بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسأل الله تعالى العفاف والغنى، وذلك يدل على أهمية هذه المسألة، فإن ما سأله ربه لا يمكن إلا أن يكون من خير ما يسأل، فقد اختار الله له ووفقه له، وبذلك يعلم أن على كل مؤمن أن يسأل الله ما كان يسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والعفاف خلق كريم يحتاج الإنسان إلى التحلي به؛ لأن حسن الخلق هو أقرب ما يقرب إلى الله تعالى من الأعمال الصالحة، وقد جاء أنه أول ما يوضع في الميزان، وجاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في صحيح مسلم أنه سبب القرب من النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة يوم القيامة يقول صلى الله عليه وسلم: ( ألا أخبركم بأحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة؟ أحاسنكم أخلاقاً ).
فعلى الإنسان أن يحاول التحلي بصفات المؤمنين وأخلاقهم، وأن يحرص على الازدياد منها، وهذا الخلق لا يمكن أن يتحلى به الإنسان إلا بأمرين: أحدهما: أمر نظري، أي: بأن يتعلمه.
والثاني: أمر تطبيقي بأن يأطر نفسه عليه أطراً، وأن يعودها عليه تعويداً، فسنبدأ إن شاء الله تعالى بالإطار النظري لهذا الخلق، فأقول:
إن أهل العلم قسموا العفاف إلى ستة أقسام بحسب متعلقه من البدن:
فالقسم الأول: عفاف القلب، والمقصود به غنى النفس، أي: أن يكون الإنسان مستغنياً بما آتاه الله تعالى، وذلك من تمام الإيمان؛ لأن الإنسان إذا علم أن الله لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، تعلق بما عند الله وزهد فيما عند الناس، وبذلك يكون عفيف القلب؛ لأن قلبه ذو جهة واحدة، مرتبط بالله وحده ولا علاقة له بمن دونه، ولا يهتم بما لدى الآخرين، وهو يتذكر دائماً قول الله تعالى: مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ[فاطر:2]، وقوله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[الأنعام:17]، وقوله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ[يونس:107]، ويتذكر قوله تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ[النحل:53]، فيعلم أن جميع الخير هو من عند الله سبحانه وتعالى يخص به من يشاء، ويصرفه عمن يشاء، وقد كتب لكل إنسان حظه ونصيبه من هذه الحياة، كما أنك لم تشاور في خلقتك، وقد أخرجك الله من العدم إلى الوجود، كذلك لم تشاور في رزقك، فقد خصص الله لك مخصصاً يتناسب مع عمرك، فأنت جاهل لعمرك؛ لقدره وأطواره وأحواله، ولا يمكن لك أن تعرف ما يتناسب معك، والله تعالى عالم بذلك فخصص لك مخصصا ًيتناسب مع عمرك.
فالرزق مع العمر إذا انتهى أحدهم انتهى الثاني، ولهذا قال الله تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا[هود:6]، فذلك كله إلى الله سبحانه وتعالى، وهو الذي يقدر، ومن هنا على الإنسان أن يعلم أن بذل الأسباب إنما هو عبادة وقربة يتقرب بها إلى الله، لكنه لا يغير شيئاً من قدر الله، ومن هنا فهو يتعالج ويتداوى من أجل طلب الشفاء، لكنه لا يعلم أن الشفاء مكتوب، ويعلم أن الله قد كتب له ما هو كائن، إن كان سيشفى من هذا المرض فقد كتب ذلك له، وإن كان لن يشفى منه فلا يمكن أن ينفعه علاج.
وكذلك في طلبه للدنيا يعلم أن نصيبه منها قد كتب، وأنه إذا بذل كل الأسباب لا يمكن أن يزيد في نصيبه شيئاً، وإذا لم يبذل أي سبب فسيصل إليه نصيبه إلى مكانه الذي هو فيه.
ومن هنا قال الحكيم:
مثل الرزق الذي تطلبه مثل الظل الذي يمشي معك
أنت لا تدركه متبعاً فإذا وليت عنه تبعك
وكما قال الآخر:
باتت تعيرني الإقتار والعدما لما رأت لأخيها المال والنعما
تباً لرأيك ما الأرزاق عن جلد ولا من الكسب بل مقسومة قسما
وكما قال ابن زريق الأندلسي رحمه الله:
والله قد قسم الأرزاق بينهم ما يخلق الله من خلق يضيعه
لكنهم كلفوا رزقاً فلست ترى مسترزقاً وسوى الغايات يقنعه
والدهر يعطي الفتى من حيث يمنعه عفواً ويمنعه من حيث يطمعه
فكل ذلك مكتوب.
إذا راجع الإنسان هذه العقيدة ورسخها في نفسه، فإنه سيرغب فيما عند الله ويهتم به، ويزهد فيما عند غيره؛ لأن الآخرين جميعاً لو اجتمعوا على أن يوصلوا إليه نفعاً، لما استطاعوا إلا ما كتب الله له، ولو اجتمعوا جميعاً على أن يوصلوا إليه ضراً، لم يوصلوا إليه إلا ما كتب الله عليه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لـابن عباس رضي الله عنهم: ( واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف ).
ومن هنا لا بد أن يحدد الإنسان علاقته بربه، وأن يعلم أن عبوديته تقتضي منه اللجأ إلى الله في كل أوقاته، وتعلق القلب به، والرغبة فيما عنده، والأنس به في كل الأحيان، فإذا فقدت شيئاً من الدنيا، كأن فقدت حبيبا ًمن أهلها، أو فاتك مصلحة من مصالحها، أو فاتك أي شيء مما ترغب فيه مما فيها، فإن الله حي لا يموت، وهو الباقي وحده، وفيه خلف عن كل هالك.
وكذلك إذا سدت دونك الأبواب وأغلقت فباب الملك الديان مفتوح، وهو ( يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل )، ويتعرف إلى عباده بالنعماء قبل المسألة، ويجيبهم إذا سألوه، ويعطيهم أكثر مما تتعلق به أفئدتهم، فإذا راجعت نفسك تذكرت أن الله تعالى أعطاك كثيرا ًمن الخير لم تسأله إياه قبل أن تسأله، ثم بعد ذلك استجاب لك الدعاء، فأعطاك ما سألته في كثير من المواقف، ثم بعد ذلك أعطاك مالم يخطر على بالك ولم تكن لتصل إليه مسألتك، وكل ذلك من كرمه وجوده، وقد عودك على هذا الإحسان، فعليك أن تحسن العلاقة به، وأن تحسن الظن به؛ ولذلك يقول الحكيم:
حسن الظن بمن عودك كل إحسان وقوى أودك
إن رباً كان يكفيك الذي كان بالأمس سيكفيك غدك
وقد دخل عبد الله بن المبارك رحمه الله على هارون الرشيد يوماً من الأيام فوجده مهموماً، فسأله الرشيد أن يعظه، وأن يذكره بالله، وكان بيده كأس ماء يريد أن يشرب منه، فقال: يا أمير المؤمنين! لو منعت هذه الشربة بكم تشتريها؟ قال: بنصف ملكي، قال: اشرب بارك الله لك فيها، فشرب، فقال: لو منعت إخراجها فحيل بينك وبين أن تبولها بكم تشتري ذلك؟ قال: بملكي كله، قال: إن ملكاً قيمة نصفه شربة ماء، وقيمة جميعه بولة لا يستحق أن يحرص عليه أحد، قال: صدقت فبكى هارون بكاء شديداً؛ لأنه تذكر أنه قد أفنى كثيراً من أوقاته في تدبير أمور الملك والحرص عليه، وقد أفنى كثيرا ًمن الليالي بالهم والغم بشأن هذا الملك، وهو مكتوب قد حسم.
فلما رأى اتعاظه وانكساره قال: يا أمير المؤمنين! ما نصيبك من رحمة الله في هذه الدنيا؟ قال: أوفر نصيب، فأنا أمير المؤمنين، وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختارني الله بالإيمان والعلم والتقوى، ورزقني من صالح المال والولد، فذكر أنواع نعمة الله التي لا يستطيع إحصاءها، قال: هذا نصيبك من جزء واحد من رحمة واحدة في الدنيا، فكيف بنصيبك من تسع وتسعين رحمة في الآخرة.
فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأنزل رحمة واحدة في الدنيا، فبها يتراحم الخلائق فيما بينهم حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها، وادخر عنده تسعاً وتسعين رحمة لعباده المؤمنين في الجنة )، فلذلك لا بد أن يحسن الإنسان ظنه بالله تعالى، وإذا راجع الإنسان هذه العقيدة، وأنس بالله في كل أوقاته، فإنه إذا سدت الأبواب وأغلقت تذكر باب الملك الديان، واتصل به، وإذا قاطعه الناس حسن ذلك لديه؛ لأنه في مقابل ذلك يقبل على الله كما قال الحكيم:
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب
فإذا صحح الإنسان هذا الاعتقاد فسيكون سعيداً في كل أوقاته سعادة عجيبة، وبذلك فإنه ( إذا مسته الضراء صبر فكان خيراً له، وإذا مسته السراء شكر فكان خيراً له )، فهو بين حالين لا يمكن أن يصيبه في الدنيا إلا سراء أو ضراء، وهو يعلم أنهما من عند الله، فيرحب بكل ما جاء من عند الله، فإن كان سراء شكرها لله، وإن كان ضراء صبرها لله، وهو يعلم أنه وحده الذي يستطيع جلب السراء، وهو وحده الذي يستطيع دفع الضراء، وبهذا ينظر إلى الخلائق كنظرته إلى النمل وكل الحشرات، فيعلم أنها ما لم تسلط عليه، فلا يمكن أن تصل إليه بضرر، وأنها لا تستحق أكثر من قدرها، فأنت ترى النملة تمشي، وترى الذبابة تطير ولا تولها أكثر من قدرها، فكذلك الخلائق جميعاً لا يملك أحد منهم لأحد نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً: وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ[الحج:73-74].
وإذا عرفت ذلك فأنت في سعادة عجيبة، وإقبال على الله سبحانه وتعالى، وطلب لخيره ومشاهدة لما يقسمه، فأنت في كل وقت تشاهد من قسمة الله سبحانه وتعالى ومن خيره وفضله ما لا يمكن إحصاؤه ولا عدله.
فانظر إلى عدد الخلائق على وجه هذه الأرض من البشر فقط الذين تعرفهم، الآن حوالي خمسة مليارات من البشر فطرهم جميعاً، ونفخ فيهم الروح، وأعطاهم السمع والبصر والأفئدة، وأعطاهم الأيدي والأرجل، وأعطاهم اللباس حين لم يستر أبدانهم بالشعر، كسائر الدواب والبهائم أعطاهم اللباس يستره عن أشعة الشمس.
وأنعم عليهم بالإيواء والإطعام والشراب، وجميع هؤلاء رزقهم على الله جميعاً، يقسمه بينهم وكل ذلك ( لا ينقص مما عنده إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر )، وهذا عدم ليس شيئاً، وانظر كذلك إلى ما لا تعرفه من الخلائق عرفت بالتخمين قدر الإنس، فكم قدر الجن؟! وكم مضى من الإنس وكم سيأتي ؟ أيضاً إذا عرفت ذلك فما هو الملكوت، وهذا في عالم الملك الذي نشاهده، فكيف عالم الملكوت، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31].
وهناك خلائق كثيرة لا تعرف أسماءها ولا ألوانها ولا أجناسها ولا لماذا خلقت، وكلها يدبر عليها الملك الديان، وتذكرك لهذا نفي للغفلة عنك؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا أقبل على النوم، واضطجع على فراشه: ( الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، فكم مما لا كافي له ولا مؤوي ).
وهذه عجيبة يقر بها الإنسان لله تعالى، ويعلم أن غير الله لا يستطيع أن يوصل أي جزء منها إليه، ولا يستطيع أن يمنعه أي جزء قد كتبه الله له، وبذلك يأنس في كل الأحيان ويسر بكل الأمور.
وأذكر درساً تعلمناه من شيخ كبير السن من العلماء، وهو الشيخ محمد يبرأ البيه رحمة الله عليه، فإنا زرناه في وقت الضحى وهو أصم لا يسمع، وإنما يكتب له في الهواء فيتفاهم مع الشخص بالكتابة في الهواء، فكتبت له أن من الأجهزة أجهزة سمعية توضع على الأذن فيسمع بها الإنسان، فأجابني فقال: ما كتمه عني ربي لا أحب أن أسمعه، ومعنى ذلك أنه راضٍ بما قدر الله له، وما كتم عنه وهو الأصوات، فإنه لا يحب أن يتطلع إلى سماعه، ويعلم أنه لا يمكن أن يسمعه أصلاً؛ لأن ربه قد كتمه عنه، فهذا النوع من الرضا إذا حصل للإنسان فهو سعيد مسرور، ولذلك تجدون أهل العبادة وإن كانوا ضعاف الأبدان، وإن كانوا كبار السن في رخاء وسعادة عجيبة وراحة بال، بينما تجدون المقبلين على الدنيا، والراغبين في زهرتها، والمتطاولين فيها إذا حصل أي إشكال، أو أي نقص، مثلاً: ارتفع مؤشر الأسهم أو انخفض، أو تأخرت الباخرة، أو ازداد سعر البنزين، أو نقصت القوة الشرائية للزبون، أو حصل أي إشكال ضاقت عليهم الدنيا بما رحبت، كأنما تمسك قلوبهم فتعصر لأتفه الأسباب وأخفها؛ لأنهم ربطوا مصيرهم ومآلهم وأوقاتهم بأمر هذه الدنيا وأسبابها الفانية، بينما أهل الله سبحانه وتعالى ينظرون إلى هذه الدنيا إلى أنها نقطة صغيرة جداً في عالم ملكوت الله سبحانه وتعالى.
فالسموات السبع والأرضون السبع كدراهم في ترس إذا قيست إلى الكرسي، والكرسي في العرش كحلقة في فلاة، وبهذا يعلم سعة ملك الله سبحانه وتعالى وتدبيره، وأنه لا يمكن أن يفوته فائت، وأن أمر كل شيء إليه، وتدبير كل شيء عليه، لا تسقط ورقة من أية شجرة من شجر الهند الملتف إلا وقد علمها وكتبها، ولا تقطر قطرة من المطر في البلدان الاستوائية في أدغال إفريقيا إلا وفي إرادة ملك أمره الله أن يوصلها إلى مكانها؛ ولهذا قال تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ[الأنعام:59].
وقد كنا يوماً من الأيام في مدينة فريجينيا فقطعنا النهر إلى واشنطن، وصعدنا فالخازوك الذي إذا وقف فيه الإنسان دار به، ويرى بالمنظار جميع أنحاء واشنطن، وهو قريب جداً من البيت الأبيض ومن قبة الكونجرس، فإذا البرامج الترويجية التي يروج لها الأمريكان أنهم يمتلكون أكبر قدرة تجسسية في العالم، وأنهم يملكون منظومة من تسعة وأربعين قمراً صناعياً تجسسياً تغطي الكرة الأرضية كلها، فسألت زميلاً لي: هل تصدق هذا الذي قالوا لي ؟ قال: كيف لا أصدقه وهو بارز العيان، وسنذهب بعد قليل إلى محطة الفضاء وفيها تغطية كل ذلك، قلت: هذه الأشجار التي تراها في البيت الأبيض هل يعرفون عدد أوراقها؟ ففي شهر الربيع تتلون الأشجار في أمريكا فتسقط أوراقها، وتتلون بألوان مختلفة في أمريكا كلها، فهل يعرفون عدد هذه الأوراق التي تتساقط الآن في البيت الأبيض؟ قال: لا، قلت: هون عليك إذا جهلوا هذا الذي في البيت الأبيض، فكيف يعرفون الذي في البيت الأسود، والذي في أماكن أخرى.
إن الإنسان إذا عرف هذه الأمور هانت عليه أسباب أهل الدنيا، قلت له: إذا كانوا لا يعرفون ما في البيت الأبيض من أوراق الشجر التي تتساقط، فهم لا يعرفون أعدادها ولا أعمارها ولا بدائلها، فكيف يعرفون ما في الدنيا كلها!
والغريب أنه بعد ذلك بأيام خرج متهور أمريكي في طائرة يتعلم فيها السياقة فأنزلها في البيت الأبيض، دون أن ترصد ولا أن تكتشف بالأقمار الصناعية ولا بالرادارات.
وبهذا يعلم أن الخلائق جميعاً لا يتكل عليهم، ولا يعتمد عليهم فالرب الكريم هو الذي لا يفوته فائت، وعلمه محيط بجميع الأشياء إجمالاً وتفصيلاً، وكل ذلك بتدبيره وقدرته، لا ينبط ورقة حتى يأذن لها، ولا تتحرك بهواء حتى يأذن لها بالتحرك به، ولا تسقط إلا إذا أذن لها، ويعلم الله تعالى قدر ما يصل إليها من الماء الذي تشربه الشجرة، وقدر ما يصل إليها من الأكسجين الذي تشربه الشجرة، فحضها مقسوم مكتوب.
ومثل ذلك في نفسك، فتغذيتك التي كتب الله لك ليست لك، بل أنت مشروك فيها، وقد قسمها الله تعالى فجعل بها أرزاق أنواع من الخلائق لا تعرفها، فشعرك كل شعرة منه تشاركك في التغذية، ولها نصيبها المعلوم في علم الله وهو مكتوب، وعضلاتك كل عضلة منها بل أنسجتك كل ذرة منها، كل خلية من هذه الأنسجة، وكل نواة من كل خلية قد كتب الله لها رزقها يصل إليها مما تتغذى به، وقد قسم الله مما تتغذى به لأنواع أخرى من الخلائق فمنها مثلاً القمل من أين رزقه ؟ من أرزاق البشر، والبق من أين رزقه ؟ من أرزاق البشر، بل إن كثيراً من البهائم والهوام أرزاقها هي من رجيع البشر، فكل ذلك من قسمة الله تعالى وتدبيره، وبهذا يهون عليك الأمر، وترى ما أنت مشارك في تيسيره من الكون كما أنت غائب عنه.
إنك تتعب في تحصيل الرزق قبل أن تأكله، لكن إذا مضغته وابتلعته زال تدبيرك، ولم تكن لك أية مشاركة فيما سيمر به من المراحل، وسيمر بمراحل أكثر من المراحل التي مر بها قبل أن تبتلعه، فإنه قبل أن تبتلعه قد مر بحفر الأرض وجعل البذر فيها، وسقيها ورعايتها وتنقيتها، ورعاية النبات بعد ذلك حتى يتم ويسود، ثم بعد ذلك في حصاده، ثم بعد ذلك في دراسة، ثم بعد ذلك في حصده وغربلته، ثم بعد ذلك في إنضاجه، ثم بعد ذلك في أكله مراحل معدودة، لكن بعد الأكل سيمر بمراحل لا عد لها، فإنه في المعدة تنتابه أنواع كثيرة جداً من الإنزيمات التي بها يمر بمراحل كثيرة جداً قبل أن يتجاوز المعدة، ثم يتجاوزها وقد قسم إلى أنواع: منه السوائل التي تذهب في جهة، ومنه ما يغذي الدم، ومنه ما يغذي العظام، ومنه ما يغذي اللون، ومنه ما يغذي البصر، ومنه ما يغذي الدماء، ومنه ما يغذي الشعر، وكل ذلك حتى الأظافر لها نصيبها منه، فما يغذي الأظافر يختلف عما يغذي البشرة، وما يصلح اللون يختلف عما يتعلق بالشعر، وما يقوي الجسم ما يزيد الشحم، وما يزيد اللحم، وما يزيد الكريات الحمراء في الدم ما يزيد الكريات البيضاء فيه، وكل هذه الأمور قد قسمها الله وكتبها وأنت غير مشارك فيها، ليس لك فيها أي اشتراك، ولا تستطيع ملاحظتها، فإذا كان الأمر كذلك، فاجعل ما أنت مشارك في تدبيره من هذا الكون كالذي أنت غائب عنه لا علم لك به؛ وبالتالي يسهل عليك الأمر فيكون قلبك عفيفاً عن هذه الدنيا، لا يتعلق بها؛ لأن القلب أضيق من أن يحمل الكثير، فإما أن يمتلئ بالاهتمام بأمر الآخرة، وإما أن يمتلئ بالاهتمام بأمر الدنيا، وانظر إلى البعد الشاسع بين الحالين، فإن من امتلأ قلبه بالدنيا فقد امتلأ بالعفن والوسخ والقيح والصديد والدم والأقذار، ومن امتلأ قلبه بمحبة الآخرة والتعلق بما عند الله سبحانه وتعالى فقد امتلأ بالنور، والبون شاسع والفرق كبير من الطائفتين، ولهذا قال الله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً * كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً[الإسراء:18-20] وقال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ[الشورى:20].
فالدنيا ضرة الآخرة وهما ضدان، فإما أن تؤثر هذه، وإما أن تؤثر الأخرى؛ فلذلك عفافك عن الدنيا يقتضي بالضرورة حرصك على الآخرة، وحرصك على النجاة من عذاب الله، وحرصك على نعيمه والقرب إليه، وإذا كانت الدنيا في يدك لا في قلبك فقد تعففت عنها، فزال عنك ما فيها من الأوساخ والأقذار، وانتفعت بما فيها من النفع فجعلتها مطية للدار الآخرة، وصرفتها في وجهها الصحيح.
وكثير من الناس يظن أن ما نقوله يقتضي منا الابتعاد عن الدنيا، والزهد فيها وتركها بالكلية، وهذا غير صحيح.
فالصحيح هو نفض يد القلب عن الدنيا، وأن تكون يد البدن مشغولة بها لا تتعلق بها بقلبك ولا تحبها، ولكن تصرف فيها لأنك مأمور. وقاعدة الأسباب هي أن التوكل عليها شرك، وأن تركها معصية، فالتوكل على الأسباب شرك بالله وترك الأسباب معصية لله، فلا بد أن تباشر الأسباب وأن تعمل بها؛ لأن الله أمرك بإعمالها لكن لا أن تتوكل عليها، وأن تعلم أنها لا تغير شيئاً من قضاء الله ولا قدره، ولا يمكن أن يكون لها تأثير في أي شيء إلا ما كتب الله سبحانه وتعالى وقدر.
القسم الثاني من أقسام العفاف: عفاف اللسان:
فهذا اللسان جارحة من أخطر الجوارح التي تلي القلب، فكما أن القلب يرتبط به صلاح القلب كله، كما في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ).
كذلك هذا اللسان ترتبط بها الجوارح كلها كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ما من يوم إلا والجوارح كلها تؤثم اللسان، تقول: اتق الله فينا، فإننا بك، إن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا ).
وهذا اللسان زلته ليست كزلة القدم، فرب كلمة واحدة يتكلم بها الإنسان يتجاسر بها على الله سبحانه وتعالى يهوي بها على وجهه سبعين خريفاً في قعر جهنم، ورب كلمة واحدة كذلك يتقرب بها إلى الله من عمل اللسان، يرفعه الله بها الدرجات العلى من الجنة، فهذا اللسان أمره عجيب، ويكفيه أن أبلغ ما ينجي من النار شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ينطق بها اللسان؛ ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن عبداً يوم القيامة جيء به، فجيء بسيئاته فإذا هي سجلات قد ملأت البصر- وفي رواية - سدت الأفق - فقال الله لملائكته: انظروا هل لعبدي من حسنة؟ فنظروا فجاءوا بقصاصة قدر الظفر كتب فيها لا إله إلا الله، فقال العبد: يا رب! وما تغني عن هذه السجلات؟ فقال الله: إنك لا تظلم شيئاً، فوضعت السجلات في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، فشعلت السجلات ورجحت لا إله إلا الله).
فلذلك لا بد أن نعلم خطر هذا اللسان في الجانبين؛ خطره في الخير إذا استعمل فيه، وخطره في الغير إذا استعمل فيه، ومن هنا لا بد من عفافه، وعفافه يقتضي من الإنسان أن يكون عفيفا ًعن أعراض الناس وعن الكلام فيهم، وأن يكون مشتغلاً بما يعنيه، فيعلم أن اللسان طاقة وقوة يملكها فعليه ألا يهدرها.
وكثير من الناس يظن أن السفه يتعلق بالمال فقط، مع أن خطأ السفه أعظمه ما يتعلق بإضاعة الوقت والجوارح، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ )، فجوارحك التي آتاك الله إذا ضيعتها في غير ما خلقت له فهذا أعظم السفه؛ ولهذا قال الله تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ[البقرة:130]، فمن رغب عن الحق فقد سفه غاية السفه.
ومن هنا فالسفيه هو الذي يضيع الطاقة التي كان بالإمكان أن يجعلها تسبيحاً وتحميداً وتهليلاً، فيتكلم فيها فيما لا يعنيه، ويشتغل بها فيما يرديه؛ لأنه يؤذي الناس ويأكل أعراضهم في غيبتهم، ويمشي بالنميمة ويكذب، ويقول بلسانه ما لا يعرف، وبهذا فإنه قد استغل طاقته ولسانه في معصية الله سبحانه وتعالى، فكان وبالاً عليه، وكان خصما ًله بين يدي الله سبحانه وتعالى وهو يعلم أنه سيختم عليه.
وهذا الإنسان حين نشهد الختم عليه، فإنكم ترون الإنسان عند النزع عندما تقبض روحه ويمتد بصره في أثرها فقد ختم على لسانه وانتهى كلامه، وليس له أية كلمة في هذه الحياة بعد ذلك، ثم بعد هذا يختم عليه يوم القيامة، كذلك عندما تتكلم الجوارح يختم على اللسان، فقد أخذ اللسان حظه من الكلام في هذه الدنيا ويوم القيامة تتكلم الجوارح الأخرى؛ يتكلم الشعر، وتتكلم الأطراف، ويتكلم الجلد، يقول تعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[النور:24] وكما قال تعالى: وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ[فصلت:21] قال أهل العلم: معنى شهادة اللسان عليهم يوم القيامة: ما سجله الملائكة مما كان يلفظ به في الدنيا؛ لأنه هو سيختم عليه يوم القيامة كما قال الله تعالى: هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ[المرسلات:35-36] ففي وقت المخاصمة والعرض على الله يختم على اللسان فلا يكون له أية كلمة.
فالكلام في ذلك الوقت كلام الحق الذي ليس فيه كذب، واللسان كما تعودنا منه في هذه الدنيا كلامه كثير منه كذب، لكن كلام الجلد، كلام العينين، كلام الأذنين، كلام الأيدي، كلام الأرجل، كلام الفروج، كلام صدق، فإنها لم تتكلم بالكذب، وستتكلم بين يدي الله بأمره فتنطق بما فعلت، وهي تقر بذلك إقراراً ليس فيه أية مجازفة ولا أي كذب.
وإذا أدرك الإنسان خطر ذلك كان لا بد عليه أن يتعامل مع لسانه تعاملاً خاصاً، فقد كان الصديق رضوان الله عليه يمسك بلسانه فيؤنبه، فعن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه قال دخلت على أبي بكر فإذا هو ممسك بلسانه يجذبه فقلت: يا خليفة رسول الله! ما هذا ؟ فقال: إن هذا أوردني الموارد، يقول هذا وهو الصديق الذي تحرى الصدق حتى كتب عند الله صديقاً، فماذا نقول نحن إذا كان الصديق يقول هذا؟! فماذا نقول نحن المساكين؟ وهذا ما نبه النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً عندما كان رديفه فقد قال له: ( ألا أدلك على ملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه فقال: كف عليك هذا، فقلت: يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به، قال: ثكلتك أمك يا معاذ ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم )، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا اللفظ تحذيراً عجيباً، وهو قوله: ( إلا حصائد ألسنتهم )، فلم يقل هنا إلا كلمات ألسنتهم، وإنما قال: ( إلا حصائد ألسنتهم )، والحصائد هي المزارع التي حصدت أي ثمرات هذه الألسنة، فجعل اللسان كالزارع الذي يزرع، وهذا الكلام هو البذور، ثم بعد ذلك ينبت من هذا الكلام ما يستحقه الإنسان، فإن كان كلامه طيباً كانت ثمرته طيبة، وإن كان سيئاً كانت ثمرته سيئة قال تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ[إبراهيم:24-26]؛ فلذلك لا بد أن نعلم أن كل كلمة تقولها هي بمثابة الشجرة، وانظر إلى ثمرتها، فمن الشجر ما هو ثابت في الأرض وفرعه في السماء وثمراته متنوعة متعددة، حتى في اليوم الواحد تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، فاليوم الواحد يتكرر ثمرها بإذن الله.
ومن الشجر ما هو خبيث الطعم خبيث الرائحة خبيث اللون، مكروه بغيض ليس فيه نفع، ومع ذلك ليس له جذور ثابتة: كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ[إبراهيم:26]؛ فلذلك لا بد أن نتذكر ( أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج لما أتى السماء السابعة، فرأى البيت المعمور رأى إبراهيم عليه السلام وهو مسند ظهره إلى البيت المعمور فسلم عليه، فقال: مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح، أخبر أمتك أن الجنة إنما هي قيعان، غراسها التكبير والتهليل والتحميد والتسبيح )، فهذه نصيحة أبينا إبراهيم عليه السلام لنا، وقد اختار من يبلغها لنا، فأرسلها مع محمد صلى الله عليه وسلم، وقد بلغها.
فلذلك لا بد أن ندرك أن كل كلمة إنما هي غراس وستجني ثمرتها، فمن زرع الشوك لا يمكن أن يحصد منه الورد، لذلك لا بد أن يحرص الإنسان على أن يكون زرعه طيباً حتى تكون ثمرته طيبة.
وعفة اللسان تقتضي من الإنسان ألا يتكلم كلمة حتى يزنها بميزانين: الميزان الأول ميزان الشرع، هل أذن الشارع بقولها أم لا؟ فإن كانت مما أذن به الشارع فهي أقسام:
ما أمر به الشارع فلا بد من المبادرة إليه؛ لأنه المصلحة بعينها في الدنيا والآخرة، وما أذن فيه إذناً مستوي الطرفين فلا بد من وزنه بالميزان الثاني وهو ميزان المصلحة، فانظر إلى مصلحته في هذا الوقت ومفسدته، فإن اقتضت المصلحة أن تقوله، فبادر إليه أيضاً، وإن اقتضت ألا تقوله فاتركه وفر منه، فإذا كان الكلام فضة كان السكوت ذهباً.
ولذلك لا بد أن تعرف أن الكلام الذي لا يفيد ينبغي أن تكون نسبته من قولك نسبة ضئيلة محصورة، كما قال الحكيم:
تكلم وسدد ما استطعت فإنما كلامك حي والسكوت جماد
فإن لم تجد قولاً سديداً تقوله فصمتك عن غير السداد سداد
وكما قال الآخر:
أفي الطبع المكدود بالجد راحة يجم وعلله بشيء من المسح
ولكن إذا أوليته المسح فليكن بمقدار ما يولي الطعام من الملح
فلذلك لا بد من وزن كل كلمة تقولها، وأعرف امرأة عاقلة أخبرتنا أنها لا تتكلم بكلام حتى تعرف ما يترتب عليه، قالت: إنها عودت نفسها على ألا تتكلم بأي كلام حتى تعرف ما يترتب على هذا الكلام، فما لا تعرف ما يترتب عليه من الكلام لا تقدم إليه.
ولذلك يقول الحكماء:
لئن ندمت على سكوتي مرة فلقد ندمت على الكلام مراراً
فلهذا يحتاج الإنسان إلى أن يكسب لسانه العفة، وعفة اللسان هي عن كل ما حرم الله، فلتبدأ أولاً بأكبر الكبائر وهو الشرك بالله سبحانه وتعالى، فاحرص على عفة لسانك عن ألفاظ الشرك وما يقترب منه، جنب لسانك ذلك كله كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعود أصحابه على مثل هذا، فإنه سمع عمر يحلف بأبيه، فقال: ( لا تحلفوا بآبائكم، فمن حلف بغير الله فقد أشرك )، فكان ينبههم على الحذر من أي قول يقتضي الشرك ولو كان شركاً أصغر، فالحلف بغير الله شرك أصغر، وليس من الشرك الأكبر المخرج من الملة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يريد منهم أن يعفوا ألسنتهم عن الشرك مطلقاً؛ ولذلك قال: ( لا تحلفوا باللات ولا بالعزى، فمن قال ذلك فليقل: آمنت بالله، وفي رواية فليقل: لا إله إلا الله ).
وكذلك بعد هذا عفته عن كبائر الإثم والفواحش، فعفته عن قذف المحصنات الغافلات المؤمنات هي عفة عما هو من الكبائر الموبقة؛ ولذلك لا بد أن يحاول الإنسان أطر لسانه على التعفف عن أعراض المسلمين، فالقذف قسمان: طعن في النسب، ووصف بالزنا، وكلا القسمين من أكبر الكبائر؛ فعلى الإنسان أن يصون نفسه عن ذلك مطلقاً، وأن يحرص على ألا يعود لسانه مثل هذا النوع من الكلام مطلقاً؛ لأنه قد يغضب فيصدر منه وهو لا يتعمده، فقد يغضب الإنسان فيصدر منه قذف لإنسان آخر بنفي نسبه أو بنسبته إلى الزنا وهو لا يشعر، فإذا كان أصلاً قد عود لسانه على هجر مثل هذا الكلام ولا يعرفه ولا يجري على لسانه، لم يكن ليصدر منه في حال الغضب أو في حال الضعف.
وكذلك أيضاً الكذب فهو من الكبائر وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً )، ولا يرضى أحد منكم أن يكتب بين الناس كذاباً، فكيف يرضى أن يكتب عند الله كذاباً! فلذلك لا بد أن يحرص الإنسان على تجنيب لسانه الكذب مطلقاً، وهذا أمر يحتاج الإنسان فيه إلى أطر لسانه عليه، وقد ذكرت لكم من قبل في صفات المؤمنين أنه بالإمكان أن يجعل الإنسان لنفسه برنامجاً يكتب فيه عدداً من صفات المؤمنين، وما يقابلها من صفات المنافقين والمشركين فيحاول تجنيب نفسه أولاً صفات المنافقين والمشركين ومنها الكذب، وفي مقابل ذلك يتحلى بصفات المؤمنين ومنها الصدق.
وقد ذكرنا برنامجاً لذلك عملياً، فذكرت أن الإنسان إذا أراد أن يكون صدوقاً فبالإمكان أن يأخذ مثلاً كتاب رياض الصالحين، أو كتاب المتجر الرابح، أو أي كتاب من كتب الترغيب والترهيب من كتب الحديث الصحيحة، فيأخذ بعض الصدق والكذب من باب الترغيب في الصدق والترهيب من الكذب، فيكتب الآيات في وجه الورقة، والأحاديث في وجهها الآخر، ويجعلها في جيبه يقرؤها بعد كل صلاة من الصلوات الخمس المكتوبة، فيقرأ الآيات على أنها رسالة من رب العالمين تختص به أرسلها إليه هو، يقرؤها وهو يقدر الجلال والعظمة والكبرياء، ومن المعلوم أنه لو جاءته رسالة من أبيه أو من أمه أو من صديق له حميم لكانت ذات مكانة عنده، ولقرأها بتأمل وتمعن، فكيف إذا كانت هذه الرسالة مثلاً لنقل من مالك بن أنس أو الشافعي أو البخاري أليست محل إجلال وتقدير؟! فكيف إذا كانت من عمر بن الخطاب أو أبي بكر الصديق ؟ ستكون أعظم وأكبر! فكيف إذا كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ستكون أعظم وأكبر، كيف وهي من رب العزة والجلال، فهذا كلام الله بلفظه ومعناه! فلذلك هو كلام وجهه الله إليك، وقد اختار له أفضل الرسل نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ [الشعراء:193] على قلب محمد صلى الله عليه وسلم لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ[فصلت:42]، فتقرأه بهذه الروح المعنوية المرتفعة، وأنت في ذلك الوقت تشعر بطمأنينة وارتفاع قدر عجيب؛ لأنك من قبل تغبط موسى ابن عمران أن اتخذه الله كليماً، وكلمه الله بكلامه، فأنت الآن كلمك الله بكلامه، وأنت داخل في قوله: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )) وداخل في قوله: (( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ )).
وهكذا كل أمر ونهي جاء في هذا القرآن من عند الله فهو موجه إليك، فأنت داخل فيه وبهذا تدرك أنك قد نزلت مكاناً علياً حين خاطبك الله وأنزل كلامه إليك، وأرسله لك مع أفضل الأمناء، فقد جاء به جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأداه إليه، وهذه منزلة عظيمة نزلتها، فتشعر حينئذ بالنشوة العظيمة عندما تقرأ هذا الكتاب بهذا الوجه، فتقرأ الصفحة بهذه الروح المعنوية المرتفعة، ولنتذكر قول الشاعر:
ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبياً
فهذه نعمة عظيمة يزهو بها الإنسان، إذا تذكر أن الله اختاره لأن يكون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فكونه بهذا المكانة أن يرسل الله إليه رسولاً، فهذه منزلة عظيمة، فكيف إذا كان ذلك الرسول أفضل الرسل وأكرمهم على الله، وكونه تأتيه رسالة من عند الله أمر عظيم، فكيف إذا كانت أفضل الكتب وأحدثها بالله عهدا، ًوهي هذا القرآن العظيم المهيمن على ما بين يديه، مصدق لما بين يديه من الحق، ناسخ لكل ما سبق، فهذا تشريف كريم شرفك الله به فلا بد أن تقرأه بهذه الروح.
فإذا انتهيت من قراءة الآيات، فانظر إلى نفسك فقل: يا نفس! أنا نزلت بهذه المكانة، وجاءني هذا الخطاب من عند الله فلا بد من امتثاله.
ثم اقلب الورقة واقرأ الأحاديث الواردة في الصدق والكذب بهذه الروح المعنوية المرتفعة أيضاً على أنها رسالة جاءتك من محمد صلى الله عليه وسلم، وعليها ختمه وبيانه، فإن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم هي بيان القرآن، وهي كلام النبي صلى الله عليه وسلم وقد أمر ببيان ذلك. قال تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى[النجم:3-4] وقال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ[النحل:44]، فتقرأ هذه الأحاديث بكل إجلال وتوقير، وتتذكر ما كان عليه سلف هذه الأمة من إجلال النبي صلى الله عليه وسلم فقد قال عروة بن مسعود يوم الحديبية لقريش: ( يا معشر قريش! والله لقد زرت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، فما رأيت أصحاب ملك يعظمون ملكاً كما يعظم أصحاب محمد محمداً، فوالله إنهم ليقتتلون على وضوئه، وما بسق إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه ورأسه، وإنهم ليبتدرون إلى قوله، وإذا تكلم كأن على رءوسهم الطير ).
فهذا إجلال أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم للنبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك من بعدهم من التابعين يقول مالك رحمه الله: لو أدركتم ما أدركت، لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، فقد أدركت جعفر بن محمد وكان ذا دعابة، فإذا ذكر عنده رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى حتى كأنه ما عرفك ولا عرفته، وأدركت محمد بن المنكدر وكان إذا حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غشيته الرضحاء، واصفر وجهه حتى رحمناه وقمنا عنه.
فهذا عمل السلف الصالح الذين هم الأسوة والقدوة، وأنت تحب أن تقتدي بهم، وأن تحشر في زمرتهم، هكذا كانوا يجلون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعظمونه كما أمرهم الله بذلك، فقد قال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ[الفتح:8-9].
فهذا يقتضي منك إجلاله وتوقيره والمبادرة إلى أمره، فأنت لا بد أن تؤثر أمره على كل شيء فلو خاطبك وأنت في الصلاة لوجب عليك أن تقطع صلاتك وتجيبه، فكيف بما دون ذلك ؟!
ولنتذكر قول الله تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[النور:63]، فإذا قرأت الأحاديث بهذه الروح المعنوية المرتفعة، وتدبرت معانيها، فاجلس جلسة تدقيق مع نفسك فقل: يا نفس! قد جاءني هذا الأمر من الله، وجاءني هذا الأمر من رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا بد لي من القيام بذلك فتعالي بنا لمدة أسبوع واحد نهجر الكذب ونتحلى بالصدق، وتخفف على النفس؛ لأن النفس حرور شرود بمثابة الدابة؛ فلذلك تعطيها مهلة أسبوع فقط، فإذا استجابت في هذا الأسبوع وكمل بحمد الله كاملاً ليس فيه أية كذبة وقد جاء ملتزماً فيه بالصدق، فهذه نعمة عظيمة وتحتاج النفس معها إلى تشجيع، فشجع نفسك واجلس معها جلسة مصارحة وشجعها على ما فعلت، وقل لها: سنمدد أسبوعاً آخر وهكذا أسبوعاً ثالثا ًورابعاً، فإذا حال شهر كامل بينك وبين الكذب لم تجد حاجة إليه، فلن تعود إليه كالصبي إذا فطم عن الرضاعة فإنه لا يحتاج إليها بعد.
والذين يحتاجون إلى الكذب إنما هم ضعاف الشخصيات الذين يرغبون فيما عند الناس، فيتقربون إليهم بالكذب، أو يخافون مما عندهم فيريدون النجاة مما لديهم بالحيلة والكذب، ومن لا يخاف الناس ولا يرغب فيما عندهم لا داعي له للكذب أصلاً، فلماذا يكذب على الناس وهو يعلم أنهم لا يملكون له نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ولا يرجو منهم شيئاً، ولماذا يكذب عليهم وهو لا يخاف منهم، فهو يعلم أن أجله قد كتب، وأن كل ما يصيبه قد كتب وانتهى، ( رفعت الأقلام وجفت الصحف ).
فلذلك سبب الكذب ضعف الشخصية فلا بد من عفة اللسان عن الكذب، ثم بعد هذا عفة اللسان أيضاً كما سبق عن أعراض الناس فأنتم تعلمون أن الذنوب ثلاثة أقسام:
ذنب لا يغفر، وهو الشرك بالله.
وذنب لا يترك، وهو حقوق العباد.
وذنب في المشيئة إن شاء الله عذب به وإن شاء عفا عنه، وهو حقوق الله المتمحضة.
وحقوق العباد خطرها عظيم، فالله غني عن حقه وهو الكريم الحنان الرحيم الحليم، والعباد فقراء إلى حقوقهم وهم أشد ما يكونون فقراً إذا حشروا إلى الله حفاة عراة غرلاً، ليس مع أحد منهم إلا عمله فلا يرجى منه حينئذ المسامحة وبالأخص إذا عرفنا أن أسباب المسامحة هي الصِلات الدنيوية، وقد انقطعت هناك بالكلية، قال تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ[المؤمنون:101]
فما ترجوه من الناس في هذه الحياة لا ترجوه هناك؛ لأنك رأيت الأمور على جليتها ونصابها فلم تعد ترجو أحداً منهم، وليس فيهم حينئذ والٍ ولا حاكم ولا وزير ولا رئيس ولا ملك، فهم جميعاً حينئذ فقراء يحمل كل واحد منهم طائره في عنقه، وقد جيء به حافياً أغرل: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ[الأنبياء:104] فحينئذ لا يرجو أحد المسامحة من أحد إلا من جاز الله عن الخصماء، نسأل الله أن يجازي عنا خصماءنا.
فإذا عرفت ذلك فلا بد من التعفف عن حقوق الناس وعن أعراضهم، وأنت تعلم أن الله ضرب لك مثلاً عجيبا ًفي أعراض الناس فشبهها بلحومهم، فالذي يأكل لحوم الناس كالذي يأكل ميتات البشر هل يستحسن أحد منكم أن يأتي إلى ميت من البشر قد تعفن واجتمع عليه الذباب والأوساخ فيجلس ويأكله؟ فعليه أن يعلم أن أكل عرضه مثل أكل جثته؛ ولذلك قال الله تعالى: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ[الحجرات:12].
والكلام في أعراض الناس خطره عظيم جداً؛ لأن الإنسان يسأل عنه سؤالاً دقيقاً ويحاسب عليه وهو لا يستطيع المناص منه؛ ولذلك فإن من الخطر الداهم ما نبه الله عليه في كتابه بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ[البقرة:254].
لا بيع فيه حتى تشتري من الآخرين حقوقهم، ولا خلة أي: ليست العلاقات موجودة، فكل الخلة قد انقطعت ولا شفاعة، فهناك ليس لديك وساطة تغني عنك في ذلك اليوم؛ فلهذا لا بد أن تحرص على النجاة من أعراض الناس وعفة اللسان منها، واللسان العفيف عن أعراض الناس يتعود على عدم إجابة المسيء حتى كأن المسيء ما عناه، كما قال الشاعر:
ولقد أمر على اللئيم يسبني فمضيت ثم أقول لا يعنيني
حيران ممتلئاً علي إهابه إني وربك سخطه يرضيني
فإذا كان الإنسان يتعفف عن أعراض الناس مطلقاً فإنه لا ينطق العوراء أصلاً، ولا يتعودها، ولا يجيب بها، ولهذا قال الفرزدق في وصف علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم وأرضاهم:
يغضي حياء ويغضى من مهابته فلا يكلم إلا حين يبتسم
ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم
ثم بعد هذا كذلك لا بد من عفة اللسان عن أذى الناس والكلام فيهم بمحضرهم فهو مثل غيبتهم، فغيبتهم فيها ضعف في الشخصية؛ لأنك لا تستطيع مواجهتهم بذلك فتقوله بعد أن انطلقوا وذهبوا، ومواجهتهم بالأذى والكلام السيئ أيضا ًخطر عظيم داهم، وبالأخص ما كان منه بهتا ًوكذباً، فهذا شر جمع شرين، وقد جمع الخستين؛ لأنه كذب ومع ذلك إذاية وبالأخص حين تعرف أن مقابله أن يكشف الله الستر عنك، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، ومن تتبع عورة مسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ).
فإذا كنت تريد أن يسترك الله وأنت تعرف أنك قد فرطت في جنب الله، وتعرف كثيراً من الخسائس والأمور التي لا تحب أن يطلع عليها أحد، وتريد سترها في الدنيا، وتريد عدم المؤاخذة بها في الآخرة، فاحرص على ستر المسلمين، وعدم التطلع إلى عوراتهم: فعندك عورات وللناس ألسن.
ثم بعد هذا لا بد من عفة اللسان عن المسألة وعن السؤال، وهذا راجع إلى ما سبق من عفة القلب، فالإنسان الذي يسأل عليه أن يسأل الله، فالله يرضى لعباده أن يسألوه، وقد قال تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ[غافر:60]، وقال تعالى: وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ[النساء:32]، وقال تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ[البقرة:186]، وهو الكريم المنان الذي عنده ما يعطي، والعباد فقراء بخلاء لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم شيئاً، فلماذا توجه مسألتك إلى المخلوق الضعيف العاجز الفقير البخيل، وقد فتحت أمامك أبواب الرب ذي الجلال والإكرام.
إن عليك يا أخي أن تتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم ( إذا سألت فاسأل الله، واذا استعنت فاستعن بالله )، ولنتذكر قول الحكيم:
لا تسألن بني آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب
فالله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب
ولنتذكر كذلك قول الآخر وهو المكودي رحمه الله:
إذا عرضت لي في زماني حاجة وقد أشكلت فيها علي المقاصد
وقفت بباب الله وقفة ضارع وقلت إلهي إنني لك قاصد
ولست تراني واقفا ًعند باب من يقول فتاه سيدي اليوم راقد
وجميل جداً بالإنسان أن يتعود لسانه على مسألة الله والثناء عليه ودعائه، وأن تتعود لسانه كذلك على العفة عن مسألة الناس، فيكون إذا عرضت له أية حاجة ذهب إلى المسجد متوضئاً متطهراً وصلى ركعتين، وسأل الله حاجته، فالدعاء هو العبادة، وبالأخص حين يعرف الإنسان أنه سلاحه، وأنه أقوى ما لديه من الأسباب.
فأسبابنا الدنيوية عاجزة قاصرة، ولهذا من عرف المسألة عرف أنها هي شر طعم؛ لأن فيها طعم المذلة، وفيها طعم الهوان، وفيها إراقة ماء الوجه، وفيها المذلة لمن لا ترتضيه محسناً، ولذلك قال الشاعر:
تكلفني إذلال نفسي لعزها وهان عليها أن أذل لتكرما
تقول سل المعروف يحيى بن أكثم فقلت سليه رب يحيى بن أكثما
فالمذلة التي يجنيها الإنسان من هذا السؤال تكفي وحدها للبعد منه، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول ( اليد العليا خير من اليد السفلى )؛ ولذلك فإن المسألة مذلة في الدنيا مذلة في الآخرة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تزال المسألة بالعبد حتى يقدم على الله وليس في وجهه مضغة لحم).
والذي يسأل الناس ويتعود على مسألتهم تفتح عليه أبواب الفقر، ويجعل فقره بين عينيه، فهو دائماً يشكو من الفقر حتى لو كان أغنى الناس، فإنه لو ملأت الدنيا يديه سيبقى دائماً يحس بالفقر؛ لأنه تعود على سؤال الناس، وأذكر أن رجلاً من الأغنياء حدث، ولا أذكر هل كنت حاضراً أو حدثني به بعض الثقات الذين حضروه فقد سألوه عن أعجب ما رأى وهو من سكان الحرم النبوي؟ فقال: من أعجب ما رأيت تعود النفس البشرية على الطمع، فأنا غني من الأغنياء، ومع ذلك ما رأيت أحداً يوزع شيئاً في الحرم إلا حركتني نفسي لأذهب إليه؛ لآخذ منه لأزاحم الفقراء على أخذ شيء منه، فهذا رجل من العقلاء من الأغنياء، ومع ذلك يعجب من النفس البشرية وطبيعتها من تجربته وواقعه في نفسه.
ومن هنا على الإنسان أن يعود لسانه على التعفف عن المسألة مطلقاً حتى لو كان المسئول والداً أو والدة أو أقرب الناس إليه، وبتعوده على اللجأ إلى الله سبحانه وتعالى يقوى قوة ما لها حدود، فإن الإنسان الذي كلما عرضت له حاجة عرف باب الفرج فقصد باب الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يصاب بضنك، ولا بهم، ولا بغم؛ لأنه عرف الطريق فاهتدى إلى باب الملك الديان؛ ولهذا فإن التعود على سؤال الله بالمسألة هو من التعرف على الله في الرخاء، ليعرف الإنسان في الشدة.
وإذا ذاق الإنسان طعم الدعاء عرف ما فيه من السعادة فهو يصطرع في السماء مع البلاء، ( ولا يرد القدر إلا الدعاء ) كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ( إن الدعاء يصطرع في السماء مع البلاء، ولا يرد القدر إلا الدعاء ).
والدعاء من عجائب ما فيه أنه يقتضي منك معرفة نفسك، ومعرفة ربك؛ لأنك عرفت ربك بالفاقة والفقر، وعرفت ربك في الغنى والكرم، فأنت تتعرف به إلى الله سبحانه وتعالى.
كذلك من عفة اللسان عفته أيضاً عن عدم الدقة في الأمور، فكثير من الناس لا يتعمد الكذب، ويتعود على التعفف عن الكذب، ولكنه مع ذلك ينقل الأخبار التي بلغته، فهو يروي عن كل من هب ودب، وإذا سمع قولاً تلقاه بلسانه، والأصل أن يتلقى الكلام بالأذن لتنقله إلى القلب فيعرضه على صمامه، فما كان مقبولاً منه تبينه فحدث به، وما كان غير مقبول رده؛ لأن صمام الأمان هنا في القلب، فإذا كان الإنسان يتلقى الأقوال بلسانه مباشرة، ليس لها أي صمام أمان، فهو يبثها كما وصلت إليه فهو على خطر، ومن هنا قال الله تعالى في قصة الإفك: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ[النور:15].
وقد حدثني بعض الدكاترة أنه سأل الشيخ محمد الأمين آبه الأخطور رحمة الله عليهما عن هذه الآية فقال: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ[النور:15] لماذا كان التلقي باللسان ؟ فقال: هذا عفريت أسأله ولم يجبه، وقد فكرت أنا فوجدت الجواب واضحاً، وهو أن التلقي في الأصل يكون بالأذن لتعرضه على القلب ليصممه الصمام، فيخرج منه ما كان صواباً ويرد منه ما كان خطأً، فما تلقاه الإنسان بلسانه، فقاله دون عرضه على أذنه ودون عرضه على قلبه فلا بد أن تكون مسئوليته عليه، وهو لا يشعر بذلك، فلذلك من التعفف من المسألة أن تحدث بأحسن ما سمعت، كما قال الشافعي رحمه الله: الأدب أن تكتب أحسن ما سمعت، وأن تحفظ أحسن ما كتبت، وأن تحدث بأحسن ما حفظت، فمراتب الارتقاء أولاً أن تكتب أحسن ما سمعت، فما سمعت لا ينبغي أن تكتبه كله ثم احفظ أحسن ما كتبت، ثم حدث بأحسن ما حفظت، وهذا من عفة اللسان.
كذلك من عفة اللسان عفته عن رد القول القبيح على صاحبه، فالإنسان إذا ووجه بالكلام السيئ فهو بالخيار طبعاً؛ إذا شاء عفا، وإن شاء أخذ حقه، لكن من عفته ألا يأخذ حقه وأن يعفو؛ ولهذا قال الله تعالى: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ[الشورى:43].
فإذا واجهه إنسان بما يكره من الكلام وهو قادر على الرد والانتقام، فعليه أن يعفو وأن يصلح، فهذا من عفة لسانه وهو من تمام عقله، وقد قال الحكيم:
إذا أنت جازيت المسيء بفعله ففعلك من فعل المسيء قريب
والله تعالى أثنى على عباده فقال: وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً[الفرقان:63]؛ ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعود أصحابه على أن السيء من الكلام حتى لو كان جواباً لمثله هو من أمر الجاهلية، فعندما خاصم رجل أبا ذر، فقال له أبو ذر : ( يا ابن السوداء! فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أعيرته بأمه! إنك امرؤ فيك جاهلية ).
فالكلام السيء هو من أمر الجاهلية وقد أخرجنا الله من الجاهلية والشرك، فعلينا أن نكره كل ما يؤدي إلى الجاهلية؛ فلذلك على الإنسان أن يعود لسانه على الحذر من كل قول قبيح ولو كان في شر الخلائق وقد قال ابن متالي رحمه الله:
وإن تمت ولم تك اغتبت الطريد عدونا فما عليك من وعيد
أي: من مات ولم يغتب ابليس عليه لعنة الله لم يرد وعيد في ذمه! فكيف بغير إبليس !.
ومن هنا فقد اخرج مالك في الموطأ أن المسيح ابن مريم عليه السلام مر هو والحواريون من زقاق ضيق، فاستقبله خنزير فقال: انفذ بسلام فقيل: يا نبي الله! أتقول هذا لخنزير؟! قال: أردت أن أعود لساني قول الخير حتى مع الخنزير، ومر هو والحواريون بجيفة كلب قد أنتن، فقال الحواريون: ما أنتن رائحته، فقال المسيح ابن مريم: ما أحسن بياض أسنانه، فقيل له في ذلك، فقال ذكرته بأحسن ما فيه !
فإن قد عود لسانه على أن يذكر أحسن شيء، فأحسن ما في الكلب بياض أسنانه، فذكره بأحسن ما فيه، وهذا من تمام العفة اللسانية.
القسم الثالث من أقسام التعفف هو تعفف البصر: فهذه الجارحة العظيمة نعمة من نعم الله، ولا يدرك قيمتها إلا من رأى فاقديها، فإنك إذا رأيت الذين فقدوا نعمة البصر، وهم يتخبطون لا يدري أحدهم أين يمتخط، ولا يعرف كيف يلبس ثوبه، ولا يعرف ما فيه من الأوساخ، ولا يعرف أين يضع رجله، فلا بد أن تتذكر قيمة هذه النعمة التي أنعم الله بها عليك، وإذا ذكرت هذه النعمة، وهي نعمة خفيفة، كل شيء يؤثر عليها، فاعلم أن عفتك بها تقتضي تمتيعك بها، وبقاءها معك.
وعفتك بها تقتضي كفها عن النظر إلى الحرام، واعلم أن النظرة الواحدة قد تقودك إلى متاهات عظيمة كبيرة، وإلى أمور لا تستطيع أبداً الخروج منها، ولهذا قال ابن القيم:
كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة بلغت في قلب صاحبها كمبلغ السهم بين القوس والوتر
والمرء مادام ذا طرف يقلبه في أعين العين موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحباً بسرور عاد بالضرر
ولا بد أن نعلم أن النظرة الواحدة تقود الإنسان إلى ما لا يستطيع التخلص منه، كما قال الشاعر:
فإنك إن أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر
فالذي تراه لست قادراً على جميعه، ولا تستطيع كذلك الصبر عن بعضه؛ فلهذا لا بد من تعويد الإنسان نفسه على كف بصره، وهذا الكف أنواع: منه الكف عن محارم الله؛ وعلى الإنسان أن يتعود على المبادرة إليه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا علي ! لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك النظرة الأولى ) وليفعل الإنسان ذلك امتثالاً لأمر الله بقوله: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ[النور:30-31].
وهذا الربط القرآني دليل على أن النظر رائد الفرج، فهو يتقدم أمامه فإذا رأى؛ فذلك سبب للإقدام على ذلك الأمر، وقد قال أحمد شوقي :
نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء
أي: أنها مراتب متتالية؛ فلهذا لا بد أن يحرص الإنسان على كف نظره عما لا يحل له النظر إليه، وإذا وقع نظره مرة واحدة على ما يعجبه فعليه أن يكف مباشرة، وألا يرد إليه النظر بعد ذلك.
النوع الثاني من العفة في البصر: عدم النظر إلى أملاك الآخرين وما خصهم الله به، فالله تعالى هو الذي يقسم الأرزاق بين الناس فما أعطاه إنساناً فذلك الإنسان يصلح لذلك، وما منعه فمعناه أن الأصلح له أن يمنع؛ ولهذا قال الله تعالى: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ[الشورى:49-50] فكل ذلك بأمره سبحانه وتعالى، ونظرك إلى ما في أيدي الناس يقتضي تعلقاً به على الأقل، وهذا ما حذر الله منه في كتابه، فقال تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى[طه:131-132]، وهذا يقتضي من الإنسان التعفف عن مجرد النظر؛ لأنه بالنظر يتعلق قلبه به، أو يصيبه بعين، أو يؤثر فيه، وكل ذلك ليس له؛ فلهذا على الإنسان أن يكف نظره عما في أيدي الناس مطلقاً، وقد جاء في حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( انظر في الدنيا إلى من دونك، فذلك أجدر ألا تحتقر نعمة الله عليك ) وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ( أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم أن أنظر في الدنيا إلى من دوني، قال: فذلك أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم ).
فإذا نظر الإنسان إلى من دونه فإنه إذا أصبح آمنا ًفي سربه، معافاً في جسمه، ممتعاً بقواه، وهو يتذكر الذين هم في المستشفيات؛ بعضهم مكسور الفخذ، وبعضهم مكسور اليد، وبعضهم أجريت له عمليات جراحية متتالية، وبعضهم يشكو فشلا ًفي الكلى، وبعضهم يشكو قصوراً في عضلة القلب، وهم بذلك يواصلون سهر الليل بسهر النهار؛ فعليه أن يحمد الله على هذه النعمة العظيمة.
وإذا تذكر أنه الآن يجد مطعماً يكفيه لليلته، ولا يعلم هل سيصل إلى غد فيحتاج إلى غذاء أو لا يصل إلى غد، فليعلم أنها نعمة عظيمة، فكثير هم أولئك المحرومون الذين لا يجدون ما يكفيهم.
وأعظم من ذلك أن يجد هذه العفة فيشعر بها، فهي نعمة عظيمة وهبه الله إياها، وهو يتذكر ان أقواماً آخرين آتاهم الله أكثر مما آتاه، ولكنهم لم يتعففوا فهم يصلون الليل بالليل في أعمال الأسباب، ومع ذلك لا يصلون إلا إلى ما كتب لهم.
وهذه العفة عن النظر إلى ما في أيدي الناس تتأكد في حق المحرز من الأموال، كمال اليتامى مثلاً، وقد بين الله خطر ذلك وأمر بالتعفف عنه فقال: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ[النساء:6]، من كان غنيا ًفليستعفف، مثلاً: أغناك الله في هذه اللحظة وأنت لا تدري هل تصل إلى غد أو لا ! فهذا الذي آتاك الله يكفيك.
النوع الرابع من أنواع العفاف هو عفاف الأذن: وعفاف الأذن يقتضي من الإنسان ألا يشغل هذه الجارحة العظيمة التي امتن الله عليه بها وهي تنفعه، وترفده بالأصوات من أمامه ومن خلفه، وعن يمينه وشماله، ومن فوقه ومن تحته، وهي من أبلغ الجوارح عموماً، فهي متصلة بالأمواج المحيطة بك من كل جانب، فالبصر ينطلق فقط على اتجاه واحد، فالعين لا ترفدك بما خلفك، ولا بما فوقك، ولا بما تحتك، ولا بما عن يمينك، ولا بما عن شمالك، بل ترفدك بما أمامك فقط، والأذن ترفدك بكل الجهات.
ولذلك بدأ الله بالسمع قبل البصر في عدد من الآيات في كتابه، قال تعالى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً[الإسراء:36]، وقد نص أهل التفسير على أن حكمة البداءة بالسمع قبل البصر؛ أن السمع يتعلق بكل الجهات، وأن البصر يتعلق بجهة واحدة، فهذا السمع إدراك عجيب، وقد أوتيت هذه الجارحة لتسمع بها ما أنت محتاج إلى سمعه، وإذا أدركت أن أقواماً قد حرموا هذا النفع، فهم يسيرون لا يسمعون أي صوت من أصوات هذه الخلائق وهذه الكائنات، والتفاهم معهم صعب جداً وأنت قد أوتيت ما تستطيع به سماع الأصوات، وبذلك يترتب عليه الكلام؛ لأن من لا يسمع أصلاً لا يستطيع الكلام؛ لأن الكلام إنما يتلقى عن طريق السمع، فمن ولد أصم لا بد أن يكون أبكم؛ لأن الصمم يقتضي عدم سماعه للكلام أصلاً، والكلام إنما هو متلقى عن طريق السمع، فالإنسان يتعود عليه لسماعه من غيره؛ فلذلك كان نفع السمع عجيباً؛ لأنه يتعلق به نفع الكلام أيضاً.
وهذه النعمة العظيمة عليك أن تكفها عن محارم الله، فلا تسمع ما يدعوك إلى ما هو أعظم منه؛ لأن الأصوات التي حرم الله عليك سماعها تقودك إلى أفعال؛ وتلك الأفعال تقودك إلى الهاوية فاحذر من سماع الموسيقى المحرمة، وسماع الغيبة، وسماع الكذب، وسماع كل أنواع ما لا يرضي الله تعالى سماعه.
واحذر كذلك من الاستمتاع بالسماع للأصوات التي يحرم عليك الاستمتاع بها، فتعفف بأذنك وسيغنيك الله سبحانه وتعالى كما تعففت عنه وتركته لوجه الله ( فمن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه ).
ثم تذكر كذلك أن هذه الأذن هي عرضة للتلف من خلال ما يلقى فيها كما قال الحكيم:
الأذن كالوردة مفتوحة فلا تمرن عليها الخلى
فإنه أنتن من جيفة فاحذر على الوردة أن تنتنا
فالإنسان إذا كان دائماً يسمع الكلام السيء القبيح فلا بد أن ينطق بما يسمع، فإذا كان يسمع الكذب دائماً فلا بد أن يتعود عليه؛ ولهذا فالصغار الذين يكذب آباؤهم وأمهاتهم بحضرتهم لا بد أن يتعودوا على الكذب، فعلى الإنسان أن يعود أولاده على الصدق من خلال منعه من الكذب، فهذا نوع من التعفف مهم جداً وهو التعفف بالسماع.
النوع الخامس من أنواع التعفف: هو التعفف باليد:
فهذه طاقة أخرى أعطاك الله إياها، وكم من إنسان تراه مشلولاً على فراشه لا يستطيع الحركة، ولا يزيل أي شيء عن نفسه، وأنت قد أنعم الله عليك بهاتين اليدين، تتصرف بهما، وتحمل حوائجك، وتلبس ملابسك، وترفع طعامك إلى فيك، وتغسل بها وجهك، وتقدم بها لنفسك ما تحتاج إليه، ولو زادت أصابعك عن هذه الخمس لكان ذلك عيباً، ولو نقصت لكان ذلك نقصاً في خلقته، فجعلها الله كذلك، وجعل هذه الأصابع الأربعة متفاوتة الطول، كل منها له نصيبه في الإمساك، ومكانه في التركيز، وفي قوة الأخذ، وجعل هذه الأصبع المكملة وهي الخامسة أقصر من الأصابع وأعرض منها؛ لأنها تعرض لما بجانبها وتقويه، وتشد أزر الأصابع الأخرى، فكل ذلك من نعمة الله العجيبة في هذه اليد.
وقد جعل الله لك الكف مستقراً لما تأخذه الأصابع، فاحذر كل الحذر أن تصرف هذه النعمة في معصية الله ولتتذكر قول موسى بن عمران عليه السلام: رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ[القصص:17]، فموسى عندما وجد رجلين أحدهما من بني إسرائيل والآخر من القبط يقتتلان، استنصره رجل بني إسرائيل على رجل القبط فوكز موسى ذلك الرجل فمات، قال تعالى: فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ[القصص:15]، لكنه تذكر نعمة الله عليه فقال: رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ[القصص:17].
فهذه النعمة وهذه القوة من آتاك إياها؟ من آتاك الأصابع الخمسة؟ من آتاك العشر؟ من آتاك قوة العضد؟ الرب سبحانه وتعالى.
فإذا كان الحال كذلك فاحذر أن تجعلها نصرة لأعدائك فقد قال موسى: رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ[القصص:17].
ثم بعد هذا تذكر أيضاً أن من عفة اليد ألا تأخذ ما ليس لك بحق، فكل ما ليس لك بحق فقد حجبه الله عنك ولم يعطك إياه، فأخذك له سواء كان بتعد، أو بغصب، أو بسرقة، أو بغير ذلك مناف لهذا العفاف؛ فلذلك عليك أن تعف يدك عن إمساك ما ليس لك بحق مطلقاً.
وتعودك على ذلك يقتضي منك الغنى ففي الحديث: ( ليس الغنى عن كثرة العرض، إنما الغنى غنى النفس )، وقد حدثتني جدتي رحمها الله أنها رأت أحد طلاب العلم وهو محمد الكوري أو أحمد موساد بعد مطر، وقد رأى شيئاً أبيض مسحوقاً فذاقه بلسانه فجعل يبصق، فقالت: هل هذا ملح ؟ قال: لا بل هو سكر، قالت: لماذا تبصقه ؟ قال: ليس لي !
فكان هذا ورعاً عجيباً، فهو يبصقه كأنه ملح لكن لأنه ليس له، فقد عود نفسه على ألا تتعلق بما هو له، وهذا مهم جداً، فمن العفاف أن يعود الإنسان يده على ألا تأخذ إلا ما هو له بحق، وهو من تمام إيمان الإنسان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ).
ونحن نرى كثيراً من الناس يكثر لديهم الفضول، فهذه الآلات والوسائل لها أصحابها، لكن تجد الأيدي تمتد إليها فتقلبها، وليس فيها أي انتفاع للذي يقلبها في يده.
فهذا النوع هو من عفة اليد، وهو أن يتعود الإنسان على ألا يلمس ولا يمس ولا يحرك إلا ما له به علاقة ويرتبط به.
النوع السادس من أنواع العفاف: هو عفاف الفرج:
وهو عفاف عظيم في هذه الجارحة الخطيرة التي يترتب على حفظها دخول الإنسان الجنة، ويترتب على إضاعتها دخوله للنار؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من يضمن لي ما بين فكيه، وما بين فخذيه، أضمن له الجنة)؛ لذلك لا بد أن نتذكر هذا النوع من أنواع العفاف وأهميته، فإن الله تعالى أثنى على عباده المؤمنين فقال جل من قائل قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ[المؤمنون:1-7].
وبالأخص إذا تذكر الإنسان أن اللذة الدنيوية زائله مملولة حتى لو نالها الإنسان حلالاً، فإنه سيملها، وهي كذلك لا يمكن أن يستمر عليها الإنسان، بل هي منقطعة، يضعف دونها الإنسان، ويتعلق بها قبل أن ينالها، فإذا نالها احتقرها وعرف أنها ليست بشيء، فعليه أن يتعلق بتلك التي لا تنقطع ولا تمل ولا تزول، وهي ما في الجنة، فما في الجنة من اللذات لا يزول ولا ينقطع، قال سبحانه: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً[البقرة:25]، وليس له أية مكدرات، فالمكدرات إنما هي في الملذات الدنيوية.
والإنسان الذي قد يعجب بشكله وصورته، ويعجبه جماله وكماله، لكن يكدره خلقه وسوء عشرته، ونقص معاملته وخيانته، ويكدره حتى مجرد التفاته إلى شخص آخر، تتحرك فيه الغيرة فيحصل للإنسان قصور في الانتفاع به، ومثل ذلك أيضاً ما يؤدي إليه ذلك من التكاليف؛ سواء كان ذلك تكاليف حفظ، أو تكاليف نفقة وسكنى، أو تكاليف علاج، أو تكاليف معاشرة وإحسان، كل ذلك من المنغصات التي تنغص الكمال، وهذه المنغصات لا يوجد في الجنة شيء منها، فاللذة الأولى التي ينالها الإنسان عندما يصل إليه شيء من روحها وريحانها تبقى معه ولو جاء بعدها مليارات اللذات، فكل لذة تأتي على الأخرى ولا تنقصها، ومن هنا فإن الله سبحانه وتعالى بين أن الذي في الجنة لا يمكن أن يخطر على بال أحد، قال تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[السجدة:17]؛ وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يقول الله تعالى: أعددت لعبادي ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ) فإن كنت تريد ما لا كدر فيه ولا نقص ولا تغير ولا ملل، وليس يشيخ ويهرم، وليس يشيب، ولا يتكمش ولا يتغير فهو ما هنالك ينتظرك في الجنة، وبذلك تعلم البون الشاسع والفرق الكبير.
إذا كنت تجد سبباً حلالاً للذة الدنيا فعليك أن تبادر إلى ما أمرت به امتثالاً للأمر، وألا تقتصر على ذلك، وأن تعلم أنه ليس أمراً عظيماً وليس هو المراد، وإذا كنت لا تجد ما تصل به إلى ذلك فما لك إلا العفاف كما قال الله تعالى: وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ[النور:33]، وهذا ضمان الله سبحانه وتعالى لمن تعفف ابتغاء مرضاة الله أن يغنيه الله من فضله، وهذا يشمل إغناءه في الجنة، وإغناءه في الدنيا أيضاً بما ييسر له ويعجل له من الخير العاجل، وهذا مشترك بين الرجال والنساء. وهذا التعفف إطاره النظري الذي ذكرناه في هذه الجوارح الست لا بد أن يترتب عليه جانب تطبيقي عملي في كلها وهذا الجانب العملي لا بد أن يتعود فيه الإنسان على تربية نفسه بأطر جوارحه عن المعصية، وأن يكون له لجاء إلى الله تعالى واستعانة، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يصرف السيئات عمن شاء من عباده؛ ولذلك فإن حملة العرش في دعائهم للمؤمنين يقولون: وَقِهِمْ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[غافر:9]؛ فلذلك على الإنسان أن يعود نفسه على التعفف عن دواعي الشهوة الدنيوية، وأن يتذكر ما يترتب عليه من الأضرار إذا اتبعها، فهي خطر عليه، قد تؤدي إلى هلاكه وموته، وقد تؤدي كذلك إلى إتلاف بعض جوارحه، وقد تؤدي إلى إتلاف ماله، وأعظم من ذلك أنها قد تؤدي إلى إتلاف إيمانه نسأل الله السلامة والعافية.
وإذا تعود الإنسان عليها كانت خلقاً لديه، كما قال أبو الطيب المتنبي:
يصد يداً عن ثوبها وهو قادر ويعصي الهوى في طيفها وهو راقد
وكما قال أيضاً:
إني على ولعي بما في خمرها لأعف عما في سراويلاتها
فهذا النوع من التعفف يتعود عليه الإنسان، ويبقى خلقاً لديه، وقد قال الشيخ محمد سالم حفظه الله:
وقد أنزل الرحمن سلمى مكانة مناط الثريا دونها والفراقد
فليس يوفيها الحقوق سوافة يساعده ذهن على اللبس واقد
يصد يداً عن ثوبها وهو قادر ويعصي الهوى في طيفها وهو راقد
إذا استطاع الإنسان هذا الكف من تلقاء نفسه بالصيام، والدعاء، وكف الجوارح، والاستعانة بالمساجد والقربات، وقيام الليل، وصيام النفل فبها ونعمت، وإن لم يستطع فلا بد له من الصحبة الصالحة، فهي التي تعينه وتمنعه وتعصمه من الوقوع في مثل ذلك، فالإنسان مادام بين إخوانه الذين يذكرونه بالله ويخوفونه ويعظونه لا يمكن أن يقبل على تلك المعاصي، وإذا خطر في قلبه منها شيء سمع وعظاً وتذكيراً فأزال عنه ذلك ما تعلقت به نفسه من المخاطر، ومن هنا فصحبة الدالين على الله سبحانه وتعالى نافعة للإنسان نفعاً عجيبا؛ ولذلك أرشد الله إليها في محكم التنزيل فقال تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً[الكهف:28] وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ[التوبة:119] فهذه الكينونة عصمة ومنجاة من كل هذه الأمور، وهي تعويد لك على العفة إذا كنت بين إخوانك الذين يذكرونك إذا غفلت، ويعلمونك إذا جهلت، ويعينونك إذا ذكرت، فإن ذلك عون لك على حفظ جوارحك، كما أن جلوسك الآن في المسجد هنا حفظ لهذه الجوارح من الحرام مطلقاً، فأنت هنا قد حبست جوارحك عن معصية الله بمسجد الله، وهذا من حكم الجلوس في المسجد كما قال محمد مولود رحمة الله عليه في عده لحكم عمارة المسجد فإنه يقول: حكمة مشروعية الصلاة تجديد ذكر الله في الأوقات، وغفر الذنوب، ورسوخ عقد الإيمان، والأمور بالمقاصد إلى أن ذكر منها كف الجوارح عن المعصية مادام الإنسان في المسجد، وبهذا نكون قد قسمنا إطار العفاف إلى قسمين إطار نظري وإطار تطبيقي، وذكرنا أن العفاف ينقسم باعتبار متعلقه من الجوارح إلى ستة أقسام؛ هي عفاف في القلب، وعفاف في اللسان، وعفاف في العين، وعفاف في الأذن، وعفاف في اليد، وعفاف في الفرج.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل ما نقوله ونسمعه حجة لنا لا علينا وأن يلهمنا رشدنا وأن يعيذنا من شرور أنفسنا.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر