بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن مهمة الإنسان في الأرض هي إعلاء كلمة الله وإظهار دينه؛ فهذه المهمة هي التي من أجلها أهبط أبونا آدم إلى هذه الأرض، وهي الاستخلاف فيها، ولا يمكن أن يكون الإنسان خليفة في الأرض إلا إذا سعى لتحقيق العبودية لله فيها؛ لأنها الحكمة التي من أجلها خلق؛ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ المَتِينُ[الذاريات:56-58].
إن تحقيق العبودية لله عز وجل لا يمكن أن يتم إلا وفق الإستراتيجية الإسلامية، التي تقوم على سبع مراحل:
المرحلة الأولى هي: إيجاد الفرد المسلم. وهذه المرحلة المقصود بها أن يكون كل فرد في ذاته محققاً لما أريد منه شرعاً، بأن يتعلم ما أمر الله بتعلمه، وأن يطبق ما علم مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم اجتناباً وامتثالاً حتى يكون لبنة صالحة للبناء، وهذه المرحلة الأولى عليها يبنى ما سواها؛ فلو صلحت الدول، واستقامت الجيوش، واستقام الاقتصاد وبقي الأفراد على ضلالهم وفسادهم؛ كان البناء مغشوشاً باطلاً من أساسه؛ لأنه بني على شفا جرف هار.
فلذلك لابد أن يصلح الأفراد أولاً وأن يستقيموا على وفق ما أراد الله ورسوله، ولا يمكن أن يتم هذا إلا بتعلم ما أمر الله بتعلمه، والعمل بما تعلموه، والدعوة إليه، والصبر على سبيله.
المرحلة الثانية من الإستراتيجية الإسلامية هي: بناء الأسرة المسلمة، والمقصود بذلك أول محضن بشري يضم اثنين فأكثر من البشر، يتفقان ويتعاونان على إقامة بيت يحقق العبودية لله في الأرض اجتناباً وامتثالاً، وأدباً وأخلاقاً، يبنى هذا البيت على أساس الاعتقاد الصحيح، والعمل السليم الموافق لما شرع الله، فإذا كان الفردان في أنفسهما صالحين مسلمين ملتزمين، ثم اتفقا على بناء بيت مسلم، وربيا أولادهما على وفق ذلك؛ كان ذلك البيت لبنة ثانية وضعت في ترتيب بناء هذا البناء الإسلامي الشامخ.
المرحلة الثالثة من هذه الإستراتيجية هي: إقامة المجتمع الإسلامي، أي: أن يتعاون عدد من الأسر التي بنيت على أساس إسلامي حتى يحققوا فيما بينهم أحكام الله الجماعية التي تتعلق بالمجتمع، من أحكام التعاون على البر والتقوى، وعدم التعاون على الإثم والعدوان، ومن إقامة دين الله وإظهاره، ومن آداء حقوق الجوار، وغير ذلك من الأحكام الجماعية الراجعة إلى المجتمع.
المرحلة الرابعة من هذه الإستراتيجية هي: إقامة الجماعة المسلمة، بعد أن يتحقق الإسلام في نفوس الأفراد وفي الأسر وفي المجتمع يحتاج المجتمع إلى جماعة تقوده إلى الحق، وتخطط له، وتربأ به عن سفاسف الأمور، وتسعى لإصلاح أوجه الفساد فيه، ولتقويم الخطأ وإرشاد من ضل عن سواء الطريق، ولهداية الناس إلى ما يرتضيه منهم فاطر السموات والأرض، ولإقامة الحجة على من غوى وبغى في الأرض، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بجماعة تؤثر مصلحة الدين على مصلحة الدنيا، وتقدم أمور الدين على أمور الدنيا.
فإذا قامت هذه الجماعة احتيج إلى المرحلة الخامسة من مراحل الإستراتيجية، وهي: إقامة الدولة الإسلامية، التي ترعى حدود الله، ويكون القائم على رأسها نائباً عن صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم في إقامة الدين وسياسة الدنيا بالدين، ورعاية المصالح العامة؛ فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وتكون هذه الدولة كذلك دولة رحمة وعافية، تسعى لتحقيق مصالح الناس؛ فيعلم رأسها أنه خادم أجير لدى أفرادها، ومن أجل ذلك لا يتكبر ولا يطغى، ولا يبغي على أحد منهم، بل يتمثل قول علي رضي الله عنه: (ما أنا إلا أحدكم، لكني أثقلكم حملاً).
المرحلة السادسة من هذه المراحل، وهي: توحيد المسلمين تحت لواء "لا إله إلا الله محمد رسول الله" بعد أن تقوم دولة للإسلام في صقع من أصقاع الأرض ترعى حدوده، وترعى المستضعفين من المسلمين فلا بد أن تعتني بشئون الأمة كلها، وأن تحاول جمع كلمة الأمة بعد تفرقتها، وأن تجمع قلوب المسلمين على الحق، ولا يتم ذلك إلا برعاية أطراف الأمة الإسلامية؛ فهي أمة واحدة، الذي خلقها وفطرها وأرشدها للإسلام جعلها أمة واحدة، وكل التجزئات والتقطيعات التي حصلت هي من كيد أعدائها ولا تمت لدينها بصلة، بل الدين لا يقرها أصلاً، والمعدوم شرعاً كالمعدوم حساً؛ فلذلك كل تجزئة وتقطيع سواء قام على أساس جغرافي أو على أساس عرقي أو على أساس الألوان والأنساب أو على أساس اللغات، أو على أساس المصالح فإن الشرع لا يقره، ويعتبره باطلاً معدوماً؛ لأن المعدوم شرعاً كالمعدوم حساً.
المرحلة الأخيرة من مراحل هذه الإستراتيجية هي المرحلة السابعة، وهي: أستاذية العالم، أي: أن تكون دولة الإسلام الموحدة للمسلمين تتبوأ مكانها في قيادة الأمم؛ فهي التي تقود أهل الأرض إلى مرضاة الله، وحينئذ سيكون الناس على فسطاطين: أمة الإجابة، وأمة الدعوة، فأمة الإجابة: هي التي استجابت لداعي الله عز وجل، ورضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً، وانقادت لأحكام الحق. وأمة الدعوة: هي التي تدعى إلى الاستقامة على ذلك والاستجابة له، فمن رضي منها بذلك كان له ما للمسلمين، ومن امتنع عرض عليه أحد أمرين: إما أن يؤدي الجزية صاغراً، وإما حد السيف، ولا يمكن هذا إلا في آخر المراحل، فبعد أن تتم كل المراحل السابقة تتم بعد ذلك إقامة الحجة على الناس.
وهذه المراحل السبع من سعى في واحدة منها كان ساعياً لإعلاء كلمة الله وإعزاز دينه، واعتبر بذلك مجاهداً في سبيل الله حتى لو لم يحقق إلا المرحلة الأولى وهي: إيجاد الفرد المسلم، أو المرحلة الثانية وهي: إيجاد الأسرة المسلمة، أو المرحلة الثالثة، وهي: إيجاد المجتمع المسلم، أو المرحلة الرابعة، وهي: إيجاد الجماعة المسلمة، أو الخامسة، وهي: إيجاد دولة الإسلام، أو السادسة، وهي: توحيد المسلمين تحت لواء "لا إله إلا الله" أو السابعة، وهي: قيادة العالم إلى مرضاة الله.
إن المسلم إذا عرف دوره في هذه الحياة، وأهمية المهمة التي أنيطت به، وشرفها على الله عز وجل علم أنه لا يمكن أن يعيش سدى، ولا يمكن أن يكون فارغاً ليس له عمل ولا نشاط يقوم به في هذه الأرض، بل لا بد أن يكون ساعياً من أجل إعلاء كلمة الله وإعزاز دينه، حسب جهده أو طاقته، فإن لم يستطع إلا بناء نفسه وإصلاحها كان ذلك سعياً للإصلاح في الأرض؛ لأن إصلاح الفرد هو الذي يبنى عليه غيره، وإن تعدى ذلك وتجاوزه، فالمرحلة الثانية هي جهاده في ذلك الوقت، وهي إقامة أسرة مسلمة ترعى حدود الله وتقوم في الأرض، لا بنازع الهوى واتباع الشهوات، وإنما تقوم على أساس الاستجابة لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال: ( يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج؛ فإن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء )، وكذلك أخرج أحمد في المسند و أبو داود في السنن بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( تزوجوا الولود الودود؛ فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة )، وفي رواية: ( فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة )، وهذا يقتضي أن من سعى لذلك فقد طبق ما أمره به النبي صلى الله عليه وسلم، وسعى لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم وزيادة أتباعه؛ فلهذا لم يرض الشارع منا أن نكون كالبهائم التي تسعى في الأرض لتحقيق رغباتها واتباع شهواتها، بل لا يرضى بهذا عاقل، إنما علينا أن ننطلق مما شرع الله لنا وبين لنا رسوله صلى الله عليه وسلم.
إن على الفرد الذي يستطيع إقامة أسرة أن يحاول إقامة أسرة إسلامية.
ويتم ذلك أولاً بمراعاة أسس الاختيار، وقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل وبينها في المرأة؛ فقال في الرجل: ( إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، وإلا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير )؛ فالمعيار في الرجل أن يكون ذا دين وذا خلق، فالدين يحجبه عن الظلم، ويحجبه كذلك عما حرم الله عليه، ويؤدي به مهمته؛ فلا يقدم على أمر لا يستطيعه، ولا يتكلف ما لا يطيق، والخلق يقتضي منه كذلك إحسان المعاملة والمعاشرة حتى يستمر البيت على أساس خلقه هو؛ فيعرف وقت الصبر فيستعمل الصبر فيه، ويعرف وقت التأديب فيستعمل التأديب فيه، فإذا كان الإنسان لا يعرف وقتاً للصبر؛ فإنه سيصادف وقت ضعف أو وقت شدة من الجهة الأخرى؛ فلا يستقيم التأديب في ذلك الوقت؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: ( واستوصوا بالنساء خيراً؛ فإنهن عوان لديكم، وإن المرأة خلقت من ضلع أعوج، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه؛ فإن ذهبت تقيمها انكسرت، وإن استمتعت بها استمتعت بها على عوج )، فلذلك لا بد أن يدرك الرجل مسئوليته؛ فهو الذي جعلت القوامة بيده وشرف بهذا التشريف، والتشريف على قدره يكون التكليف، ولذلك قال الله تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ[النساء:34]؛ فلهذا لا بد أن ينظر في الرجل إلى هذه الصفات.
لقد بين النبي صلى الله عليه وسلم المعايير في المرأة فقال: ( تنكح المرأة لأربع: لجمالها ولمالها ولحسبها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك )، فهذه المعايير هي التي اعتاد الناس على طلبها في المرأة للنكاح، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها جميعاً معتبرة، ولكن أولاها وأقواها الذي إذا عارضه ما سواه فلا عبرة بالمعارض له، وإذا اجتمع مع غيره كان الشرف له لا لما سواه هو الدين؛ لأنه الذي يبقى، أما ما سواه؛ فأولاً المال والجمال كلاهما زائل مع العمر، ومع الاستمرار في هذه الحياة لا بد أن يتغير كل شيء؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( كان حقاً على الله ألا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه )، فكل حسن في هذه الدنيا فمآله إلى القبح، وكل غنىً فيها فمآله إلى الفقر؛ ولهذا قال حسان بن ثابت رضي الله عنه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم:
منع النوم بالعشاء الهموم وخيال إذا تغور النجوم
من حبيب أصاب قلبك منه سقم فهو داخل مكتوم
لم تفتها شمس النهار بشيء غير أن الشباب ليس يدوم
فكل ما في هذه الدنيا مما يعجبك فمآله إلى الزوال.
كل شيء مصيره للزوال غير ربي وصالح الأعمال
كذلك الحسب؛ فكم من إنسان ذي حسب خالف هو ما كان عليه آباؤه من الشرف؛ فكان انتسابه إلى آبائه مسبة له؛ لأنه لم يحقق ما حققوه من الدين والخلق، فكان انتسابه لهم مذمة عليه؛ ولذلك قال الشيخ محمد المامي رحمه الله عندما ذكر بعض أسلافنا الذين فتحوا هذه البلاد، قال:
وعابونا بها فمتى نزلنا سوى زحل عددنا عابثين
(وعابونا بها) أي: بصفاتهم وجهادهم؛ فكانت عيباً علينا نحن؛ (فمتى نزلنا سوى زحل عددنا عابثين) فكان ذلك عيباً علينا.
ثم بعد هذا فإن الدين هو الذي يستمر، وهو الذي يقتضي حصول الثقة، وكل عمل جماعي فإن مبناه على حصول الثقة، وإذا لم تحصل الثقة بين الاثنين لا يمكن أن يبنيا بيتاً؛ لأنه ستبقى الاتهامات بينهما سائرة محطمة لكل ما يحصل من أنواع الإحسان؛ فإذا كانت المرأة لا تثق بزوجها فإنها ستعامله بما بين النبي صلى الله عليه وسلم من صفات المرأة التي تكفر العشير: ( لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئاً؛ قالت: ما رأيت منك خيراً قط! )؛ وذلك لنقص الثقة، وكذلك إذا كان الرجل لا يثق بامرأته؛ فلا يمكن أن يكلها إلى نفسها ولا أن يكل إليها أي أمر، وستبقى العلاقة بينهما متوترة دائماً، وأساس الثقة هو الدين، فمن كانت معاملته مع الله حسنة وكان يخاف الله عز وجل ويخشاه فهو محل لأن يوثق به، أما من أساء المعاملة مع من أحسن إليه، مع أرحم الراحمين، الذي تفضل عليه بأنواع النعم فلا يمكن أن تثق أنت أنه سيحسن المعاملة معك، إذا أساء معاملته مع ربه كيف يحسن معاملته مع الآخرين؟! فلذلك لا يوثق بكل من ليس لديه دين، فالدين هو أساس الثقة؛ ولهذا قال: ( فاظفر بذات الدين تربت يداك )، إذا وجدت المعايير مجتمعة فبها ونعمت، وإن لم تجدها فمل إلى معيار الدين، فإذا حصل معه أي معيار آخر فبها ونعمت وإن لم يحصل إلا هو وحده فهو كاف شاف؛ لأنه مدعاة لحصول الثقة واستمرار العلاقة.
ومع هذا فلم يلغ الشارع الاعتبارات والمعايير الأخرى، بل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في عدد من الأحاديث إرشاده لمن أراد الزواج أن ينظر إلى المرأة التي يريد أن يتزوجها؛ ففي حديث جابر أنه: أمره أن ينظر إليها، وفي حديث أبي هريرة في صحيح مسلم أنه: ( أتاه رجل فأخبره أنه خطب امرأة من الأنصار، قال: أنظرت إليها؟ قال: لا، قال: فاذهب فانظر إليها؛ فإن في عيون الأنصار شيئاً )، وكذلك: أمر النبي صلى الله عليه وسلم من أراد أن يتزوج امرأة أن ينظر إليها فإنه أقمن أن يؤدم بينهما، أي: أن تدوم العلاقة بينهما؛ وهذا يقتضي عدم إلغاء المعايير الأخرى غير معيار الدين.
كذلك فإن معيار التقارب في العمر، والتقارب في نمط العيش، والتقارب كذلك في الاهتمامات من المعايير المهمة الزائدة، فمن كان الدين أكبر همه وكان اهتمامه في أمور الدين؛ فإنه لن يخالف من كان الدين كذلك أكبر همه ومبتغاه في هذه الحياة، فإذا كان الرجل محباً لإعلاء كلمة الله، ساعياً لإعزاز دينه فوجد امرأة كذلك اهتماها بهذا القبيل؛ فلن يختلفا على أساس أمور الدنيا التافهة، بل سترضى هي منه بما رضيت به أم سليم بنت ملحان من أبي طلحة الأنصاري عندما رضيت منه بأن يسلم ويكون فارس الإسلام؛ فجعلت ذلك صداقها، وقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأن صوته في الجيش خير من فئة أو من مائة في الرواية الأخرى.
وكذلك: المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم؛ ( فصعد فيها النظر وخفضه ثم صرف عنها بصره حتى عرفت أنه لا يريدها فجلست، فقال رجل: ملكنيها يا رسول الله.. أو زوجنيها يا رسول الله! فقال: هل عندك شيء؟ قال: لا، فقال: اذهب إلى أهلك، فانظر هل تجد شيئاً، فرجع فقال: لا، لم أجد، فقال: التمس ولو خاتماً من حديد؛ فالتمس، ثم رجع فقال: لم أجد شيئاً، وهذا إزاري تأخذ نصفه، قال: وما تفعل بإزارك إن لبسته لم يبق لها منه شيء، وإن لبسته لم يبق عليك منه شيء؟! ثم سأله حين أدبر مولياً.. )، أي: رجع إلى أهله عندما أيس وقنط، قال له: ( هل معك شيء من كتاب الله؟ قال: نعم، سورة البقرة والتي تليها، فقال: زوجتكها بما معك من القرآن )، وفي رواية في صحيح مسلم : ( علمها بعض ما معك من القرآن )؛ فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا الرجل لا يريد إلا إعلاء كلمة الله وإعزاز دينه وأن الدين أهم لديه مما سواه؛ ولذلك لا يجد في بيته حتى خاتماً من حديد، وهو راض مع هذا، لم ينشغل كما يحصل لكثير منا اليوم إذا فقد المال من جيبه لم يتعلق قلبه بالمسجد ولا بالعبادة، بل بحث عن مكان يجد فيه نقوداً، وكذلك عرف من حال هذه المرأة التي جاءت تهب نفسها دون أن تعلق على شرط، ودون أن تبحث عن الموضات وعن الأغنياء من الرجال، عرف النبي صلى الله عليه وسلم من حالهما أنهما يؤثران الدين على الدنيا؛ فزوجه إياها بما معه من القرآن أو على أن يعلمها بعض ما معه من القرآن.
فلذلك عندما يكون هذا الاتفاق في التوجه حاصلاً لدى الزوجين فإنه أهم من كل ما سواه، ولاحظوا أن اللواتي بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم كن يصبرن على أنواع الفقر وأنواع الجوع، لكنهن كن بذلك يساعدن على إعلاء كلمة الله وإعزاز دينه، وكذلك الحال في أمهات المؤمنين اللواتي خيرهن الله في كتابه، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعرض عليهن المتاع الدنيوي أو أن يخترن الله ورسوله؛ فبادرن جميعاً إلى اختيار الله ورسوله، وقد بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بـعائشة وكانت أحدثهن سناً؛ فقال: ( إني عارض عليك أمراً، فلا تستعجلي حتى تستشيري أبويك، فلما عرض عليها، قالت: أعلى مثل هذا أستأمر أبوي، لا والله لا أستأمرهما! بل أختار الله ورسوله )، فاقتدى بها أمهات المؤمنين جميعاً.
فإذا كان أهل البيت يؤثرون الله ورسوله والدار الآخرة فإن ذلك مدعاة لاستمرار العلاقة بينهما، أما إذا كان اهتمام الرجل إلى جهة، واهتمام المرأة إلى أخرى فيصدق فيهما قول عمر بن أبي ربيعة :
أيها المنكح الثريا سهيلاً عمرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استهلت وسهيل إذا استهل يماني
فلذلك لا بد من التقارب في الاهتمامات.
ومن هنا يعلم أن هذه المعايير كلها سابقة على الاختيار، فقبل أن يتخذ القرار لا بد أن تأتي معايير الاختيار وتطبق، فمن كان يظن أنه سيقلب ما كان عليه إنسان وما قد تعود عليه؛ فليعلم أن ذلك يحتاج منه إلى صبر وطول عناء، فإذا تزوجت المرأة رجلاً لا يوافقها في توجهها واهتماماتها، لكنها تظن أنها ستؤثر فيه وتقلب تفكيره، وتؤدبه بأدب غير أدبه السابق فلتعلم أن ذلك يحتاج منها إلى كثير من الصبر والعناء، وإذا تزوج الرجل امرأة لا توافقه كذلك في التوجه والاهتمام، وظن أنه سيغيرها ويؤدبها بأدب غير أدبها السابق فليعلم أن ذلك يحتاج إلى وقت وعناء، فليس الحال كتأديب السلاطين للناس، كما حصل للحجاج عندما دخل مسجد الكوفة وقد تعمم بعمامة غطى بها أكثر وجهه، وتقلد سيفاً وتنكب قوساً، وأخذ بيده رمحاً، فسكت طويلاً حتى قال ضابئ : (دعوني أحصبه لكم، قبح الله بني أمية يؤمرون على العراقين مثل هذا الأخرس). فلما سمع الحجاج مناجاة الناس في المسجد وقف على المنبر وخطب خطبته المشهورة، ثم قال: يا غلام! اقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين؛ ففك الغلام الكتاب وقرأ: (بسم الله الرحمن الرحيم.
من أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان إلى أهل الكوفة، السلام عليكم ورحمة الله.. ) فلم يجبه أحد، فقال الحجاج : "اسكت! لا أم لك" ثم نظر إلى أهل المسجد فقال: (هذا أدب ابن نهية والذي يحلف به الحجاج لأؤدبنكم أدباً غير هذا، ألا تردون على أمير المؤمنين السلام؟!..) ويقصد بــابن نهية زياد بن أبيه ، وكان أميراً على العراقين قبله، ثم قال: (يا غلام! أعد عليهم كتاب أمير المؤمنين، فقال الغلام: بسم الله الرحمن الرحيم.
من عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة، السلام عليكم ورحمة الله؛ فلم يبق أحد في المسجد إلا قال: وعلى أمير المؤمنين السلام ورحمة الله وبركاته).
إن هذا النوع من التأديب إنما هو في حق الأقوياء الذين بأيديهم السلطة، والنكاح مبناه في الأصل على التعاون، فليس هو عقد مماكسة ومكايسة كالبيع، وإنما هو عقد تعاون؛ ولذلك جعله الله ميثاقاً غليظاً، ورتب عليه كثيراً من الأحكام، وجعله لحمة كلحمة النسب، بل قد أخرج البيهقي في معرفة السنن والآثار: عن عثمان عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها قالت: (إن النكاح رق) والمقصود بذلك أنه يضع على الإنسان قيوداً لم تكن عليه، فيجعله يحتاج إلى المداراة، وإلى أن يعاشر إنساناً قد لا يتفق معه في توجهاته وشئونه، وقديماً قال أبو الطيب المتنبي :
ومن البلية عدل من لا يرعوي عن غيه وخطاب من لا يفهم
وكذلك قال أيضاً:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى عدواً له ما من صداقته بد
فلذلك على الإنسان أن يختار من يمكن أن يأتلف معه ويتفق؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فذلك أقمن أن يؤتدم بينكما ).
بعد الاختيار على الإنسان أن يصلح نيته وأن يخلصها لله عز وجل في طلب إقامة البيت المسلم الذي يرعى حدود الله ويتفق فيه على إقامة شعائر دينه، فيكون كل واحد منهما عوناً للآخر على طاعة الله؛ ولذلك أخرج مسلم في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( كان إذا رفأ رجلاً قال له: جمع الله بينكما بخير، ورزقكما من صالح الولد، وأعان كل واحد منكما على حقوق الآخر )، ومعنى: (إذا رفأ رجلاً) أي: هنأه بالزواج، يقول له: ( بارك الله لكل واحد منكما في صاحبه )؛ فهذا هو بداية الأمر، أن تقع البركة فيه فيرضى كل واحد منهما بما وجد؛ ولذلك فإن في حديث فاطمة بنت قيس القرشية رضي الله عنها وهي أخت الضحاك بن قيس ، وكانت امرأة جزلة من المهاجرات المبايعات، وكانت ذات منصب وجمال، فطلقها زوجها وكان رجلاً من بني مخزوم، وأرسل إليها كتاباً فيه طلاقها ألبتة وهو في اليمن، فأرسل إليها بأمداد من الشعير فسخطت ذلك؛ فقال ابن عمه الذي جاء بأمداد الشعير: ( والله ما لك علينا حق! فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسأله؛ فلما أتته أخبرته أنه بتها ثلاثاً؛ فقال: ما لك عليه نفقة، ثم قال لها: اعتدي في بيت ابن أم مكتوم ؛ فإنه رجل ضرير )، وأخبرها: ( أنها يمكن أن تنزع عنده خمارها؛ لأنه لا يراها )، وقال: ( لا تفوتينا بنفسك )، أمرها إذا حلت للرجال أن تخبره، ( فجاءت عندما انتهت عدتها؛ فسألها هل خطبها أحد؛ فأخبرته أن معاوية بن أبي سفيان و أبا الجهم خطباها؛ فقال: أما معاوية فصعلوك، لا يملك شيئاً، وأما أبو الجهم فإنه لا يضع عصاه عن عاتقه.. )، أي: أنه يضرب النساء، ( ولكن انكحي أسامة بن زيد )، وكان أسامة إذ ذاك شاباً صغيراً، فسخطته، أي: لم ترض أسامة في البداية، ثم عادت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: ( انكحي أسامة بن زيد ، فنكحته؛ فاغتبطتت به )، أي: حصل لها ما تطلب منه.
وهذا إذا قصد الإنسان وجه الله عز وجل وأخلص له؛ فإنه مدعاة لأن يبارك لكل واحد منهما في صاحبه، وإذا بورك له فيه رضي به وقنع، واغتبط به، فكفاه عن غيره.
كذلك فإن الاستمرار بينهما أيضاً يقتضي أن يطلبا الولد؛ ليكون اجتماعهما عوناً على تربيته، وليكون تكثيراً لأتباع النبي صلى الله عليه وسلم وأمته، وليكون أيضاً امتداداً في أعمارهما بعد الموت؛ فقد جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به، أو صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له )؛ فإذا نوى الإنسان حصول الولد الصالح الذي يدعو له بعد موته؛ كان عمل ذلك الولد من كسبه هو، وهكذا عمل أولاد ذلك الولد إلى أن ينتهوا؛ فيكون عملهم الصالح في ميزان حسناته، ولا يضره عملهم الطالح، ولا يعد عليه؛ لأنه ما طلب الولد للعمل الطالح، وإنما طلبه للعمل الصالح، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى )، وهذا ما بينه ابن الحاج في المدخل، ونظمه العلامة حبيب بن الزايد رحمه الله في قوله:
وجود الابن نعمة عظيمة من ربنا ليس لها من قيمة
إذ ما من الطاعات الابن يعمل لوالديه أجره قد يحصل
من غير أن ينقص أجر الابن ذا إذ هو من كسبهما فحبذا
وهكذا أولاد الأولاد إلى أن ينتهوا فطالعن المدخل
وأصله كما ذكرنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى )، وكذلك أنه عد الولد من العمل في قوله: ( أو ولد صالح يدعو له )؛ فعد النبي صلى الله عليه وسلم للولد من العمل يقتضي اشتراط النية فيه لأنه قال: ( إنما الأعمال بالنيات )، فإذا لم ينو الإنسان إلا تحقيق رغبته، وإشباع غريزته فكان من ذلك ولد لم يتحقق له أن يكون عمله الصالح في كفة حسناته؛ لأنه لم ينو ذلك، ( وإنما لكل امرئ ما نوى )، لكن إذا طلبه ونوى هذه النية حتى لو لم يكن له ولد فإنه يكتب له عمله على قدر نيته، فنية المؤمن أبلغ من عمله.
ولذلك أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الكثيب: ( أن رجلاً من بني إسرائيل مر على كثيب رمل أهيل فقال: وددت لو أن لي مثله سويقاً فأنفقه في سبيل الله، فلما مات عرضت عليه أعماله فإذا فيها كثيب أهيل من سويق، فقال: يا رب! من أين لي هذا وما رأته عيناي قط؟! قال: أتذكر يوم كذا إذ مررت على كثيب رمل أهيل فتمنيت أن لو كان لك مثله سويقاً فتنفقه في سبيل الله؟! فقد قبلته منك )، فالنية أبلغ من العمل.
ثم إن الإنسان كذلك إذا طلب إعلاء كلمة الله وإعزاز دينه بإيجاد البيت المسلم فإن الله قد تعهد له بالغنى حينئذ؛ لقول الله تعالى: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ[النور:32]؛ فهذا تعهد من الله عز وجل للذي تزوج يريد إعفاف نفسه، وإغناءها عما حرم الله عليه أن يغنيه الله عز وجل من فضله، والله تعالى لا يخلف الميعاد؛ ولذلك فإن أهل العلم ذكروا الزواج من أسباب الرزق، فأسباب الرزق تنقسم إلى قسمين:
أسباب كونية وأسباب شرعية. والأسباب الشرعية منها:
إقامة الصلاة؛ لقول الله تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى[طه:131-132].
ومنها كذلك: صلة الرحم، ( من سره أن ينسأ له في أثره، وأن يمد له في رزقه فليصل رحمه ).
ومنها الإحسان إلى ذوي الجوار؛ فهو سبب للتوسعة في الرزق.
ومنها النكاح؛ فإذا تزوج الإنسان ينوي بذلك الحصول على وعد الله عز وجل بإغنائه من فضله؛ فإنه بذلك تعرض لنفحات الله العاجلة، ووعده الذي لا يخلف.
ومنها الحج والعمرة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير صدأ الحديد ).
فلهذا كان بعض سلفنا الصالح إذا ضاق عليه معاشه طلب المعاش بالزواج، لأنه مؤمن بصدق وعد الله عز وجل الذي أخبر به في كتابه؛ فيتزوج فيرزقه الله عز وجل على ذلك الأساس، ومن ذلك ما حصل للذي كان يدرس بالمدينة في أيام سعيد بن المسيب ، فزوجه سعيد ابنته في القصة المشهورة، وأصدق عنه سعيد ، أي: دفع عنه الصداق من ماله، وجاء بابنته إليه، فجاءت تحمل مالها؛ فما أهدي لها من ميلادها حتى كانت امرأة كان سعيد يوفره لها؛ فجاءت تحمله معها حين زفت إلى الرجل، وقد كان خطبها الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين إذ ذاك، فلم يرد سعيد أن يزوجها له، ولكن زوجها من هذا الرجل الذي أعجبه حسن سمته، وحسن صلاته، وكان فقيراً لا يجد ما ينفقه، ولما عرض عليه سعيد أن يزوجه ابنته لم يستطع أن يجيبه لأنه يظن هذا أمراً مستحيلاً، فهي فتاة من قريش من بني مخزوم، أبوها سيد التابعين، وأمها فاطمة بنت أبي هريرة ، وقد خطبها أمير المؤمنين فرد عنها، فكانت حظه هو ونصيبه.
إن على الإنسان إذا أقدم على الزواج واختار قرينه وجاره، الجار الذي سيستمر جواره، فعليه أيضاً أن يكتسب من كسب حلال؛ ولذلك فإن علياً رضي الله عنه حين أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يزوجه فاطمة سيدة نساء العالمين أخذ ناقتين شارفين كانتا له، فخرج بهما يريد أن يأتي بشيء من الإذخر، من البوادي ليبيعه بالمدينة فيستعين بثمنه في صداق فاطمة ، فلما أناخهما وعقلهما دعاه رسول الله لأمر شغله به، وكانت الخمر يومئذ حلال؛ فشرب حمزة الخمر مع فتية من الأنصار، فغنت مغنية، وأمرت حمزة أن ينحر الناقتين فنحرهما، وأتى بذارهما وأكبادهما، فجاء علي فوجدهما قد نحرتا، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وحصلت فيه القصة المعروفة في الصحيح.
كذلك فإن الحلال لا يترتب عليه إلا ما هو خير، ويؤخذ ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به )، ففي المقابل: اللحم الذي نبت من حلال فالجنة أولى به، فإذا كان الإنسان قد سعى من الحلال فإن الكسب الذي من الحلال إذا طلب به الحلال لا يترتب عليه إلا ما هو خير له، ومن أجل هذا فإن الأولاد إذا اختير لهم في تربيتهم التغذية التي هي من حلال؛ كان ذلك أقمن لاستجابتهم للتربية الصحيحة، أما من تربى وهو صغير على الفطرة، تربى على الحرام، وكان معاشه من حرام، وملبسه من حرام؛ فإن أعماله قلما تكون صالحة، لأنه قد نشأ على الحرام من بداية عهده؛ ولذلك فإن أهل العلم قالوا: إن مما ينبغي اختياره في التربية: أن تختار التغذية الصحيحة لمرضعة الصبي؛ حتى لا تتغذى من حرام فيصل الحرام إلى جوف الصبي؛ فيفتق أمعاءه قبل أن يصل إليه الحلال؛ فإن الأمعاء إذا بدأت بالحرام تعودت عليه، وقالوا: من التربية كذلك أن يؤذن في أذن الصبي ويقام في أذنه الأخرى؛ ليسمع شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وليسمع التكبير أول ما يسمع؛ فيكون أول نطق يفتق عليه سمعه: الله أكبر.. الله أكبر، وهكذا.
ولذلك كانوا يعودون الصبيان في بداية النطق أن ينطقوا بأسماء الله عز وجل، وبالبسملة ونحو ذلك؛ ليتعودوا على الخير من بداية نشأتهم، وهذا ما ذكره أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني في مقدمة الرسالة، وذكر أن تعليمهم في صباهم بمثابة النقش في الحجر، وأن التعليم في الكبر بمثابة الرقم على الماء، أي: الكتابة على الماء.
ولذلك فإن أبا محمد الجويني رحمه الله، وكان من علماء الشافعية عندما أراد أن يتسبب في ولد يكون من علماء الأمة، ومن الذين يحفظون عليها أمور دينها اكتسب من كسب حلال حتى أحرز أربعمائة درهم من الحلال، ثم استبضعها مع أمين إلى بلاد القوقاز؛ ليشتري له أمة لم تتداولها الأيدي؛ لئلا يكون ذلك مدعاة لعتقها، فاشترى له أمة من السبي؛ فجاء بها فاستبرأها، وعلمها أمور دينها حتى استقامت عبادتها، ثم أعتقها؛ فتزوجها وأصدقها من كسب حلال، وأنفق عليها من كسب حلال، واستولدها حتى ولدت ولده عبد الملك أبا المعالي الجويني ، فلما ولد له حجبها عن النساء، وكان يمنعها أن تدخل عليها أية امرأة أو أن تدخل هي على أية امرأة؛ لئلا تفسد عليها شيئاً من أمور دينها أو من أمور خلقها، ولئلا تشارك في تربية الولد، فهو يريد أن يربيه بنفسه، فخرج في فناء البيت ذات يوم يصلي فأطال الصلاة، فرأى امرأة دخلت البيت فجأة؛ فتجوز في صلاته وسلم، وجاء يشتد عدواً فإذا المرأة ترضع الصبي؛ فانتزعه منها، يقول عبد الملك : فرفع رجلي وعصرني حتى قئت كل ما في بطني حتى ذهب عنه كل ما في بطنه.
فكانت بعد ذلك تأخذني كبوة عند المناظرة، وما أراها إلا من تلك المصة، أي: تخفى عليه الأدلة عند المناظرة في أحكام الدين، فكان يرى ذلك من تلك المصة.
إن الأسرة المسلمة عندما تبدأ تاريخها من الليلة الأولى للزفاف لا بد أن يقنع الطرفان أنهما قد أقدما على مشروع عظيم، يحتاج منهما إلى كثير من التفكير والتخطيط، ثم بعد ذلك يستأنفان حياتهما من دون تكلف؛ فقد أرشد الله رسوله صلى الله عليه وسلم وقال: وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ[ص:86]، فالتكلف مدعاة أرشد اله فقال:للتبذير، ومدعاة لطلب غير الحلال، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن نساء قريش أرضى النساء باليسير من النفقة؛ فقال: ( عليكم خير النساء صوالح نساء قريش )، وفي رواية: ( عليكم خير النساء ركبن الإبل صوالح نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده، وأرضاه بالقليل ).
وبين كذلك أن بركة النكاح في قلة المهر؛ ولهذا فإن مهور أمهات المؤمنين التي دفع النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن كثيرة، وكذلك مهور بناته صلى الله عليه وسلم، فذلك أدعى للبركة وأجلب لها.
كذلك الاحتياط من بداية البيت ألا يكون بيت فساد ولا مجون؛ فإن البيت إذا نشأ في ليلته الأولى بالفساد والمجون والاختلاط والغناء المحرم؛ فإنه بني على المعصية من بداية نشأته، ولن يستقيم أمره بعد ذلك، أما إذا تعوهد من بداية نشأته ومنع من ذلك؛ فإن ذلك مدعاة لاستقامته، ولهذا كان العلامة سيدي عبد الله بن الفاضل بن بارك الله رحمهم الله حريصاً على إقامة بيت يخلو مما كان يظهر في بلادنا هذه من ذلك النوع من الأمور المحرمة؛ فعندما تزوجت ابنة أخته، وهي مريم بنت محمود بن عبد الله بن بارك الله بن أحمد بازيد للبخاري بن أحمد بن حبيب الله حرص هو ألا يضرب طبل، وألا يجتمع الرجال والنساء، وقام بذلك بنفسه، وحرس هذه الأسرة من كل محرم؛ فاستقام أمرها؛ ولذلك قال الشيخ محمد المامي وكان من نتاج هذه الأسرة؛ فهو أول ولد من أولاد هذه الأسرة، قال:
خالي حامي الطبل ذي المآثر..
يصفه بقوله: "حامي الطبل" أي: الذي حمى الطبل ومنعه، ومنع الاختلاط الذي كان سائداً في ذلك الزمان عند قيام هذه الأسرة؛ فلذلك ترتب عليها الخير، وخرج منها هذا العالم الذي أفاد الناس كثيراً.
ومثل ذلك ما استطاع الشيخ عبد الله بن داداه رحمهم الله تطبيقه أيضاً في الأنكحة في زمانه، وبالأخص من تحت يده من الناس، ومن يسمع له ويطيع؛ فإنه كان يحرص على إقامة السنة في ذلك وعدم تعديها، وأخبرني أحد الثقات أنه عقد عقد نكاح عند صلاة العشاء في المسجد، ثم دعا الزوج فقال له: (تجب عليك من الليلة نفقة هذه المرأة فأرسل إليها نفقتها) وخاطبه بهذا أمام الناس في المسجد، ثم أخذ منه الصداق فاشترى منه شاة حلوباً، وأتى يسوقها إلى أهل المرأة فقال: (هذه الشاة ليست لكم، بل هي من صداق هذه المرأة، وهي لها هي، وهي أحل كسب اكتسبته) وكذلك عندما حصل الدخول أمر بالوليمة، فذبح كبش، فجاء بجلده فقال: اتخذوا هذا فراشاً، وأراد بذلك تطبيق ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة آل علي رضي الله عنه.
إن هذا النوع يظن الناس أنه مدعاة للهزء، أو أنه لا يمكن أن يتحقق، لكن الواقع خلاف ذلك، بل هو مدعاة للبركة، ومدعاة لاستمرار الأسرة على الوجه الصحيح، ومدعاة لعدم عزوف كثير من الناس عن النكاح.
إن كثيراً من الناس في مختلف البلدان لا يتزوجون إلا بعد أن يبلغوا من العمر عتياً؛ بسبب التكاليف الباهظة التي تترتب على النكاح، والواقع في أيام النبي صلى الله عليه وسلم خلاف هذا؛ فقد جاء في الصحيح أن الفضل بن العباس بن عبد المطلب و عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث أتياه فشهدا معه الصلاة، ثم خرجا معه فدخل بيت زينب بنت جحش ، فلما دخلا على النبي صلى الله عليه وسلم وكانا شابين صغيرين هاباه؛ فلم يستطيعا أن يتكلما، فكانت زينب تشير إليهما من وراء الستر تشجعهما أن يكلما رسول الله بما يريدان، فلما رآهما رسول الله ورأى حياءهما قال: ( ما عندكما؟ قال الفضل : فقلت: يا رسول الله! أنت أبر الناس وأوصلهم بالرحم، وقد بلغنا الحلم، ونحن نريد أن نتزوج، فنريد أن تولينا على شيء من الصدقات لعلنا نحرز مالاً نتزوج به، فقال: إنا أهل بيت لا تحل لنا الصدقة. وأرسلهما إلى محمية، فزوجهما النبي صلى الله عليه وسلم وأمر محمية أن يدفع عنهما مهرهما من مال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ففعل )، فكان الناس إذا بلغوا الحلم تزوجوا في أيام النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا الذي يمنعهم من الحرام، وينشئهم على الطاعة حتى يكونوا من الذين يستحقون إظلال الله، يوم لا ظل إلا ظله؛ ( شاب نشأ في عبادة الله ).
فلذلك كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا بلغ أحد أولاده الحلم يزوجه ويقول: أنت رب بيت وأنا رب بيت، فتارة يتعشى هو عند عمر وتارة يتعشى عمر عنده، وقال عبد الله كما في صحيح البخاري : ( لقد رأيتني على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بنيت بيتاً يكنني من الحر والبرد، لم يعني فيه أحد من خلق الله تعالى ) فهذا الذي يصنع الرجال، ويجعلهم أصحاب شخصيات قوية؛ لأن الإنسان إذا شعر بأن همومه يحملها رجل آخر، وأن النفقة عليه بيد رجل آخر، وأنه لا يعنيه شيء من أمور الدين ولا من أمور الدنيا نشأ بمثابة الزائدة الدودية، لا له ولا عليه، ويتربى بذلك لا يتحمل مسئولية، أما إذا نشأ على تحمل المسئولية كما كان عمر يفعل بأولاده؛ فإنه حينئذ سينشأ على مسئوليته، ويعرف حاجة المجتمع إليه، ويسعى لتحقيق هذه الأمانة التي جعلت في عنقه.
إن كثيراً من ضعف شخصيات الشباب اليوم ناشئ عن عادة المجتمع في تولي الأمور عنهم، وعدم تحميلهم أية مسئولية؛ فيعيش الشاب حتى يبلغ ثلاثين سنة وما زال في الأحضان، كحال البنات؛ كما وصف ذلك عمر بن أبي ربيعة في قوله:
ووال كفاها كل شيء يهمها فليست بشيء آخر الليل تسهر
فهذا النوع ليس من شأن الرجال.
والذين كان لهم الشأن في الإسلام من الذين برزوا في شبابهم، إنما قويت شخصياتهم فاستطاعوا تحمل الأمانة في صغرهم؛ كحال مصعب بن عمير و أسامة بن زيد و عتاب بن أسيد و عبد الله بن العباس ، ومن بعدهم؛ كـمحمد بن القاسم الثقفي و قتيبة بن مسلم ، وغيرهم من القادة الذين كان لهم شأن في الإسلام؛ إنما عرفوا أنهم رجال منذ النشأة، من أول البلوغ يعرف أحدهم أنه رجل، وعليه أمانات ومسئوليات، فيتولى أماناته ومسئولياته منذ التكليف.
إن كثيراً من الناس يضيع الكثير من أعمارهم سدىً؛ لأنه لا يستشعر أنه رجل وعليه مسئوليات إلا بعد أن يتجاوز ثلاثين سنة؛ فتذهب ثلاثون سنة من العمر سدىً، لا له ولا عليه فيها، والمجتمع يعين على هذا، بل إنه من الشائعات التي تشيع في المجتمع، يقولون: "أخو العشرين لا عقل ولا دين"، وهذا خطأ فاحش وهو من تربية المجتمع ومن إفرازه، وليس هذا معتمداً على أي أساس شرعي، ولا على أي أساس فطري ولا عقلي، بل أهل التكليف جميعاً أمام الله في التكليف سواء، الذي كلف اليوم والذي كلف قبل ستين سنة مسئوليتهما أمام الله واحدة، وخطابهما واحد، ومصيرهما إما إلى جنة وإما إلى نار، حالهما عند الانتقال من الدنيا إما السعادة وإما الشقاوة.
فلذلك لا بد أن ينشأ الشباب من بداية نشأتهم، من بداية تكليفهم على القيام بمهماتهم، وأن يعلموا أن الأعمار محدودة، وأن الأعمال التي فيها ينبغي للإنسان أن يبادرها، فإذا تحملوا هذه الأعباء وهذه الأمانات منذ نشأتهم كان ذلك أقمن أن يتحملوها بعد التجارب، فالذي خاض تجارب كثيرة يزداد عقله بتلك التجارب، ويتهيأ بها لتحمل مسئوليات أكبر.
ثم بعد هذا بين النبي صلى الله عليه وسلم أن من آداب ليلة الإهداء، وهي أول ليلة تجمع الأسرة المسلمة أن يأخذ الزوج بناصية زوجته فيستعيذ بالله من شرها؛ فيقول: ( بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم إني أسألك من خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه ) أو يقول: ( بسم الله، اللهم إني أسألك من خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه ) وإذا حصل ذلك فإن ما فيها من الخلائق والصفات الذميمة لن يجد ضررها وشرها؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن ساءه منها خلق سره منها خلق آخر )؛ فإذا استعاذ بالله مما جبلها عليه من أول الأمر لم يضره ما فيها من الجبلة، ولم يسوءه ما فيها من الأخلاق.
ثم يبدآن تكوين الأسرة على وفق ما أراد الله وأراد رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فيتعاونان أولاً على الفرائض، ويعين كل واحد منهما الآخر على القيام بحقه هو، ثم بعد ذلك يتعاونان على النوافل، وقد أخرج أبو داود في السنن بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( رحم الله رجلاً قام من الليل ليصلي فأيقظ امرأته لتصلي معه، فإن هي نامت نضح في وجهها من الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل لتصلي فأيقظت زوجها ليصلي معها، فإن هو نام نضحت في وجهه من الماء )، فهذا التعاون على النوافل إنما يكون بعد استكمال الفرائض وبعد التعاون عليها، فإذا حصل التعاون على الفرائض واجتناب ما حرم الله، حينئذ حصلت الرعاية، فقام كل واحد منهما بمهمته وتحقق الرعاية التي جعل الله في عنقه، ( فالرجل في بيته راع مسئول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية ومسئولة عن رعيتها )، فكل واحد منهما راع فيما يعنيه لا بد من القيام بمسئوليته في رعيته التي جعل الله تحت يده.
وإذا تعاونا على البر والتقوى كان كل ما يسديه أحدهما إلى الآخر عبادة لله؛ فقد أخرج الشيخان في الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في في امرأتك )، وهنا كان اللفظ النبوي دقيقاً جداً، لم يقل له: "حتى ما تنفق به على امرأتك" أو " حتى ما تعطي امرأتك" بل قال: ( حتى ما تجعل في في امرأتك )، وذلك عبارة عن الشيء اليسير الذي يستملح ويستطرف، يأخذه الرجل بيده، ويجعله في في امرأته ولا يجعله في يدها؛ فلهذا بين النبي صلى الله عليه وسلم أن كل ما حصل من هذا القبيل مما أريد به وجه الله فإنه يثاب عليه صاحبه.
جاء في حديث زينب الثقفية زوجة ابن مسعود : ( أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم تستأمره في النفقة على ابن مسعود وكان من فقراء المهاجرين؛ فسألته عن إنفاق المرأة على زوجها فقال: هو صدقة وصلة ) ؛ فجعله النبي صلى الله عليه وسلم جامعاً بين أمرين، بين الصدقة والصلة، والمقصود بالصلة هنا: صلة القرابة الزوجية، وليس صلة الرحم؛ لأن ابن مسعود من هذيل و زينب من ثقيف، فليس هو من ذوي رحمها الذين يلزمها أن تصلهم، إنما المقصود بذلك أن على المرأة أن تصل حق الزوجية، كما عليها أن تصل الرحم.
ومن هنا فإن كثيراً من عادات المجتمعات تقف حجر عثرة دون هذا؛ فالمرأة لا يستحسن في كثير من المجتمعات أن تساعد زوجها وأن تهدي إليه، أو أن تعينه بأي نوع من أنواع المعونة، وهذا مخالف للشرع، ومخالف كذلك لما تقتضيه الفطرة من التعاون، ومخالف لدواعي المحبة والارتباط؛ فالله تعالى يقول في كتابه: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً[الروم:21]؛ فالمودة والرحمة إنما تتم بما يغذيها من النفع، فإذا لم يحصل النفع ولا التواصل ولا المودة لم يكن للصلة أثر؛ ولهذا احتيج إلى الإهداء كما أخرج مالك في الموطأ و الحاكم في المستدرك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( تهادوا تحابوا وتذهب الشحناء )، ( وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها )، وكان يهدي إلى الناس كذلك؛ فلهذا احتيج إلى أن تقع الهدية بين الزوجين، وألا يكون فيها تكلف.
وما تعود عليه الناس في المجتمع من أن المرأة تهدي إلى أقارب الزوج وتتكلف بذلك وتراه واجباً، وأن أهل الزوجة كذلك يهدون إلى الزوج ويجعلون ذلك واجباً؛ هذا مما يخالف الشرع ويخالف الفطرة، وليس مدعاة لتقوية هذه الروابط، بل إنه من التكلف البين الذي هو مدعاة في كثير من الأحيان للنفرة، أما ما كان من الهدية بين الزوجين أو بين أقاربهما كذلك على وجه التحبب والتودد، دون أن يكون على سبيل الإيجاب والفرض، ودون أن يكون فيه تكلف؛ فهذا مما يقتضي حصول المودة والمحبة، كإهداء المرأة إلى والد زوجها أو أمه سواكاً أو طيباً أو نحو ذلك مما لا تكلف فيه؛ فهذا النوع من الهدية هو المحمود شرعاً، وهو الذي يؤدي إلى إزالة الضغائن وحصول المحبة، أما ما كان معتبراً حقاً فمن فرط منهم يذم بسبب تفريطه فيه، وهو من التكاليف الباهظة التي تتحمل في سبيلها الديون والمشاق؛ فهذا غير محمود شرعاً، بل هو من الأمور المذمومة التي ينبغي أن تترك وتنبذ.
كذلك فإن قيام الأسرة المسلمة يقتضي أن يطبق الإسلام بين جدراني البيت؛ فلا يؤذن في محرم أياً كان، ويحاول الزوج أن يحقق دولة الإسلام وهو رئيس هذه الدولة بين الجدران الأربعة، فيقيم الإسلام تماماً فيما تملكه يده من رقعة الإسلام وهو هذه الأرض الضيقة، هذه الدار، يحاول إقامة الإسلام فيها، فيمنع ما حرم الله، ويجتهد في إعلاء كلمة الله فيمن تحت يده، وفي أطرهم على الحق، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر؛ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ[التحريم:6]، وكذلك تجتهد المرأة عندما خرجت من بيتها الأول وجاءت إلى البيت الثاني الذي أصبحت فيه سيدة البيت في الداخل أن تحقق في هذا البيت دولة الإسلام؛ فالدولة لا تحقق إلا بقيادة وجندية، إلا بشعب وقيادة، فتحقق هي في نفسها وفي أولادها الشعب المطيع الممتثل للخير كما قال أحد علمائنا:
ما غاب من خلف في الدار من ترعاه في مقامه والمسير
كأنها إياه في كل ما تفعل في غيبته تستشير
تأتي الذي يرضى وتأبى الذي يأبى عليها دينها والضمير
فإذا كانت المرأة ترعى زوجها في غيبته كما لو كان حاضراً، وتأتي الذي يرضى ويأبى عليها دينها والضمير؛ فإن البيت حينئذ أصبح بمثابة دولة إسلامية تؤدى فيه الحقوق إلى ذويها، وتقام فيه حدود الله على وجهها، ولا يتم هذا إلا بالتعاون والرعاية، وهو محتاج في البداية إلى الدربة، وإلى كثير من التعود للخروج من أسر العادات الاجتماعية المخالفة للشرع؛ فإن المرأة أول ما تدخل بيتها جاءت مأسورة بتقاليد المجتمع وعاداته المخالفة للشرع، وكذلك الزوج، والبيوت المحيطة بالبيت غالباً بيوت غير إسلامية؛ فيحاول الإنسان مجاهدة نفسه في داخل هذا البيت حتى يستقيم له البيت على الوجه الشرعي.
ثم إن عليهما أن يحاولا كذلك تصدير تجربتهما إلى البيوت المجاورة؛ فيكون هذا البيت أسوة وقدوة للجيران، فيكون بيتاً أهله في سعادة وفي رضا بما وجدوا، إذا لم يجدوا إلا القليل رضوا به، وهم في سعادة وطمأنينة دائماً، وتحفهم البيوت التي أهلها يسقون بأنواع السقاء، حتى لو كانت الدنيا في أيديهم فإنهم لا يسعدون بها؛ فالبيت المسلم أهله في سعادة ورخاء دائماً حتى لو كانوا في أشد مراحل الشظف وضيق ذات اليد؛ لأنهم يعلمون أن ذلك كله بيد الله وتدبيره، وأنه متى شاء أغدق عليهم من أنواع الأموال، ولكنه إنما يقبض ويبسط بحسب الحكمة؛ فهو الذي يقول: وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ[الشورى:27]، فيمسك عن بعض عباده بعض الرزق لئلا يطغوا، وليحول بينهم وبين البغي في الأرض، ويزرق آخرين ويوسع عليهم امتحاناً لهم، فهم ينظرون إلى الحكمة، ومن هنا ينظرون إلى الناس أيضاً على أنهم نعم تتدفق من عند الله؛ فلا ينظرون إليهم من حيث هم، ولكن ينظرون إليهم من حيث من خلقهم ومن دبر شئونهم، وبهذا يرضون بما قدره الله عز وجل لهم، ويتعاونون عليه.
لذلك كانت تربية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في بيوتهم في هذا القبيل بارزة جداً؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث أهله ثلاث أهلة في ثلاثة أشهر وما رئيت فيهم نار، وما أوقدت فيهم نار، لا يعيشون إلا على التمر والماء، ومع ذلك هم في غاية السعادة، والناس جميعاً يغبطونهم على ما هم فيه، ولا يشعر أحد بأن لديهم أي نقص. وكذلك حال أصحابه فقد أخبرنا أنس بن مالك رضي الله عنه: ( أن أمه أم سليم رضي الله عنها شوت خبزاً في أيام الأحزاب، فجعلته في طرف ثوب أنس وأرسلته به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحفر الخندق؛ فوجده في ملأ من أصحابه وهم يعصبون الحجارة على بطونهم من الجوع؛ فقال: هل أرسلتك أم سليم بطعام؟ فقال: نعم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، وأمرهم أن يذهبوا إلى بيت أم سليم ، بيت أبي طلحة الأنصاري ، فجاء أنس أمامهم فأخبر أبا طلحة أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بالجيش معه، وليس لديهم إلا سخلة واحدة؛ فقام أبو طلحة إلى السخلة فذبحها، وطبختها أم سليم ، فزادت الماء حتى يكثر مرقها فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، فأخذ الخبز الذي كان في ثوب أنس ففته، ووضعه عنده وغطاه بطرف ثوبه، ثم دعا بالقدر فوضع بين يديه، فكان يخرج منه عظماً ويدعو عشرة فيأكلون حتى يشبعوا ثم يخرجوا، ثم يدعو عشرة آخرين حتى شبع الجيش جميعاً من ذلك القدر )، والسخلة: هي الأنثى من الضأن التي لم تكمل ثلاث سنين.
كذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه ضيف ليلة فلم يجد عنده طعاماً؛ فجاء رجل من الأنصار فعرف ذلك في وجه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( يا رسول الله! سأذهب بهذا الضيف فأطعمه، فأخذ الضيف معه فأتى أهله فقال: هذا ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكرميه، فقالت: والله ما عندنا إلا غذاء أولادنا! فقال: احتالي عليهم؛ فاجتهدت حتى نام الأولاد، ثم أتيا بالطعام فوضعاه بين يدي الضيف؛ فقالا له: كل، وأوهماه أنهما يأكلان معه، ورمت المرأة طرف ثوبها حتى أطفأ السراج، فكان الضيف يأكل ويظن أن الرجل والمرأة يأكلان معه ولم يأكلا، حتى شبع هو )؛ لأنه ضيف النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك فإن كثيراً من البيوت في أيام النبي صلى الله عليه وسلم كان أهلها في قل وضعف مادي، لكنهم كانوا في سعادة كاملة، ولم يكونوا يستشعرون أنه قد فاتهم شيء من أمور هذه الدنيا؛ لأنهم تربوا على ذلك.
كذلك فإن من مجاهدة الأسرة المسلمة حتى تكون أسرة مسلمة حقاً أن تجاهد ذويها فيما يتعلق بالدخول والاستئذان والاستئناس، وفيما يتعلق بالخلوة، ونحو ذلك؛ فهذه الأمور منتهكة في المجتمع، ولا يمكن أن تكون الأسرة أسرة مسلمة فعلاً حتى تأخذ فيها بالشرع ولا تأخذها في الله لومة لائم؛ فإذا كانت الأسرة المسلمة لا يدخل في بيتها إلا باستئذان واستئناس، ولا تحصل فيها خلوة، ولا يقع فيها اختلاط محرم؛ فيمكن أن تدعي أنها أسرة مسلمة حقاً، أما إن كانت على خلاف ذلك فدعواها يكذبها مخبرها وواقعها.
كذلك فإن على الأسرة المسلمة في مجاهدتها لأن تكون أسرة مسلمة أن تتخذ لنفسها برنامجاً مشتركاً في التكوين والمتابعة وفي التربية، يشترك فيه الزوجان فيما بينهما، سواءً كان ذلك درساً، أو قيام ليل، أو صيام نفل، أو عبادة مشتركة، وإذا رزقا بأولاد كذلك كان لهما مع الأولاد برنامج مشترك، فهذا الذي يحقق أن تكون الأسرة أسرة مسلمة فعلاً، وهو من التعاون الذي يقتضي رضا كل واحد منهما بصاحبه، وكذلك محاولة كل واحد منها الاستعفاف؛ فقد قال الله تعالى: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ[النور:33]، وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى التعفف عن نساء الناس فقال: ( بروا آباءكم تبركم أبناؤكم، وعفوا عن نساء الناس تعف نساؤكم )، وإذا طبق الإنسان ذلك في نفسه فإن هذا معين لأهله على الاستعفاف، وإذا تعفف الزوج فإن هذا معين للزوجة كذلك على التعفف.
وكذلك في معاشهما وحياتهما عليهما أن يجاهدا كذلك على أن يرضيا بما شرع الله، وأن يزدادا قرباً من الله عز وجل كلما ازدادت نعمته عليهما؛ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ[الحديد:23]، فإذا حققت الأسرة المسلمة كل هذا فعلاً أصبحت محضناً يمكن أن يتربى فيه الفرد المسلم.
إن الأمور السبعة التي ذكرناها في الإستراتيجية الإسلامية متكاملة فيما بينها؛ فالفرد المسلم إنما يتربى في أحضان الأسرة المسلمة، والأسرة المسلمة يتكون منها ومن غيرها المجتمع المسلم، وتتكون كذلك من ذوي الهمم منهم الجماعة المسلمة، ومن الجماعة المسلمة تتكون الدولة المسلمة، ومن الدولة المسلمة ومن غيرها من الدول المسلمة يتحقق توحيد المسلمين، ومن توحيد المسلمين تتحقق قيادة المسلمين للأمم ولأهل الأرض جميعاً؛ فهذه المراحل يكمل بعضها بعضاً ويتممه، ولا يمكن أن تحقق هذه الإستراتيجية الإسلامية الشاملة إلا بتحقيق مراحلها المختلفة.
إن على الشاب مطلقاً أن يحاول أن يكون من المجاهدين في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، وليبدأ أولاً: بتكوين الفرد المسلم من نفسه، ثم بتكوين الأسرة المسلمة؛ ليشارك بذلك في تكوين المجتمع المسلم، ثم بتكوين الجماعة المسلمة، ثم بتكوين الدولة المسلمة، ثم بتوحيد المسلمين، ثم بأستاذية العالم وقيادته على وجه ما يرضي الله، وإذا حقق كل فرد من الشباب ذلك؛ فإنهم سيكاثرون أهل الباطل فيكثرونهم، وحينئذ يذهب الزبد جفاءً ويبقى ما ينفع الناس وهو الذي يمكث في الأرض؛ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ[الرعد:17].
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من المنتفعين بأمثال القرآن وعبره، وأن يجعلنا من المنتفعين بما يسمعون، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يجعل ما نقوله ونسمعه حجة لنا لا علينا. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر