إسلام ويب

مسئوليات المسلمللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الاصطفاء للأمة المحمدية من بين الأمم لابد وأن يترتب عليه مسئوليات؛ لأنه على قدر التشريف يكون التكليف. ومن هنا يلزم كل مسلم أن يستشعر عظم المسئولية والأمانة التي حملها تجاه دينه ونفسه وغيره، كما عليه أن يرتقي حتى يكون من أكمل المؤمنين إيماناً

    1.   

    استشعار المسئوليات والقيام بها

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد: فإن من تشريف الله سبحانه وتعالى للعبد أن يهديه الصراط المستقيم، وأن ينور قلبه بنور الإيمان، ولا يمكن أن يؤمن الإنسان إلا بهذا التشريف والاجتباء، فلولا هو لما آمن أحد كما قال الله تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ [يونس:99-100].

    وقال تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمْ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمْ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ [الأنعام:109-111].

    لكن هذا الاجتباء والاختيار الرباني تترتب عليه مسئوليات؛ لأنه على قدر التشريف يكون التكليف، فإذا شرف الله عبداً بالعقل رتب على هذا العقل التكليف، وإذا شرفه كذلك بالجوارح أسقط عنه ما كان يقابل نقصها من العذر، وإذا زاده بالعلم والمال والقوة زاده مقابل ذلك مسئوليةً عن غيره، ومسئوليات المؤمن هي على قدر تشريفه، فإن الله سبحانه وتعالى اختاره على الخلائق فاجتباه بنور الإيمان، ونور قلبه به، فجعله من عباده المهيئين لخدمته، الذين استغلهم الله سبحانه وتعالى في طاعته، وهداهم إليه صراطاً مستقيماً، وحينئذ لا بد أن تكون مسئوليته جسيمةً حيال هذا التشريف الذي شرف به.

    استشعار الاستخلاف في الأرض

    وإن من مسئوليات المؤمن: أنه في هذه الأرض خليفة الله سبحانه وتعالى، فهو يحرص على الإصلاح، ويحارب الفساد بكل ما يستطيعه؛ لأنه يعلم أن ما في الأرض خلق لهذا الجنس البشري، وهو مؤتمن عليه، ومن مسئولياته فيه أن يهيئه للانتفاع، وأن يحفظه، وأن لا يدع من يضيعه بوجه من الوجوه، فالناس في هذه الأرض كركاب السفينة بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فلو أن الذين في أسفلها خرقوها ليستقوا من الماء لكان ذلك سبب غرق الجميع، كما بين ذلك رسولنا صلى الله عليه وسلم فيما أخرج عنه البخاري في الصحيح من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فكان بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً ).

    فهذه الأرض مسئولية مشتركة بين سكانها وكل ما فيها من الخيرات أعد لسكانها جيلاً بعد جيل، وهو كاف لهم جميعاً، لكن إذا حصل الإفساد فيها فسيظهر أثره كما قال الله تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].

    السعي في إصلاح النفس والرعية

    ثم من مسئوليات المؤمن كذلك في هذه الأرض: أن يسعى في إصلاح نفسه، وإصلاح من ولاه الله أمره، فهو يترقى في طريق الاستقامة، وهو يحذر أن يرتد على عقبيه، ويحذر الفتن ما ظهر منها وما بطن، ويسير في الاتجاه الصحيح حتى يلقى الله، ولا يتم ذلك إلا بعلم ما أمر الله بتعلمه، ثم بالعمل به، ثم بالدعوة إليه، ثم بالصبر على هذا الطريق ونكباته وأزماته حتى يلقى الله تعالى، ويختلف حاله من جيل إلى جيل، ومن وقت إلى وقت باعتبار تعرضه للفتن، فإن في هذه الأرض أماكن هي عرضة للفتن أكثر من غيرها، وفي هذا الزمان أوقات خصصها الله سبحانه وتعالى لما لم يخصص به غيرها من أنواع الفتن، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن بين يدي الساعة أياماً تكثر فيها الفتن، فيكون المتمسك بدينه كالقابض على الجمر من شدة ما يعاني، وذلك في وقت الغربة الثانية، فإن هذا الدين بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ ) كما أخرج مسلم في الصحيح، وغربته أنواع:

    فمنها: ما كان ظاهراً في الغربة الأولى من إنكار الناس على الملتزمين به، وتشويههم لهم، ومحاولة الضغط عليهم لردهم عن دينهم بما يستطيعون من الوسائل: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217].

    ومن مظاهر غربته كذلك: ندرة المضحين في سبيله الذين يؤثرونه على الدنيا.

    الاتساء بالجيل الأول في تحمل المسئوليات

    ومن مظاهر غربته كذلك: أن يكون أهله غير قائمين بحقه كما نشاهده في هذه الغربة الثانية، فإن هذا الدين هو عدل الله الذي يستحق أهل الأرض أن ينالوا نصيبهم منه، وكان على أهله أن يحملوه فيصلوا به إلى مشارق الأرض ومغاربها، وكان عليهم أن يبلغوه إلى كل من يستطيعون تبليغه إليه، كما فعل الجيل الأول المبارك الذين حملوا هذا الدين بحق، وكانوا يعرفون معنى المسئولية فيقومون بها؛ ولذلك ( فإن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يوم أحد لما قدم سيفاً فقال: من يأخذه؟ تطاولت إليه الأيدي، فقال: من يأخذه بحقه؟ فتقاصرت الأيدي )؛ لأنهم كانوا أصحاب مسئولية، ويعلمون أن الحق أمر عظيم، ( فتقدم إليه أبو دجانة لكنه يعرفه أنه سيأخذه بحقه، فلما أخذ السيف هزه وأدخل يده في جيبه فأخرج عصابة حمراء فعقدها على وجهه وتقدم يتبختر بين الصفين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها لمشية يبغضها الله في غير هذا الموضع )، ثم لما وقف في وجه العدو أنشد مرتجلاً قوله:

    أنا الذي عاهدني خليلي ونحن بالسفح لدى النخيل

    ألا أقوم الدهر في الكيول أضرب بسيف الله والرسول

    ضرب غلام ماجد بهلول

    فما زال يتقدم حتى انحسر العدو من بين يديه.

    إن هؤلاء الجيل الأول هم الذين أدركوا المسئولية العظيمة التي تحملوها، فحاولوا أداءها بحق، حتى إن عقبة بن نافع الفهري رحمه الله لما وصل إلى ضفاف هذا البحر الذي أنتم عليه، وكان إذ ذاك يسمى بحر الظلمات غرز فيه رمحه، وعاهد الله عز وجل أن لو كان يعلم أن وراءه ذو نفس منفوسة لخاض إليه البحر حتى يبلغه دين الله أو يموت دونه.

    قيام الصديق رضي الله عنه بمسئولياته

    وهؤلاء الذين تحملوا هذه المسئولية فعلاً كان لتحملهم لها أثر كبير، فهذا الصديق رضي الله عنه لما توفى الله رسوله صلى الله عليه وسلم، وأصبح الناس كما وصفهم أنس رضي الله عنه، وارتد العرب عن دين الله وأتاه الخبر، وقف في الناس خطيباً فقال: أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، فقاتلوا عن دينكم. وأخرج سيفه من قرابه وكسر قرابه وقال: أينقص هذا الدين وأنا حي؟! فسار على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لحق به، وعندما أدركه الموت عهد بهذا الأمر إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما سئل عن ذلك قيل: بما تجيب ربك؟ قال: إن سئلت قلت: اللهم وليت عليهم خيرهم. فلم يخيب عمر أمله، فسار على طريقه حتى ضرب الناس بعطره كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في رؤياه التي رآها، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: ( رأيت كأني على فم بئر وبيدي دلو بكرة، فنزعت بها ما شاء الله أن أنزع، ثم تناولها ابن أبي قحافة فانتزع بها ذنوباً أو ذنوبين وفي نزعه ضعف والله يرحمه -وفي رواية:- والله يغفر له، ثم تناولها ابن الخطاب فاستحالت غرباً، فلم أر عبقرياً يفري فريه حتى ضرب الناس بعطن ).

    قيام عمر بن الخطاب بمسئولياته

    وعندنا تحمل عمر رضي الله عنه هذه المسئولية رأى أنه لا مجال فيها للمحاباة، ولا لإيثار أحد، وكان يدعو أهل بيته قبل من سواهم، فإذا أراد أن يتقدم إلى الناس في أمر ينهاهم عنه جمع آل بيته، فقال: إني متقدم إلى الناس في هذا الأمر، فهو الذي يحلف به عمر لا ينقل إلي أن أحداً منكم فعله إلا جعلته نكالاً. وقد صح في الصحيح أنه كان اتخذ تسع أوان لأمهات المؤمنين، فكان إذا أراد أن يقسم شيئاً بين أمهات المؤمنين جعل إناء حفصة آخر الآنية، فإذا حصل نقص كان في نصيب حفصة .

    وكذلك فإنه رضي الله عنه عند موته قال لابنه عبد الله : إن المسلمين إنما أعطوا هذا الرزق من بيت المال لـأبي بكر ، وأنا أخشى أن لا أكون قد قمت بما كان يقوم به أبو بكر ، فانظر إلى كل شيء أخذته من بيت المال فأعده، فإن وجدت في مال آل عمر سداداً، وإلا ففي بني عدي بن كعب، وإلا ففي أحياء قريش، فلأن يكونوا خصماً لي يوم القيامة أحب إلي من أن يخاصمني المسلمون.

    هذا خليفة المسلمين الذي مكث عشر سنوات يملك مشارق الأرض ومغاربها، وتجبى إليه الخيرات من كل جانب، ويعدل في الرعية، ويسوي بينهم، ولم يختلف عليه اثنان، مع ذلك يرد راتباً كان المسلمون أعطوه في وقت الشح والقل لخليفتهم الأول أبي بكر رضي الله عنه، ولم يزد مرتب عمر عليه مع تضاعف الولاية، وتضاعف موارد بيت المال، ومع ذلك يريد أن يخرج منه، ولهذا أمر ابنه عبد الله عند موته أن يجعل خده في الأرض، فجعل يمرغ خده بالأرض ويقول: يا ويح عمر إن لم يغفر الله له، ليتني كنت حيضةً حاضتها أمي، ليتني أخرج من هذا الأمر كفافاً لا علي ولا لي.

    قيام عثمان بن عفان بمسئولياته

    إنه قد تحمل هذه المسئولية بهذا المستوى، وكذلك بعده جاء الخليفة الثالث عثمان بن عفان أبو عمرو رضي الله عنه، فعندنا ولي الأمر استشعر عظمة ما حمله، فلما صعد المنبر حمد الله وأثنى عليه، ثم ارتج عليه فلم يستطع أن يتكلم من هول هذه المسئولية الجسيمة التي تحملها، وهو يستشعر أنه يقف في موقف كان يقف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أبو بكر بعده، ثم عمر ، فسكت طويلاً ثم قال: أنتم إلى أمير فعال أحوج منكم إلى أمير قوال، ولئن بقيت لتأتينكم الخطب على وجهها، وسيجعل الله بعد عسر يسراً، واستغفر ونزل.

    وقال للمؤمنين عندما جمعهم: إني غني عن بيت مالكم فلن آخذ منه رزقاً وإنما هو مردود عليكم، فمكث إحدى عشرة سنةً وستة أشهر وهو خليفة للمسلمين، وقد تضاعفت الرقعة في أيامه، واتسعت الأموال وكثرت، ومع ذلك لم يأخذ أي راتب من بيت المال استغناء بما أغناه الله به من المال، وكان من أغنياء المهاجرين.

    قيام علي بن أبي طالب بمسئولياته

    وعندما تولاها علي رضي الله عنه بكى في أول بيعته تذكراً لحقوق المؤمنين، وتحملاً لهذه الأمانة الجسيمة والمسئولية العظيمة، وعندما ذكر بأنه كان قد اتفق عليه الناس وبايعه المهاجرون والأنصار إذ ذاك قال: لكني أتذكر حقوق المؤمنين فما أنا إلا أحدكم، ولكني أثقلكم حملاً، فما أنا إلا أحدكم، يستشعر بعثه هو أمام هذه المسئولية الجسيمة، ولكني أثقلكم حملاً، ثم بعد هذا ينوء بها ويؤدي حقوقها رضي الله عنه وأرضاه، فلما أصيب شهيداً في سبيل الله قيل له: أوص بهذا الأمر إلى أحد فقال: لا أتحمله حياً وميتاً، فامتنع أن يتحمل هذه الأمانة حياً وميتاً، فقال: قد تحملتها حياً فلا أتحملها ميتاً، ولم يعهد بها إلى أي أحد.

    الأثر الجميل لاستشعار المسئوليات

    وكذلك فإن أفراد المؤمنين عليهم من المسئوليات الجسام العظيمة ما لا بد من استشعاره في تحقيق العبودية لله في الأرض، وفي نشر الدين ونصره، وقد كان الجيل الأول كذلك يستشعرون هذه المسئوليات حتى إنهم إذا أوى أحدهم إلى فراشه، ونام على جنبه، يتذكر هذه المسئوليات، فيجد لها الحلول في نومه كما حصل لـعبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري رضي الله عنه، ( فإنه كان يعمل في مزرعته وهو يفكر في وسيلة يجمع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين للصلاة، فلما أوى إلى فراشه مرهقاً متعباً رأى رجلاً يحمل ناقوساً فساومه فيه في نومه، فقال: وما حاجتك إليه؟ قال: أريد أن آتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجمع به المؤمنين على الصلاة، فقال: هل لك في خير من ذلك؟ فعلمه الأذان، فاستيقظ من نومه، فجاء مسرعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: ألقه على بلال ؛ فإنه أندى منك صوتاً -وكان بلال صيتاً فصيحاً- فألقاه عليه عبد الله بن زيد ، فما فرح المؤمنون بشيء بعد الإيمان فرحهم بسماع الأذان )، وهذا الصوت العظيم المدوي الذي تنشق له هذه الأرض وتتفتح له أبواب السماء، إذا قام المؤذن ينادي: الله أكبر الله أكبر، كان أثراً من حسنات ذلك الرجل المزارع الذي كان يفكر في طريقة تجمع المؤمنين على الصلاة، ولا يزال هذا الصوت يدوي في مشارق الأرض ومغاربها، ولا يزال أحسن نداء وشعار يرفع على هذه الأرض، ولن يزال كذلك حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

    1.   

    مسئوليات المسلم نحو دينه ونفسه وغيره

    ثم إن المسئولية الجسيمة التي يتحملها المؤمن كذلك في الإصلاح لا تختص فقط بأمر الدين، وهي متعدية حتى إلى أمور الدنيا، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: ( إنما بعثتم مبشرين لا منفرين )، فهذه الأمة كلها بعثت، فليست البعثة مختصةً بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي أرسل إلى الناس كافة، بل هذه الأمة مبعوثة لإصلاح الناس، ولهذا قال الله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، وقد اختلف أهل التفسير في لام الجر هنا ما متعلقها، هل متعلقها (أخرجت)، أو متعلقها (خيراً)؟ فمن قال: متعلقها لفظ (خير) كان المعنى: كنتم للناس خير أمة أخرجت، فأنتم خير للناس من كل الأمم، وهذا يشمل مؤمن الناس وكافرهم وصالحهم وطالحهم، هذه الأمة خير له من جميع الأمم؛ لأنها التي يرعى فيها حق الجار ولو كان كافراً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( الجار الكافر له حق، والجار المؤمن له حقان )، ويرعى فيها حق الراهب في صومعته، فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكف عنه، وكان يقول لجيشه إذا انطلق: اغزوا في سبيل الله على بركة الله، قاتلوا من كفر بالله، ولا تقتلوا امرأةً ولا صبياً ولا راهباً في دير، ولا شيخاً هرماً، فهذا من مظاهر خيرية هذه الأمة للناس.

    القول الثاني: أن اللام متعلقة بـ (أخرجت)، أي: أن هذه الأمة أخرجها الله كما بعث الأنبياء، فأخرجها للناس لتكون مثالاً حسناً، وأسوةً صالحة، ولتكون حاملة للواء الله سبحانه وتعالى، ولدينه الذي ارتضاه لأهل الأرض.

    استشعار الأمانة التي حملها الإنسان

    كذلك من هذه المسئوليات الجسام التي ينبغي أن يتذكر المؤمن حمله لها: أن الأمانة في تحمل هذا الدين والصدق فيه بالقيام بالقسط لله في هذه الأرض عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ [الأحزاب:72]، والذي يتحملها بحقها هو المؤمن، أما غيره من سائر البشرية فإنه كان ظلوماً جهولاً، فلا يمكن أن يؤدي الحق كما هو، ولهذا لا شك أن من استشعر أن مسئولياته أعظم من أن تتحملها السموات والأرض والجبال، فإن ذلك يقتضي منه حرصاً على أدائها، وتأهباً له، وتقوياً عليها بقوة الله سبحانه وتعالى والتوكل عليه.

    الحرص على نفع أهل الأرض عموماً

    إن مسئولية المؤمن تقتضي منه أن يحرص على نفع أهل الأرض عموماً، وأن ينظر إليهم على أنهم عباد لله سبحانه وتعالى، فمن كان منهم مؤمناً معافىً في بدنه وأهله، فهذا المعافى الذي حقه حق الإخوة وواجبها، ومن كان منهم كافراً أو فاسقاً أو مبتلىً في بدنه فهذا المبتلى الذي حقه الرحمة، والرحمة بالكافر هي الحرص على إسلامه فقط، ولا تتعدى ذلك؛ لأننا نخاطب بالغلظة عليهم والشدة إذا امتنعوا، ولهذا فرحمتنا بهم هي أن نحرص على أن لا يكبهم الله علو وجوههم في النار، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً، حتى إذا أضاءت ما حوله جعل الفراش يتساقط فيها وهذه الدواب، فجعل يدفعهن بيده وهن يقتحمن فيقعن فيها، ألا وإني ممسك بحجزكم عن النار )، فهذه الوظيفة العظيمة لا بد من استشعارها، وأن يستشعر المؤمن في كل زمان ومكان أن عليه أن يكون حاجزاً بين الناس وبين أن يكبهم الله على وجوههم في النار، فلا يرضى الكفر لأحد، ولا يرضى الفجور والفسق لأحد، ويرحمه أن يعذبه الله سبحانه وتعالى بعذابه؛ لأن المؤمن هو الذي يؤمن بالنار، ويعرف حقيقتها، ويعلم أن عليها تسعة عشر، وأنهم الزبانية، وأن حالها لا يمكن أن يرتضيه لمن يحب له الخير بوجه من الوجوه، ومن هنا فإذا رأى من يسعى بنفسه مقبلاً على النار رحمه وحاول منعه من أن يكب فيها بإرشاده، وإقامة الحجة عليه، وهدايته إذا استطاع إلى ذلك سبيلاً، ولهذا أخرج مالك في الموطأ، و أحمد في الزهد عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه بلغه أن عيسى ابن مريم كان يقول: لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسوا قلوبكم؛ فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلىً ومعافىً فارحموا أهل البلاء، واحمدوه على العافية.

    فالناس جميعاً ما بين مبتلىً ومعافى، وشر البلية البلاء في الدين، أعظم البلية البلاء في الدين، فلذلك حق المبتلى رحمته والحيلولة بينه وبين النار، ولهذا صح في الصحيح: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع أن فتىً من اليهود بالمدينة قد أشرف على الموت، فدعا سعد بن أبي وقاص ورجالاً من أصحابه فخرجوا لعيادته، فلما وقف عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه يجود بنفسه، فقال له: قل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فرفع الغلام رأسه إلى أبيه يستأمره بذلك، فقال له أبوه: قل ما أمرك به أبو القاسم، فقال الغلام: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ولفظ روحه ومات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار، ثم قال لأصحابه: خذوا صاحبكم، فأخذوا جنازته فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفنه في مقبرة المسلمين )، وأخبر أن الله أنقذه من النار بهذه الكلمة الواحدة وهو يجود بنفسه عند الموت، لكنه حسنت خاتمته نتيجة رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تعلقت بهذا الطفل الشاب من اليهود الذي سمع أنه قد أشرف على الموت، فخرج إليه حتى ينقذه من النار بإلقاء هذه الكلمة عليه.

    الحرص على هداية الناس

    إن هذا الحرص على هداية الناس هو من مسئوليات المؤمنين، وعليهم جميعاً أن يقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وأن يحرصوا على أن يحولوا بين من يستطيعون الحيلولة بينه وبين النار، وأن يكبه الله فيها، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـعلي رضي الله عنه يوم خيبر عندما بعثه لجهاد اليهود، قال: ( فلأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم )، من أن تملك ما في الأرض من الإبل.

    إن هذه المسئولية العظيمة تقتضي من المؤمنين جميعاً أن يحاولوا السعي لهداية الناس في داخل الرقعة الإسلامية بالحيلولة بينهم وبين المعاصي، وأن يحاولوا السعي كذلك بإيصال هذا الدين إلى ما وراء حدودهم؛ ليحولوا بين أهل الكفر وبين الموت عليه، أن يجتذبوهم إلى الإيمان، وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أن الله عز وجل يعجب من رجال يقادون إلى الجنة في السلاسل! وهم يريدون النار )، ولكن أهل الهداية يسعون لإرشادهم وهدايتهم، فيقودونهم حتى -في الحرص عليهم- في حال الأسر والجهاد يكبلونهم بالأكبال، ويلقون عليهم الشهادة، ويعلمونهم الدين، فيدخلون الجنة وهم بالسلاسل.

    إن هذه المسئولية الجسيمة قد فرط فيها كثير من المؤمنين في هذا الزمان، فأصبح الرجل يعيش عمراً طويلاً يشيب وقد بلغ السبعين أو الستين، ولم يتذكر أنه سعى فيه لهداية أحد من الناس، ولا في تبليغ رسالات الله لأي أحد، إن من وجد ذلك فعليه أن يبادر البدار البدار قبل أن يفوت الأوان، وأن يستغل بقية عمره لتبليغ رسالات الله قبل أن يخرج من هذه الدنيا وينطلق إلى الدار الآخرة ولم يترك أي أثر للهداية في الحياة الدنيا.

    مخالقة الناس بالخلق الحسن

    كذلك فإن من مسئوليات المؤمن حيال غيره: أن عليه أن يحسن خلقه للناس، وأن لا يكون سبباً لفتنتهم، ( فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب غضباً شديداً حين أطال معاذ الصلاة بالناس فصلى بالبقرة وآل عمران قراءةً بطيئة، فقال أنس رضي الله عنه: فما رأيته في موعظة أشد منه غضباً من يومئذ، وقال: أيها الناس! إن منكم منفرين )، فقد حذر صلى الله عليه وسلم من التنفير غاية التحذير.

    وكذلك في الصحيحين أنه قال لـمعاذ و حذيفة حين أرسلهما إلى اليمن: ( يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا )، فكان لكل واحد منهما فسطاط يزوره فيه صاحبه.

    كذلك فإن هذه المسئولية تقتضي من الإنسان أن يكون حسن الخلق مع كل من يخاطبه، فهذا من مسئوليات المؤمن؛ ولذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً )، فعلينا أن نتنافس في كمال الإيمان وتمامه؛ لأنه الوصف الذي نحصل به على الشرف، فإذا كنا جميعاً نتنافس في تمام الإيمان وكماله فعلينا أن نعلم أن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً.

    وكذلك علينا أن نعلم أن التنافس في جوار النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، وفي رضاه كذلك في الدنيا سببه حسن الخلق؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قال: ( ألا أخبركم بأحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة؟ أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون )، فهم أحب الناس في الدنيا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهم أقربهم منه مجلساً يوم القيامة.

    الخلق النبوي وأثره في هداية الناس

    ثم إن حسن الخلق كذلك سبب للخصلة الماضية، فهو سبب لهداية الناس؛ ولذلك فإن عدداً من الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن إيمانهم خوفاً ولا طمعاً، وإنما كان بسبب حسن خلقه، وحسن تدبيره، فكثير منهم أعجب بهذا الخلق العظيم الذي أثنى الله عليه به في كتابه، فكان سبب إيمانه حسن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك يقول عدد من الذين أخطئوا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فعالج خطأهم حتى أزاله، ما يدل على حسن الخلق الذي واجههم به، فأحدهم تكلم في صلاته فيقول: ( فلما سلمت دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع يده على منكبي، فبأبي هو وأمي ما رأيت قبله ولا بعده معلماً أحسن منه، فوالله ما ضربني ولا كهرني، وإنما قال: إن هذه الصلاة لا يصلح لها شيء من كلام الناس، وإنما هي لذكر الله وقراءة القرآن ).

    والآخر الذي بال في طائفة المسجد ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين صاحوا به: لا تزرموه، لا تزرموه، وتركه حتى أكمل ذلك، ثم دعاه فقال: إن هذه المساجد ما بنيت لهذا، إنما بنيت لذكر الله، والصلاة، وأمر بذنوب من ماء فأريق على بوله ).

    وكذلك تعامله صلى الله عليه وسلم مع الأعراب الذين كان يأتي أحدهم وهو جلف باد فيجذب طرف ثوبه حتى يؤثر في صفحة عنقه بأبي هو وأمي، فيبتسم رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه ويقضي حاجته.

    خلق الصحابة ورحمتهم بالناس

    إن هذا الخلق العظيم كان سبباً في هداية كثير من الناس، وكذلك ورثه رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بعده، فقد كانوا أهل رحمة وشفقة، فـعمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو معروف في الجاهلية بشدته وقسوته، ومعروف في الإسلام بقوته ... مع ذلك حين ذهب لاستلام مفاتيح بيت المقدس من الرهبان لما رأى ما كانوا فيه في وقت الحصار من ضيق المعاش بكى رحمةً بهم، وعندما رأى الرهبان في الأديرة يبكون ويتعبدون بكى رحمةً لهم من عذاب الله.

    وكذلك أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه فإنه عندما أتى الشام ورأى حال أهله وإقبالهم على الدنيا وما هم فيه بكى بكاءً شديداً رحمةً لهم من عذاب الله، وكذلك حال كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحسين أخلاقهم حتى مع الكفرة الفجرة، فهذا أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتسب من خلق النبي صلى الله عليه وسلم حسن الخلق والمعاملة، فقد قال: ( خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي لشيء فعلته: لم فعلت؟ ولا لشيء تركته: لم تركت؟ ).

    من أبلغ تأثر أنس بهذا الخلق أنه لما جيء بالهرمزان وهو بطل فارس أسيراً، وقد قتل البراء بن مالك أخا أنس بن مالك وكان البراء من شجعان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقادتهم، وكان محبوباً عزيزاً في قومه جيء بالهرمزان إلى عمر ، فلما رآه في هيئته، ورأى ما عليه من الأسورة والذهب الذي يلبسه قال: ما هذا إلا شيطان، فلما أجلس بين يدي عمر كلمه فامتنع أن يتكلم، فقال: ولم لا تتكلم؟ فقال للترجمان: قل له: إني ظمآن لا أستطيع أن أتكلم من العطش، فدعا عمر بقدح من ماء بارد فناوله إياه، فأمسكه ولم يشرب، فقال: لم لا تشرب؟ قال: خوفاً من القتل، فقال: لا بأس عليك، فكبها وقال: لا بأس عليك حتى تشربها فكبها ولم يشربها، وقال: قد أمنتني ودخلت في عهدك، فأنكر عمر ذلك فقال: كيف أؤمن قاتل البراء ؟ فقال أنس بن مالك وهو أخو البراء : بلى أمنته يا أمير المؤمنين، وهذا الحال أيضاً هو حال عثمان رضي الله عنه عندما تألب عليه الخوارج، وحصروه في الدار في الشهر الحرام في البلد الحرام، وهو خليفة للمسلمين بيعته في أعناقهم جميعاً، حاصروه ومنعوه الماء، فأطل على الناس من نافذة في بيته فقال له أحد الناس: يا أمير المؤمنين! أنت إمام سنة وهؤلاء إمامهم إمام بدعة وهم يصلون، أفنصلي معهم؟ قال: إن الصلاة من أحسن ما يصنع الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإن أساءوا فتجنب إساءتهم.

    انظروا إلى هذا العدل العظيم الذي يصدر من هذا الخليفة المظلوم الذي يقتل في البلد الحرام في الشهر الحرام، ويتألب عليه من دونه من لا يساوي حسناته بوجه من الوجوه، ومع ذلك يعدل وينصف ويقول الحق حتى في هذه الحالة.

    خلق أبي حنيفة وحسن تعامله مع جاره اليهودي

    إن حسن الخلق الذي هو من مسئوليات المؤمن كثيراً ما كان سبباً لهداية كثير من أعداء الله، فقد كان الإمام أبو حنيفة رحمه الله من أحسن الناس خلقاً، وكان له جار يهودي سيئ الخلق، يشرب الخمر في الليل فيسكر، ويبيت يغني، وينشد:

    أضاعوني وأي فتىً أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر

    كأني لم أكن فيهم وسيطاً ولم تك نسبتي في آل عمرو

    وكان أبو حنيفة قواماً لليل لا ينام في الليل؛ وذلك أنه مر مرةً على صبيان يلعبون، فقال أحدهم: هذا أبو حنيفة لا ينام من الليل إلا قليلاً، فقال أبو حنيفة : والله لا يتحدث بها الصبيان وهي كذب، فما نام بعد ذلك.

    فكان ذلك اليهودي يزعجه بغنائه وسكره وكلامه السيئ، لكنه انقطع عنه صوته ذات ليلة، فلما صلى الفجر طرق الباب يسأل عن جاره فقيل له: ذهب به الشرط، فذهب إلى الشرطة شافعاً في جاره هذا حتى أخرجه من السجن، وجعل يده على منكبه وهو يقبله، وجعل يقول: قد أضعناك يا فتى، قد أضعناك يا فتى، يقصد قوله هو في غنائه: أضاعوني وأي فتىً أضاعوا، فأسلم ذلك اليهودي من حسن خلق أبي حنيفة .

    الزيادة في أمة محمد بالدعوة إلى دينه

    كذلك من مسئوليات المؤمن في هذه الحياة: أن يتذكر أن عليه أن يزيد أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه، فعندما اقتنعت يا أخي بأن هذا الطريق هو طريق الحق، واقتنعت بأن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي يرضي الله ولا يرضيه سواه: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85]، إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، وتمت قناعتك بذلك، فكيف لا تسعى لنشر هذه القناعة بين الناس؟ إن كل من انتسب إلى قبيلة أو حزب يسعى لانتشار وانتصار انتمائه لذلك، فالذي ينتسب لقبيلة سيسعى لتكثير سوادها، وتكبير مكانتها، والذي انتسب إلى حزب من الأحزاب سيسعى لتكثير سواده وزيادة مكاسبه، فعليك يا أخي حين انتسبت إلى هذه الملة العظيمة، وهذه الدعوة المباركة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله، أن تسعى لتكثير سوادها، وزيادة أعدادها، وتحقيق مكاسبها، وأن تكون على ذلك أحرص منك على زيادة راتبك، أو زيادة مهامك الدنيوية كتجارتك وغيرها، فإذا حرصت على زيادة أتباع محمد صلى الله عليه وسلم فإن ذلك سيقتضي منك أنت أن تكون أسوةً حسنة، وأن تكون كذلك مضحياً باذلاً لأولئك ( فإن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول عندما أعطى أقواماً و سعد بن أبي وقاص جالس، فترك رجلاً هو أحبهم إلي أو أعجبهم إلي، قال: فقلت: يا رسول الله! ما لك عن فلان؟ فإني والله لأراه مؤمناً قال: أو مسلماً. فسكت، ثم غلبني ما أعرف فيه، فقلت: يا رسول الله! ما لك عن فلان؟ فإني والله لأراه مؤمناً قال: أو مسلماً. فسكت، ثم غلبني ما أعرف فيه فعدت مقالتي فعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم لمقالته، ثم قال: إني لا أعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكبه الله في النار ).

    وكذلك في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عندما أعطى أقواماً و عمرو بن تغلب جالس بين يديه وهو من فقراء المؤمنين، قال: ( إني لأعطي أقواماً خشية أن يكبهم الله على وجوههم في النار، وأكل آخرين إلى ما جعل الله في قلوبهم من الإيمان، منهم: عمرو بن تغلب ، قال عمرو : فقال كلمةً ما أود لو أن لي بها حمر النعم )، هذه الكلمة الشهادة العظيمة التي شهد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لـعمرو بن تغلب أن الله قد ملأ قلبه بالإيمان؛ لأنه قال: ( وأكل أقواماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الإيمان منهم: عمرو بن تغلب ) هذه الكلمة قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عمرو : ( فقال كلمةً ما أود لو أن لي بها حمر النعم ).

    ترك الأثر الطيب في الآخرين

    كذلك فإن من مسئوليات المؤمن في هذه الحياة: أن يحاول أن يترك الأثر الطيب فهو مبتعث لمدة محددة، وسينطلق من هذه الدنيا، فإذا لم يترك أثراً ولم يبق بصمةً في أي أحد من الناس فإن ذلك من نقص تأثيره وأدائه، وكل من يخالطه الإنسان أو يخاله فإنه سيسأل عنه، والله يسأل عن صحبة ساعة، فإذا كنت تصاحب أقواماً وتجالسهم ثم لا تبقي فيهم أي أثراً، ولا تترك فيهم أية بصمة، فذلك نقص في المسئولية وعدم تحمل لأعبائها.

    الشعور بالمسئولية نحو ما يصيب المسلمين

    كذلك من مسئوليات المؤمن الجسيمة: أن يتذكر مسئوليته عن إخوانه المؤمنين، فهذه الأمة كلها كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، فإذا أصيب مؤمن بأية نكبة في مشارق الأرض ومغاربها فلا بد أن يستشعر أن غيره من المؤمنين قد أصيبوا في الصميم، ولا يمكن أن يقول مؤمن عند مصيبة نزلت بالمؤمنين: هان على الأملس ما لاقى دبر، فلا بد أن يتأثر المؤمنون للمصائب التي تحل بإخوانهم، وأن يستشعروها، فأنتم اليوم في زمان كثرت فيه النكبات والجروح النافذة في مشارق الأرض ومغاربها في المؤمنين، فلا يزال عدد من إخوانكم يقتلون ويمثل بأجسادهم، ويعبث بمقدساتهم، وتحرق ممتلكاتهم، وهم في ذلك يعانون من الويلات الشيء الكثير، فكيف لا تحسون بما هم فيه؟ وكيف لا تستشعرون حالهم؟ إن عدداً من إخوانكم اليوم يعانون من أثر هذه الهجمة الشرسة على المؤمنين، ومن أثرها المباشر الذي لا تروه بالمباشرة إلا من اطلع منكم على بعض ما نشر منه وهو قليل لا يمثل شيئاً، فما حصل في مشارق الأرض في السنوات الماضية أمر عظيم جداً، ففي اندونيسيا في جزر الجنوب اجتمع شباب النصارى على أن يقوموا بأكبر مذبحة عرفها التاريخ للمسلمين، فقرروا إبادة المؤمنين هنالك، وقرروا أن تقسم هذه الدولة التي هي أكبر دولة إسلامية من ناحية العدد، فسكانها مائتان وعشرون مليوناً من المسلمين، فأرادوا أن يحدثوا فيها أكبر مذبحة معروفة، فكانوا يأتون القرى المحفوفة بالغابات من الشجر فيحرقون عليها الغابات، حتى لا يبقى لتلك القرية أية أثر، وحتى يحترق أهلها جميعاً، ثم إذا هرب منهم أحد وأراد التسلل من الغابات أمسكوه فرموا به في عمق النار، حتى تأكله النار وهو حي ينظر، وفصلوا جزيرةً من هذه الجزائر بكاملها، فأخذوا كل من فيها من المؤمنين، فجعلوا بعضهم في باصات، وبعضهم في شاحنات، ثم منعوهم الماء والطعام حتى جاعوا جوعاً شديداً وعطشوا، فأخذوا بعض أفرادهم ورجالهم فشووهم في النار، ثم قدموا لهم لحومهم، وأجبروهم على أكلها وتقطيعها، وكذلك ما حصل في الشيشان فأنتم سمعتم بسياسة الأرض المحروقة التي انتهزها نظام روسيا الطاغي فإنه قرر أن يجعل هذه الأرض مسافات مربعة، فكل مربع يحرق بما فيه من الحرث والنسل، فإذا أحرق تعدوه إلى مربع آخر، وقد شاهدتم آثار الدمار في المدن العظيمة مثل (جروزني) وغيرها، وكذلك الحال بالنسبة لمؤمني الصين الذين لا يزالون يتعرضون للمحق والسحق وإحراق المساجد بمن فيها، ويمنعون حتى من مشاهدة المصحف، تصوروا من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله يعيش عمره ما وقعت عينه على مصحف وقد حيل بينه وبينه، وكذلك ما سمعتم مما حصل في أفغانستان، وما سمعتم منه إلا الشيء اليسير القليل جداً، فالقنابل التي دكت بها الجبال، وأحرق بها العباد حفرها في الأرض، تكفي حفرة واحدة منها لإقامة ملعب كامل، بالإضافة إلى دك المدن على أهلها، وإحراق القرى بكاملها، والتركيز على كل البنى النافعة كإحراق المستشفيات على المرضى بالقنال المحرقة، وتفجير المساجد التي شاهدتم بعضها حتى في إعلام العدو، فالقنوات الأمريكية عرضت مسجداً قد أحرق في جلال أباد، وقد أخرج منه جزء من أضواء البيان مكتوب عليه في التلفزيونات الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ، فكان الناس يقولون: إن الشيخ رحمه الله قد شارك في الجهاد بعد موته بعشرين سنة وزيادة، فاسمه باد على القنوات ظاهر على كتابه في المسجد الذي أحرق في جلال أباد، وسمعتم كذلك ما يلقاه المسلمون في بلاد أمريكا الآن من الأذى حتى من كان منهم من المهاجرين الذين لم ينصروا جهاداً ولم يتبنوا قضية، فقد كسرت عليهم أبواب منازلهم، وأخرجوا بالعنف، وأخذت الأجهزة من بيوتهم ومكاتبهم، والجامعات التي يدرس فيها الأمريكان أنفسهم الجامعات التي هي للمسلمين قد انتهكت وأخرجت أجهزتها، وحطمت أبوابها، مع أن تلك البلاد تتغنى بالحرية ويزعم أهلها أنها بلاد الديمقراطية، وسمعتم بالأمس الإعلان الذي أعلنه وزير العدل الأمريكي في موسكو عندما أعلن أن قوى الأمن الأمريكية ألقت القبض على رجل من العرب أو من المسلمين أمريكي الجنسية كان يخطط لتفجير قنبلة إشعاعية في أمريكا، ثم ما هي إلا ساعات حتى يعلن أنه ليس مسلماً ولا عربياً، وأن اسمه اسم منحول، وكل هذا من العداء السافر للمسلمين، فلا بد أن يستشعر المسلمون حال إخوانهم، وإذا استشعروا هذا الحال فجدير بهم أن يستشعروا حال إخوانهم في فلسطين الذين يعانون منذ سبعين سنةً من أنواع الأذى والإهانة، وقد تعرضوا خلال هذه الفترة لما لم يتعرض له شعب آخر من أنواع الأذى، فتجرب عليهم أنواع المبيدات، وأنواع الفيروسات التي يحقنون بها، فكل مرض أو وباء عرف فيروسه في العالم يحقن به السجناء في السجون الصهيونية، وكذلك فإنهم يتعرضون لمصادرة أراضيهم، ولأخذ بناتهم ونسائهم، وقد تعرضوا في هذا العام في مدينة (جنين) وفي مدينة (نابلس) لما شاهدتم من الدمار الشامل، والقصف بالطائرات والدبابات والصواريخ والقنابل للأحياء السكنية والأسواق والمساجد والمدارس والمستشفيات وتحطيمها بالكلية، وهم كذلك يعانون من المنع من فرص العمل، ومن مصادرة أموالهم وأملاكهم كلها ليذلوا أمام الصهاينة الغزاة، لكن من ألطاف الله سبحانه وتعالى عندما قدر أن تزرع هذه الدولة الطاغية في بلاد المسلمين أن جعلها في قلب بلاد المسلمين، ولم يجعلها في طرف من أطرافها، فلو أقيمت دولة الصهاينة في بلادكم هذه، أو في إندونيسيا، أو في طرف من أطراف العالم الإسلامي لتناسى المسلمون ذلك البلد بالكلية، كما تناسوا الأندلس وصقلية وغيرها من الأطراف التي سقطت، لكن الله سبحانه وتعالى بحكمته لم ييسر لليهود أن يختاروا طرفاً من الأطراف، بل ما سلطهم إلا على قلب أرض المسلمين في فلسطين، وكذلك من ألطافه سبحانه وتعالى في هذا المجال أنه عندما أراد أن يسلطهم على شعب من الشعوب المسلمة اختار لهم هذا الشعب العنيد الشعب الفلسطيني الذي يصبر على الأذى، ويصمد السنوات بعد السنوات، وقد تدرب من قبل في الحملات الصليبية، وفي الحروب الطاحنة التي دامت زماناً طويلاً، بل قد كان حتى قبل الإسلام معروفاً بشدته وقوته، فبنو إسرائيل عندما فرض عليهم دخول (أريحا) قالوا: إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ [المائدة:22].

    فهذا الشعب قوم جبارون أقوياء، أهل عزة، لا يمكن أن يخضعوا ولا أن يذلوا؛ ولذلك حقق الله بهم في زماننا هذا الوعد الذي وعده لليهود بأن يسلط عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب، كما قال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأعراف:167].

    فلا تزالون تسمعون من العمليات ومن النكاية في فلسطين ما يفلج صدور المؤمنين، وينكي في العدو، حتى إن كثيراً من الموستوطنين اليوم يخرجون من فلسطين يقولون: أتينا هنا نبحث عن وطن آمن وعن مكان نعيش فيه، فما وجدنا إلا الحرب والأذى والدمار، فهم يرجعون إلى أوطانهم الأصلية في بلاد أوروبا وأمريكا وغيرها، وقد رجع كثير من يهود (إفلاشا) الأفارقة، ومن يهود اليمن الذين أتي بهم إلى بلاد فلسطين.

    نقل الدين إلى الخلف كما نقله إلينا السلف

    ثم من مسئوليات المؤمنين كذلك: أن يعلموا أن أسلافهم قد أوصلوا إليهم هذا الدين وحملوه نقياً كما تحملوه عمن قبلهم، وأتوا به علماً وعملاً، فإذا لم نتحمل نحن أعداء هذا الدين فستكون الأجيال اللاحقة كلها لعنات علينا، وتذكروا حال جيرانكم في بلدان المغرب العربي، فقد كانت هذه البلدان بلدان إسلام ينتشر فيها العلم والعمل، وقد كانت منابع من منابع الإيمان والعلم والتقوى، ثم بعد هذا عندما جاء الجيل الذي فرط في الدين، وتقاصر في نصرته ونشره، اختل أمر الدين بالكلية، ورفع العلم من كثير من تلك البلدان، وظهر فيها الكفر والفجور، فأصبحت الأجيال الجديدة التي رجعت إلى الإسلام والتزمت به تلعن الأجيال السابقة التي أدركت الدين فلم تنقله إليها، ولم تؤده إليها، وأعرف كثيراً من الشباب إذا سئلوا عن آبائهم يلعنونهم؛ لأنهم كانوا سبباً في عدم التزامهم، فبعضهم يقول: إن أبي غذاني بالخمر والربا، وكان يمنعني من الصلاة، ولم يعلمني القرآن، وهو الذي رباني هذه التربية الفاسدة، وما زال إلى الآن يكره التزامي بعد أن هداني الله، وكثير منهم كذلك يذكر أن أمه تكره أن يستيقظ في وقت الصلاة، وتحاول منعه من الذهاب إلى المسجد في آخر الليل، فتحمل المسئولية في هذا المجال والقيام بها حق واجب، وإذا لم يفعل فسيترتب عليه من الضرر الديني اللاحق الشيء الكثير، فإنما هو سيل جارف وقد وصل إلى حدود بلادكم، وأحاط بها من كل جانب، فإذا لم تقوموا أنتم بهذه المسئولية ولم تتحملوها فمن سيتحملها؟

    إن أهل الإيمان يجدون في ضمائرهم حوافز تحفزهم على القيام بأمر الدين، فلا يمكن أن يتركوا مسئولياتهم لأحد يقوم بها، ففي زماننا هذا كان الشيخ أبو الأعلى المودودي رحمه الله في شبه القارة الهندية في مجتمع عظيم من المؤمنين يبين لهم بعض مكائد أعداء الله، ويبين لهم الموقف الصحيح الذي ينبغي أن يتخذه المؤمنون حيالها، فبينما هو قائم يخطب فيهم أطلق الرصاص في داخل القاعة، ورشت رشاً بالرصاص، فقيل له: اجلس اجلس، فقال: إذا جلست أنا فمن يقوم؟ فتحمل هذه المسئولية، وألقى هذه الكلمة المدوية، وهي كلمة عظيمة ينبغي أن يستشعرها كل واحد من كنه نفسه، وأن يقول: إذا جلست أنا فمن يقوم؟ إذا لم يقم كل واحد منكم أنتم الذين تجتمعون في المسجد وتتوضئون وتتطهرون وترجون ثواب الله وتخافون عقابه، إذا لم تقوموا بأمر الدين فمن سيقوم به؟ هل ستكلونه إلى الذين يجتمعون في السينما؟! هل ستكلونه إلى الذين لا يعرفونه ويجهلونه ولا يبذلون فيه أي شيء؟ إن عليكم أنتم أن تتحملوا هذه المسئولية، وأن تقوموا بها، وأن تكونوا يداً واحدةً على من سواكم، وأن تتعاونوا على القيام بهذه المسئولية، فلا يمكن أن يقوم بها فرد منكم، وإنما يقوم بها الكافة كما قال الله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة:36].

    وكما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119].

    وكما قال تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ [المائدة:2].

    وكما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انفِرُوا جَمِيعاً [النساء:71]، ولم يقل: انفروا فراداً.

    وكما قال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:103-105].

    تذكر سليمان بن صرد والتأسي به

    إن الذين قاموا في الماضي بتحمل المسئوليات في وقت الأزمات قد خلدهم التاريخ وأبقى لهم الذكرى والثناء الجميل، فهذا سليمان بن صرد رضي الله عنه وقد شهد بدراً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قتل حسين بن علي رضي الله عنهما ومن معه بكربلاء جمع أصحابه فقال: إن الناس سيسألون من شهد هذه المعركة، ومن كان حياً إذ ذاك من أصحاب محمد ومن قام بالأمر إذ ذاك، فإن لم تبذلوا أنفسكم في هذا الوقت فإن الأمر سيفوتكم، فبادر هو ومن معه حتى قتلوا جميعاً بعين التمر ولم يبق منهم أحد، وقد خلدهم التاريخ بذلك.

    فعلى المؤمنين جميعاً أن يستشعروا هذه المسئولية، وأن يتذكروا ما تذكر سليمان بن صرد ، فإذا جاءت أية فتنة، أو جاء أي أمر فيه ظلم أو عدوان على الدين وعلى المؤمنين جميعاً أن يتذكروا أن الأجيال اللاحقة ستسأل: من رجال ذلك الجيل الذي ظهر فيه هذا المنكر؟ ما الذي قاموا به للحفاظ على الدين؟ ما الذي بذلوه في سبيل الله؟ وشهادة التاريخ باقية مسطرة، ولهذا فإن على أولياء الأمور وعلى العلماء كذلك، وعلى المثقفين بالخصوص أن يستشعروا أن التاريخ يشهد عليهم بما يقدمونه في الجيل الذي هم فيه، فما يظهر في كل عصر من العصور من أنواع المؤامرات على دين الله، إذا لم يقم رجال ذلك العصر بالحفاظ على الدين فيه فسيشهد عليهم التاريخ أنهم كانوا شر جيل في سلسلة أجيال هذه الأمة، وأنهم الذين تراجعوا عن أمر الدين وتركوه وفرطوا فيه، فكل نقص يعروه بعد ذلك يكتب في كفة سيئاتهم يوم القيامة.

    ما تقتضيه المسئولية

    إن علينا وقد أدركنا هذه البقية المدركة من دين الله أن نحافظ عليها، وأن نؤدي الحق الذي علينا، وأن نحاول جميعاً أن يكون لنا أثر في إنكار المنكر والأمر بالمعروف، وفي التغيير، وألا يتكل أحد منا على غيره، وألا يقول: إن المسئولية ليست عليه، وإنها مسئولية الأمراء أو الرؤساء أو العلماء أو الولاة أو غيرهم، بل المسئولية مشتركة، المسئولية على الجميع، وقد صرح بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يدع مجالاً للشك، فقد أخرج مسلم في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ).

    إن المسئولية تقتضي منكم ألا ترضوا بأضعف الإيمان، وأن تحاولوا أن تكونوا من أكمل المؤمنين إيماناً، وأن تقوموا لله بالحق الذي بايعكم عليه، وأن تعلموا أن الله عز وجل غني عنكم، وهو سبحانه وتعالى الذي خاطبكم بقوله: هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38].

    بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وتاب علي وعليكم إنه هو التواب الرحيم.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767424351