواجب عليك في البداية ما يغير هذا المنكر ويصرفه، فإن كان النهي كافياً وجب ذلك، فإن لم يكفِ النهي، فلتحاول تغييره باليد، فإن عجزت عن ذلك فلتحاول الإنكار باللسان فقط للأعذار، فإن عجزت عن ذلك فأنكر بقلبك، فالترتيب المذكور في الحديث إنما هو في درجات القدرة لا في درجات الإقناع والفعل، فإن استطاع التغيير باليد كمنكر أهله ومن تحت يده ومن يستطيع تغيير منكره، فلم يفعل ذلك فهو وإياه في الإثم سواء، بل هو معين له إثمه، فيستحق عقوبتين، إحداهما: على إقرار المنكر، والثانية: على تشجيع أهله؛ لأنه بهذا أصبح مشجعاً للناس على المنكر؛ لأن الساكت على الحق شيطان أخرص.

    التغيير باللسان

    كذلك فإن قوله صلى الله عليه وسلم: ( فإن لم يستطع فبلسانه )، يقتضي ذلك أن يتجرأ الإنسان على أن يقول الحق، وأن يتعود على التصريح به، فهو أحق أن يتبع، وهو اختيار الله سبحانه وتعالى، ومن تعود على الباطل فإن الباطل سيستدرجه إلى ما هو أعظم منه، ( لا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب، حتى يكتب عند الله كذباً، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق، حتى يكتب عند الله صديقاً ).

    الإنكار بالقلب

    ثم بعد هذا الإنكار بالقلب، الذي يجهله كثير من الناس، فكثير من الناس يظنون الإنكار بالقلب هو مجرد الامتعاض الباطني دون أن يتأثر الإنسان، وهذا خطأ وخطر، فالإنكار القلبي هو الذي يحصل لمن رأى الناس يهدمون بيته وهو لا يستطيع الدفاع عنه، كالبيت الذي ورثه أو بناه وتعب فيه؛ فإذا رأى الناس يهدمونه، وجاء المعتدي فبدأ يهدمه، وهو لا يستطيع الدفاع عنه، ماذا سيحصل له؟ هذا الذي يحصل له وهذا التأثر الشديد الذي يصيبه هو الإنكار القلبي، الذي أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا يجب علينا أن نحاول أن نجعل شعورنا باتصالنا بهذا الدين أشد من شعورنا باتصالنا بأملاكنا وبيوتنا.

    فمن يتصور أن يكون دين الله الذي هو طريق الجنة أدنى منزلة عنده من بيت بناه، يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [التوبة:23-24]، فإذا اعتدي على دين الله لم يتمعر وجهه يوماً واحداً في ذات الله، دينه لا يساوي ماله وما يملكه، الذي يبذله من الوقت والجهد في سبيل الدفاع عن ماله لا يبذل نصفه في الدفاع عن دينه، لو وددنا أن كثيراً ممن أدركناهم وهم يحاولون الحصول على القطع الأرضية، ويتكلفون في سبيل ذلك العناء المبين، يستشعرون بأن لديهم ما هو أعظم وأكثر قيمة وأغلى من هذه القطع الأرضية.

    إن هذا الدين الذي هو خير ما لديهم يعتدي الناس عليه فيقسمونه، ويشققون فيه شروخاً عظيمة، وأهله لا يهتمون به ولا يبذلون في سبيل الدفاع عنه ما يبذلون في سبيل الدفاع عن القطع الأرضية التي يحاولون إحياءها وحيازتها.

    إن نقص هذه الغيرة إنما يكون من نقص الإيمان، وزيادتها إنما يكون بزيادته، فلا بد من زيادة غيرتنا على ديننا، وأن نعلم أنه أعظم ما لدينا وأعزه وأغلاه، فلا بد من الدفاع عنه.

    جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أن رجلاً من بني إسرائيل كان في قرية لم يعص الله تعالى طرفة عين، فظهر فيها المنكر، فأرسل الله إليها ملكاً أن يهلكها بمن فيها، فقال: يا ربِ! فيها عبدك فلان لم يعصك طرفة عين، قال: به فابدأ؛ إنه لم يتمعر وجهه في يوماً واحداً )، هو أول من يبدأ به؛ لأنه قد عرف الله فسكت عن المنكر، رأى المنكر فسكت ورضي، ولم يكن دينه يساوي عنده ماله الذي ينفق في سبيل صيانته وقته وجهده، فمن أجل هذا استحق البداءة في العقوبة وأن يكون أول من يبدأ به، نسأل الله السلامة والعافية.

    1.   

    شبهات حائلة بين الناس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

    الحياء المذموم

    إن كثيراً من الناس تحول بينهم وبين هذه الغيرة وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شبهات داحضة كلها من عمل الشيطان، فالشبهة الأولى منها: الحياء الزائف، وهو الذي يسمى بالحياء الذميم، فكثير من الناس لا يخاف على مالٍ ولا على نفسٍ ولا على عرضٍ إذا أنكر، ولكنه يحول بينه وبين ذلك ضعف في شخصيته يسميه حياءً، ويحاول أن يحسن العبارة فيسميه حياء، والواقع أنه حياء ذميم.

    يقول محمد مولود رحمه الله تعالى:

    أما الحياء الذميم فالمانع من تغيير منكر

    أو السؤال عن أمرٍ من الدين ونحو ذلك وهو الذي عد من المهالك

    فليس هذا حياءً واقعياً؛ لأن الحياء شعبة من شعب الإيمان وهذا الحياء شعبة من النفاق.

    العجز عن قول الحق وسكوت الناس عنه

    الشبهة الثانية التي تحول بين الإنسان وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: العجز الذي يتصوره، فكثير من الناس ضربت عليه الذلة والمسكنة كحال اليهود، وذلك بسبب ذنبه وسوء علاقته بالله، فيظن نفسه ممسكاً من كل جانبٍ، ومكمماً بالكمامات لا يستطيع أن يفوه ببنت شفة، ولا أن يتدخل في أي أمر، وهذا هو الجبن الذي هو من صفات اليهود والمنافقين.

    كذلك الشبهة الثالثة، التي تحول دون تغيير المنكر: أن كثيراً من الناس يرى سكوت من سواه فيظن ذلك عذراً له هو، فيقول: هذا المنكر سكت عليه فلان وفلان، فلماذا أتحمل أنا المسئولية من بينهم؟ هل ينجيك بين يدي الله أن تلتمس هذا العذر لنفسك؟ ألا تعتقد أنك ستأتي فرداً يوم القيامة، ولم تسأل عن فلان ولا عن فلان، إنما تسأل عن نفسك: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم:95].

    شبهة اختصاص التغيير باليد على السلطان

    الشبهة الخامسة من هذه الشبهات: أن كثيراً من الناس يرى أن تغيير المنكر باليد لا يجب إلا على السلطان وذوي القوة، هذه الشبهة من عمل الشيطان، إنها ليست مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ولا مما علمه لأصحابه، ولهذا فإن هذه الشبهة لا دليل عليها بالكلية، والأدلة كلها تخالفها، أرأيت لو كان المنكر من السلطان نفسه فمن سيغيره عليه.

    إن الذي يعتقد هذا الاعتقاد منقطع الصلة بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، إن الخلفاء الراشدين كان الناس ينكرون عليهم ما لم يبدوا لهم وجهه، فهذا أبو بكر الصديق يقول للناس على المنبر: (أيها الناس! إني وليت عليكم ولست بخيركم، فأطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم).

    وكذلك عمر بن الخطاب يسألهم: أرأيتم لو جار عمر عن هذا الطريق يميناً أو شمالاً ماذا يصنعون؟ فاخترط رجل سيفه، وأخبره: أنه لو جار عنه يميناً وشمالاً لقوموه بسيوفهم، فحمد الله على هذا.

    وكذلك كانوا ينكرون على من رآهم على فعل فلم ينكر، وكذلك فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أشد الناس إنكاراً للباطل، سواء صدر من أهل السلطان أو ممن سواهم، فقد أخرج مسلم في الصحيح وأصحاب السنن و أحمد في المسند ( أن بشر بن مروان خطب على منبر الكوفة، فلما بلغ الدعاء رفع يديه على المنبر، فقام إليه عمارة بن رؤيبة الأسلمي فقال: قبح الله هاتين اليديتين القصيرتين، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر ما زاد على هكذا ورفع إصبعه ).

    فهذا صحابي جليل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقوم إلى هذا السلطان الذي فعل بدعة، ليست من المنكرات الكبار، وإنما هي رفع اليدين بالدعاء على المنبر فقط، لكن كل ما خالف الأمر فهو في النار، كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، فيقوم فينكر عليه، فمعناه أنه لو فعل أعظم من هذا من المنكرات لأنكر عليه إنكاراً أعظم من هذا، يقول: قبح الله هاتين اليديتين القصيرتين، وتسقط يدا بشر وكأن شيئاً لم يحصل.

    وكذلك وقف الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين الذي ضاعف رقعة الإسلام حين تولى الخلافة، أرسل الجيوش لكل مكان حتى تضاعفت الرقعة، يقف على منبر المدينة خطيباً فلما بلغ الدعاء رفع يديه، فقام إليه سعيد بن المسيب فقال: وددتهما ما رجعتا.

    وكذلك فإن سليمان بن صرد رضي الله عنه وهو من الذين شهدوا بدراً، والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايع تحت الشجرة، حين حصلت موقعة الحرة بالمدينة وكان في العراق قام في الناس خطيباً فقرأ آيات المائدة، وهي قول الله تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ [المائدة:78-79]، وقال: من أراد إنكار هذا المنكر فليخترط سيفه وليتقدم، وعقد لواءً فخرج الناس إليه، وخرج لقتال البغاة من أهل الشام، فقاتلهم حتى قتل هو أصحابه رضي الله عنهم، وكانوا أربعة آلاف.

    وكذلك حين تقدم مروان ليخطب خطبة العيد قبل الصلاة، تقدم إليه أبو سعيد الخدري فاجتذبه بثوبه، فقال: إن الخطبة بعد الصلاة، فقال مروان : ذهب ما تعلم، فقال: ما أعلم خير مما لا أعلم، وفي رواية أخرى أنه اكتنفه أبو سعيد و أبو هريرة حتى أنزلاه على المنبر، وقد كان أبو هريرة يبادر إلى إنكار منكرات السلاطين، وقد اشتهر بذلك وعرف به فلم يتضرر بأي شيء، ولا يعرف في حياة أبي هريرة أي تضررٍ من قبل السلاطين، ومع ذلك هو من أشد الناس إنكاراً ومبادرة إلى ذلك مثل أبي ذر رضي الله عنه.

    وقد أنكر ذات يومٍ على أمير المدينة، وكان في المسجد أبو سعيد الخدري ، فلما سمع إنكار أبي هريرة قام أبو سعيد فقال: أما هذا فقد أدى الذي عليه. والحديث في الصحيح.

    وكذلك فإن أبا ذر رضي الله عنه كما في صحيح البخاري ، كان يقول في الحج: والله لو وضعتم الصمصامة على هذه، فظننت أني أستطيع قول كلمة مما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تجهزوا علي لفعلت.

    وكذلك صح في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبه، أو خشبة في جداره، والله لأرمين بها بين أكتافكم )، وقصده بذلك أن أميراً من أمراء المدينة أراد أن يحيط بيته بأراضي الفضاء، وأراد أن يمنع جيرانه من استغلال جدرانه، فقام أبو هريرة فأنكر هذا الإنكار البليغ، وقال: والله لأرمين بها بين أكتافكم، فكيف يكون من يعرف هذه النصوص الصريحة الكثيرة المتواترة، ممن يلبس عليه الشيطان بهذه الشبهة الواهية.

    شبهة اختصاص العلماء بالنهي عن المنكر

    كذلك من هذه الشبهات التي تحول بين الناس وبين تغيير المنكر، أن كثيراً من الناس يرى أن المنكر إنما يجب تغييره على أهل العلم دون سواهم، ومتى كان التكليف هكذا، ومتى كان التكليف تختص به فئة من فئات الأمة دون من سواها، أليس المكلف هو من بلغ عاقلاً؟ سواء كان ذكراً أو أنثى، علماً أو جاهلاً فكلهم مكلفون؟ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة من فرائض الله، وهو تكريم فيستوي فيه العالم والجاهل، لكن على العالم أن ينكر ما عرف أنه منكر، وأن يأمر بما عرف أنه معروف، وعلى الجاهل كذلك التقيد بما يعلم، وألا يتجاوز ذلك، فإذا علم أن هذا الأمر بعينه منكر مثل ترك الصلاة، وهذا معلوم من الدين بالضرورة لا يجهله جاهل، فإذا رأى التقصير في ذلك أو رأى الجرأة على أكل الربا فليبادر إلى إنكاره؛ لأن هذا من المعلوم بالضرورة من الدين، ولا يجهله أحد من المسلمين.

    فهم خاطئ لقوله تعالى: (عليكم أنفسكم ...)

    كذلك من هذه الشبهات التي تحول دون الأمر عن المعروف والنهي المنكر: فهم خاطئ في آية كريمة من سورة المائدة، وهي قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105]، فإن كثيراً من الناس يفهم هذه الآية على أن معناها أن الإنسان إنما هو مسئول عن نفسه فقط، وأنه لا يسأل عما سواه، ولا يضره عصيانهم إذا أطاع هو، وليس هذا معنى الآية.

    ولذلك قال أبو بكر رضي الله عنه على المنبر: ( أيها الناس! إنكم تقرءون هذه الآية، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقابه )، إنك لا تكون مهتدياً حتى تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، والله تعالى يقول: لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105]، فكيف تكون مهتدياً وأنت تارك لفريضة من فرائض الله؟ لا يمكن أن تكون مهتدياً وأنت غير آمرٍ بالمعروف وغير ناهٍ عن المنكر.

    شبهة ترك المنكر كونه تدخلاً في الشئون الداخلية

    كذلك من الشبهات الداحضة في هذا لمجال: أن كثيراً من الناس يرى أن من لا يدفن معك في قبرٍ لست مسئولاً عنه، وأن إنكارك عليه من التدخل في الشئون الداخلية، وهذا إنما جاء من انبتار الصلة بين المسلمين وتقطع وشائج الأخوة الإسلامية، ألا يتذكر من يفهم هذا الفهم قول الله تعالى: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة:105]، ألا يتذكر مسئوليته في الاستخلاف في هذه الأرض، ألا يتذكر مسئوليته في الشهادة على الناس: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ [النساء:135]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ [المائدة:8]، كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]، وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104]، أين مشاركتك وأنت تزعم أنك من أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم أو تريد ذلك، أين مشاركتك في صفة الأمة وواجبها؟

    شبهة التفريق بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

    كذلك من الشبه الداحضة في هذا الباب: أن كثيراً من الناس يفرق بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيقول: تقتضي الحكمة في زمن من الأزمنة ألا ينهى عن المنكر، ولكن يؤمر الناس بالمعروف فقط، وهذا من العلمانية السيئة التي فيها حصر الدين في زاوية من زوايا الحياة، وإقصاؤه من الزوايا الأخرى، والواقع أن هذا الدين لا يقبل تجزئة، إما أن تأخذه مسلماً على أنه من عند الله، أو أن ترده على الله بحذافيره: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ [البقرة:85].

    إن علينا أن نستسلم لأمر الله كله، وألا نفصل فيه، كل من عند ربنا، لا بد أن تتحقق فينا صفة الإيمان، والله سبحانه وتعالى بينها بقوله: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285]، لا بد أن نقول جميعاً بواقعنا وبألسنتنا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، ولا يمكن أن نرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ما جاء به، فنكون كبني إسرائيل الذين قالوا لـموسى : فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24].

    إن علينا أن نجتهد في ألا نرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً مما جاء به، وأن نتحمل مسئولياتنا، وأن نعلم أن الدين الآن في غربته الأخيرة، وأن الله ناصره لا محالة، وأن المشاركة في انتصاره شرف للمشارك لا شرف للدين، وأننا لا يمكن أن نمن على الله شيئاً، ولا يمكن أن يكون أحد منا له على الله أو على رسوله المنة، بل الله ورسوله أمن وأكرم، فلذلك لنعمل أن نصرة هذا الدين قطار مستمر، يلتصق به من أراد قطع المسافات وأراد الوصول، ويتخلف وراءه من لم يرد ذلك وسيبقى على الأثر، فالدين لا بد سينتصر، وسيبقى المخلفون الذين لم يبذلوا شيئاً في نصرته على الأثر، ولا يرضى أحد منكم أن يبقى مخلفاً يخرج من الدين عندما تكون قبته وترجع إليه مكانته، فيطرد ويقال: لا، ما عرفناك لم تكن معنا، فيضطر إلى أن يكون مثل المنافقين الذين كانوا يقولون في صدر الإسلام للمؤمنين إذا كتب الله لهم النصر: ألم نكن معكم؟ وسيقولون ذلك يوم القيامة، ويقولون للكافرين أيضاً إذا جاءت صولة الباطل: ألم نكن معكم ونمنعكم من المؤمنين!

    فعلى المؤمن أن يحقق إيمانه بالتزام ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم والمشاركة في إعلاء كلمة الله، وألا يتأخر في ذلك طرفة عين، ولنستحضر حال سلفنا الصالح الذين لم يمنعهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صغر السن، ولا نقص العلم، ولا نقص ذات اليد ولا الطمع ولا الهلع.

    هذا زيد بن أرقم وكان طفلاً صغيراً يتيماً لم يترك له أبوه درهماً ولا ديناراً، وأنفق عليه ابن عمه وآثره وقربه وجعله ربيباً له، تزوج بأمه، ولكنه كان منافقاً، ( فسمعه يقول كلمة سوء، وكان رديفه، فقال: يا أبتي! أما إنك لأمنّ الناس عليّ، ولكني والله لن أكتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قلت، فذهب إليه فأخبره، فجاء الرجل يحلف بالله ما قال ويعتذر، فجاء جبريل وصدق زيد بن أرقم ونزلت آية التوبة، ففرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن زيد وقال: أذن واعية )، صدقه الله من فوق سبع سماوات، لم يمنعه قرابة هذا الرجل ولا إنفاقه عليه، ولا أنه بمثابة والده على أن ينكر المنكر، ولم تمنعه حداثة سنه ولا نقص علمه أن ينكر المنكر، وما دام في الأمة أمثال هؤلاء فلن تنتشر فيها المنكرات، لكن إذا صارت غثاءً كغثاء السيل، وأصبح الناس لا يتحملون المسئوليات، فحينئذٍ سيحل عليها وعد الله الذي لا يخلف الميعاد، وسيحق عليها الكلمة، نسأل الله ألا ندرك ذلك.

    1.   

    آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

    إن للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر آداباً منها:

    اللين والحرص على الناس

    أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالتي هي أحسن، فلا مجال في هذه الشريعة للفظاظة والغلظة ولا لسوء الأدب، بل هذا الشريعة شريعة أدب، فإذا أردت أن تأمر بمعروفٍ أو تنهى عن منكرٍ، فليكن ذلك بلين وسهولة ما دام ذلك ممكناً، ولهذا قال الله لـموسى و هارون حين أرسلهما إلى فرعون لتغيير منكره: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44].

    إن هذه القسوة والشدة التي يتصف بها بعض من ينكر المنكر ليست من آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تولد إلا حدة وشدة في الطرف الآخر، وربما أدت إلى فتنة نسأل الله السلامة والعافية.

    كذلك من آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون منطلقاً من واقع الحرص على الناس؛ لأننا ذكرنا أن هذه الأمة هي أمة الإنقاذ للأمم، وأن واقعها أنها تريد الحيلولة بين الناس وبين أن يكبهم الله على وجوههم في النار، فمن هذا المنطلق تنكر المنكر، كإنكار إبراهيم عليه السلام الذي جعله الله لك أسوة وأمرك بالاقتداء به، فإنه قال لأبيه: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا [مريم:42-43]، ويلاحظ هذا الأسلوب العجيب، قال: يا أبت! ولم يقل: يا آزر ؟ بل خاطبه بهذا اللفظ الذي فيه توقير وتواضع، وقال: إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ [مريم:43]، ولم يقل: أنا نبي مرسل خليل الله، وأنت كافر عدو لله جاهل، بل قال: جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ [مريم:43]، لا أنكر أن يكون لديك علم، ولكن قد جاءني من العلم ما لم يـأتك، وكذلك في كل الكلمات التي خاطبه بها، ومع هذا فحين جاءت المفاصلة: قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا [مريم:46-48]، ووعده أن يدعو له ويستغفر له، وهذه استثناها الله من الإسوة بـإبراهيم ، فليس لكم أن تفعلوه؛ لأن الله تعالى يقول: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [التوبة:113-114]، وكذلك قال: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة:4]، فلكم الأسوة في كل هذا إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [الممتحنة:4]، فليس لكم أسوة في ذلك.

    اختيار الوقت والأسلوب المناسبين

    كذلك من آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أن يحاول الإنسان اختيار الوقت المناسب والأسلوب المناسب، فلا يحاول أن يأتي في وقت غير مناسبٍ، فتأخذ صاحب المنكر بالعزة والإثم، ولا تريد أن يكون فتنة عليه، بل تريد أن يكون سبباً لهدايته، ومن واقع حرصه عليه يأتيه في وقت انكساره، وفي وقت موعظة وينتهز الفرص، ويأتي بالأساليب المنوعة، ويقدم إليه الإهداء والنفع قبل أن يقدم إليه النصيحة والأمر والنهي، ويتعرف إليه أولاً على واقعه، هل لديه شبهات جعلته يقع في المنكرات، فيحاول إزالة تلك الشبهات؛ لأن تركها مع تغيير المنكر إنما هو طلاء على الجرب لا يفيد، وكل ما ليس بقناعة فإن الشارع لا يقره؛ لأن المقصود من الدين كله أن يكون مبنياً على عقيدة صحيحة، فإذا كان الإنسان يفعل هذا الفعل عن غير قناعته فهذا وصف من صفات المنافقين لا يقره الشرع.

    البدء بالنفس والأقربين

    كذلك من آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أن يبدأ الإنسان بنفسه وألا يريد من الآخرين شيئاً لم يفعله هو، وهذا خطيب الأنبياء شعيب عليه السلام، يقول فيما حكى الله عنه: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88]، والذي يريد الإصلاح ينبغي أن يبدأ بنفسه، فلا يمكن أن يطاع وهو يخالف ما يؤمر به:

    يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم

    تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى كي ما يصح به وأنت سقيم

    وأراك تلقح بالرشاد عقولنا أبداً وأنت من الرشاد عقيم

    ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

    فهناك يسمع ما تقول ويشتفا بالقول منك وينفع التعليم

    لا تنهَ عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم

    وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أن رجلاً كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فجيء به يوم القيامة فرمي في النار، فاندلقت أقتابه أو أقتاب بطنه فدار بها كما يدور الحمار بالرحى، فتأذى به أهل النار، فقالوا: يا فلان! ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهنا عن المنكر، فقال: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه )، نسأل الله السلامة والعافية، فهذا الآمر الناهي قد قامت عليه الحجة ويلعنه ما يقول على لسانه.

    عدم أخذ الأجر

    كذلك من آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ألا يأخذ الإنسان على ذلك أجراً، والأجر سهل جداً، الأجر مثل الرشوة، يحصل بمجرد استحباب أن يكبره الناس وأن يتمثلوا له قياماً، أو أن يتبعوه إذا خرج، أو أن يشتهر بينهم كل هذا من الرشوة التي هي أخذ أجر على الدعوة، وأخذ الأجر على الدعوة مخالف لما جاء به كل رسل الله: مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [الشعراء:109]، جميع رسل الله يقولون ذلك.

    وقد خرج ابن مسعود رضي الله عنه بعد درسٍ كان يقيمه في مسجد الكوفة، فتبعه رجال، فقال: ارجعوا، فإنها ذلة للتابع، وفتنة على المتبوع، فالتابع ذليل لأنه يتبع إنساناً بشراً، لا يدري هل هو محق أو غير محق وغير معصوم قطعاً؟ والمتبوع هذه فتنة عليه؛ لأنه يستعجل بها شيئاً من أجره ويتعجله، فلذلك ينبغي للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر الداعي إلى سبيل الحق، أن يخاف أن يأخذ أجراً على دعوته من أي وجه كان هذا الأجر، وهذه من آداب هذه الدعوة وهو سبب للامتثال والمحبة.

    إن من استحب ذلك في قلبه لن يناله، وهذه قضية عجيبة، والذي يحب أن يشتهر بين الناس ويحب أن يعظموه يمنعه الله ذلك؛ لأن محبة أهل الإيمان وأهل الخير للإنسان مرتبطة بمحبة أهل السماء، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري : ( أن الله تعالى إذا أحب عبداً نادى جبريل : إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي به جبريل أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض )، قال سفيان وهو سفيان بن عيينة أحد رواة هذا الحديث، ولا أراه إلا قال في البغض مثل ذلك، نسأل السلامة والعافية ( إذا أبغض الله عبداً نادى جبريل : إني أبغض فلاناً فابغضه، فيبغضه جبريل، ثم ينادي به جبريل في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فابغضوه )، نسأل الله السلامة والعافية، ( ثم يوضع له البغض في الأرض )، والمقصود بالبغض والحب هنا في أهل الإيمان، وأما أهل الفسق والعصيان، فلا يحبون لله ولا يبغضون في الله، والحب في الله والبغض في الله أقوى عرى الإيمان، وهو المقصود المهم النافع عند الله تعالى، وأما المحبة من أجل المال أو من أجل المكانة أو من أجل النفع أو غير ذلك فليست المحبة الحقيقية بل هي منقطعة، وكم شاهدنا ممن كان غنياً من الأغنياء، فكان الناس يخدمونه ويتقربون إليه، وحين افتقر أعرضوا عنه وتركوه.

    لو رأى الناس نبياً سائلاً ما عظموه وهم لو طمعوا في زاد كلبٍ أكرموه

    فلهذا ينبغي أن نتخلق بهذه الآداب، وأن نلتزمها.

    نسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يهدي قلوبنا، وأن يصلح أحوالنا، وأن يهدينا سبل السلام، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يجعل ما نقوله ونسمعه حجة لنا لا علينا، وأن ينفعنا بما سمعنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يزيدنا علماً.

    اللهم ألهمنا رشدنا وأعذنا من شرور أنفسنا، واهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

    اللهم أصلح أحوال المسلمين يا رب العالمين، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن، وجميع الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا أرحم الراحمين..

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718711

    عدد مرات الحفظ

    765221855