بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى قد أكثر في كتابه من لوم المجرمين، ومن وصفهم بأنواع النعوت المرعبة، المخوفة من مصيرهم ومآلهم؛ وذلك للتنبيه على خطر الإجرام وضرره، فحري بنا أن نبحث في ظاهرة الإجرام، أن نبحث في مظاهر هذا الإجرام ووسائله وأسبابه وعلاجه كذلك.
إن الإجرام هو مصدر أجرم الإنسان بمعنى: اقترف جريمةً، والجريمة هي في الأصل من الجرم الذي هو الجرح، فكأن الإنسان جرح جرحاً لا يستطيع علاجه؛ وذلك أن سكان هذه الأرض بمثابة قوم يركبون سفينةً في عمق البحر، فالذين يجرمون يشقون هذه السفينة لتغرق بأهلها ومن فيها، فما أهون الأرض على الله إذا عصاه أهلها، فإنه سبحانه وتعالى لو كشف الحجاب لحظةً واحدة لأحرقت سبحات وجهه السماوات والأرض وما فيهن، ما أهون الأرض على الله إذا عصاه أهلها، إن الذين يعصون الله سبحانه وتعالى في هذه الأرض يشقون فيها شقاً سيتسع على الراقع، ويشق علاجه بعد ذلك ويصعب؛ ولهذا أوجب الله على المؤمنين أن يمسكوا بأيدي هؤلاء وأن يكفوهم عما هم فيه، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل: أن الرجل كان يلقى الرجل فيقول: يا هذا! اتق الله ودع ما تصنع؛ فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وقعيده وشريبه، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [المائدة:78-81] )، ثم قال: ( كلا والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً -أو لتقصرنه على الحق قصراً- أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعننكم كما لعنهم ).
إن الأخذ على يد المجرم ومنعه من جريمته أول مستفيد منه هو الآخذ على يد المجرم؛ لأنه ينجو بنفسه وينجي أهله من عذاب الله وعقوبته، وإن الذي يظن أن السعي للحيلولة دون الإجرام هو تدخل في الشئون الداخلية، وأنه مما لا يعني الإنسان وينبغي أن يكف عنه جاهل بمقتضى الواقع؛ لأنه بمثابة الإنسان الذي في السفينة في عمق البحر ومعه راكب يراه بعين بصره يخرق السفينة لتغرق بأهلها، فهل تدخله هنا تدخل في شئون الغير؟ هو تدخل في شئون النفس؛ يريد إنقاذ نفسه؛ ولذلك أخرج البخاري في صحيحه من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فكان بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، وقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً ).
وقد قص الله علينا في كتابه قصة قرية من بني إسرائيل كانت حاضرة البحر، فحصل فيها الإجرام، فسكت أهلها عن التغيير إلا قليلاً منهم، فجاء البلاء من الله سبحانه وتعالى وعاجلتهم العقوبة، فأخذ الله الذين اقترفوا الإجرام أخذاً وبيلاً، وألحق بهم الذين سكتوا ورضوا وتابعوا، وأنجى الذين كانوا ينهون عن السوء وحدهم؛ ولذلك قال في كتابه: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [الأعراف:163-166] ، فهذا أخذ الله الوبيل، وعقوبته الشديدة لمن لم يتمعر وجهه في ذات الله، ولم يغير المنكر إذا رآه.
إن الإجرام إذا ظهر في بلد فسيتعدى ضرره وينتشر، وإذا لم تعاجل الناس العقوبة فإنه يعاجلهم ما يتعلق بذلك الإجرام نسأل الله السلامة والعافية من الشؤم؛ فإن لكل ذنب شؤم يلحقه، وهذا الشؤم لا يختص بصاحب الذنب الذي اقترفه، بل يتعداه إلى من سواه.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم بعض مظاهر الإجرام التي حصلت في الأرض، وهي تبين تاريخ هذه الجريمة على هذه الأرض، فهذه الأرض كانت نقيةً طاهرة، يعبد عليها الله وحده، كان فيها الملائكة، فأراد الله لحكمته البالغة أن يمتحن هذا الجنس البشري، فيحله في هذه الأرض الطاهرة الطيبة التي فيها ما يحتاج إليه.. وكل ما يحتاجون إليه في شئون حياتهم، فامتحنهم الله سبحانه وتعالى بالتكاليف، فكان منهم المفسدون، الذين هم إلى النار صائرون، نسأل الله السلامة والعافية، فعندما بين الله للملائكة أنه سيعمر هذه الأرض بجنس البشر، قالوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة:30]، كانت جرائم بني آدم مستورةً في اللوح المحفوظ، فعندما أطلعهم الله على ما تئول إليه هذه البشرية في هذه الأرض رعبوا من هول هذه الجرائم، تصوروا أن هذه الجرائم هي بمثابة قنابل ذرية يفجرها الإنسان في هذه الأرض، فتتأثر بها كل الكائنات الحية، وتتأثر بها الحيتان في الماء، وتتأثر بها الطيور في السماء، وتتأثر بها ذرات الأكسجين، وتتأثر بها أرحام الأرض وما تنبته، ويتأثر بها كل أنواع النبات، والمكان الذي فجرت فيه بعد عدة قرون لا تزال الولادات فيه مشوهة، ولا تزال الأمراض فيه تنتشر.
أرأيتم القنبلة التي فجرها الأمريكان فوق مدينة (هيروشيما) اليابانية، هذه القنبلة ما زالت إلى الآن آثارها واضحةً حتى في الولادات ولادات مشوهة، وانتشار السرطان، انتشار الأمراض الخبيثة؛ بسبب قنبلة واحدة كانت من نوع بدائي في أول نشأة القنابل الذرية، فكيف بهذا الإجرام الذي هو معصية الله، وهو أعظم من هذه القنابل كلها وأخطر، إن جريمةً واحدةً على هذه الأرض تضج الأرض إلى الله منها وتشكو، والإنسان الذي يجرم في مكان قد حله من قبله ملك مقرب مثلاً كان يسجد لله في هذا المكان، وأنت تقف فيه يا عبد الله تخلف هذا الملك في المكان الذي كان يقف فيه، فإذا أتيت بجريمة تصور حال هذه الأرض وهي كانت تحس بسجود هذا الملك المقرب الذي لا يعصي الله تعالى في المكان، وترى خلافتك أنت لهذا الملك في هذا المكان.
أو حتى لو تصورنا ما هو أقرب من هذا، هذا المكان الذي يعصي فيه البشر كان فيه من قبلهم من الناس من الذين يطيعون الله تعالى ولا يعصونه، فتصور المكان الذي تزاول فيه المعصية كم قد مر به من الطاعات لله سبحانه وتعالى، وكم قد عمره من الصالحين، فهو يضج إلى الله تعالى من الاقتراف الذي تقترفه فيه، وما يقابله من السماء والهواء والملائكة المكلفون بحفظك وحفظ المكان، كل ذلك يشهد عليك بإجرامك الذي تعمر به البلد.
إن الله سبحانه وتعالى بين لنا أنه مكن لنا في آثار السالفين السابقين الذين سبقوا، وجعلنا خلفاء من بعدهم في هذه الأرض، فامتحننا بذلك؛ ليعلم ما نحن صانعون، وهو أعلم؛ فهو سبحانه وتعالى لا يتجدد له وجود علم، وإنما يمتحن الناس بذلك؛ ليشهد عليهم ويشهد عليهم ملائكته؛ حتى لا يمكن أحد منهم أن ينكر شيئاً مما فعل، فيأتي ومعه الشاهد والسائق والرقيب، يأتون معه ليشهدوا عليه بما اقترف؛ لأن فترة حياته محدودة؛ ولأن المكان الذي يعمره من هذه الأرض محدود إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا [الإسراء:37] ، فعليه ألا يكون مسرفاً مجرماً فيعمر هذا المكان بما لا يرضي الله سبحانه وتعالى، وبما لا يرضي المكان نفسه، فالمكان يشهد عليه بكل ما فيه.
كذلك فإن هذا الإجرام مقتض لأن يبقى عمر الإنسان السيئ متجدداً إلى آماد طويلة، فالذي أسرف وأجرم وعمره ثلاثون سنة أو عشرون سنة من وقت إجرامه وعمره السيئ الذي فيه الإجرام مستمر؛ لأن الناس سيتبعونه في إجرامهم، فيكتب عليه من سيئاتهم، ويلحقه ذلك بعد موته آماداً طويلة؛ ولهذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ما من أحد يقتل على هذه الأرض إلا على ابن آدم الأول وزر منه )، ابن آدم الأول الذي سن القتل لأهل الأرض، فقتل أخاه ظلماً عدواناً، ما من قتيل يقتل على هذه الأرض إلا على ابن آدم الأول وزر منه.
وكذلك كل من اقترف جريمةً أذاعها بين الناس فتبعه الناس عليها، فإنه يكتب في ميزان سيئاته أوزار من تبعه على ذلك إلى يوم القيامة، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من دعا إلى هدى كان له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً ).
إن مظاهر الإجرام في هذه الأرض هي ارتكاب ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى من السيئات، وأعظمها الشرك بالله سبحانه وتعالى؛ فهو الذنب الذي لا يغفر، ثم ما دونه من الذنوب وأعظمها كبائر الإثم والفواحش، ثم ما بعدها من الصغائر التي دونها، فهذه هي الجرائم، لكن الناس في عرفهم لا يطلقون الجرائم إلا على المستبشعات من الأمور التي لم يعد الناس يألفونها، فالأمور المألوفة لدى الناس -حتى لو كانت أكبر في ميزان الشرع- لا يعدونها جريمة، إنما يعدون جريمةً نكراء الأمر غير المألوف فيما بينهم؛ والسبب هو الاعتياد فقط، فالإنسان الذي يتعود على شيء يزول عنه ما كان يجده في نفسه من الكراهية له وعدم الاطمئنان به.
فأنتم الآن إذا سمعتم الرعد في السماء لم ترعبوا منه، لكن إذا سمعتموه في الأرض يصيبكم منه رعب شديد؛ والسبب أنكم قد ألفتم الرعد في السماء، ولم تألفوه في الأرض، لكن لا فرق بين الأمرين أصلاً، كل ذلك تخويف من الله سبحانه وتعالى.
إن كسوف الشمس والقمر موعظة عجيبة وآية من آيات الله وتخويف منه وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا [الإسراء:59] ، لكن مع ذلك الشمس نفسها طلوعها آية من آيات الله، والانفجارات الذرية التي فيها وعلى سطحها منها في كل ثانية ألفان وستمائة انفجار ذري في كل ثانية واحدة، هذا آية من آيات الله وموعظة عجيبة، لكن الناس ألفوا هذا وتعودوا عليه فلم يعد مهماً لديهم، بل لم يعد يسترعي انتباههم أصلاً، أما الأمر غير المألوف فهو الذي تتعلق به النفوس وترعب منه وترتاع له؛ ولهذا فإن الجرائم المتعلقة بالماديات أعظم لدى الناس كثيراً من الجرائم المتعلقة بالمعنويات.
ألا تعلمون أن الشرك بالله هو أعظم جريمة يمكن أن يرتكبها الجنس البشري على هذه الأرض؟ بلى، لكن لو سمعتم رجلاً يقول في السوق ألفاظ الشرك أو يفعلها، أو يسب الله ورسوله أو القرآن لن تروا الناس يستعظمون جريمته، ولا يتألبون عليه، ولن تجد من يهتم للأمر، أو من يقول فيه بالحق؛ لأنه أمر معتاد لديهم، أما لو سرق الإنسان مائة أوقية فقط، وهي أتفه تافه، فإن كل أهل السوق سيمسكونه: سارق سارق، وهذا يضربه من هنا، وهذا يمسكه من هنا، هل سرقة مائة أوقية أعظم من الشرك بالله؟ لكن القضية هنا أن الناس لا يزنون ولا يكيلون إلا بمعيار المادة، فما كان ذا مقابل مادي اعتبروه جريمةً كبيرة، وما ليس كذلك كان أمراً اعتيادياً لديهم، يمر الإنسان من الشارع فيرى الاختلاط ويرى السفور، وكأنه ما رأى شيئاً، ولا وقعت عينه على شيء أصلاً؛ لأن هذا أصبح من المألوف لدى الناس، وهو إذا كان مؤمناً إذا رأى معصية الله تمعر لذلك وجهه، واقشعر جلده، وخشي أن يسقط عليه ما يقابله من السماء حين يرى معصية الله فيرضى بها.
إن الذين يتعودون على مشاهدة المناكر ستخف لديهم حتى يكون المعروف منكراً والمنكر معروفاً، ولا يأتي هذا إلا بالتدريج والتقصير.
إن هذه المظاهر التي هي من مظاهر الإجرام على هذه الأرض لها أسباب كثيرة، من أعظمها:
نقص الإيمان بالله سبحانه وتعالى وبقدره، وبملائكته، وبالبعث بعد الموت، وباليوم الآخر وما اشتمل عليه.
إن الذي يؤمن بالله وملائكته وكتبه وبالقدر خيره وشره، ويؤمن بالبعث بعد الموت، وباليوم الآخر وما اشتمل عليه؛ يعلم أن هذه الحياة الدنيا ليست الحياة الباقية، وأنها متاع، وأن الآخرة هي دار القرار، ومن هنا سيحاول أن يعيش فترات حياته المحدودة في هذه الدنيا بسلام، وأن ينطلق منها سالماً على الأقل، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حال موته: وددت لو أخرج منها كفافاً لا علي ولا لي. سيحاول أن يخرج من هذه الدنيا كفافاً لا عليه ولا له على أقل تقدير، أما الذي يقل إيمانه بالله فلا يستشعر أن ديان السموات والأرض يراقبه، وهو أقرب إليه من حبل الوريد، لا تخفى عليه خافية، يعلم السر وأخفى، يعلم ما توسوس به نفسه، ويعلم كذلك جزماً بملائكة الله الكرام الكاتبين الذين لا يخفى عليهم شيء من عمله وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10-12]، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18] .
ويعلم كذلك علم اليقين أن كل شيء بقدر الله، وأن الله كتب كل شيء قبل أن يكون، وعلمه، وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59] ، ويعلم كذلك أنه سيموت ويبعث بعد الموت، سيحيا ليقص أثره إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ [يس:12] سيقص أثره كاملاً ويراجع حساباته، ويرى صحائف أعماله، ويبدو له من الله ما لم يكن يحتسب.
ويعلم كذلك أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأنها هي دار الجزاء ووزن الأعمال؛ لن يسرف ولن يقترف، ولن يحاول أن يصرف فيه قوته وطاقته وجهده إلا ما ينجيه من هول ذلك اليوم.
أما من يخف إيمانه بهذا وينقص فهو الذي يبحث عن وليجة أو عن مدخل؛ ليخفي على الله أو على ملائكته الكرام الكاتبين شيئاً من الأعمال، أو يظن أنه حتى لو علم الله بها فإنه لن يبعث أو لن يحشر، أو أنه لن يجدها يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:30] .
إن النبي صلى الله عليه وسلم بين لنا أن هذا الإجرام سببه في أغلب الأحيان نقص الإيمان؛ ولهذا قال: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبةً ترفع إليها الرءوس حين ينتهبها وهو مؤمن )، فصاحب الإيمان القوي له ما يردعه كفى بالإيمان رادعاً.
أما من ضعف إيمانه وخف يقينه فهو الذي يذهب في هذه الدنيا سادراً لا يبالي ما اقترف، ويسير كأنه لا يستشعر الرقيب سبحانه وتعالى، ولا يستشعر الملائكة الكرام الكاتبين، ولا يتذكر موته وحمله على الرقاب إلى الدار الآخرة، ولا يتذكر فزعته في القبر وقيامه منه حين ينفخ في الصور نفخة الفزع، ولا يستشعر عرضه على الله ووقوفه بين يديه، ولا يستشعر الكفتين: كفة الحسنات وكفة السيئات ووزن الأعمال فيهما بمثاقيل الذر، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8] .
كذلك فإن من أسباب الإجرام: أن يغفل الإنسان عن هذا، فيكون الإنسان مؤمناً مصدقاً بكل ما سبق، ولكنه يغفل عنه في وقت اقتراف المعصية، فتغلبه شهوته فيقع فيما حرم الله عليه لا نكراناً ولا جهلاً، ولكنه يفعل ذلك غفلةً ونسياناً؛ فتزدريه النفس الأمارة بالسوء، ويقوده الشيطان الذي لا يقوده إلا إلى ما يهلكه، وحينئذ يتبع هواه فيتردى في الوحل، وينساق وراء الشهوات، فيكون كالحيوان البهيمي، فإذا أنعم الله عليه بأن تذكر عرف أنه قد تردى إلى المهاوي العظيمة، إننا نعرف أشخاصاً بأعيانهم يعيشون معنا على هذه الأرض ومن أبناء جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، كانوا قد وقعوا في هذه القاذورات التي تسخط الله سبحانه وتعالى، فأعادهم الله إلى الإيمان بنعمة منه وهداية، فلما رجعوا تذكروا المكان الذي كانوا فيه من المعصية، فعرفوا أنهم بمثابة من تردى في بئر عميقة جداً ثم نجا منها وأخرج، خرجوا من مهوىً عجيب لا يزال كل فرد منهم يتذكر ما كان عليه، ولا يقارنه إلا بدركات جهنم، إن هؤلاء قد أنعم الله عليهم بنعمة الهداية فرجعوا، أما كثير ممن سواهم فهم مستمرون -نسأل الله السلامة والعافية- في عامتهم سادرون لا يبالون، مستمرون حتى يفجأهم الموت وهم على ذلك.
كذلك من أسباب هذا الإجرام: أن يكون الإنسان مؤمناً بكل ما سبق، متذكراً له في ساعته، لكنه يطول الأمل، فيغريه الشيطان بأنه بالإمكان أن يرجع ويتوب بعد أن يقترف المعصية، ويقول له: افعل ما شئت الآن وما تريده، ثم عمرك طويل بعد هذا، وستعوض هذا وتتوب إلى الله وتعبده، وهذا هو علامة الخذلان وطمس البصيرة، نسأل الله السلامة والعافية، فالشيطان يضرب على قافية رأس الإنسان ثلاث عقد إذا هو نام، يضرب في كل عقدة: إن عليك ليلاً طويلاً فنم، فيغريه بطول الأمل، والواقع أن أصحاب العقول لا يمكن أن يغتروا بطول الآمال، وهم يرون كل يوم وفي كل صباح وفي كل مساء الذين ينتقلون إلى الدار الآخرة، ممن هم أقوى منهم أبداناً، وأكثر أموالاً، وأكثر مكانةً اجتماعية، فيرون أجناس الناس ينتقلون إلى الدار الآخرة، لا تبقى شريحة من شرائح المجتمع إلا رأيتها، فترى الرؤساء والملوك، وترى الوزراء والقادة، وترى التجار والأغنياء، وترى الفقراء والمساكين، وترى الصبيان الصغار، وترى الشباب الأقوياء، وترى الشيوخ والعجزة، كل هؤلاء يداركون جميعاً في المقابر.
لا الموت محتقر الصغير فعادل عنه ولا كبر الكبير مهيب
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد
كلهم صائرون إلى ذلك الطريق، ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين وقف على ضجنان بعد حجته: كنت أرعى إبلاً للخطاب على ضجنان، فكنت إذا عجلت ضربني وقال: لم تعش، وإذا أبطأت ضربني وقال: ضيعت، ولقد أصبحت وأمسيت وليس بيني وبين الله أحد أخشاه، ثم قال:
لا شيء مما ترى تبقى بشاشته يبقى الإله ويفنى المال والولد
لم تغن عن قيصر يوماً خزائنه والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
ولا سليمان إذ تجري الرياح له والجن والإنس فيما بينها تفد
أين الملوك التي كانت بعزتها من كل صوب إليها وافد يفد
حوض هنالك مورود بلا كذب لا بد من ورده يوماً كما وردوا
إن طول الأمل مضرة عظيمة للإنسان، فهو الذي يقتضي فوات الأعمال الصالحات التي يندم الإنسان على فواتها، وهو الذي يقتضي بالإنسان تأخير فرائض الله سبحانه وتعالى، حتى ينتهي وقتها، وحتى لا يمكن الإنسان من العود إليها في فرصة لاحقة.
إن الإنسان لن يستشعر فرصه الطويلة المتنوعة التي وهبه الله إلا عندما ينتقل من هذه الدنيا، وينقطع عمله بالكلية، فما دام الإنسان يرجو الحياة فهو يؤمل أن يبقى.
والمرء قد يرجو الحياة مؤملاً والموت دونه تنفك تسمع ما حييت بهالك حتى تكونه
لكنه عندما يموت وتنقطع آماله عن هذه الدنيا يتمنى لحظة عين لو رجع إليها، كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:9-11] .
إن الجرائم التي يقترفها الناس ينتبهون لها إذا نشأت منها نابتة جديدة، أو ظهر منها مظهر جديد لم يكن متفشياً بين الناس، ففي زماننا هذا اليوم أصبح الناس في هذا البلد يتحدثون عن كثير من الجرائم التي لا عهد لكثير من الناس بها، من قتل الأقارب والإخوة الأشقاء، ومن إحراق الإنسان لنفسه، ومن اعتدائه على أحب الناس إليه وأقربهم إليه كقتل الإنسان لأمه، وغير ذلك من الجرائم الكبيرة التي لا عهد لأهل هذه البلد بها، ولكنها تأتي كالسيل الجارف، وما هي إلا سنوات يسيرة حتى يألف الناس هذه الجرائم ويتعودون عليها، كعصابات اللصوص التي تجوب بعض الطرقات في الليالي المظلمة، وتقطع الطريق على الناس، وتعتدي على حرمهم، وتأخذ أموالهم، ومثل ذلك: العصابات التي تعتدي على منازلهم وبيوتهم تبيتهم وهم آمنون في بياتهم، أو العصابات التي تعتدي على متاجرهم، وما يجمعونه من المال، هذه الجرائم لم تكن معروفةً ولا معهودةً بين الناس في هذه البلاد، ولكنها اليوم أصبحت جريمةً منتشرة، وأصبحت منظمةً، فأصبح الإجرام منظماً له أعراف يتعارف عليها أهل الإجرام فيما بينهم، وقوانين وخطط يخططون لها؛ بل لا تستغربوا أن ينشئ بعض هؤلاء المجرمين المتمرسين معاهد للإجرام، إنه في كثير من البلدان الغربية، يدرس الإجرام، وله معاهد، فأصحاب التجارب الكبيرة في الإجرام تلتحق بهم عصابات اللصوص؛ ليعلموهم طرائق الإجرام، وطرائق الحصول على الأموال بهذه الوسائل الملتوية.
وكذلك فإن لوسائل الإعلام في تعليم الإجرام دوراً عظيماً، فالمسلسلات المفسدة التي تنشر فيها لنشر الرذيلة ولتعليم وسائل الإجرام ذات كثرة، بل الهوائيات التي تعمل ليل نهار لا تخلو من هذه المسلسلات، فتارةً تسمى بالمسلسلات البوليسية، وتارةً بالمسلسلات الاجتماعية، وتارةً بغير ذلك من الأسماء، لكنها جميعاً تعلم الرذيلة، وتسعى لترسيخها في النفوس الطرية التي هي على الفطرة، ومن أغرب ما سمعنا في هذا: أن رجلاً من الملتزمين الخيرين ومن التجار ذوي المال اشترى هوائياً فأدخله في بيته، وهو مشغول في عمله لا يأتي إلا في ساعة من الليل وقد نام أولاده، وكذلك أمهم مشغولة عنهم في كثير من الأحيان، فكان أولاده يتابعون هذه المسلسلات، فيتعلمون ما فيها من وسائل الإجرام، فوجد أن أحد أولاده يسرق أمواله ويجمعها ويخفيها في مكان من بيته هو، وكان ذلك بطريقة محكمة جداً للغاية يعجب لها الإنسان، فسأله: كيف جمعت هذا المال؟ ومن أين أتيت به؟ ولماذا تجمعه؟ فقال: لا أريد ذلك لأي شيء، ولكن لأشبع به رغبةً أجدها في نفسي تعودت عليها من المسلسل الفلاني، رسخت هذه القيم في هذه النفوس التي كانت على الفطرة، فرسخت فيها وتعودت عليها.
والأدهى من هذا والأمر: أن رجلاً آخر كانت تجربته أخطر من هذه وأفظع، فله أولاد وبنات، وكانوا يتابعون هذه المسلسلات وهو يعلم بذلك، فبينما هو ذات يوم -نسأل الله السلامة والعافية- إذا بابنته مريضة، فارتاب من مرضها، فأخذها إلى المستشفى فإذا هي متلبسة بحمل، فكاد يموت غماً، وأخذها إلى بيته وضربها، فقالت: لا تضربني، فأنا أحدثك بكل ما تسأل عنه، فقال: ما هذا؟ فقالت: هذا من أخي، كنا نتابع المسلسل الفلاني فطبقناه، وهما في أول البلوغ، نسأل الله السلامة والعافية، فعاد عليه وبال هذه الأجهزة، فقام إليها وكسرها من لحظته، لكنه ندم حيث لا ينفع الندم.
إن كثيراً من الناس يتعودون على الإجرام ويتعلمونه بتجارب الآخرين، وبأمور خيالية أيضاً في بعض الأحيان، فينقلون هذه التجارب، وتنتشر بين الناس، وتشيع في الأرض.
إن قتل الإنسان لنفسه لم يكن مألوفاً أبداً لدى الناس في هذه البلاد، لكنه ظاهرة منتشرة في أمريكا وفي أوروبا كلها، فتجد الإنسان يطلق الرصاص على نفسه، أو يشنق نفسه، أو يحرق نفسه في بعض الأحيان إذا كان مطالباً بديون لا يستطيع تسديدها، أو عليه غرامات كبيرة، أو خاب أمله في أمر معين، أو قد اقترف جريمةً فاطلع على تلك الجريمة، أو خشي أن يطلع عليها، بل تجد كثيراً من الساسة في بلاد الغرب إذا عرف أن أحدهم قد تعاطى رشوةً أو أخذ هديةً فشاع ذلك في الإعلام؛ قتل نفسه ورأى هذا تخلصاً من جريمته، وذلك أنه لا يؤمن بالله، ولا باليوم الآخر، ولا يؤمن بالعرض على الله سبحانه وتعالى، فيقتل نفسه ويتعجل إلى النار، نسأل الله السلامة والعافية، لكن هذا من المستغرب جداً أن ينتشر في بلاد الإسلام، وأن يطرق أبواب المسلمين الآمنين، فمثل هذه البلاد المحافظة التي يغلب على سكانها الالتزام بالإسلام والتحلي بآدابه وأخلاقه، من المستغرب فيها جداً أن يحرق الإنسان نفسه بين الناس، أو أن يقدم على شنق نفسه، أو إطلاق الرصاص على نفسه لأي سبب من الأسباب، لكن الناس إذا علموا أن فلاناً من الناس قد قتل نفسه حملوا ذلك على أحد محملين:
إما أن يقولوا: هو مجنون، أو أن يقولوا: قد اقترف جريمةً ماليةً، فأخذ أموالاً واطلع عليها، فقتل نفسه ليستر جريمته، أو ليتخلص منها، لكن سبب هذه الجريمة لا ينحصر في هذين السببين المذكورين، بل كثير من الناس مأنوس غير مجنون، كثير من الناس سرت إليهم هذه العادات من الناس أنفسهم لا من الجن.
فكثير من الشباب الذين يتربون بين ذويهم في بيئات صالحة يخالطون شباباً آخرين هم في غاية الفساد، فسرعان ما تنتشر إليهم عدوى هؤلاء، وتنتقل إليهم كانتقال النار من المادة القابلة للاحتراق والاشتعال إلى مادة مجاورة لها، كما قال الشاعر:
عدوى البليد إلى البليد سريعة والجمر يوضع في الرماد فيخمد
كذلك في المقابل إذا وضع الفحم على الجمر فسرعان ما يشتعل.
إن كثيراً من الناس يتهم الجن بأنهم هم الذين أفسدوا أخلاقهم، أو أفسدوا عقولهم، والواقع أن الجن من هذا برآء، بل كثير مما يقدم عليه البشر يستغربه الجن، ولا يستطيعون الإقدام عليه، إنما يتعود عليه هذا الجنس البشري الذي هو أشد قسوةً من الحجارة، فقلوب البشر أشد قسوةً من قلوب الجن؛ ولهذا يقدمون على أمور مستغربة جداً مستبشعة، ولذلك فالمأنوسون في هذا الباب أكثر من المجانين، الذين سرت إليهم عادات الإنس فأتلفت عقولهم وتصورهم أكثر من الذين أضر بهم الجن وأثروا على عقولهم.
كذلك فإن من أسباب هذا النوع من الجرائم: أن كثيراً من الناس يكون ضعيف التوكل على الله سبحانه وتعالى، شديد التوكل على الأسباب، فيظن أن هذه الأسباب التي يمارسها هي التي توصله إلى مبتغاه وما يطلبه، فيتوكل على الأسباب، ويهتم بها غاية الاهتمام، ويسعى لبذل الجهد فيها، لكنه سرعان ما تخونه هذه الأسباب، ويرى أنها لا توصل إلى نتيجة، فيقدم على جريمته تبعاً لذلك.
إن الأسباب خوانة، فكم رأينا من الذين بذلوا أعمارهم، وصرفوا جميع الحيل في جمع هذا المال فما حصلوا منه على طائل، وكم رأينا من آخرين لم يبذلوا فيه كثيراً من الوقت ولا من الجهد، ولا من عناء التفكير، ومع ذلك آتاهم الله منه ما كتب لهم، إن الإنسان لن ينال إلا حظه وما كتب له.
ومن هنا فينبغي ألا يتوكل على الأسباب، وألا يخرجها من طورها، وألا يتعدى بها حدودها؛ فالذين يتوكلون على الأسباب يصابون بإخفاق شديد.
فهذا ابن زريق البغدادي يخرج من بغداد مسافراً إلى الأندلس، وينفق في ذلك نفقات باهضة؛ ليمدح أحد ملوك الأندلس، وهو يرجو منه مالاً ليسدد به ديوناً عليه في بغداد، فصبر على قطع هذه المسافات الطويلة من بغداد إلى الأندلس، فلما أتى الملك وامتدحه بقصيدته العجيبة وأنشدها بين يديه وطرب لها الملك، كافأه عليها مكافأةً تافهةً جداً لا تساوي عشر ما أنفقه في سفره، فتأثر تأثراً بالغاً، وذهب إلى ضفة النهر وكتب قصيدته العينية المشهورة ومات غماً. يقول في هذه القصيدة:
لا تعذليه فإن العذل يولعه قد قلت حقاً ولكن ليس يسمعه
جاوزت في نصحه حداً أضر به من حيث قدّرت أن النصح ينفعه
فاستعملي الرفق في تأنيبه بدلاً من قلبه فهو مضنى القلب موجعه
يكفيه من لوعة التفنيد أن له من النوى كل يوم ما يروعه
ما آب من سفر إلا وأزعجه عزم على سفر بالرغم يزمعه
كأنما هو في حل ومرتحل موكل بفضاء الله يذرعه
إذا الزمان أراه في الرحيل غنىً ولو إلى السَّدِّ أضحى وهو يقطعه
وما مكابدة الإنسان واصلة رزقاً ولا دعة الإنسان تقطعه
قد قسم الله رزق الناس بينهم لا يخلق الله من خلق يضيعه
لكنهم كلفوا حرصاً فلست ترى مسترزقاً وسوى الغايات تقنعه
والدهر يعطي الفتى من حيث يمنعه أرباً ويمنعه من حيث يطلعه
أستودع الله في بغداد لي قمراً بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
ودعته وبودي لو يودعني صفو الحياة وأني لا أودعه
وكم تشفع بي أن لا أفارقه وللضرورة حال لا تشفعه
وكم تشفع بي يوم الرحيل ضحىً وأدمعي مستهلات وأدمعه
لا أكذب الله ثوب العمر منخرق مني بفرقته لكن أرقعه
إني أوسع عذري في جنايته بالبين عنه ونفسي لا توسعه
في قصيدته الطويلة.
فهؤلاء الذين يتكلون على الأسباب، ويعتنون بها إذا جاءهم إخفاق -أياً كان- رجعوا أدراجهم، وانكبوا على وجوههم، وأصابهم الإحباط والندم.
ويحصل هذا لشرائح الناس المختلفة: فالذين يطلبون العلم ويهتمون به، إذا كانت هماتهم أقوى من قرائحهم، كثيراً ما يصابون بهذا النوع من الإحباط، فينفق أحدهم السنتين أو الثلاث أو الأربع، فلا يحصل على العلم الذي يطلبه، لكنه لم يتوكل على الله في جمعه للعلم، ولم يقدم الأسباب الشرعية فيه، وإنما اتكل على حوله وقوته فوكله الله إلى حوله وقوته، ولم يعطه من العلم ما يطلب؛ فلذلك ينكفئ على عقبيه، ويصاب بإحباط شديد، بل ربما تأثر عقلياً أو نفسياً، وكذلك الذين يجمعون الدنيا، ويتكلون في ذلك على الأسباب، يخاطرون المخاطرات، ويبذلون الجهود المضنية، وكثيراً ما يموت بعضهم في سبيل الوصول إلى هدف دنيوي معتاد، أو يقترف جرائم عظيمةً بسبب الوصول إلى ذلك الذي يريده، وإذا وصل إليه انتهى عمره دون أن يستفيد شيئاً، كما قال ابن مالك رحمه الله تعالى:
أطعت الهوى فالقلب منك هواء قسا كصفاً مذ زال عنه صفاء
ورمت جداً ما إن يدوم جداؤه وسيان فقر في الثرى وثراء
أيا ابن البرا استحضر براءً من الدنا فشبه العفا الملقى عليه عفاء
كفى بالفنا قوتاً لنفس فناؤها قريب ويكفيها صرى وصراء
ولو في الملا رمت الملاء حللت في رجاه إذا ما صح منك رجاء
كأن الورى والموت نسي وراءهم ذوات الأذى قد حازهن أباء
فلذلك يصاب هؤلاء بالإحباط إذا لم تتحقق آمالهم؛ لأنهم لم يتبرءوا من حولهم وقوتهم، ولم يتوكلوا على حول الله وقوته، لم يعتصموا بحول الله وقوته، وتوكلوا على الأسباب، فخانتهم الأسباب، فأصيبوا بهذا الإحباط.
كذلك الذين يدعون إلى الله، ويتعلقون بإعلاء كلمة الله، ويهتمون بذلك، كثيراً ما تعجبهم الأسباب الدنيوية، وينشغلون بها ويهتمون بها، ويبذلون فعلاً، ويضحون في سبيل أهدافهم، لكنهم إذا غفلوا عن التوكل على الله سبحانه وتعالى والاعتصام بحوله وقوته، والبراءة مما لديهم من حول وقوة، كثيراً ما يصابون بالإحباط، فتتراجع الآمال، وتنسد الأبواب، ويخبو النور الذي كانوا يعلقون عليه أملاً في جهة من الجهات، فإذا لم يكونوا أصحاب إيمان وقوة كثيراً ما ينكصون على أعقابهم، ويرتدون أدراجهم، نسأل الله السلامة والعافية.
كذلك فإن من أسباب هذه الجرائم: الجهل، وهو سبب لمعصية الله، وما عصي الله إلا عن جهل، إما عن جهل به، وإما عن جهل بشرعه، لكن لم يعص الله قط إلا عن جهل، إما أن يكون الجهل بالله وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر:67] ، أو أن يكون الجهل بشرع الله، فكثير من الناس يمارسون أعمالاً يتقربون بها إلى الله، ويظنونها من أزكى قرباتهم، ومن أهم ما يعولون عليه في آخرتهم، وهي من أعظم ذنوبهم عند الله سبحانه وتعالى، ومن أخطر ما سيجدون في ميزان سيئاتهم وأثقله؛ والسبب: جهلهم بما شرع الله سبحانه وتعالى.
إن الجهل مقتض للوقوع في هذه الجرائم؛ ولهذا فمن هذا الاسم اشتقت الجاهلية، فهي من الجهل، والجهل جهلان: جهل هو ضد العلم، وجهل هو ضد الحلم، والجاهلية مشتقة من الثاني على الراجح، ففيها الجهل الذي هو ضد الحلم؛ لما ينتشر فيها من النزق والخفة؛ ولذلك كان أهلها يغضبون لأبسط الأسباب وأسهلها وأهونها، وإذا غضبوا تصرفوا تصرفاً يندمون عليه فيما بعد ندامة الكسعي حين كسر قوسه وعض أصبعه فقطعها، فهكذا أهل الجاهلية.
إن هذه الجرائم التي تنتشر إذا بحثنا عن عدها سنجدها ذات كثرة طائلة، وسنجد الأيام حبالى بها، فكل يوم تظهر فيه جريمة وتنتشر، ولا يفتح الإنسان مذياعاً، ولا يقرأ في جريدة، ولا يرى وسيلة من وسائل المعرفة والعلم إلا اطلع فيها على كثير من الجرائم الجلية التي لم تكن تخطر على باله؛ بل إن كثيراً من الدول اليوم تعلن عجزها أمام بعض الجرائم، فلا تستطيع مكافحتها بالكلية.
هذه الولايات المتحدة الأمريكية التي تزعم بكبريائها وعنجهيتها أنها قائدة العالم، بل يسميها الناس اليوم بشرطي العالم الذي يدافع الجرائم ويحمي الناس منها، استسلمت أمام الأحداث والقصر وطلاب المدارس، لم تعد قادرةً على الوقوف في وجه جرائمهم، فالصبيان الذين يدرسون في الإعدادية، والمراهقون الذين يدرسون في الثانوية يقترفون جرائم بشعة، يأتي أحدهم برشاشته إلى البيت فيقتل أباه وأمه وكل من في البيت من الأحياء، ثم ينتحر بعد ذلك، أو يأتي بقنبلة معه مع دفاتره وكتبه إلى المدرسة فيفجرها في القاعة فيهلك جميع الطلاب، ويهلك هو نتيجة ذلك.
إن هذا النوع من الجرائم أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية رغم كل كبريائها عجزها عن مكافحتها، فضلاً عن الدويلات الأخرى الضعيفة، فالإجرام فيها يتجاوز هذه الحدود، بل إن كثيراً من الذين ينبغي أن يكونوا مكافحين للإجرام هم الذين يمارسونه بأنفسهم، كما قال الشاعر أحمد مطر :
لأن من يسرقها
يملك مبنى المحكمة
ويملك القضاة والحجابا
فكل هؤلاء الذين يقترفون كثيراً من الجرائم هم الذين يشكى إليهم، وهم الذين ترفع إليهم القضايا، أو يقترفها الناس تقوياً بهم، فأقاربهم وحاشيتهم يجرمون ويقترفون ما يحلو لهم أن يقترفوا ويجرموا، لكن إذا جاءت الملفات إلى مكان التحقيق أو العدالة اختفت وسرقت، ولم تبق لها باقية، إن هذا النوع إذا تفشى في أرض فهو منذر بالخطر والدمار الشامل.
كان أحد الدعاة في زماننا هذا بين يدي أحد الرؤساء، فكلمه هذا الرئيس بكلام لا يليق، وهو شيخ كبير السن، فقال له: سأشكوك! قال: إلى من تشكوني وأنا رئيس الدولة؟ فقال: أشكوك إلى ديان السموات والأرض! فرعب هذا الرئيس رعباً شديداً وقال: اسحب هذه، ونزل عن كرسيه متواضعاً للشيخ يريد أن يقبل يده؛ ليسحب هذه الشكوى.
فالذين ترفع إليهم الشكايات اليوم من أهل الأرض كثير منهم من الذين يساعدون في انتشار الإجرام، إن لم يكونوا من المباشرين والمقترفين له بالمباشرة.
كذلك من أسباب انتشار الإجرام: نقص الوعي بين الناس.
فكثير من الناس وعيه وتصوره بسيط جداً وقليل، فلا يدرك المخاطر الكبيرة أمام الإجرام، ومن هنا يظن أن الأمور على طبيعة أهل البادية، يأتي فيها الإنسان الآن بما يريد وبعد ذلك تستتر وتخفى ولا يبقى لها أثر، وكذلك كثير منهم يهمل أهل الإجرام بسبب نقص وعيه هو، فيرى المجرمين وهو يشاهدهم، وبالإمكان أن يشهر بهم، وبالإمكان أن يحاول الحيلولة بينهم وبين إجرامهم، لكن إذا لم يمس الإجرام بيته أو ماله أو ما يتعلق به لا يعنيه ولا يهتم به، وهو ينسى أن هذا الإجرام شديد العدوى، وهو بمثابة الحريق المستطير، إذا لم يصب بيتك فإنه يصيب بيت أخيك.
وقد قال ابن حزم رحمه الله تعالى مثالاً عجيباً فيما يتعلق بالخروج على أهل الجور والظلمة في زمانه في مناظرة علمية فقهيةً عجيبة، قال فيها: إذا وجدت من ينكر الخروج على هؤلاء ومنافحتهم فيما هم فيه، فقل لهم: أرأيت إن اعتدي على زوجتك أكنت تسكت وتصبر؟ فسيقول: لا، فقل له: هل هي أشد حرمةً من زوجات كل المسلمين؟ هل لديها حصانةً تمتاز بها عن غيرها من النساء؟ إذا تجاوزت هذه فاسأله: إذا اعتدى على بيتك ومنزلك الذي تسكنه هل ستصبر وتسكت؟ فسيقول: لا، فقل له: وهل هو أشد حرمةً من بيوت المسلمين؟ ويتدرج به في هذه المناظرة المقنعة العجيبة، إن كثيراً من الناس إذا رأوا المال العام ينتهك لا يعتبرون هذا جريمةً؛ لأنهم لا يظنون أنهم يملكون فيه حظاً؛ لتعودهم على الاستبداد، فقد تعود الناس في كثير من البلدان على الاستبداد المطلق من قبل الدول، فظنوا أن الأملاك العامة هي ملك لأولئك المستبدين وحدهم، ولا شيء فيها لأي طرف آخر، ومن هنا إذا سرقها هذا السارق أو انتهبها هذا المنتهب، أو حصل فيها أي إجرام من أنواع الإجرام، فهذا أمر لا يعنينا ولا نتدخل فيه، إن هذا الذي ينتهب ويسرق هو مالك، ولك فيه حظ ولأولادك ولمن بعدك ولجيرانك، وهو عموماً مال المسلمين، وأنت مخاطب شرعاً بحمايته وحفظه ما استطعت.
إن الذي يرى محاسباً أو مديراً أو رئيس مصلحة يجرم بأخذ المال العام ويسرف فيه، ويتعدى فيه حدود الشرع، فلا يعتبر هذا جريمةً متعلقةً بحقه الشخصي، ولا يلفت هذا انتباهه ولا اهتمامه، هو غير واع بالواقع؛ لأن هذا الذي ينتهك هو ملكك، وهو مصالحك ومصالح أهلك وشعبك كله، وإذا أهملتها أنت ولم تراعها فسيهملها من سواك، ومن هنا يترسخ الاستبداد، ويترسخ الإتلاف، وتستمر الجرائم إلى هذا الحد الذي ليس بعده إلا الدمار الشامل.
إن هذه الجرائم المنظمة إنما تنتشر في البلدان التي ينقص فيها الوعي بين الناس؛ لأن الناس إذا كانوا على وعي بها فسيأخذون حذرهم، وسيعمل كل إنسان منهم بما يستطيع من الوسائل للنجاة من هذه الجرائم، لكن إذا نقص الوعي لدى الناس فأصبحت الأمور تؤخذ تارةً بمأخذ الجد، وتارةً بمأخذ الهزل، حتى يلتبس الجد والهزل على الناس كما قال الشاعر:
تخلط الجد بأنواع اللعب
فإن الأمر سيذوب ويزول. ولا يكون له حام ولا مدافع، تنتشر جريمة من الجرائم كبيع المخدرات أو استعمالها أو غير ذلك من أنواع الجرائم، فيقام بالمبادرة لمكافحة هذه الجريمة، وتأتي هذه المبادرة جادةً في البداية، ثم إذا وصلت إلى حلقات معينة يسدل عليها الستار، ويأتي اللعب بدل الجد، وتذهب الأمور وتزول؛ لتزداد هذه المشكلات والجرائم، ويزداد الطين بلة.
وكذلك يقتل القاتل عمداً وعدواناً فيحكم عليه القاضي بالقصاص، ويطالب أولياء الدم به، وهذا القصاص قد جعل الله فيه حياةً كما قال تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة:179] ، فيصلوا إلى حلقة من الحلقات ويتوقف فيها الملف وينتهي الأمر، بل يودع كثير من هؤلاء السجون وهي مدارس للإجرام، فيتمرسون على الجرائم بأكثر مما كانوا عليه، فلا يخرج أحدهم من السجن إلا وقد ذهب ما بقي معه من أخلاق ومن دين ومن قيم، ويأتي لينشر ذلك في المجتمع، فأصبح أستاذاً في الإجرام، وما أكثر دكاترة الإجرام بين الناس اليوم الذين مهروا فيه ودربوا عليه فيأتون لتعليمه ونشره بين الناس، إن كثيراً من هؤلاء ينظر الناس إليهم نظرة تقدير واحترام؛ ولهذا لا تستغربوا إذا ولي السارق منصباً سامياً بعد أن ثبتت عليه السرقة وعزل من منصبه؛ لأن هذا راجع إلى عدم وعي الناس، فالناس يحترمونه ويقدرونه، وإذا دخل مجلساً قام الناس إليه احتراماً له، فلا يستغرب أن يعين في وظيفة سامية؛ لأن الحكومات إنما تنظر في بعض الأحيان إلى آراء الناس ومن يقدرونه ويحترمونه، لكن إذا حصل الوعي لدى الناس فأصبح السارق يعرف أنه سارق، وأنه مهين، لا كرامة له بين الناس، وأنه قد أهدر كرامته بسرقته ونهبته، وأصبح الزاني كذلك يعرف هذا، ويعرف مهانته عند الناس، وأصبح كل مجرم يستشعر بين الناس إهانةً ومذلة؛ فإن هذا هو الذي يكافح هذه الجريمة.
وانظروا إلى تأديب النبي صلى الله عليه وسلم لبعض الذين اقترفوا بعض الجرائم من أصحابه: تخلف ثلاثة رجال من الصالحين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن غزوة أمر فيها بأن لا يتخلف عنه أحد يقدر على القتال إلا بإذنه، فتخلف هؤلاء بسبب طول الأمل، فكانوا كل يوم يريدون الخروج فلا يتمكنون منه، فيقولون: لعلنا نخرج غداً، حتى قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً من تبوك، فلما قفل ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، واستشعروا الإجرام الذي وقعوا فيه، والذنب الذي هم فيه، فليسوا مثلنا، هم أهل الإيمان وأهل الصحبة والجهاد في سبيل الله.
ولذلك إذا وقع أحد منهم في ذنب خفيف ضاقت عليه الأرض بما رحبت، واستشعر موقفه بين يدي الله، واستشعر عظمة من عصاه؛ لذلك ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء المنافقون فاعتذروا وحلفوا، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عذرهم ووكل سرائرهم إلى الله، وجاء هؤلاء الثلاثة فصدقوا ولم يكذبوا ولم يحلفوا، بل أخبروا أنهم تخلفوا من غير عذر، وأن الشيطان غرهم بطول الأمل، وأنهم تائبون نادمون على ما فعلوا، فأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم حتى ينزل عليه فيهم الوحي، لكنه أدبهم تأديباً بالغاً يكون رادعاً لكل المؤمنين ممن وراءهم، أمر الناس ألا يردوا عليهم السلام، وألا يكلموهم في أي شيء، فقاطعهم المجتمع حتى زوجاتهم وأحب الناس إليهم، لم يرد أحد عليهم السلام، ولم يكلمهم بأي كلام، يقول كعب بن مالك حين طالت عليه المقاطعة: خرجت إلى أبي قتادة وهو ابن عمي، وأحب الناس إلي، فطرقت عليه الباب واستأذنته، فلما عرفني لم يأذن لي، فتسورت عليه حتى دخلت عليه، فسلمت عليه، فلم يزل جالساً مشتغلاً بما كان مشتغلاً به، فقلت: يا ابن عمي! ألست تشهد أني أحب الله ورسوله؟! فما رد علي ببنت شفة، بل سمعته حين أعرضت عنه أبكي يقول: الله ورسوله أعلم، فرجعت إلى داري وقد ضاقت علي الأرض بما رحبت.
فهذا الاستشعار الذي يستشعره من وقع في جريمة، عندما يرى مقاطعة الناس له يستشعر فعلاً أنه مجرم، وأنه ينبغي أن يقاطع، وليس أهلاً لاحترام ولا لتقدير، فهذا الذي يكون رادعاً له عن جريمته ويرده عنها.
كذلك حدود الله التي هي علاج لهذا الإجرام وردع عنها بالكلية، وهي جوابر لما فرط فيه الإنسان في جنب الله، وزواجر كذلك عن اقتراف مثله، هذه الحدود تمنع هذه الجرائم وتردعها، فالقتل جزاؤه القتل، من قتل جزاؤه أن يقتل، فإذا قتل واحد بسبب قتله كان ذلك رادعاً لألف أو أكثر؛ ولهذا قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة:178] إلى أن قال: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة:179] ، فهي حياة للطرفين: حياة للذي يريد القتل؛ لأنه إذا تذكر أنه سيقتل لن يقدم على القتل، وحياة كذلك للمقتول الذي كان سيقتل؛ لأن قاتله إذا علم أنه سيقتل به لم يقتله، حياة للطرفين معاً.
وكذلك حد الردة، فمن ارتد عن دين الإسلام جزاؤه أن يضرب عنقه بالسيف كما قال صلى الله عليه وسلم: ( من بدل دينه فاقتلوه )، فإذا كان الإنسان لا يستشعر هذه العقوبة ولا يراها واقعياً، فكل من زين له شيطانه أن يرتد عن الدين وجد ذلك أمراً سهلاً سائغاً بين الناس، لكن إذا رأى أن من بدل دينه يقتل عياناً جهرةً بين الناس، فهذا رادع ومقتض من الناس ألا يبدلوا دينهم.
وكذلك الزاني المحصن إذا أقيم عليه حد الرجم فرجم بالحجارة حتى يموت بين الناس، وشهد عذابه طائفة من المؤمنين، فإن هذا رادع لكل من سولت له نفسه هذه الفعلة، وكذلك الزاني البكر إذا جلد عياناً أمام الناس مائة جلدة وغرب وسجن سنةً كاملة، فإن هذا رادع لأمثاله مانع من العودة لمثلها أبداً.
وكذلك السارق إذا سرق فقطعت يمينه وحسمت بالزيت المغلى في النار أمام الناس، وعلقت في رقبته، وطيف به بين الناس، فإن هذا مدعاة للابتعاد عن هذه الجريمة بالكلية، وللحفاظ على أموال الناس.
وكذلك الذي يقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، إذا أتي به أمام الناس فجلد ثمانين جلدة، فإن ذلك مدعاة لئلا تشيع هذه الفاحشة بين المؤمنين.
ومثل ذلك اللوطي الذي يقوم بهذه الجريمة، فإن قتله أمام الناس أيضاً رادع لكل من تسول له نفسه مثل هذه الجريمة؛ ولذلك لم تعرف جريمة اللواط في المجتمع الإسلامي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في حياة أبي بكر ، ولا في حياة عمر ، وإنما عرفت في أواخر حياة عثمان في الأصقاع النائية من الأمصار، حيث دخل في الإسلام أقوام كانوا يتعودون على بعض هذه العادات، فلما ظهر ذلك جمع عثمان الناس فسألهم عن حد اللوطي: هل هو حد الزنا أو غير ذلك؟ وكان من الذين أشاروا عليه ابن عباس ، فقال: لم يقترف هذه الجريمة إلا قرية واحدة، فرفعها الله، ثم ردها على الأرض فأهلكها، فأرى أن من ثبت عليه هذا يرفع على أرفع مبنىً في المكان، ويرمى منه على الأرض. فأمر عثمان رضي الله عنه بأن ينفذ ذلك في الرجل الذي ثبت عليه هذا، فرفع على أعلى مبنىً في القرية ثم رمي على الأرض ومات.
فهذا النوع من العقوبات الرادعة هو خير من أن يودع هؤلاء المجرمون في السجون؛ للتعود على الجريمة، والازدياد من الخبرة فيها؛ والإنفاق عليهم النفقات الطائلة، ويقام عليهم الحراس الذين يأخذون الرواتب الباهظة دون أن يتعلموا من سواهم ضرر جريمتهم.
كذلك فإن من وسائل مكافحة هذه الجرائم وإزالتها بالكلية: أن يعلم الناس أحكام الله فيها، وأن تذاع بينهم. فـعبد الله بن ياسين رحمه الله تعالى -وهو أول من أقام رباطاً في هذا البلد، وأحسب أنه يكتب له أجر من جلوسكم هذا ومن جلستكم هذه، ومما يشبهها من الجلسات إلى يوم القيامة- عندما أتى هذه البلاد ووجد أهلها لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه، ولا يطبقون من الدين إلا رسمه، جمع خيرتهم في رباطه، أول ما بدأ علمهم الزواجر، ككبائر الإثم وما يتعلق بأمر العقوبات، وأشاعها بين الناس حتى أصبح الناس يفرون منها ويرهبونها ويخافونها، ثم بعد ذلك علمهم الفرائض، وبين لهم العقوبات التي تترتب عليها وهي في أغلبها عقوبات تعزيرية، فإذا تخلف الإنسان عن ركعة واحدة من الصلاة جلده عشرة أسواط، وإذا تخلف عن ركعتين جلده عشرين سوطاً، وإذا تخلف عن ثلاث ركعات جلده ثلاثين سوطاً، وإذا تخلف عن أربع ركعات جلده أربعين سوطاً، عود الناس على الانشغال بالصلاة وترك ما كانوا فيه، وقد وجد عاداتهم كعادات أهل البادية حين طال بهم الأمد وتركوا دعوة ابن ياسين وأهملوا تعاليم الإسلام، فكان الناس قبل مجيئه لا يصلي منهم في المساجد إلا نفر يسير، ولا تبنى المساجد ولا تقام، والذين يصلون الصلاة ينقرونها نقراً؛ لأنهم يخافون ضياع أموالهم أو تلف بهائمهم أو زروعهم، ولا يتوضئون إلا نادراً؛ لأنهم لا يجدون الماء إلا بالحفر في أعماق الأرض، ولا يقيمون كثيراً من حدود الله؛ لأنهم عشائر وقبائل يتحاكمون إلى الأعراف والعادات.
فلما جاء ابن ياسين كافح كل هذه الأمور، وعلمهم دين الله الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأزال الجاهلية من نفوسهم، وبذلك استطاعوا أن يتخلصوا من هذه الجرائم وأن يتركوها بالكلية.
كذلك جاء قوم بعد ابن ياسين حاولوا تجديد دعوته، وهم خمسة رجال فقط، وقد اجتمع هؤلاء وتعاهدوا على أن يحيوا دعوة ابن ياسين أن يحيوا الرباط من جديد، وعندما أقاموا في مجتمعهم مكثوا فترةً طويلة لم يروا أية جريمة، عينوا قاضياً مكث زماناً لم يتحاكم إليه اثنان، ولم تقع أية خصومة؛ لأن الناس قد رجعوا إلى قيم الإسلام وأخلاقياته، وأول خصومة حصلت حصلت بين أخوين، فأرسلا إلى القاضي وضربت لهما قبةً بعيداً عن أماكن الناس، وجلسا فيها ينتظران القاضي، فقيل: هذا القاضي قد أقبل، فقالا: ليرجع القاضي، فهذا أمر ينبغي أن يستر وهو واجب الاستتار، فنصلح شأننا فيما بيننا، ورجع القاضي دون أن يسمع الخصومة أصلاً ودون أن يسمع الدعوى.
إن هذه الجرائم من أبلغ ما يكافحها تصديق القيم، والعودة إلى منابع الدين كما هي، والرجوع إلى أخلاق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وإلى أخلاق أصحابه، إن حد الردة لما قام أبو بكر بقتال أهل الردة وقاتلهم على الإسلام قد أصبح ذلك رادعاً، فلم يعرف في أيام الخلفاء الراشدين أن أحداً أقيم عليه حد الردة، ولا في صدر دولة بني أمية، إلى أن وصل الأمر إلى آخر دولة بني أمية، فأول من عرف ممن قتل على الردة هو الجعد بن درهم الذي زعم أن الله لم يستو على عرشه، ولم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، فخطب خالد بن عبد الله بن يزيد القسري خطب الناس خطبة العيد، فقال في آخر خطبته: أيها الناس! ضحوا تقبل الله ضحاياكم؛ فإني مضح بـالجعد بن درهم ؛ فإنه زعم أن الله لم يستو على عرشه، وأنه لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، فنزل عن المنبر، فذبحه كما تذبح الضحية.
فقتال الردة جعل الناس يرتدعون عن الردة زماناً طويلاً، ولا يستطيع أحد أن يفكر في الارتداد عن الإسلام للعقوبة الرادعة التي قام بها أبو بكر والصحابة معه.
ومثل ذلك العقوبات التي أشيعت أيضاً في صدر الإسلام، فستجدون أن كل عقوبة أقيمت في بلد واشتهرت فيه فإن أهل ذلك البلد سيرتدعون عما رتب الشارع عليه تلك العقوبة؛ ولهذا جاء في الحديث: ( لحد واحد يقام على الأرض خير لأهلها من أن يمطروا سبتاً )، (سبتاً) أي: أسبوعاً كاملاً.
إن تعطيل حدود الله هو محادة لله في أرضه، ومنازعة لرسوله صلى الله عليه وسلم في أمره، وإشاعة للفواحش والمنكرات بين الناس، وإذاعة كذلك للإجرام ولأنواع الانتهاكات التي يتضرر بها جميع الناس؛ فكثير من الناس لنقص وعيه يظن أن المؤسسات القائمة التي تذكر بأسمائها الوظيفية هي التي يعهد إليها بمثل هذه الأمور، لكن هذه المؤسسات لا تبعث يوم القيامة، الناس اليوم يقولون: فلان قتلته الدولة، أو المال الفلاني صرفته الوزارة الفلانية أو الإدارة الفلانية، لكن هذا الكلام إنما هو دنيوي لا يصل إلى يوم القيامة، يوم القيامة يقال: فلان قتله فلان، فلان سجنه فلان، المال الفلاني انتهبه فلان أو سرقه فلان، العمل الفلاني اقترفه فلان بشخصه، فلا يبعث يوم القيامة رئيس ولا وزير ولا مدير ولا حاكم ولا وال، يبعثون يوم القيامة سواسية، وكل شخص منهم يخاطب بعمله وحده.
والذي يظن أن مما يعذر به اليوم أمام الناس اللقب الوظيفي هو مخدوع بذلك، فهذا اللقب سيزايله وسيخرج منه عما قريب، وسيبعث فرداً كسائر الناس، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم:95] ؛ ولذلك فالذين قد ذهبوا إلى الدار الآخرة من الذين تجبروا وطغوا وبغوا في هذه الأرض، إذا وقفت على قبورهم ووقفت على قبور من سواهم لا تجد فرقاً بين الجانبين، إلا ما يظن بهذا وما يظن بهذا فقط، علم ذلك كله إلى الله سبحانه وتعالى ومصير كل شيء إليه.
ثم إن هذه الجرائم التي تتفشى بين الناس وتشيع بينهم، لا ينبغي أن يظن الناس أن الجهة الحاكمة أو القضاء أو الشرطة هي المسئولة عن مكافحتها فقط، بل الجريمة اعتداء على أهل الأرض كلهم، ويجب عليهم أن يتعاونوا على مكافحة الجريمة، وأن يقفوا في وجه الإجرام أياً كان، وهذا من حقوق المسلم على أخيه، كما صح في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً. قالوا: يا رسول الله! أنصره مظلوماً، فكيف أنصره ظالماً؟! قال: تمنعه أو تحجزه عن ظلمه؛ فإن ذلك نصره )، إذا حجزته عن ظلمه فقد نصرته.
وما أحوج الناس إلى ترسيخ هذه القيم اليوم بينهم، وأن يحجز كل أحد منهم أخاه عن ظلمه، وأن يحاول ألا يتفشى هذا الإجرام في محلته أو في المكان الذي فيه نفوذه وتأثيره.
فإذا وجدنا من الناس ملأً جعلوا من أولوياتهم وواجباتهم مكافحة الإجرام، وبذلوا في سبيل ذلك قصارى جهدهم، فإن هؤلاء سيكتب لهم أجور لا حصر لها، وسيرتفع بهم شؤم هذا الذنب إن لم يرتفع بهم وجوده، قد لا يرتفع وجود الذنب في فترة وجيزة، لكن يرتفع شؤمه إذا وجد قوم يقفون في وجهه ويريدون مكافحته، ومنع انتشاره بالكلية.
والأمر سهل يسير، إن تشكيل جماعة أو مجموعة من الناس تتبنى محاربة الإجرام، أو حتى محاربة نوع واحد من أنواعه: محاربة اللصوصية، أو محاربة الإجرام الإعلامي، أو محاربة السرقة، أو محاربة المخدرات، أو غير ذلك من أنواع الإجرام، تشكيل هذا لا يكلف شيئاً؛ لأن هذا من الأمور التي تميل إليها الفطرة وتألفها النفوس السليمة، وما من أحد يدعى لمثل هذا إلا استجاب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لقد شهدت حلفاً في الجاهلية لو دعيت إليه في الإسلام لأجبت )، وهذا الحلف هو حلف الفضول، تعاهد فيه المطيبون على نصرة المظلومين بمكة حين انتشر الفساد والظلم بمكة، وكان الحجاج تنتهب أموالهم، والعمار كذلك تنتهب أموالهم، تعاهد المطيبون على نصرة كل مظلوم، فطيبتهم عمة النبي صلى الله عليه وسلم عاتكة بطيبها، ومسحوا أيديهم بالطيب ومسحوها على الحجر الأسود، وتبايعوا على نصرة المظلومين بمكة، فلو دعي النبي صلى الله عليه وسلم إلى مثل هذا الحلف في الإسلام لأجاب إليه، وهذا يدلنا على أهمية مثل هذا النوع من الأحلاف مما يقرها الإسلام، لا ينبغي أن يخلو من مثل هذا قطر من أقطار المسلمين، أو بلد من بلادهم حتى لو أقيمت لجان في البلدان أو الأحياء للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولمكافحة الإجرام بما تستطيعه هذه اللجان، مثلاً: بتبليغ الشرطة، أو تبليغ الحكام، أو الولاة، أو على الأقل التشهير في الإعلام بالعصابات أو بأصحاب اللصوصية والإجرام، فشكلت لجان لمثل هذا في الأحياء، فهذا النوع من الأمور التي يردع الله بها، وهي على الأقل معذرةً إلى ربكم، وفيها إجابة لهذا الأمر الذي لو دعي له رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام لأجاب إليه.
إن انتشار الإجرام بين الناس مؤذن بخطر عظيم، فهو مقتض لحصول مقت الله سبحانه وتعالى وسخطه، وإذا حل المقت فإن العقوبة ستكون شاملة، ثم بعد ذلك يبعث الناس على نياتهم، كما صح عن عائشة رضي الله عنها في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يغزو جيش الكعبة، حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بأولهم وآخرهم، فقلت: يا رسول الله! كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟! فقال: يبعثون على نياتهم ).
فهذا النوع إذا جاءت العقوبة وحلت ستشمل الجميع، وتأكل الأخضر واليابس، وتقضي على الصالح والطالح، لكنهم يبعثون يوم القيامة على نياتهم، من كان منكراً مبغضاً للإجرام سينجو منه يوم القيامة، لكن يشمله شؤمه في هذه الدنيا؛ ولذلك يجب علينا جميعاً إذا سمع أي أحد منا منكراً أن يبرأ إلى الله منه، وأن يشهد على ذلك، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل حين سمع بقصة خالد رضي الله عنه مع بني جذيمة، وذلك ( أنه أرسل خالد بن الوليد رضي الله عنه بعد فتح مكة ليقاتل من امتنع عن الإسلام من الأعراب المحيطين بمكة، فأتى بني جذيمة، فدعاهم إلى الإسلام فقالوا: صبأنا صبأنا، ولم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فتأول خالد بن الوليد وأصحابه فأعملوا فيهم السيوف، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فمد يديه إلى السماء وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد . فلما جاء خالد بين عذره لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل عذره ).
ومثل ذلك ما فعل ( حين أتاه محلم بن جثامة وقد قتل رجلاً شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم لا تغفر لـمحلم بن جثامة . فقال: يا رسول الله! والله ما قالها إلا استعاذةً من السيف، وما قتلته إلا وهو كافر! فقال: اللهم لا تغفر لـمحلم ، فمكث ثلاثاً في أسوأ حال ومات، فدفنوه فأصبح وقد قذفته الأرض، ثم أعادوه فأصبح وقد قذفته الأرض ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إن الأرض لتواري من هو شر منه ولكنها آية )، الأرض تواري من هو أشر منه، تواري كثيراً من الكفرة والمجرمين، ولكنها آية ردع الله بها سبحانه وتعالى عن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا يزال المسلم في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً ).
فلهذا على الناس أن يتعاونوا على مكافحة هذه الجرائم، وأن يعلموا أن خطرها وضررها عليهم أجمعين، وأنها لا تختص بالمتضررين المباشرين بها، بل يتعدى ضررها إلى من سواهم، ويهلك الحرث والنسل، وينقطع بها القطر من السماء.
وقد أخرج ابن ماجه في سننه و أحمد في المسند و الحاكم في المستدرك بإسناد صحيح من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يا معشر المهاجرين! أعيذكم بالله أن تدركوا خمساً: ما نقص قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين، وجور السلطان، ونقص المئونة، ولا نقض قوم عهد الله وميثاقه إلا سلط الله عليهم عدواً من سواهم فأخذ بعض ما في أيديهم، ولا منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، وما ظهرت الفاحشة في قوم فأعلنوا بها إلا ظهرت فيهم الأمراض التي لم تكن فيمن مضوا من أسلافهم، وما حكم قوم بغير ما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم ).
فهذه الجرائم تتعلق بها عقوبات وشؤم في هذه الدنيا؛ ( يا معشر المهاجرين! أعيذكم بالله أن تدركوا خمساً )، الحديث فيه روايات مختلفة، لكن هذا جمعها، ( ما نقص قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين، وجور السلطان، ونقص المئونة، ولا نقض قوم عهد الله وميثاقه إلا سلط الله عليهم عدواً من سواهم فأخذ بعض ما في أيديهم، ولا منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، وما ظهرت الفاحشة في قوم فأعلنوا بها إلا ظهرت فيهم الأمراض التي لم تكن فيمن مضوا من أسلافهم، وما حكم قوم بغير ما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم ).
فهذه الجرائم إذا انتشرت فوبالها وعقوبتها ستشمل الصالح والطالح؛ ولهذا يجب على المسلمين أن يتعاونوا على مكافحة هذه الجرائم، والوقوف في وجهها.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجنبنا جميع الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يرفع عنا كل الجرائم، وأن يجعل بلدنا هذا بلداً آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم اجعل بلدنا هذا بلداً آمناً مطمئناً، رخاءً وسخاءً وسعةً يا أرحم الراحمين.
اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعل المال في أيدي أسخيائنا يا أرحم الراحمين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر