إسلام ويب

مقدمات في العلوم الشرعية [25]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من المذاهب الفقهية المشهورة مذهب الحنفية, والذي برز فيه علماء أجلاء, أمثال: أبي يوسف, وزفر, والحسن بن صالح, ومحمد بن الحسن الشيباني الذي كانت كتبه هي أساس المذهب, وعلى ضوئها جاءت بقية كتب المذهب. كما برز علماء أجلاء في المذهب المالكي, وأصبح لكل قسم منهم مدرسة خاصة, وألفوا كتباً كثيرة, والتي كان أبرزها مختصر خليل الذي جمع فيه غالب المسائل في المذهب باختصار عجيب, لذلك كثرت عليه الشروح.

    1.   

    نبذة مختصرة عن المذهب الحنفي

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فنتناول الآن المذاهب الفقهية المعتبرة بشيء من التفصيل، وهذه المذاهب لا تخلو من مدارس ومنازعات وخلافات في داخلها, ونبدأ بمذهب أبي حنيفة.

    أشهر علماء المذهب الحنفي

    فقد اشتهر من أصحاب أبي حنيفة الإمام أبو يوسف يعقوب, وقد خالف أبا حنيفة في أمور كثيرة، وكذلك محمد بن الحسن الشيباني، وقد خالف أبا حنيفة وأبا يوسف كذلك في مسائل كثيرة، وكذلك الإمام زفر ثالث أصحاب أبي حنيفة, وكذلك الحسن بن صالح اللؤلؤي رابع أصحاب أبي حنيفة, وكل هؤلاء حصلت بينهم اختلافات وهي إلى الآن مدونة في المذهب الحنفي.

    محمد بن الحسن الشيباني وأثره على المذهب الحنفي

    لكن مدار الفقه الحنفي راجع إلى محمد بن الحسن الشيباني, فهو الذي دون المذهب، فأصبحت ستة كتب من كتبه تشتهر بكتب وجه الرواية، فهي أساس المذهب وأصح شيء فيه، وما سواها من الكتب سواء كانت لـمحمد أو لغيره تعتبر من الزوائد، فكتب محمد بن الحسن التي اشتهرت منها كتاب الأصل الذي يسمى بالمبسوط، وكتاب الجامع الكبير، وكتاب الجامع الصغير، وكتاب السير الكبير، وكتاب السير الصغير، وكتاب الحجة على أهل المدينة.

    أشهر مؤلفات المذهب الحنفي

    وهذه الكتب قد حاول السرخسي جمعها في المبسوط الكبير، مع أنه ألفه في السجن، فقد كان مسجوناً في بئر تحت الأرض، لكن كان يمليه على بعض الناس ويكتبونه عليه, وهو ثلاثون مجلداً، وقد اختصر كتابه السمرقندي في تحفة الفقهاء، واشتهر هذا الكتاب بين الناس وتداولوه حتى جاء الكاساني فتزوج ابنته وشرح تحفته، فقد كانت ابنته مشهورة بالعلم فتزوجها الكاساني وشرح كتاب التحفة بكتاب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، وبقي كتاب بدائع الصنائع فترة من الفترات عمدة المذهب الحنفي، حتى جاء المرغيناني في أواخر القرن الخامس الهجري وبداية السادس، فألف كتابه بداية المبتدي وشرحه بكتاب هداية المهتدي، فأصبح هذا الأصل الذي يرجع إليه الحنفية في كل أمورهم، وغلو فيه غلواً كبيراً حتى كان أحد علمائهم يلقب بقارئ الهداية، ويقول فيه أحد فقهائهم:

    إن الهداية كالقرآن قد نسخت ما ألفوا قبلها في الشرع من كتب

    فاحفظ فوائدها واضبط قواعدها يسلم كلامك من زيغ ومن كذب

    وقد خدمت خدمة بالغة، فوضع عليها من الشروح أعداد كبيرة جداً، فمن شروحها مثلاً: فتح القدير للكمال بن الهمام وهو من محققي الحنفية الأعلام، وكذلك البناية على الهداية للعيني شارح صحيح البخاري, وكذلك العناية للبابرتي والكفاية للكرلاني، وعدد كبير من الكتب الأخرى تدور في فلك الهداية، وخرج أحاديثها الزيلعي الكبير في كتابه نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية، وهو أول كتاب متخصص في مجال تخريج الأحاديث، وقد لخصه الحافظ ابن حجر في كتابه الدراية في تخريج أحاديث الهداية.

    ثم جاء بعد هذا القدوري فألف مختصره الذي يسميه الحنفية بالكتاب، فأصبح أيضاً عمدة المذهب ومرجع الناس؛ لأنه لخص كتب محمد بن الحسن, وبالأخص أنه جمع بين الجامع الكبير والجامع الصغير، فاشتهر هذا الكتاب وتداوله الناس وتناولوه بالشروح، فكثرة شروحه، وأصبح عمدة عندهم، ثم جاء النسفي، وهو من أئمتهم الكبار فألف كتابه كنز الدقائق، فأقبلوا عليه كذلك إقبالاً عظيماً، ومن أشهر شروحه: تبيين الحقائق للزيلعي الصغير، تلميذ صاحب نصب الراية، ومنها كذلك: البحر الرائق لـابن نجيم، وعليه حاشية ابن عابدين المسماة بمنحة الخالق على البحر الرائق على كنز الدقائق، وعلى تبين الحقائق كذلك حاشية إبراهيم شلبي تركي.

    ثم جاء المتأخرون منهم فأكثروا من المختصرات، ومن أشهرها: تنوير الإبصار للحصكفي، وعليه عدد من الشروح من أشهرها: الدر المختار الذي وضع عليه ابن عابدين حاشيته الكبرى، المعروفة برد المحتار على الدر المختار على تنوير الأبصار، وعلى التنوير شروح أخرى كثيرة، فهذه أهم كتب الحنفية بالنسبة للدارس والباحث.

    1.   

    نبذة مختصرة عن المذهب المالكي

    المدونة واهتمام علماء المالكية بها

    أما المذهب المالكي فأقدم كتبه وأهمها في الأصل: المدونة، وهي كتاب تداولته الأيدي وتناولته، فإن أسد بن الفرات -وكان من أصحاب مالك- جعل الفقه في صورة أسئلة، فذهب فعرضها على أهل العراق، ويقال: إنه عرضها في البداية على مالك فامتنع من إجابته، وقال: اذهب إلى أهل العراق فإن آرائك هنالك، وكان مالك لا يحب الأرائكين أي: الذين يقولون: آرائي كذا، فكان لا يجيب على مسألة حتى تقع، ويقول: أما ما لم يقع فإن له رجالاً يعاصرونه هم أدرى به، وهذا من الفقه، فإن كل أهل عصر ينبغي أن تترك لهم قضاياهم حتى يجتهدوا فيها بحسب واقعهم وبلدهم وحالهم، ولذلك كان يقول: إذا أتاك مستفتٍ فلا تفته حتى تسأله عن بلده وعن حاله، فإن الفتوى تختلف باختلاف الأشخاص والأماكن والأوقات والحالات.

    ثم رجع أسد بن الفرات وسأل عن أصحاب مالك, فدل على عبد الرحمن بن قاسم العتقي, وهو من مشاهير أصحاب مالك، وقد لزمه عشرين سنة، ما تكلم مالك في العلم في تلك العشرين إلا وهو يسمع، وما سمع منه شيئاً فنسيه, وكان من العباد الزهاد المعرضين عن ذوي السلطان، وكانت له مزرعة بمصر يزرع فيها بيده، وكان يخيط الثياب بيده كذلك ويبيعها، وكان من الأغنياء التجار، واشتهر بزهده وعبادته ونسكه، وكان من أهل الحديث وأوعية العلم، فسأله عن هذه الأسئلة, فكان ابن القاسم يجيبه فيها، فيكتب إجاباته، فإذا كان لديه فيها رواية عن مالك بينها، وإن لم تكن له رواية عن مالك أفتاه فيها باجتهاده، فكانت المدونة إذ ذاك تنقسم إلى قسمين:

    القسم الأول: روايات ابن القاسم عن مالك.

    القسم الثاني: اجتهادات ابن القاسم أي: آراءه الخاصة.

    ثم ذهب أسد بن الفرات إلى القيروان، فلقي هنالك سحنوناً، وهو عبد السلام بن سعيد التنوخي، وهو قاضي البلدة، وقد مكث سبعين سنة على القضاء لم يأخذ رزقاً من بيت المال، ولم يرد له حكم, ولم يطرق باب السلطان، فكان السلطان يأتيه في داره أو في مسجده، ولم يأتِ هو سلطاناً قط، وعندما كثر قضاته وولاته احتاج إلى مرتبات لهم، فلم يأخذها من بيت المال، وإنما شرط أن يسلم إليه اليهود أهل الكتاب ليأخذ منهم الجزية بنفسه، فيدفع منها رواتب الموظفين؛ لئلا يظلمون ولتكون من أصل حلال مقطوع به.

    فعرض عليه الكتاب فأعجب به، فسأله أن يعيره إياه ليكتبه فقال: لا سبيل إلى ذلك. ففاوضه حتى قبل أن يعيره إياه في ليلة واحدة، فوزعه سحنون في تلك الليلة على طلابه فكتبوه جميعاً، وأصبح مكتوباً عندهم في القيروان، وذهب أسد بن الفرات إلى صقلية وافتتحها، وكان قائد الجيش وقاضيه، وهو الذي فتح صقلية، فذهب سحنون إلى ابن القاسم فعرض عليه المدونة، فرتبها سحنون على أبواب الفقه، لكنه في ترتيبه اعتمد ترتيباً غير الترتيب المعهود؛ فكان يجعل للباب الواحد -كثير الأحكام- أبواباً مختلفة بنفس العنوان: باب البيع الأول.. باب البيع الثاني.. وهكذا، بالأرقام.

    وزاد فيها عن الشرط الذي شرطه أسد، فأضاف إليها كثيراً من المسائل من عنده، ثم كان يسأل ابن القاسم هل سمع فيها عن مالك شيئاً، فإن لم يسمع قال: هل روي لك عنه شيء من غير سماعك، ثم يسأله عن رأيه هو، ويضيف إليها الأدلة من مروياته عن ابن القاسم أو غيره، فقد عرضها على ابن وهب فروى عنه كثيراً من الأدلة وأضافها، وعرضها على أشهب وروى عنه كثيراً من الأدلة وأضافها، وعرضها على غيرهما من تلامذة مالك، فكانت جمعاً لأقوال هؤلاء التلامذة ورواياتهم عن مالك، فبلغ مجموع ما فيها من المسائل أربعين ألف مسألة، ومعها أربعون ألف دليل، وهذه الأدلة بعضها آيات قرآنية، وفيها أربعة آلاف حديث مرفوع، وفيها ستة وثلاثون ألف أثر من الآثار، وفيها بيت واحد من الشعر، وهو قول حسان بن ثابت:

    وهان على سراة بني لؤي حريق بالبويرة مستطير

    وقد أصبح هذا البيت مضرب المثل، كما قال الشاعر:

    أصبحت فيهم غريباً بين أظهرهم كبيت حسان في ديوان سحنون

    فقد اشتهر هذا الكتاب وتداوله الناس وتناقلوه، وروي كما تروى الأمهات من الكتب, حتى إن أهل طليطلة حين صال عليهم الإسبان فأحرقوا كتبهم ورموها في النهر، كان من فقهائهم فقيه يحفظ المدونة فأملاها عليهم، فجاءته نسخة أخرى فعارضوها عليها فلم يجدوا فرقاً إلا بين الواو والفاء في موضع واحد، فقد جعل الواو بدل فاء في موضع واحد.

    وقد اختصرها عدد من المؤلفين وشرحوها، وخدمت في كثير من أنواع الخدمة، فألف في مصطلحاتها, وألف في غريب لغتها، وفي تخريج أحاديثها وغير ذلك، ومن المشاهير الذين خدموها: أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني، فقد ألف كتابه: النوادر والزيادات لخدمة المدونة، ثم بعده القاضي أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد الكبير الجد، وقد شرح تراجمها وأبوابها فقط في كتابه: المقدمات الممهدات، وكذلك القاضي عياض بن موسى بن عياض اليحصبي السبتي، الذي ألف التنبيهات على المدونة، وكذلك البراذعي -ينطق بالذال والدال، يقال: البراذعي، والبرادعي- الذي ألف اختصار المدونة، وهذا الاختصار اشتهر بين الناس باسم المدونة أيضاً، وقد وضعت شروح كثيرة على مختصر البرادعي، ويسمى بالتهذيب أيضاً؛ تهذيب المدونة.

    مختصرات ابن وهب في المذهب المالكي

    وقد ألف عدد من أصحاب مالك كتباً أخرى، ومن أشهرها: مختصرات عبد الله بن عبد الحكم، وهي أقدم مختصر يؤلفه المسلمون، وفي المذهب الحنفي أول مختصر يؤلف فيه هو: مختصر الطحاوي لـأبي جعفر أحمد بن سلامة الطحاوي، مؤلف العقيدة الطحاوية، ومؤلف شرح معاني الآثار، ومؤلف مشكل الآثار، والمذهب الشافعي أول مختصر يؤلف فيه هو مختصر المزني، والمذهب الحنبلي أول مختصر يؤلف فيه هو مختصر الخرقي.

    فمختصرات ابن وهب هي أقدم المختصرات: المختصر المطول، والمختصر الأوسط، والمختصر الأصغر، وعبد الله بن وهب من أشهر أصحاب مالك، وهو الذي نزل عليه الشافعي وكان زميلاً له في الدراسة، فلما نزل مصر نزل في داره، ومات عنده في داره، فقد عاش في مصر في دار ابن عبد الحكم، ومات في داره, ودفن فيها، وقد كانت داره بجبل المقطم بشرق القاهرة، وابنه محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أيضاً من مشاهير المالكية، ومن أصحاب الشافعي الذين لزموه زمانه في مصر.

    وكذلك كتب ابن وهب وإن كانت لم تحضَ بالنقل الكافي؛ لأن الرجل اشتهر بالحديث، فكان الناس في حديثه أرغب منه في كتبه الفقهية.

    ثم جاء بعد هؤلاء محمد بن المواز، ومحمد بن سحنون الذين اشتهرا بالمحمدين، وألف ابن المواز الموازية التي هي من أشهر الكتب المالكية وأهمها، وألف محمد بن سحنون عدداً من الكتب الكثيرة.

    أشهر مدارس المذهب المالكي

    ثم أصبح المذهب المالكي على مدارس يمكن إرجاعها إلى خمس تقريباً, وهي:

    المدرسة المدنية: وهذه لم يكتب لها البقاء طويلاً؛ لأن الشيعة قد غلبوا على المدينة فيما بعد وغيروا معالمها، وطردوا أهل السنة منها، وهذه المدرسة يدور فقهها على رواية عبد الملك بن الماجشون عن مالك، وعلى رواية المغيرة ومطرف عنه أيضاً، فهؤلاء مشاهير أصحاب مالك من المدنيين: عبد الملك بن الماجشون ومطرف، والمغيرة.

    والمدرسة المصرية، وركنها ابن القاسم وابن أشهب، وابن عبد الحكم، وابن نافع، وابن وهب، وأتباعه من بعدهم.

    والمدرسة العراقية: ومن أشهر أئمتها من أصحاب مالك: القاضي إسماعيل وهو من ذرية حماد بن زيد، وهو مؤلف كتاب المبسوط في فقه مالك، ومن أشهر تلامذة مالك فيها أيضاً أبو مصعب الزهري الذي كان شيخاً للإمام أحمد. وكذلك يحيى بن يحيى التميمي، ويحيى بن عبد الله بن بكير، وهذه المدرسة مدارها لدى المتأخرين على أبي بكر الأبهري، وابن القصار، وابن خويز وينطق أيضاً خويز منداد، والقاضي عبد الوهاب بن نصر البغدادي، ومن أشهر كتبها: عيون الأدلة لـابن القصار، ورءوس المسائل له أيضاً، وكتب القاضي عبد الوهاب التي من أشهرها المعونة، والتلقين، وشرح الرسالة.

    ثم المدرسة القيروانية المغربية، وعمدتها على سحنون وتلامذته، وهي أرجح هذه المدارس وأهمها؛ لأنها عرفت بالمدرسة المصرية، وفيها استقر المذهب القرون المتطاولة.

    ثم المدرسة الأندلسية، وهذه عمدتها في الأصل على يحيى بن يحيى الليثي المصمودي، وعبد الملك بن حبيب، وقد قويت هذه المدرسة بالأئمة المشاهير الذين اشتهروا في الأندلس من أمثال أبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر، حافظ المغرب، وأبي الوليد سليمان بن خلف الباجي، وأبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد الجد، وحفيده كذلك، فالجد هو مؤلف المقدمات الممهدات، ومؤلف البيان والتحصيل، والحفيد هو مؤلف بداية المجتهد ونهاية المقتصد، وغيرهم من كبار الأئمة.

    الكتب الجامعة لآراء مدارس المذهب المالكي

    أما الكتب الجامعة لآراء هذه المدارس التي تعتبر مرجعاً للمذهب فيما بعد، فمن أقدمها: كتاب التفريع لـابن الجلاب، ثم كتاب ابن شاس أو ابن شأس، بالهمزة أو بدونها: وشأس من أعلام العرب المعروفة، ويجوز بالتسكين يقال: شأس.

    ثم مختصر ابن الحاجب الذي سماه: جامع الأمهات، وقد وضع الله القبول على مختصر ابن الحاجب، فخدم خدمة عظيمة، واشتهر من شروحه ثمانية عشر شرحاً، منها: التوضيح لـخليل بن إسحاق بن موسى الجندي، وشرح ابن عبد السلام التونسي، وشرح ابن هارون التونسي كذلك، وشرح ابن راشد القفصي -وقفص مدينة من تونس- وغيرها من الشروح.

    ثم كتاب المستخرجة لـمحمد العتبي، وقد جمع فيه الروايات عن مالك من غير طريق المدونة، على طريقة أهل الحديث في الاستخراج، وقد اشتهر هذا الكتاب حتى كان نداً للمدونة, حيث يقول الإمام ابن رشد في حضه على حضور مجالس أهل العلم والقضاء، يقول: عندما وليت القضاء عرضت عليَّ أول مسألة فلم أدرِ ما أقول فيها، وأنا يومئذٍ أحفظ المدونة والمستخرجة حفظاً متقناً، لولا مشورة أبي سعيد بن لب كان قاضياً مفتياً قد سبقه, فلولا عمله السابق وحضوره لمجالس القضاء لما عرف كيف يقضي، مع أنه يحفظ المدونة والعتبية حفظاً محكماً، وقد ألف أبو الوليد بن رشد الكبير: البيان والتحصيل بشرح العتبية؛ شرح المستخرجة هذه، فخدمها فيه خدمة عظيمة.

    وكذلك من أمهات كتب المالكية: الجامع لـابن يونس الصقلي، فقد حاول فيه أن يجمع أدلة المالكية، وكان كثير من طلبة العلم يلقبونه بمصحف المذهب؛ لجمعه للأدلة من الآيات والأحاديث، فكل آية اعتمد بها مالك أو كل حديث اعتمد عليه يأتي به، ويأتي بالفرع الواحد في بعض الأحيان بسبعة أدلة.

    وكذلك التبصرة لـلخمي، وإن كان اللخمي قد خالف بعض من سبقه في كثير من الفروع حتى كان الناس يضربون به المثل، فقال فيه أحد الشعراء:

    لقد مزقت قلبي سهام جفونها كما مزق اللخمي مذهب مالك

    وكذلك كتب الإمام المازري، ومن أهمها: شرح التلقين للقاضي عبد الوهاب، والرسالة لـأبي محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني، وقد وضع الله عليها قبولاً عظيماً، فشروحها الآن أكثر من ثلاثمائة شرح، ومضت قرون في كل سنة يظهر لها شرح جديد، ومن أشهر شروحها الآن: شرح العلامة أحمد زروق البرنسي، وشرح ابن ناجي، وهما مطبوعان في مجلد واحد، وشرح أبي الحسن الصغير، وشرح التتائي، وشرح القاضي عبد الوهاب، وشروح أخرى.

    مختصر خليل وأهم شروحاته ومنظوماته

    ثم جاء خليل بن إسحاق بن موسى الجندي، فألف مختصره الجامع الذي وفق فيه لنوع من الاختصار عجيب، فجمع فيه كل هذه الكتب السابقة تقريباً، ففيه مائة وعشرون ألف مسألة فقهية، وقد قال فيه ابن القيم رحمه الله: (لم تزل ألطاف الله بالمالكية تتوالى حتى أخرج لهم شاباً جمع لهم مذهبهم، في أوراق يتأبطها الرجل ويخرج). يتأبطها الرجل أي: يجعلها تحت إبطه ويخرج، وهو عمدة المذهب اليوم، ويحفظه الناس كما يحفظون القرآن، وقد خدم بأنواع الخدمة، وعليه أكثر من ثمانين شرحاً، من أشهرها: شرح بهرام، وهو ابن أخت خليل، ثم شرح المواق المسمى بالتاج والإكليل، وشرح الحطاب المسمى بمواهب الجليل، وشرح عبد الباقي بن يوسف الزرقاني، الذي كثرت عليه الحواشي، ومنها حاشية البناني، وهي مطبوعة معه، وحاشية الرهوني، وحاشية كنون، وهما مطبوعتان مستقلتان، ثم شرح الخرشي، وعليه حاشية العدوي، ثم الشرح الكبير للدردير، وعليه حاشية الدسوقي، وغيرها من الشروح الكثير.

    ومن كتب المذهب المفيدة كذلك: الكافي في فقه أهل المدينة لـأبي عمر بن عبد البر.

    ومختصر خليل كثرت منظوماته التي نظمها، ومن أشهرها: منظومة الشيخ محمد المامي الشنقيطي، في عشرة آلاف بيت، لكنها صعبة المنال، ويصعب فهمها؛ لأنه أراد أن تكون مثل الكتاب أي: مثل مختصر خليل، فلذلك يقول في نهايتها:

    وتم عرضه على الأعيان كالعالم الأكدبج الرباني

    أنخت عنده بتيلماس بالصيف والجمل ذو أخماس

    فمر بالإصبع في يومين على جميع النظم مرتين

    وقال لا عيب به للمشتهي غير اختصاص سره بالمنتهي

    قلت من أصله حوى ذاك الشمم ومن يشابه أبه فما ظلم

    ومنها منظومة الشيخ محمد سالم، وهي دون عشرين ألف بيت، أراد بها التوضيح والإظهار، ومنها كذلك كفاف المبتدي من فني العادات والتعبد، للعلامة محمد مولود بن أحمد فال، ولم يرد به نظم المختصر كاملاً، وإنما نظم الأحكام المتعلقة بأهل البادية منه، وأضاف إليها كثيراً مما ليس في المختصر، وهذا النظم يجمع كذلك غريب اللغات إلى المسائل الفقهية، فينظم المسائل الفقهية بالألفاظ العربية المتوحشة؛ ليتعلم الطالب اللغة والفقه في وقت واحد، وهو ثلاثة آلاف وسبعمائة وخمسة وعشرون بيتاً.

    يقول:

    ومن عليه شنق قد ذابا شحطها فمشرت آرابا

    على السباهل فأشهبيه إجزاءها على مالك يرويه

    وهكذا, يأتي بألفاظ صعبة، حتى الألفاظ النادرة في التفسير يأتي بها أيضاً ليربط الإنسان بكتب التفسير، فيأتي مثلاً في الحيض يقول:

    دم جرى بنفسه من شكر من تحمل عادة

    فيأتي بلفظ (الشكر) ولفظ (الإعصار) -وأعصرت معناه: حاضت- ولفظ الإكبار أيضاً: إن أكبرت، وهذا يربط الإنسان بكتب التفسير، فإن بعضهم يفسر قوله: فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ [يوسف:31]، أن أصلها (أكبرن) أي: حضن، والإكبار في اللغة تطلق على الحيض، وهذا النوع كثير في الكفاف وغيرها من المنظومات كثير.

    1.   

    الأسئلة

    طرق إفتاء المفتي غيره

    السؤال: المفتي إذا استفتي ماذا يلزمه؟

    الجواب: إن للناس في ذلك ثلاث طرائق:

    الطريقة الأولى: إذا كان السائل من أهل العلم، فإن على المفتي أن يبين له ما في المسألة من أقوال, وأدلة كل قول، ثم يترك الترجيح إلى المستفتي، وإن كان ليس من أهل العلم القادرين على الاستنباط فيبين له ثم يرجح له القول الذي يراه راجحاً، وهذه الطريقة هي الطريقة العلمية للإفتاء؛ لأنها تجعل المستفتي لا يتحجر، فإذا رأى أن مذهباً من المذاهب أصلح له وأن دليله أقوى يمكن أن يأخذ به، ويعرف ما فيه خلاف من المسائل, وما ليس فيه خلاف.

    الطريقة الثانية: أن يفتيه على مقتضى مذهبه، فالمفتي والمستفتي كلاهما في الغالب ذوو مذهب، فيفتيه على حسب مذهبه، ويبين له الراجح في ذلك المذهب، فإن كان في المذهب خلاف بينه، وذكر أدلته، ثم يبين له الراجح في المذهب، أو يكل إليه الترجيح إن كان من أهل العلم.

    الطريقة الثالثة: أن يبين له ما ترجح لدى المفتي فقط؛ ليعطيه حكماً جاهزاً بحسب ما يترجح لديه فقط، وهذه الطريقة تسمى الطريقة القضائية أي: أنه بمثابة حاكم يحكم في المسألة، وهذه لا تصلح لأهل العلم, وإنما تصلح للعوام البعيدين جداً عن العلم؛ لأن أحدهم سيظن أن دين الله محصور في فتوى ذلك المفتي، فإذا رأى من يخالفه جعله من الآتين بالطوام، ورماه بكبريات الأمور، وهذا يؤدي إلى التعصب والنفرة، واحتكار الحق، وهي طريقة مقيتة لا ينبغي أن تسود في الناس، لكن مع الأسف أصبحت هي السائدة في زمان المتأخرين.

    توجيه حول الدعوة إلى ترك المذهبية

    السؤال: كثير من الناس يدعون إلى ترك المذهبية، ويقول: إن من العلماء أصحاب المذاهب أخذوا من الكتاب والسنة، فلماذا لا يرجع جميع الناس إليها؟

    الجواب: هذه الفكرة متعذرة ومتعسرة في زمان المتأخرين؛ لأن الكتاب والسنة لا يغطيان كل المسائل وكل ما يتجدد من الوقائع والنوازل بالصريح، بل المساحة المعطاة بالوحي من عمل المكلف والمجتهد قليلة جداً، لا تصل إلى (10%) من عمل المكلف، وإنما يغطى سائر أعمال المكلفين من الاجتهاد والاستنباط، والاجتهاد والاستنباط لا شك أنهما غير محصورين في أهل زمان، ولا في أهل مكان، ولكن القواعد التي يتعامل بها مع النصوص محصورة بالعقل، فلا يمكن أن يأتي اليوم إنسان -ولو بلغ رتبة السابقين في العلم- فيقول: سآتي بقول جديد في دلالة العام، أو في دلالة المطلق، أو في الترجيح، لا يمكن أن يأتي بشيء؛ لأن كل الاحتمالات العقلية قد حصلها السابقون، لكن يمكنه فقط التلفيق, وهذا الذي بقي للمتأخرين.

    والتلفيق لا حرج فيه؛ أي: أن يأخذ من هذا المذهب بالقاعدة الفلانية، ومن هذا بالقاعدة الفلانية، لكن لن يخرج في الغالب في الأمور العقلية عما حصروه، والمحصور عقلاً لا يمكن أن يقع فيها تجديد.

    والمذاهب ليست هي خارجة عن الكتاب والسنة، بل هي إنما تغطي المساحة التي لا تغطى بالوحي، لأن ما غطي بالوحي -كما ذكرنا- لا يدخل في تعريف الفقه أصلاً، فالفقه إنما هو الأمور التي ليس فيها نص، وإنما هي اجتهادات للرجال، وهذه بالضرورة لابد أن تقع فيها مذاهب، لكن تلك المذاهب ليس مذهب منها إجبارياً على أي إنسان، إنما إذا كان الإنسان طالباً للعلم فعليه أن يختار منها الراجح؛ لأن العمل بالراجح واجب لا راجح، يبحث عما ترجح لديه هو، ويعلم أن ترجحه لديه ليس مقتضياً لترجحه لدى كل الناس، فمجرد ترجح القول لديك أنت يقتضي زيادة أنصار هذ القول بصوت واحد.

    وفي المقابل يمكن أن تجد الأقوال أخرى أصواتاً أخرى كثيرة.

    كذلك إذا كان غير صالح لهذه المرحلة، ولم يكن طالباً للعلم أصلاً، فإن هذه المذاهب فسحة منجية له، كما قال الشعراني: إن للشريعة سورين: أحدهما: سور العزيمة، والثاني: سور الرخصة. والمذاهب بين هذين السورين، فإذا وجدت مذهباً يشدد في مسألة فاعلم أنه اقترب إلى سور العزيمة، وإذا وجدت مذهباً يسهل فيها فاعلم أنه اقترب إلى سور الرخصة، وانظر إلى نفسك: هل أنت من المترخصين، أو من أصحاب العزائم.

    فإذا كانت معذوراً بعذر، أو صاحب ضعف، فاذهب مع الذين ذهبوا إلى الرخصة، وإن كنت صاحب قوة ونعمة، فاذهب إلى الذين ذهبوا إلى العزيمة.

    عمل المستفتي إذا تعارضت عليه الفتاوى

    السؤال: هذه مسألة أصولية يسأل عنها، وهي: إذا تعارضت الفتاوى على المستفتي فبأي الفتوتين يعمل؟ أبذات التشديد أم بذات التخفيف؟

    الجواب: هذه المسألة محل خلاف بين الأصوليين، فمنهم من قال: لا يحل له أصلاً إذا أفتي بثبت فاقتنع بصدق المفتي، وأن هذا الذي أداه إليه اجتهاده؛ لا يحل له أن يستفتي آخر لئلا يقع في التعارض، فإن فعل أو لم يقتنع بفتوى الأول فأفتي بفتوى مخالفة لها، فحينئذٍ يكون كمن تعارض عليه نصان، فيسعى أولاً للجمع ثم للترجيح، والترجيح إما بالدليل, وإما بفتوى شخص آخر أي: يسأل ثالثاً ليرجح له منهما، فإن لم يجد ذلك وتعذر عليه، فقيل: يأخذ بالأشد؛ لأنه الاحتياط للدين، وقيل: يأخذ بالأسهل؛ لقول الله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]؛ ولأن هذه الديانة هي التي وصفها بها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة ).

    مفهوم تبني الدول لمذهب فقهي معين

    السؤال: [ما معنى تبني الدول لمذهب معين؟]

    الجواب: بالنسبة لتبني دولة من الدول لمذهب معين ليس معناه: أن عمل الناس سيكون موافقاً لذلك المذهب، بل المقصود: أن القضاء سيكون على وفقه، والإفتاء العام في الأمور العامة سيكون على وفقه، أما الأفراد فيعملون على مقتضى ما ترجح لديهم، ولا يحل لهم ترك الراجح؛ لأن الدولة تبنت مذهباً من المذاهب، ولم يقع هذا في أي عصر من العصور الماضية، ففي أيام بني العباس عندما أخذوا مذهب أبي حنيفة في القضاء ليس معناه: أن الناس تركوا مذاهبهم وذهبوا إلى مذهب أبي يوسف، وكذلك في دولة العثمانيين التي اعتمدت المذهب الحنفي ليس معناه: أنها فرضت المذهب الحنفي على الناس في سلوكياتهم وأعمالهم، بل فقط فيما يقضي به القاضي. فهذا هو المقصود، ولو خالف ذلك القاضي باجتهاد وعمل بما ترجح لديه فحكم به؛ فإن كان قد التزم ألا يحكم إلا بمقتضى المذهب الفلاني في أصل توليته فيعتبر معزولاً عن ذلك إلا إذا رضي به الخصمان، فيكون كالمحكم، ومع هذا فإن حكم به فإن حكمه نافذ؛ لأنه يرفع الخلاف.

    دعوة التنكر للمذاهب الفقهية

    السؤال: [هل دعوة التنكر للمذاهب الفقهية كانت موجودة في العصور السابقة؟]

    الجواب: بالنسبة للدعوة اللامذهبية أو دعوة التنكر للمذاهب فهذه محدثة, ولم تكن في العصور السابقة، فلم ينكر أحد من الذين عاصروا اتباع التابعين عندما قامت المذاهب وجود المذاهب، فلم ينكر ذلك أي أحد من علماء المسلمين، ولا يمكن إنكاره أصلاً؛ لأن الله جعل من الأمة أقواماً لا يستطيعون التفهم في الدليل مباشرة، ولا يستطيعون الجمع بين الأدلة المتعارضة، ولا يميزون بين الناسخ والمنسوخ، فهؤلاء لابد أن يرجعوا إلى أهل الذكر كما قال الله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، ورجوعهم إلى أهل الذكر هو السؤال عن مذهبهم؛ لأن المذهب معناه: طريقة في التعامل مع النصوص يسلكها المجتهد الذي هو أهل لذلك.

    وبالنسبة لما نسمعه اليوم من الثورة على المذاهب، وإذا سئل أحد طلبة العلم أو أنصاف المتعلمين عن مذهبه قال: أنا مذهبي الكتاب والسنة ولا أعترف بمذاهب. هذه بمثابة آراء الخوارج التي كانت في الزمان الأول، وإذا كان الخوارج لا ينكرون التمذهب فهؤلاء زادوا عليهم في الخروج، فخرجوا أكثر من خروج الخوارج، ولذلك فالبديل عن هذا إذا سئل لا يمكن أن يجده؛ لأنه لا يستطيع استنباط أحكام الوضوء، ولا أحكام غسل الجنابة ولا غيرها من النصوص مباشرة، ولا يعرف الفرق بين العام والخاص، والمطلق والمقيد، ولو سئل عن ذلك لما استطاع أن يميزه، ومع هذا فإن كثيراً من هؤلاء الذين يدعون هذه الدعوى لا يمسكون ألسنتهم، فأي فرع سئلوا عنه لابد أن يفتوا فيه بوجهة نظر قد تكون أبعد شيء عن الحق ومعارضة للنصوص، وقد تكون من أسوأ ما يكون من الفهم في النصوص.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767426413