إسلام ويب

الموبقات السبعللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لا شك أن الذنوب والمعاصي ليست على درجة واحدة من الخطورة، فمنها الكبائر، ومنها الصغائر، وقد حذرنا النبي الكريم عليه الصلاة والتسليم من سبع موبقات، أولها وأخطرها على الإطلاق الشرك بالله فإنه يبطل العمل ويخلد صاحبه في النار، وهو على قسمين: أكبر وأصغر. ثانيها السحر، وسبيل السلامة من شره: المحافظة على الرقى والأذكار الشرعية، والتصبح على سبع تمرات عجوة

    1.   

    اجتناب السبع الموبقات

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بُعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فإن الله سبحانه وتعالى كلف عباده بعبادته وطاعته، وأقام عليهم الحُجة ببعثة الرسل وتنزيل الكتب وبيان الأحكام، وتكليفه لعباده ينقسم إلى قسمين: إلى أوامر ونواهٍ.

    فالنواهي: ما أمر الله عباده باجتنابه وتركه، والأوامر: ما أمر الله عباده بفعله.

    المقدم من الأوامر والنواهي

    والنواهي مقدمة على الأوامر لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم)، فلا بد أن يتعلم الناس الأوامر والنواهي، ولا بد أن يعملوا بما تعلموا؛ لأن العلم حُجة على الإنسان أو له، فما سمعه الإنسان مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله، فقد قامت به الحجة عليه؛ لأنه لا يستطيع أن يعتذر لله سبحانه وتعالى بالجهل في ذلك، ومن هنا كان طلب العلم والتماسه فريضة على كل مسلم، ويحتاج المسلمون في كل وقت إلى مراجعة العلوم وبيانها ومدارسة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله.

    والموضوع الذي اقترحه الشيخ لحلقة هذا اليوم موضوع مهم يتعلق بكبريات الذنوب، فأنتم تعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم بين في حديث ابن عمر أركان الإسلام العملية، فقال: ( بُني الإسلام على خمسٍ: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان)، فهذه خمسة أركان هي أركان الإسلام العملية.

    أما الأركان التركية التي تخالفها فهي كبائر الإثم والفواحش، وقد ذكرها الله في كتابه في موضعين: أحدهما: في سورة الشورى يقول فيه: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ[الشورى:37]، والآخر: في سورة النجم وقد قال فيه: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المَغْفِرَةِ[النجم:32]، وذكرها ضمناً في سورة النساء في قوله: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ[النساء:31]، فالمقصود بالسيئات الصغائر.

    سند حديث السبع الموبقات ولفظه

    أحدثكم الآن بما حدثني به جدي محمد علي بن عبد الودود عن يحظيه بن عبد الودود ، عن محمد بن محمد سالم المجلسي ، عن حامد بن عمر ، عن الفقيه الخطاب ، عن القاضي ابن علي ممو السباعي ، عن شيخ الشيوخ الفاضل بن أبي الفاضل الحسني ، عن علي بن الأجوري ، عن البرهان العلقمي ، عن جلال الدين السيوطي ، عن زكريا الأنصاري ، عن الحافظ أحمد بن علي بن حجرٍ العسقلاني ، عن إبراهيم التنوخي ، عن أحمد بن أبي طالب الحجار ، عن أبي الوقت عبد الأول بن عيسى السجزي عن الحسين بن المبارك ، عن عبد الرحمن بن محمد الداودي ، عن عبد الله بن أحمد السرخسي ، عن محمد بن يوسف بن مطر الفربري ، عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري قال في صحيحه في ثلاثة مواضع من الصحيح: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله ، قال: حدثني إسماعيل و بلال ، عن ثور بن زيد المدني ، عن أبي الغيث ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)، أخرجه البخاري بهذا الإسناد في ثلاثة مواضع، الموضع الأوسط منها كان مختصراً ذكر بعض هذه الموبقات ولم يكملها، والموضعان الآخران كمل فيهما الحديث، والاختصار في الحديث جائز من نهايته وآخره إجماعاً، ومن وسطه محل خلاف، و البخاري رحمه الله يرى جواز الاختصار من الوسط.

    بلاغة النهي بالاجتناب عن غيره من الألفاظ

    وهذا الحديث بين فيه النبي صلى الله عليه وسلم أمره للمؤمنين -وهم أتباعه- باجتناب هذه الأمور السبعة، وحذرهم منها، وبين خطرها وضررها، فلذلك قال: (اجتنبوا )، ومعنى الاجتناب البعد عن كل ما يوصل من الأمر، فليس المقصود بالاجتناب مجرد الترك كما يتبادر إلى بعض الأذهان، بل المقصود ما يوصل إليه ويقربه، فالنهي عن الشرك ليس نهياً عن الوقوع في الشرك، بل نهي عن كل ما يقرب من الشرك، وذلك يقتضي من الإنسان الحذر منه، وبغضه وبغض أهله، وبغض عواقبه، وبغض آثاره، وبغض أخلاق أهله، وبغض كل ما يترتب عليه، وهكذا في كل هذه الموبقات، فليس المقصود أن تجتنبها أنت ثم تسكت عن الآخرين يمارسونها، بل لا يتحقق الاجتناب إلا إذا كرهتها وكرهت من يمارسها، وكرهت ما تؤدي إليه، وكرهت ما يؤدي إليها، فهذا الذي تكون به مجتنباً.

    علاقة القناعة بالفعل والترك

    فلا بد إذاً من تحقيق ذلك في أنفسنا أولاً؛ لأن العمل لا يكون إلا تابعاً للقناعة، وقد ذكرت لكم من قبل أن الإنسان مؤلف من ثلاثة عناصر هي: العقل الذي به شرفه على سائر الحيوانات، والجسم الذي هو من تراب، والروح التي هي نفخة غيبية من أمر الله.

    وأن هذه العناصر الثلاثة مجتمعة هي حقيقة الإنسان، وكل عنصرٍ منها لم يهمله الشارع الحكيم، بل وجه الخطاب إلى العناصر الثلاثة، فجاء الإيمان خطاباً للعقل، وجاء الإسلام خطاباً للبدن، وجاء الإحسان خطاباً للروح، فلذلك لا يمكن أن يكون الإنسان مطيعاً بعقله فقط، فأنتم تعرفون الفلاسفة الكبار الذين آمنوا وصدقوا بقلوبهم، ولكن لم يتبعوا ذلك عملاً ولم يعملوا للشرع، وقد قال فيهم ابن تيمية رحمه الله: "إنهم أعطوا ذكاءً ولم يعطوا زكاءً"، عندهم ذكاء لكن ليس عندهم الزكاء، وهو التطهير، لم يطهرهم الله من الشرك ولا من الفجور والفسق، فقد أُعطوا ذكاءً ولم يُعطوا زكاءً، وكذلك لا يمكن أن يكون الإنسان مطبقاً لأعمال الإسلام الظاهرة ببدنه دون أن يصدق ذلك بقلبه ودون أن يعتقده بعقله.

    وكذلك لا يمكن أن يكون الإنسان محسناً متقناً لعبادته، يعبد الله كأنه يراه، وهو غير مصدق بعقله أو غير عاملٍ بجوارحه، هذا مستحيل، فلا بد من الاجتماع بين هذه الأركان الثلاثة؛ لأن بعضها يكمل بعضاً ويتممه، ولا يمكن أن تفصل ولا أن تجزأ.

    فلذلك بُنيت أعمال الجوارح على عمل القلب، ونحن في تعريفنا للتربية نقول: إنها عبارة عن عملية نسخ، فهذا الجهاز فيه موضعان لتسجيل المعلومات، أحدهما ذاكرة الجهاز، والثاني ذاكرة الشريحة، فيمكن أن تسجل معلومات على ذاكرة الجهاز، ثم تطلب الخيارات، فيعرض لك خيار النسخ، فتعطيه الموافقة على النسخ فينسخه إلى الذاكرة الأخرى، فكذلك أنت الآن لديك ذاكرة بعقلك وذاكرة لعاطفتك ومحبتك بقلبك.

    فالتربية هي: عبارة عن نسخ في ذاكرة العقل إلى ذاكرة العاطفة، فأنتم الآن لو سألتم أي إنسان من أهل الشارع عن حكم الكذب أو عن حكم أكل المال العام، أو عن حكم أكل الربا لقال: حرام، لكن يعتقد ذلك بعقله ولا يصل إلى عاطفته، فمهمة أهل التربية أن ينقلوا هذه القناعة العقلية حتى تصل إلى العاطفة، فيحب الإنسان المأمور به حباً شديداً، ويكره المنهي عنه كراهةً شديدة، وهذا الذي يؤدي به إلى الامتثال والاجتناب.

    كل من لا يحب الصلاة لا بد أن يتكاسل عنها، لكن إذا أحبها بكل قلبه -وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول: ( أرحنا بها يا بلال )- ووجد بها لذة المناجاة ولذة الأنس بالله سبحانه وتعالى سيكون قلبه معلقاً بها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ورجل قلبه معلق بالمساجد)، والإنسان إذا كره الربا لا يمكن أن يكون شاهداً لزور، ولا يمكن أن يكون كاتباً له، ولا يمكن أن يكون آكلاً له، ولا يمكن أن يكون موكلاً له، ولا مجاوراً لمن يفعل ذلك، فيكرهه كراهة شديدة فيفر منه كما يفر من الأسد.

    وهكذا.. فإذاً لا بد أن نحصل جميعاً في أنفسنا إذا أردنا تربيتها محبتنا لكل ما أمر الله به، وكراهتنا لكل ما نهى الله عنه، فالإنسان الآن يمارس بعض الأعمال التي فيها مضرة عليه، فأنتم تعرفون بعض الناس يمارس عادة التدخين، وعادة التدخين مُضرة بالبدن، فهي سبب لكثيرٍ من الأمراض والمشكلات، وليس فيها أي نفع؛ لأنها ليست علاجاً ولا غذاءً وليس فيها أي نفع، لماذا يمارسها صاحبها؟ لأنه أحبها فباشرت شغاف قلبه، ولو علم أنها تُضر به فإنه لا يستطيع تركها لمحبته إياها، فكذلك إذا أحببت الطاعة كحب صاحب التدخين للتدخين، فإذا حان الوقت ستستيقظ، وأنا أعرف رجلاً كان محباً للشاي حباً شديداً، فكان ينام، فإذا حان الوقت استيقظ وبدأ يعد الشاي، وفي وقتٍ من الأوقات نام فلم يستيقظ في وقته الاعتيادي فغضب غضباً شديداً على أهله وهجرهم وكاد يضربهم؛ لأنهم لم يوقظوه على وقت الشاي، ومن محبته له كان إذا دخل إلى المغتسل يريد الاغتسال يفتح نافذة المغتسل ويقول: أدخلوا لي كأس الشاي إذا حان إعداده من هذه النافذة.

    الذي يحب الصلاة إذا حان وقتها لن ينام عنها، إذا سمع المؤذن يقول: حي على الصلاة حي على الفلاح سيكون مثل هذا الشخص في محبته للشاي، وهكذا في كل طاعة من الطاعات إذا أحبها الإنسان حباً شديداً لا يستطيع أن يمسك نفسه عنها، والحب ليس مجرد عاطفة وليس مجرد صدفة، بل يستطيع الإنسان أن يفتعله لنفسه ثم يقتنع به بعد ذلك، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تدخلوا ديار المغضوب عليهم إلا باكين أو متباكين)، فالتباكي يورث البكاء، وهكذا في كل الأمور إذا أردت أن تتعلم الخشوع فلا بد أن تتخاشع في البداية، وأن تمسك جوارحك، وأن تنزل السكينة بنفسك ثم بعد ذلك يصبح الأمر خلقاً له، فكذلك هنا محبة الصلاة محبة الطاعة أياً كانت لا بد أن تفتعلها لنفسك حتى تعودها عليها، ثم تُصبح خلقاً لديك.

    فإذا كنت تحب صوت المؤذن تحب أن تسمع: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، فلن تصبر على المكان الذي يُسمع فيه هذا، كما يفعل أصحاب المعازف والموسيقى إذا سمعوا ما يعجبهم من تلك الأصوات، لا يستطيعون أن يمسكوا أنفسهم عنها، وهكذا أيضاً في المقابل في معصية الله، ما نهى الله عنه لا بد أن تكرهه كراهةً شديدة، وهذا الذي يعينك على اجتنابه بالكلية، فأنتم الآن لا شك أن كل واحدٍ منكم يتذكر عندما كان صغيراً كان يُضرب ليترك بعض الأمور، وبعض الأخلاق والأفعال كان والداه يضربانه عليها، وهو الآن تعود على كراهتها وهو في بيته، كرهها كراهة شديدة، والسبب أنها ارتبطت في ذهنه بالألم الذي كان يحصل له من الضرب، فأصبح يتذكر أن هذا الفعل مقترن بالألم فيجتنبه.

    الوسائل المعينة على فعل المأمور وترك المحظور

    فكذلك إذا تذكرنا أن معصية الله مقترنة بسخطه وغضبه وعذابه وناره، وما يترتب عليها من المشكلات الدنيوية أيضاً، فإننا سنكره المعصية كراهةً شديدة، ونفر منها أشد مما نفر من الأسد، الأسد إذا مر من مكان فرآه الناس فيه هجروا ذلك المكان مدةً طويلة وليس فيها أسد، لكن لأنهم رأوا الأسد ذات يوم مر منه فقط، فكذلك هنا لا بد أن تكون كراهتنا لمعصية الله بهذا الحال، والإنسان يستطيع أن يعود نفسه على ذلك، فإذا بدأ أولاً بالحياء من الله، وحاول الاستحياء من هذه المعاصي، وأن لا يطلع أحد على ما يمارسه منها، وأن لا يفعلها بحضرة أحد، فهذه مرحلة من اجتنابها؛ لأنها تؤمن بكراهته لها، ثم بعد ذلك يراجع نفسه، فيقول: كيف أستحيي من الناس الذين لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً؟ ولا أستحي من الله جل جلاله الذي: َيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ[الحج:65]، ويُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا[فاطر:41]، فذلك سيعود نفسه على الحياء من الله بعد أن كان يستحيي من الناس أولاً، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من سرته حسنته وساءته سيئته فذلك المؤمن ).

    لزوم تعلم ما يؤمر باجتنابه

    وهذا الاجتناب الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه السبع، يقتضي من الإنسان أن يتعلمها أولاً، فالذي لا يعرف ما هو الربا كيف يجتنبه؟ فلا بد أن نتعلم أحكامها، وأن نتعرف عليها ثم نتركه، كثير من الناس يكره الشرك كراهةً شديدة، لكن لا يعرف ما هو الشرك، فلذلك لا بد أن ندرس الشرك حتى نجتنبه، وتعرفون ما أخرج الشيخان في الصحيحين من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني)، فلا بد أن نخاف الشر وأن نتعلمه حتى لا نقع فيه، فلذلك قال: ( اجتنبوا الموبقات )، هذا هو وجه التحذير منها، وبيان خطرها: أنها موبقات، ومعنى الموبقات أي: المسقطات في النار، كأنها تمسك صاحبها من فوق الصراط فتكبه على وجهه في قعر نار جهنم.

    معنى الموبقات وحد الكبيرة

    أوبقه بمعنى: أهلكه وأسقطه، وهذه الموبقات سُميت بذلك لكثرة من تسقطه في النار، ولكثرة عقوبة الله لأهلها بناره، فلهذا حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الوجه من التحذير، فقال: ( اتقوا السبع الموبقات).

    وعدها عداً وبينها ليكون ذلك أذكر لنا وأعون لنا على حفظها، فكان بالإمكان أن يقول لنا: اتقوا الشرك، والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، لكنه أراد ما يعيننا على الحفظ، فلذلك ذكر لنا العدد، والعدد هو سبعة، فإذا أسقطت واحدةً تبين لك النقص، فلا بد أن تراجع الحفظ مرة أخرى.

    وأيضاً سكت ولم يبينها حتى يسألوا؛ لأن النيل بعد اليأس أبلغ في النفس، يعني: الشيء الذي ناله الإنسان مباشرة دون تعب عليه ولا مشكلة يسهل عليه التخلص منه، لكن الشيء الذي ما ناله إلا بشق الأنفس والتعب سيكون عزيزاً على نفسه ويكون محباً له، فلذلك كان أسلوباً نبوياً من أساليب التعليم أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن تتمكن القلوب من المعلومة يذكرها وينوه بها، ولكن لا يفصلها حتى يُسأل عنها، ليكون ذلك عوناً لأصحابه ومن بعدهم على تعلمها وضبطها.

    وهذه الموبقات ليست هي الكبائر فقط، بل كبائر الإثم أكثر من ذلك، وقد سُئل ابن عباس عن الكبائر فقيل: أهي السبع الموبقات؟ قال: هن إلى السبعين أقرب. أي: فهي أقرب إلى السبعين.

    والكبائر جمع كبيرة وهي السيئة الكبيرة، ومعنى الكبيرة: الثقيلة في الميزان في كفة السيئات يوم القيامة، ولم يحددها الله سبحانه وتعالى ولا حددها النبي صلى الله عليه وسلم بعدد، ولكن الله ذكرها في مواضع من القرآن وحذر منها، والنبي صلى الله عليه وسلم حذر منها كذلك في عدد من الأحاديث الصحيحة.

    فاصطلح أهل العلم على أن الكبيرة هي: ما توعد الله عليه بنارٍ، أو رُتبت عليه اللعنة، أو رُتب عليه حد في الدنيا، فهذه ثلاثة ضوابط، إذا وجدتم واحداً من هذه الضوابط الثلاثة في أمرٍ من الأمور فاعلموا أنه من كبائر الذنوب: ما توعد الله عليه بنار، أو رُتبت عليه اللعنة، أو رُتب عليه حد من حدود الله، فهذه كلها كبائر.

    والفرق بين الفواحش والكبائر حاصل؛ لأن الله عطف بعضها على بعض، والعكس يقتضي المغايرة، فقال: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ[النجم:32]، قال: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ[الشورى:37]، فإذاً الكبائر ليست هي الفواحش، إلا أن بعض أهل العلم قالوا: العطف هنا من باب عطف العام على الخاص، فالعام قد يُعطف على الخاص نتيجة للخاص، وقد يُعطف الخاص على العام أيضاً نتيجةً للخاص، مَنْ كَانَ عَدُوًّا للهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ[البقرة:98]، فجبريل من ملائكته ومن رسله، اللهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ[الحج:75]، وجبريل منهم قطعاً، فهو من رسل الله ومن ملائكته، وقد عُطف هنا كذلك من عطف الخاص على العام، الذي يفيد مزية في الخاص، والعكس كذلك صحيح، فقد يُعطف العام على الخاص فيُذكر الخاص أولاً، ثم يُعطف عليه العام، وهذا كثير في النصوص الشرعية.

    فإذاً قد تكون الكبائر داخلةً في نطاق الفواحش، فتكون الفواحش أعم من الكبائر، فكل كبيرة فاحشة من غير عكس، وعموماً الخلاف في الفرق بين الكبائر والفواحش هو نظير الخلاف في الفرق بين النبوة والرسالة، فإن الراجح فيه عند أهل السنة أنه ما من رسول إلا وهو نبي، لكن بعض الأنبياء غير رسل، فكذلك هنا ما من كبيرةٍ إلا وهي فاحشة، أي: متعدية للحد في الكراهة، لكن يوجد بعض الفواحش غير كبائر.

    ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم هذه السبع، فبدأها بأعظمها وأثقلها في الميزان: وهو الشرك بالله، فقال: (الشرك).

    الفرق بين (هي) و(هن) في الاستعمال اللغوي

    وأصحابه سألوه فقالوا: وما هن يا رسول الله؟ وهنا قالوا: وما هن ولم يقولوا: وما هي، ما الفرق بين الضميرين؟ الفرق بين الضميرين أن العدد اليسير من غير العاقل الأفصح فيه أن يُقال فيه هنّ، والعدد الكبير يُقال فيه هي، وأما العاقلات مطلقاً من المؤنث فيُقال فيهن: هنّ، ولا يُقال: هي، وهذا الذي يقول فيه ابن مالك في التسهيل:

    ثم فعلت ونحوه أولى من فعلن ونحوه بأكثر جمعه وأقله والعاقلات مطلقاً بالعكس

    (أقله) أقل الجمع من غير العاقل، والعاقلات مطلقاً بالعكس، أي: الأفصح فيهما أن يقال: (هنّ)، يؤتى بنون الإناث.

    فلذلك قالوا: وما هنّ يا رسول الله؟ لأن عددهن قليل، وهذا يؤخذ منه أن حد القلة ما دون العشرة، فما كان عشرة ففوق، فهو داخل في حد الكثرة، وما كان دون العشرة فهو داخل في حد القلة.

    1.   

    الشرك الأكبر وأحكامه

    وما هن يا رسول الله؟ قال: ( الشرك بالله)، هذا أول الكبائر الموبقات السبع: الشرك بالله.

    الشرك في الأصل معناه: إشراك المخلوق مع الخالق في بعض حقوقه، فالخالق هو الرب جل جلاله، وله حقوق هي حقوق الإلهية، فمن منح شيئاً من هذه الحقوق لمخلوق، فقد أشرك مع الله، فمثلاً العبادة حق من حقوق الإلهية، فمن صرف أي شيءٍ من عبادته لمخلوق فقد أشرك، فيدخل في ذلك الصلاة والنذر وغير ذلك من أنواع الطاعات، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ[الأنعام:162-163]، وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه عز وجل: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه).

    والشرك ينقسم إلى قسمين: إلى شرك أكبر، وشرك أصغر.

    الشرك الأكبر: هو المخرج من الملة، الذي يكفر صاحبه به. ويترتب على ذلك عدد من الأحكام:

    الشرك الأكبر مبطل للعمل

    أول الأحكام المترتبة عليه: بطلان عمله، فإن الشرك مؤدٍ لبطلان العمل، كما قال الله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ[الزمر:65]، وكما قال تعالى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ[البقرة:217]، وقوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ[المائدة:5]، فالشرك مؤدٍ لبطلان العمل.

    وقد اختلف أهل العلم في ذلك، هل هو على إطلاقه أو هو مقيد بالموت عليه؟ فمذهب الجمهور أن الشرك الأكبر مبطل للعمل مطلقاً، سواءً تاب منه الإنسان أو لم يتب، فإذا تاب وأناب ورجع إلى الإسلام وجدد عقيدته من جديد، فإن العمل الماضي قد بطل مطلقاً، ويبدأ العمل من جديد، ومذهب الشافعي رحمه الله أن الشرك الأكبر المخرج من الملة يُبطل العمل بشرط الموت عليه، أي: بشرط أن يموت الإنسان مشركا، وسبب هذا الخلاف هو خلاف في القاعدة الأصولية هي: هل المطلق يُحمل على المقيد أم لا؟ وهي قاعدة أصولية فيها خلاف بين العلماء، فهناك آيتان جاء فيهما الإطلاق: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ[الزمر:65]، وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ[المائدة:5]، فقد جاء الإطلاق في الآيتين دون تقييد بأن يموت على ذلك، لكن جاء التقييد في آية البقرة: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ[البقرة:217]، (فيمت وهو كافر) هذا القيد، فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ[البقرة:217].

    فالشافعي رحمه الله يرى أن المطلق يُحمل على المقيد، والجمهور يرون أن المطلق يبقى على إطلاقه، وأن المقيد يبقى على قيده.

    ما يدخل في العمل الذي يبطل بالشرك الأكبر

    والحكم الثاني في هذه المسألة: ما يدخل في العمل الذي يبطل بالشرك، وهو ينقسم إلى قسمين: ما يذكر فيه إجماعاً، وما فيه خلاف، فالقسم الذي يشرط على بطلانه هو الصلاة، فهي قطعاً من عمل ابن آدم، فإذا صلى الإنسان ثم ارتد عن الإسلام - نسأل الله السلامة والعافية- ثم تاب ورجع إلى الإسلام في الوقت، فإنه يجب عليه أن يصلي تلك الصلاة؛ لأن الوقت ما زال مستمراً لها وهو مكلف، فيجب عليه أن يؤدي تلك الصلاة مرة أخرى، وكذلك الصوم كما لو ارتد عن الإسلام في ليلٍ من ليالي رمضان، ثم أسلم وجدد، فإنه يجب عليه تجديد النية وإدراك ما أدرك منه، وكذلك الحج فمن حج ثم ارتد ثم عاد إلى الإسلام، فإنه يلزمه الحج من جديد؛ لأنه يجب مرة في العمر، وهو عمره الماضي قد انتهى، وبردته بطل كل شيء، وبإسلامه أيضاً زال عنه كل أعمال الشرك، فإنه بردته لم تبطل سيئاته لكن بطلت حسناته، وبإسلامه بعد الردة بطلت سيئاته؛ لأن الله تعالى يقول: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهمْ مَا قَدْ سَلَفَ[الأنفال:38]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الإسلام يجب ما قبله)، يجبه: أي يقطعه، وذلك أيضاً مقيد بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العبد إذا أسلم فحسن إسلامه محا الله عنه كل سيئة كان سلفها، ثم كان بعد ذلك القصاص، الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنه).

    وهذا الحكم الثاني من أحكام الشرك أيضاً هو ما يدخل في العمل وما لا يدخل فيه، وقد اختلف في بعض الأمور من القسم الثاني هل هي داخلة في العمل أم لا؟ كالطهارة مثلاً، فإذا ارتد الإنسان عن الإسلام وهو كبير بالغ ثم رجع إلى الإسلام، هل يجب عليه الغسل من الجنابة أم لا؟ فالذين يرون بطلان العمل مطلقاً به، منهم من يرى أن الطهارة داخلة في العمل فيبطلونها بالردة، ومنهم من لا يرى ذلك، وكذلك الإحصان، فالإحصان الذي ينتقل به الرجل والمرأة في حد الجلد في الزنا إلى حد الرجم، هو الدخول بزوجةٍ من عقدٍ صحيح، فإذا تزوج الإنسان ودخل بأهله بعقدٍ صحيح، ولكنه ارتد بعد ذلك فقد بطل العقد قطعاً، لكن هل بطل معه الإحصان أم لا؟ فإذا زنى في وقت ردته أو بعد توبته وإسلامه قبل عقده من جديد فإنه محل خلاف، هل يُقام عليه حد الرجم أو حد الجلد والتغريب؟ لأن الإحصان فيه خلاف، هل هو صفة ذاتية للإنسان، أو هو عمل من أعماله؟ وهكذا، وهذه أمثلة فقط لنوعي العمل.

    إقامة الحد على الواقع في الشرك الأكبر

    والحكم الثالث من أحكام الكفر وأحكام الشرك: هو إقامة حده، فإن المسلم إذا ارتد عن الإسلام ودخل في الكفر فإنه يستتاب، أي: يُطلب منه التوبة والرجوع إلى الإسلام، فإن تاب فهذا المطلوب، وإن لم يتب وجب أن يُقام عليه حد الردة، وحد الردة هو القتل، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من بدل دينه فاقتلوه)، وهذا واجب على أولياء الأمور، وليس واجباً على الشعوب وعلى الأفراد؛ لأن ذلك يؤدي إلى الفوضى، فكل من أراد قتل إنسان يقتله ويقول: أقيم عليه حداً مثلاً، فليس هذا بيدك ولا موكولاً إليك وهو يؤدي إلى الفوضى وانعدام الأمن، فالحدود والقصاص ونحوها من الأحكام تختص بأولياء الأمور أي بالحكام، ولا يحل للأفراد إقامتها لما في ذلك من حصول الفوضى وعدم الانضباط.

    الشرك في العبادة

    أما ما يتعلق بالشرك الأكبر فهو أقسام أربعة:

    القسم الأول من الشرك الأكبر المخرج من الملة: الشرك في العبادة، فمن صرف شيئاً من عبادته لغير الله فقد أشرك شركاً أكبر مخرجاً من الملة، من عبد مخلوقاً سجد له أو صلى أو صام أو زكى أو تقرب إليه بنذرٍ أو ذبحٍ، فهذا شرك أكبر مخرج من الملة، يُستتاب صاحبه به، وهو النوع الأول من أنواع الشرك الأكبر، وهو المذكور في قول الله تعالى في تحريم العبادة: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا[الفرقان:68-70].

    الشرك في الدعوة

    والنوع الثاني من أنواع الشرك الأكبر المخرج من الملة: الشرك في الدعوة، معناه: أن يتوكل الإنسان على المخلوق فيستغيث به من دون الله ويدعوه، ويلتمس منه ما لا يقدر عليه إلا الله، فالتماس الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله جل جلاله كأن يرزق الإنسان تُرزق المرأة زوجاً، أو أن تُرزق أولاداً، أو أن يُنزل المطر، أو أن يُشفى المرضى أو نحو ذلك من الأمور التي لا تُلتمس إلا من الله، ولا يقدر عليها إلا الله جل جلاله، فهذا داخل في الشرك الأكبر، بخلاف ما إذا سألت الإنسان ما هو قادر عليه، كأن تسأله أن يناولك عصاك مثلاً أو أن يفتح لك الباب، فهذا ليس من الشرك لأنه قادر عليه، لم تلتمس منه إلا ما هو قادر عليه، أما ما هو عاجز عنه فهذا هو الداخل في الشرك، وهو المذكور في قول الله تعالى في سورة فاطر: ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ[فاطر:13] إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ[فاطر:14].

    وهذه الآية سدت كل الأبواب، فلم يبقَ أي احتمال إلا أتى الله به هنا، ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ[فاطر:13]، فأثبت لنفسه الربوبية، وأثبت لنفسه الإلهية، فالربوبية في قوله: ((ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ)) فملك كل شيءٍ بيده، والإلهية بقوله: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ[فاطر:13]، فنفى عن الذين يدعون من دون الله ملك أي شيء، فليس لهم تأثير، فلا يستطيعون لأنفسهم ولا لغيرهم دفعاً ولا نصراً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ[الحج:73]، فبذلك قال: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ[فاطر:13]، والقطمير: هو الغلاف الأبيض الذي يكون على النواة في داخل التمرة، ليس له طعم ولا ريح ولا فيه أية فائدة، فليس بالنواة التي يمكن أن تُعلف بها البهيمة، وليس كالتمرة التي يمكن أن يأكلها الإنسان، ليس حلواً ولا له أي طعم، ولا فيه أي رائحة، فإذا كان الإنسان لا يملكه فكيف بما كان أعلى منه؟

    ثم قال: إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ[فاطر:14]، فأصل الاستجابة متدرجة، فلا يمكن أن يستجيب لك من لا يعلم أنك دعوته أصلاً، فلا بد أولاً قبل الاستجابة من السماع، والعلم بدعوتك له، فالذين يدعون من دون الله بين الله أنهم: إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ[فاطر:14]، وهذا محله في الأموات والأصنام والجمادات ونحوها، هذه ليس لها سماع: إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ[فاطر:14].

    المقام الثاني: وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ[فاطر:14]، في دعوة الأحياء في ما لا يقدر عليه إلا الله، لو قُدر أنهم سمعوا كالأحياء لا يستجيبون، ما يستطيعون الاستجابة، وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ[فاطر:14].

    ثم بعد ذلك قال: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ[فاطر:14]، كثير من الناس يقول: نعم، أنا أعرف أنه لا يستطيع ذلك، لكن أتوجه به إلى الله وأتقرب به إليه، وهذا الذي كان يقوله المشركون، فكانوا يقولون: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى[الزمر:3]، (زلفى) معناه: تقرباً إليه، فبين الله بطلان ذلك، فالله ليس بينه وبين أحدٍ من عباده نسب، فإنما يُتقرب إليه بالطاعة وما شرعه لعباده، ولا يمكن أن يُتقرب إليه بما سوى ذلك، فلذلك قال: وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ[فاطر:14]، فبين أنهم حتى الرجاء الذي يرجى منه في الوسيلة عند الله والتوجه إليه معدوم؛ لأنهم سيكونون خصوماً لكم يوم القيامة، وينكرون ما قدمتم لهم، وهذا الذي يحصل، فما من أحدٍ كان في الدنيا يعبد شيئاً من دون الله إلا مُثل له معبوده، فيُقال له: اتبعه، فيتبعه، ثم يتبرأ المعبودون ممن كان يعبدهم، إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً[البقرة:166-167]، معناه: الرجوع إلى الحياة الدنيا، فهم يريدون الرجوع إلى الحياة الدنيا ليتبرؤوا منهم مرةً أخرى، فهم يتمنون الرجوع ليتبرؤوا منهم، لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ[البقرة:167]، الأعمال التي كانوا يفعلونها تكون حسرةً عليهم وندامة يوم القيامة.

    إذاً هذا النوع الثاني من أنواع الشرك الأكبر وهو شرك الدعوة.

    شرك الحاكمية

    النوع الثالث من أنواع الشرك الأكبر: هو شرك الحاكمية، أي: شرك التشريع، فالله جل جلاله وحده هو الذي يحل ويحرم ويأمر وينهى، والمخلوق ليس له شيء من التشريع، لا يستطيع أن يحل ما حرم الله، ولا يستطيع أن يحرم ما أحل الله، ولا أن يغير شرع الله، ولا أن يبدله، ومن فعل شيئاً من ذلك فقد أشرك مع الله غيره، أشرك نفسه في حقوق الإلهية، ولذلك قال الله تعالى: أَمْ لَهمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ[الشورى:21]، شرعوا لهم من الدين، وقد قيد التشريع هنا بالدين، ليدل ذلك على أن ما يتعارف الناس عليه من مصالحهم ليس داخلاً في هذا التشريع، فمثلاً: إذا كان للمسجد جماعة أو إمام كان صاحب القرار فيه، فرأى أن وقت الصلاة محدد بالدقيقة الفلانية، فهذا ليس تشريعاً لما لم يأذن به الله، بل هو مصلحة اتفقت عليها جماعة الحل والعقد، ومثل ذلك تحديد الغرامات والتعزيرات والقوانين المنظمة لعلاقات الناس فيما بينهم ومصالحهم الدنيوية، بما ليس فيه تشريع من عند الله، فهذا النوع من المصالح موكول إلى اجتهادات الناس، والأصل فيه أن يكون من المجتهدين من الناس إذا وجدوا، فإن لم يوجد مجتهدون فأمثل الناس، فهم الذين يوقعون على الاتفاقيات العامة التي لا تختص بمصالحهم الشخصية، ويوقعون على التنظيمات والترتيبات الإدارية وسن التقاعد وغير ذلك من الأمور التي هي مما ينظم علاقات الناس وأمورهم في ما بينهم، فلذلك قال: أَمْ لَهمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهمْ مِنَ الدِّينِ[الشورى:21]ولاحظوا كلمة (من الدين)، مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ[الشورى:21]، وكذلك قال: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ[يونس:59]، فجعل شيءٍ من الأرزاق حراماً، وجعل شيءٍ منها حلالاً مما لم يرد عن الله سبحانه وتعالى هو من هذا القبيل من الشرك بالله سبحانه وتعالى؛ لأنه تشريع بما لم يأذن به، فإذاً هذا هو النوع الثالث من أنواع الشرك، وهو الشرك في الحكم، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ[الأنعام:57]، وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ[الشورى:10].

    الشرك في المحبة والطاعة

    النوع الرابع من أنواع الشرك الأكبر: هو الشرك في المحبة والطاعة، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يستحق أن يُحب حب الإلهية، ومن دونه من الخلائق لا يستحق ذلك أبداً، فهو الذي يستحق أن يُحب حباً شديداً، يقتضي طاعته في كل ما أمر به، والمبادرة لهذه الطاعة، وكل طاعةٍ لمخلوق في معصيته فهي من هذا القبيل أي من الشرك الأكبر، ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، ( إنما الطاعة في المعروف)، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ[البقرة:165]، وأتى بأفعل التفضيل التي تقتضي أنه لا أحد يمكن أن يشاركهم في ذلك، أهل الإيمان وحدهم هم الذين يحبون الله حباً شديداً، يقتضي منهم الطاعة والمبادرة للعمل، وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ[البقرة:165].

    إذاً هذه أربعة أقسام هي أقسام الشرك الأكبر: الشرك في العبادة، والشرك في الدعوة، والشرك في التشريع، والشرك في المحبة.

    1.   

    الشرك الأصغر وأنواعه

    أما الشرك الأصغر فهو أيضاً أربعة أقسام، وهو لا يخرج من الملة، ولا يكفر به صاحبه، ولكنه يُذم به صاحبه وينقص أجره، ويكون ذنباً عظيماً في حقه، وهذا الشرك الأصغر أربعة أقسام:

    الرياء

    القسم الأول منه الرياء: وهو مراءاة الناس، أن يعمل الإنسان الطاعة لقصد وجه الله الكريم، ولكنه يُظهرها أمام الناس ليمدحوه بها أو ليثنوا عليه أو ليتوصل إلى رضاهم، فهذا الرياء من الشرك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا الشرك الأصغر)، وبين أنه الرياء.

    الإقسام بالمخلوق

    النوع الثاني من الشرك الأصغر: وهو الإقسام بالمخلوق، فالقسم داخل في التعظيم، والله تعالى هو الذي يستحق هذا النوع من التعظيم، وهو الذي يُحلف به، أما من دون الله فلا يُحلف به وهو داخل في هذا النوع من الشرك الأصغر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، وقال لعمر : (لا تحلفوا بآبائكم، فمن حلف بغير الله فقد أشرك)، فالمقصود هنا شرك دون شرك، وهو الشرك الأصغر، فالذي يحلف بالكعبة أو بالنبي صلى الله عليه وسلم أو نحو ذلك، قد وقع في الشرك الأصغر غير المخرج من الملة، ولكنه مع ذلك مذموم ومن الكبائر، هو داخل هنا بالكبيرة الأولى من الموبقات.

    الطيرة

    النوع الثالث من أنواع الشرك الأصغر: ما يسمى بالطيرة، والطيرة: هي أن ينسب لبعض الكائنات ارتباطها في تأثير يفعله الله عندها، فنسبة الأثر للكائنات نفسها، كمن يظن أن الكوكب الفلاني هو الذي يأتي بالمطر هذا من الشرك الأكبر، لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالحديبية صلاة الصبح على أثر سماء من الليل فقال: (أتدون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: يقول أصبح من عبادي مؤمن بي كافر بالكوكب، وكافر بي مؤمن بالكوكب، فالذي يقول: مُطرنا بفضل الله ورحمته مؤمن بي كافر بالكوكب، والذي يقول: مُطرنا بنوء كذا وكذا كافر بي مؤمن بالكوكب)، فهذا إذا نسب الفعل للمخلوق، أما إذا لم ينسب الفعل للمخلوق، ولكنه رأى أن الخالق يفعله اقتراناً بهذا المخلوق، كمن خرج من بيته فرأى أعمى أو أعور أو أعضب القرن، أو نحو ذلك فتطير به ورجع، أو اشترى سيارة فحصل عليها حادث فلم يعد يتملكها وتخلص منها طيرةً، فهذا النوع هو من الشرك الأصغر، وتعرفون كثيراً من الناس قد يتطيرون من المكان الذي قبضت فيه روح أي إنسان، مكان إذا مات فيه إنسان يتطيرون منه ويكرهونه، وهذا من الطيرة.

    والطيرة منهي عنها مطلقاً وهي من الشرك الأصغر، لكن يقابلها الفأل الحسن وهو لا يرد شيئاً من القدر ولا يؤثر لكنه محبوب إلى النفوس، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما رأى سهيلاً يوم الحديبية قال: (سهل لكم من أمركم)، فتفاءل خيراً بهذا الاسم، فالتفاؤل قال: (سهل لكم من أمركم)، فالتفاؤل حسن مطلوب، والطيرة حرام وهي من الشرك الأصغر، وهذه الطيرة منتشرة في الأمة وهي باقية إلى الآن، وتوجد في كل البلاد الإسلامية، كثير من الناس يتشاءمون من بعض الأشياء، ويظنون أنه إذا حصل شيء ...، رأيت كذا، هذا النوع هو من الطيرة التي هي التشاؤم وهي من الشرك الأصغر.

    التمائم

    النوع الرابع من أنواع الشرك الأصغر: الشرك بالتمائم، أي: أن يعلق الإنسان تميميةً يطلب منها نفعاً، والتميمة أصلها أن يأخذ من شعر أو من عظم أو ظفر أو نحو ذلك فيعلقه، وقد كان ذلك شائعاً في عادات أهل الجاهلية، فحرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (من تعلق تميمة وكل إليها)، وقال: (من تعلق تميمة فلا أتم الله له)، قال: (من تعلق شيئاً وكل إليه)، وقال: (إن التمائم شرك)، فالتمائم هي ما يتعلقه الإنسان ويظن أنه يدفع عنه البلاء، أو أنه يجلب له نفعاً، فهذا من الشرك الأصغر الذي لا يُخرج من الملة.

    وهنا لبس يقع عند الناس بين التميمة وما ليس تميمة، فما يعلق من القرآن والسنة يُكتب ويعلق على المريض حتى يبرأ ثم يمزق مثلاً، أو على الصغير حتى يبلغ غير داخل في هذا الباب، فليس من التمائم، لكنه غير محمود، ولم يرد فيه إلا حديث واحد أخرجه الترمذي بإسنادٍ فيه ضعف عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه كلمات يقولهن، وأمره أن يلقنهن أولاده من عقل منهم، ومن لم يعقل فليكتبهن وليعلقهن عليه: ( أعوذ بكلمات الله التامات وغضبه وعقابه وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون ).

    فالقرآن إذا كان مكتوباً غير مقطع، أو السنة كانت مكتوبة كما هي على وجهها الصحيح وعُلقت فهذا فعل غير مشروع، لكنه ليس من التمائم ولا من الشرك، لكنه غير مشروع.

    فإذاً هذه هي أربعة أقسام هي أقسام الشرك الأصغر: الرياء، والطيرة، والإقسام بغير الله، والتمائم.

    إذاً هذه هي أقسام الشرك، وكلها داخلة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( الشرك بالله).

    1.   

    السحر.. أنواعه وأحكامه

    ثم ذكر الموبقة الثانية: فقال: (والسحر)، والسحر معناه في اللغة: الرقة، فيقال: ثوب ساحر أي رقيق يشف عن ما تحته، فيكون الإنسان إذا لبسه لم يستره، ويحمل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم في النساء اللواتي من أهل النار ولم يرهن بعد: (نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)، فمعنى كاسيات عاريات: أنهن يلبسن ما لا يستر، فهن كاسيات لأنهن لبسن شيئاً، ولكنهن عاريات؛ لأن ما لبسنه يشف عن ما تحته فلا يستره، فهذا الذي يسمى سحراً في الأصل.

    والسحر أطلق بعد ذلك على الأمور التي ما لها حقائق، أو حقائقها مشوهة، ثم أطلق بعد هذا على كل ما له تأثير نفسي عميق، فالكلام المحبوب إلى النفوس يسمى سحراً لشدة تأثيره.

    وحديثها السحر الحلال لو أنه لم يجن قتل المسلم المتحرزِ

    إن طال لم يملل وإن هي أوجزت ود المحدث أنها لم توجزِ

    فهذا المقصود به المؤثرات النفسية.

    والسحر في الاصطلاح ينقسم إلى قسمين:

    السحر التخييلي

    إلى خيالات تؤثر في النفوس فقط، وهذا النوع ما له حقيقة، وهو الذي أشير إليه بقول الله تعالى: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى[طه:66]، فهي في الواقع لا تسعى، ولكن يُخيل إلى الرائي من سحرهم أنها تسعى، وهذه التخييلات هي أضعف أنواع السحر؛ لأنها من كيد الشيطان: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا[النساء:76].

    السحر الحقيقي التأثيري

    والنوع الثاني: حقائق مؤثرة، وهي تؤخذ من الأخلاط والأوساخ، فيؤخذ ما فيه وسخ أو يتقرب به للجن فيرتب عليه العقد والنفث ونحو ذلك فيكون سحراً مؤثراً، وذلك مثل الشعر والمشاطة ومثل المشط الذي فيه الوسخ عادةً، ومثل الملابس الرثة القديمة، ومثل الفرش البالية ونحو ذلك، فتخلط فيها الأخلاط، مثل: أرواث البهائم وأبوالها، وتوضع في الأماكن القذرة، تارةً يجعل عليها من الدماء المتنجسة، وتارة من الدماء النجسة، وتارةً يجعل عليها من العذرات ونحو ذلك، تارة يجعل عليها من البول، وتارةً تُدفن في أجسام البهائم الميتة أو في أبوالها أو في أجسام الموتى من الأحياء، وهذا النوع له تأثير وله حقيقة.

    وقد سحر اليهود النبي صلى الله عليه وسلم، سحره بنات لبيد بن الأعصم ، فعقدن له إحدى عشرة عقدة في مشاطة ومشط، وجُف نخلة ذكر، ونزل بها لبيد بن الأعصم فجعلها بين حجرين في أسفل بئر أريس، في أسفل البئر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بنزح البئر واستخرج السحر منها، وقرأ المعوذتين وهما إحدى عشرة آية، كلما قرأ آية انحلت عقدة، ولم يعاقب بنات لبيد بن الأعصم ولم يقتلهن؛ وذلك لحلمه صلى الله عليه وسلم وحسن خلقه، قال: (أما أنا فقد شفاني الله).

    وهذا السحر الذي سُحر به النبي صلى الله عليه وسلم لا يؤثر في العقل ولا في صفاته الشخصية، ولكن أصبح يُخيل إليه أنه فعل بعض الأمر مع أهله ولم يفعله، يتخيل أنه على جنابة وليس جنباً مثلاً، فهذا السحر الذي حصل، وليس نقصاً ولا عيباً؛ لأنه جاز في حق الأنبياء المعصومين فكيف بمن سواهم.

    1.   

    علاقة السحر بالكفر وسبل الوقاية منه

    وهذا السحر بيّن الله تعالى علاقته بالكفر فقال: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ[البقرة:102]، وبيّن أن الملكين اللذين أنزلا لتعليم الناس السحر ببابل وهما: هاروت وماروت وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ[البقرة:102]، وهذان الملكان أنزلا لتعليم الناس السحر، ولا اعتراض في ذلك؛ لأنه ما من داءٍ ولا مصيبةٍ تنزل في الأرض إلا ويأتي بها ملائكة يرسلونها، فكذلك هذان الملكان جيء بهما ليوصلا هذا الضرر، كما يأتي الملائكة الآخرون بالأمراض والأسقام والأوبئة وغير ذلك، وكل ذلك بقدر الله سبحانه وتعالى وله فيه الحكمة البالغة.

    وقد اختلف في تفسير الآية في سورة البقرة: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ[البقرة:102] فقد قال بعض أهل التفسير: وما: نافية، معناه: وما أنزل السحر على الملكين بابل هاروت وماروت، أو (وما أنزل): ما تعلموه، (اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان )، فالذي تتلوه الشياطين على ملك سليمان ما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت، وقيل: (ما): موصولة، معناه: والذي أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت، وبعضهم يفسر الملَكين بالملكِين وقد رُويت قراءة بذلك، ولكن الراجح أن المقصود أن الملكين اللذين أنزلا ببابل أنزلا بالسحر يعلمانه الناس امتحاناً وابتلاءً لهم، ككل ما هو ضار، وكل ما هو نافع لا ينزل شيء منه بالأرض إلا والملائكة يوصلونه إليها.

    حكم تعلم السحر وتعليمه

    والسحر اختلف في ممارسته، فذهب مالك إلى أن تعلمه وتعليمه كفر، وأن فعله من الموبقات، لكنه لا يصل إلى درجة الكفر، وقد قال العلامة محمد منون :

    والسحر قال مالك تعلمه كفر وقال كافر معلمه

    وقد جاء في الحديث: ( أن حد الساحر والساحرة القتل )، مما يدل على أنه ليس بشرك بذاته بل هو أمر آخر.

    انتشار السحر في كثير من البلدان

    وقد انتشر السحر في هذه الآونة في كثيرٍ من البلدان، وشاهدنا انتشاره في بلادنا، وقد استباحه كثير من الناس يظنون أنهم يرتزقون من خلاله أو يجلبون لأنفسهم نفعاً أو يرفعون ضراً، وما هو إلا أذية يلحقونها بإخوانهم المسلمين، وضرر بإيمانهم هم، ثم بعد ذلك ضرر بإخوانهم وبشعبهم.

    الوقاية من السحر

    وهذا السحر لا بد من الحصن منه والتعوذ، فلو كان ينجو منه أحد لنجا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ ويتحصن، لكن الله أراد أن يُظهر لنا ضرره وخطره وأن يبين لنا ذلك، فأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لنعرف نحن خطره وضرره.

    ومما يتجنبه الإنسان للسلامة من السحر الحفاظ على الطهارة، والإكثار من الاستغفار والتعوذ، وكذلك التصبح بسبع تمرات من التمرة العجوة، وإن لم يجدها بأي تمرات، كما قال ابن القيم رحمه الله: فإن الإنسان إذا تصبح على سبع تمرات من هذه التمرة العجوة لم يضره سم ولا سحر ولا عين في ذلك اليوم.

    وكذلك منها: الحفاظ على أذكار الصباح والمساء قبل النوم وبعد الاستيقاظ، ومنها: أن يقول الإنسان: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) مائة مرة في اليوم أو في الليلة فإنه يكون في حصنٍ حصين لا يقرب.

    وبعد أن يحصل السحر فإن حله لا يكون إلا بالرقى الشرعية، بقراءة القرآن من مؤمن به عارفٍ باستعماله، فالقرآن بمثابة السلاح، وليس كل واحدٍ يحسن استعمال السلاح ولا يحسن الرماية به، فلذلك تعرفون أنه لو كان السلاح من أجود ما يكون، لكن أخذه شخص ما له أي تجربة في السلاح، إذا أصاب تكون رمية من غير رامٍ عادةً، لكن إذا كان مجرباً فإن ذلك يقتضي بإذن الله حصول على النتيجة المطلوبة.

    اللهم صل على محمد وعلى آله وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آله وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767082849