إسلام ويب

دور العلماء في حياة الأمة [1]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • العلم ميزة وتكريم من الله، يختار له من يشاء من عباده ويرفع به من شاء ويضع به من أراد، ولا يؤخذ وراثة بل بالاصطفاء، وهو بدون العمل لا شيء ولهذا وجب على العالم أن يكون قدوة في القول والعمل. ولا يخفى دور العلماء على أحد في الدعوة والجهاد وإصلاح الأمة وسياسة البلاد وقيادتها ودفاعهم عن الدين وذبهم عن السنة وإحيائهم للحضارة ودورهم في القضاء على الفساد والتحذير منه، والتاريخ حافل بكثير من الأمثال. وواجب الأمة نحو علمائها تقديرهم ومعرفة مكانتهم واحترام تخصصهم وإنزالهم المنزلة التي أنزلهم الله والتغاضي عن زلاتهم وغمرها في بحر حسناتهم.

    1.   

    فضيلة العلم وفضل العلماء

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    تكريم الله لأهل العلم ورفعة درجاتهم

    أما بعد: فإن الله تعالى يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة، وقد قال عن نفسه: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124]، فهو يختار من خلقه من يأتمنهم على ما شاء من وحيه، وقد ائتمن أنبياءه واصطفاهم وائتمنهم على العلم الذي جاءوا به من عنده فبلغوه وأدوه إلى أممهم، وقفا على آثارهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلا نبي بعده، ولكن الله سبحانه وتعالى جعل خلافته في تبليغ الرسالات، وأداء الأمانة، وتعليم العلم، وإيصال الوحي إلى العلماء الذين هم خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وورثته في أمته، وقد نوه الله سبحانه وتعالى بمنزلتهم فاستشهدهم على أعظم شهادة بعد أن شهد بها وأشهد بها ملائكته، فقال تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18].

    وأخبر أنهم وحدهم الذين يخشونه حق خشيته، قال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].

    وأخبر أنهم المؤهلون لفهم كلامه فقال: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43].

    وحكم لصالحهم على من سواهم في قوله: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9].

    وأخبر أنه يرفع درجاتهم في الدنيا والآخرة، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [المجادلة:11].

    وقد نوه النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلتهم في هذا الدين، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث معاوية بن أبي سفيان في صحيح البخاري أنه قال: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله المعطي، ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ).

    وقد أخرج البخاري أيضاً في الصحيح من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه ).

    وأخرج مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه ).

    وأخرج أصحاب السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن العالم ليستغفر له كل شيء حتى الحيتان في الماء، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع ).

    وقد أخرج البخاري تعليقاً في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا هذا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر ).

    ووصل ذلك من طرق صحاح في السنن وغيرها، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء -كما في صحيح البخاري - وإنه لا نبي بعدي ).

    العلماء ساسة الأمة بعد الرسل

    فهذه الأمة إنما يسوسها العلماء بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فهم الساسة القادة الذين يتولون أمر الدين وأمر الدنيا، فقد كان أنبياء بني إسرائيل يحمون دينهم ويوجهون دنياهم كلما مات نبي بعث الله فيهم نبياً بعده، وهذه الأمة ليست فيها نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الله أخرج لها المجددين، فتعهد للنبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها، وكذلك فإن أبا عمر أخرج في مقدمة التمهيد، وكذلك الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين )، وأنتم تعلمون أن من كان لديه شيء ثمين لا يمكن أن يودعه عند المفلسين، وإنما يختار له خيرة الناس، ويختار له أكفأ الناس وأصدقهم وآمنهم على وديعته، والله سبحانه وتعالى هو علام الغيوب، ولم يكن ليختار من يودعه هذا الوحي الذي هو أرفع شيء في الأرض وأعلاه إلا إذا كان كفؤاً لذلك وأهلاً لتلك الأمانة.

    رفع الله لأهل العلم ووضعه لآخرين

    وهذا الفضل العظيم الذي خص الله به الذين يعلمهم أمر دينهم ليس راجعاً إلى نسب ولا حسب، ولا مستوىً، بل يختار الله من كل جيل من يفضلهم بميراث الأنبياء، ويخصهم بالحظ الوافر منه، ولهذا فإن التابعين رضي الله عنهم اتفقوا على إمامة عطاء بن أبي رباح ، وكان أسود أشل أفطس أعرج، ومع ذلك كان يقتدي به التابعون جميعاً وبعض الصحابة، وكانوا يرجعون إلى فتواه في شأن الحج وغيره، وكان خلفاء بني أمية يأمرون كل من خرج في الحج أن لا يعدل عن قول عطاء بن أبي رباح ، وقد اشتهر الموالي في عصر التابعين ومن بعدهم بالإمامة في الدين، فكان منهم العلماء المبرزون، ففي مكة عطاء بن أبي رباح ، وفي المدينة نافع مولى ابن عمر ، وفي العراق سعيد بن جبير ، وكذلك اشتهر في أهل الحديث وحملته عدد كبير منهم، فالإمام البخاري هو من موالي بني جعف، وكذلك عدد كبير من أئمة الحديث، والقراء أيضاً، فالقراء السبعة خمسة منهم من الموالي، واثنان فقط من العرب وهما أبو عمرو بن العلاء و عبد الله بن عامر قارئ الشام، وكل من سواهما فهو من الموالي كـنافع قارئ المدينة، و عبد الله بن كثير قارئ مكة، و عاصم بن أبي النجود ، و الكسائي و حمزة وهم قراء الكوفة، فكل هؤلاء جميعاً من الموالي، وكذلك أئمة الاجتهاد، فالإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطى التيمي كان مولىً لامرأة، ولكن الله شرفه بالعلم ورفع قدره، ولذلك ثبت في الصحيح أن عمر رضي الله عنه لقي واليه على مكة في الطريق بين مكة والمدينة، فقال له: من وليت على أهل الحرم؟ فقال: فلان وهو مولىً لقريش، فقال: أوليته على حرم الله؟ فقال: إنه عالم بالفقه والفرائض، فقال عمر : لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله يرفع بهذا العلم أقواماً، ويضع به آخرين )، فهذا العلم يرفع الله به أقواماً، ويضع به آخرين، فليس الأمر راجعاً إلى نسب ولا حسب.

    العلم لا يؤخذ بالوراثة

    وقد كان الإمام مالك رحمه الله في مجلس علمه والناس يتنافسون على السماع منه وكان في ذلك الوقت يقال: من زينة الدنيا أن يقول الرجل: حدثنا مالك ، ويأتيه الناس من الأندلس ومن خراسان ومن أنحاء الأرض يضربون إليه آباط الإبل ليسمعوا منه ولو حديثاً واحداً، يأتيه الخلفاء والأمراء وأولادهم وخيرة الناس، وابنه يحيى يلعب بالحمام، فرآه مالك فتعجب من ذلك، فقال: سبحان الله! أبى الله أن يكون هذا الأمر بالوراثة، فهذا ابن مالك الذي نشأ في حجره وتربى بين يديه ومع ذلك هو معرض عن علمه، والناس يتنافسون عليه ويأتون من الأندلس ومن خراسان يزدحمون للسماع من مالك .

    علاقة العلم بالعمل

    وهذا العلم الشريف هو مسئولية عظيمة، فهو سلاح ذو حدين كما قال أبو الدرداء رضي الله عنه فيما أخرج عنه أبو عمر في جامع بيان العلم وفضله، قال: إن أخوف ما أخافه يوم القيامة أن يقال لي: أعلمت أم فهمت؟ فأقول: بل علمت، فيقال: ففيم عملت فيما علمت؟

    وكذلك روى عنه أنه قال: إن أخوف ما أخافه يوم القيامة كتاب الله ألا تبقى آية آمرة إلا جاءتني فقالت: يا أبا الدرداء ! قد أتيتك آمرةً فلم تأتمر بي، ولا آية زاجرة إلا جاءتني فقالت: يا أبا الدرداء ! قد أتيتك زاجرةً فلم تنزجر بي، وهو ينادي بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل كما قال سفيان بن عيينة رحمه الله، فالعلم ليس مجرد المرويات ولا مجرد الفهم، بل هو نور قلبي يفهم به الإنسان عن الله سبحانه وتعالى، ويؤدي إلى خشية الله، فما لم يؤد إلى خشية الله، ولم يؤد إلى العمل الصالح والعبادة ليس بعلم، ولذلك قال أهل العلم: العلم مثل الشجرة، والعمل أي: العبادة مثل الثمرة، ولا ثمرة إلا بشجرة، ولا خير في شجرة لا ثمرة لها، وقد قال الشيخ محمد علي رحمة الله:

    العلم من دون العبادة هبا لا يستقر فحري أن يذهبا

    والعلم في التمثيل مثل الشجرة أما العبادة فمثل الثمرة

    ففضله من جهة وفضلها من جهة ثمرة وأصلها

    وهذه المسئولية العظيمة التي يتحملها من تولى حفظ هذا العلم ونقله إلى الناس تقتضي منه ألا يقول على الله بغير علم، فقد قال الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33].

    1.   

    امتثال العلماء للأمر والنهي

    وكذلك يجب على العلماء أن يكونوا الإسوة الصالحة، والقدوة الحسنة في امتثال ما أمر الله به، واجتناب ما نهى الله عنه، وأن يمثلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خلفوه في القيام بأمر الدين ونصرته، وألا يألوا جهداً في سبيل إعلاء كلمة الله وإعزاز دينه، والتمكين لهذا الدين، فبه شرفوا، وإذا وضعوه فإنما يضعون أنفسهم قبله، كما كتب مالك إلى هارون الرشيد : يا أمير المؤمنين! إن هذا العلم فيكم نزل، وعنكم أخذ، فإن رفعتموه ارتفع، وإن وضعتموه اتضع. ولذلك فمن واجباتهم: ألا يضيعوا أنفسهم كما روي عن عدد من السلف أنهم كانوا يقولون: لا ينبغي لمن ائتمن على شيء من هذا العلم أن يضيع نفسه، وتضييع النفس معناه أن يبتذلها الإنسان فيجعلها عرضةً للمهالك، فكثير هم أولئك الذين ضيعوا أوقاتهم في جمع العلم ولكنهم لم يستفيدوا منه شيئاً؛ لأنهم بذلوا ماء وجوههم للتقرب من السلاطين، ولأن يكونوا من أعوان الظلمة، فذهب علمهم، لم ينتفعوا هم به ولا انتفع به الآخرون، وعلاقة العالم بالسلطان هي ما بينه عدد كثير من أئمة السلف في التفسير، فقد كانوا يقولون: الأمراء أمراء على الناس والعلماء أمراء على الأمراء، وذلك أن الله سبحانه وتعالى سماهم أولي الأمر في القرآن، فقد قال الله تعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83]، فلا يكون ذلك إلا للعلماء العاملين الصالحين، فهم الذين يستنبطون، وهم الذين أحال الله إليهم عند الاختلاف، ورد إليهم كل مسألة تحتاج إلى الاستنباط، وائتمنهم على ذلك، فهم الموقعون عن رب العالمين، وهم أمناء الله على وحيه، وكل ذلك يقتضي إجلالهم وتوقيرهم، ووجوب العمل بفتواهم، والرجوع إلى مشورتهم ونصيحتهم، فذلك واجب على ولاة الأمور، يجب عليهم أن يستشيروا العلماء، وأن يرجعوا إلى قولهم، وأن لا يخالفوهم، كما أنه من الواجب أيضاً على الشعوب وعلى الناس أن يطيعوهم فيما يأمرون به من أمور الشرع، وأن يمتثلوا ما يبينون لهم من أحكام الشرع، فإنما هم مبينون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومبلغون عنه، وذلك يقتضي أن يطاعوا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصا أميري فقد عصاني )، والمقصود بأميره من يتولى ما كان هو يتولاه من المسئوليات، ويقوم بما كان يقوم به من الواجبات، فمن كان كذلك فتجب طاعته، ولا يكون ذلك إلا بالعلم النافع والعمل الصالح، فلا يمكن أن يكون أحد بهذه المنزلة إلا من كان من العلماء العاملين، ولذلك هم المرجع في كل الأمور، فكما يرجع الناس إليهم في أمور الاعتقاد والعبادات، لا بد من الرجوع إليهم في أمور المعاملات، سواءً منها ما يتعلق بأوضاع الناس المدنية، وما يتعلق بأمورهم السياسية، وما يتعلق بأمورهم الاجتماعية، فكل ذلك المرجع فيه إلى العلماء العاملين الذين يبلغون عن الله، ويبلغون رسالات الله، ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله، فهم ساسة الأمة وقادتها، وهم أهل السياسة والاقتصاد والاجتماع، وهم الذين ينزلون الأمور في نصابها، ويعرفون حقائقها، ومن أراد الاستسلام لأمرهم فليقارن نفسه بهم، فإذا علم أنهم أدرى منه بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأخشى منه لله، فإنه حينئذ لا بد أن يستسلم لأمرهم؛ لأنهم مبلغون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونائبون عنه في تبليغ رسالات الله، وقد اختارهم الله لذلك اختياراً، ثم إن مكانتهم في المجتمع إنما هي ناشئة عن هذه الخلافة النبوية العظيمة، فهذا المنصب العظيم الذي هو خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم منصب جامع بين أمر الدين وأمر الدنيا، فلا فصل بينهما في الإسلام، فهذا الدين لا يقر العلمانية في أي مجال من مجالات الحياة، فلله تعالى حكم في كل أمر من الأمور، والشرع لم يهمل أية كبيرة ولا صغيرة من أمر الناس، فما من مسألة يحتاج الناس إليها إلا ولله فيها حكم علمه من علمه وجهله من جهله، وأحكام الله سبحانه وتعالى منها ما هو مبين واضح بنص القرآن أو بنص السنة، ومنها ما يكون خفياً فيستنبطه أهل العلم وهم الذين يستطيعون معرفته فيفهمونه من القرآن أو من السنة، ولا يستطيع ذلك من سواهم، ومن رجع إلى ما آتاهم الله سبحانه وتعالى من القدرة في فهم الكتاب والسنة عرف أنهم قد سخروا لذلك، وهيئوا له، فهيئوا أولاً لحفظ هذا الكتاب العزيز والسنة، فهم يحفظون جميع أوجهه واختلاف القراءة فيه، ويحفظون كذلك لغته التي جاء بها ليستطيعون بيانه وتفسيره، ويستطيعون الجمع بين ما تشابه منه حتى يتضح وجه دلالته.

    نماذج من استنباط العلماء

    ولذلك فإن مالكاً رحمه الله فهم من قول الله تعالى: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187] جواز إصباح الصائم جنباً، قال: لأن الله يقول: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ [البقرة:187]، فلم يترك وقتاً للاغتسال؛ لأنه أباح الجماع والأكل والشرب إلى أن يتضح طلوع الفجر، فلم يترك وقتاً للاغتسال، فدل ذلك على جواز إصباح الصائم جنباً، وهذا الفهم الدقيق لا يناله إلا من وفق له، ولذلك فإن علي بن أبي طالب رضي الله عنه فهم من الجمع بين قول الله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً [الأحقاف:15]، وقوله تعالى: وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [لقمان:14] أن أقل أمد الحمل ستة أشهر؛ لأن الله جعل الحمل والإرضاع في ثلاثين شهراً، ثم جعل الإرضاع في سنتين، فلم يترك للحمل إلا ستة أشهر، فكانت أقل أمد الحمل.

    وكذلك فهم الشافعي رحمه الله للإجماع من قول الله تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً [النساء:115].

    فإن الشافعي رحمه الله قال: قد عطف سبيل المؤمنين على ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، والعطف يقتضي المغايرة، وليس للمؤمنين في حياة النبي صلى الله عليه وسلم سبيل إلا ما جاء به، والإجماع إنما كان بعد موته؛ لأنه في حياته إما أن يوافقهم وإما أن يخالفهم، فإن وافقهم فالعبرة بقوله لا بقولهم، وإن خالفهم فإجماعهم فاسد الاعتبار لمخالفته للنص، فلذلك تعين أن يكون الإجماع بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم في أي عصر من العصور، والآية تدل على أن مخالفة الإجماع عرضة للعذاب بالنار، نسأل الله السلامة والعافية، وهذا من الفهم الدقيق.

    1.   

    حفظ العلماء للكتاب والسنة

    وقد أوتوا نظيره كذلك في الحفظ، فقد يسر الله لهم حفظ الحديث والسنن وحفظ القرآن؛ ولذلك قال أهل الحديث: ألان الله الحديث لـأبي داود كما ألان الحديد لداود، فداود عليه السلام قال الله فيه: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ [سبأ:10]، و أبو داود ألين له الحديث كما ألين الحديد لداود.

    وكان البخاري رحمه الله يحفظ مائة ألف حديث صحيح، وكان الدارقطني رحمه الله يحفظ مليون حديث أي: ألف ألف حديث، وكان أبو زرعة الرازي يحفظ ألف ألف حديث بأسانيدها ومتونها وعللها وكل ما يتعلق بها.

    دفاع العلماء وذبهم عن السنة

    وقد يسر الله للجهابذة حفظ السنن والدفاع عنها، ولذلك كلما هم إنسان بوضع الحديث أو الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم يسر الله جهبذاً من الجهابذة فيكشف ذلك، وقد قال أهل العلم: والله لو هم رجل بالليل أن يضع الحديث بالصين لأصبح الناس ببغداد يقولون: فلان كذاب وضاع، في ليلة واحدة إذا هم أن يضع حديثاً بالصين يصبح الناس في بغداد يقولون: فلان كذاب وضاع، وقد قال العراقي رحمه الله في ألفيته في ذكر الحديث الموضوع يقول:

    والواضعون للحديث أضرب أضرهم قوم لزهد نسبوا

    قد وضعوها حسبةً فقبلت منهم ركوناً لهم ونقلت

    فقيض الله لها نقادها فبينوا بنقدهم فسادها

    فالنقاد قيضهم الله سبحانه وتعالى لحفظ السنن وأدائها، ولذلك فإن محمد بن سعيد المصلوب وهو من الوضاعين المشهورين لما حكم عليه الخليفة بالقتل، وقربه للقتل قال له: ما تفعلون بأربعمائة حديث وضعتها أحل بها الحرام وأحرم بها الحلال؟ فقال له: ويلك، أين أنت من عبد الله بن المبارك و عبد الرحمن بن مهدي يبقران عنها حتى يخرجاها، فأرسل إلى عبد الرحمن بن مهدي و عبد الله بن المبارك فسألهما عن محمد بن سعيد هذا، فقالا: كذاب وضاع، وجعلا يتذاكران وضع الحديث الفلاني ونسبه إلى فلان، ووضع الحديث الفلاني ونسبه إلى فلان، حتى عد ذلك، فكان على العدد الذي قاله تماماً، وهذا هو من حفظ الله سبحانه وتعالى لكلامه وللوحي الذي أنزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أراد أن يطلع على ذلك فلينظر إلى ما قيض الله للشاطبي وهو رجل ضرير لا يبصر، ولكن الله هيأه لحفظ القرآن واختلاف القراءات، ومن نظر إلى قصائده في خدمة هذا الكتاب ومنها الشاطبية في القراءات السبع، وكذلك ناظمة الزهري في الفواصل، وكذلك قصيدته في مخارج الحروف وصفاتها عرف تمكن الرجل، وأن ذلك ليس من الأمور المعتادة، وإنما هو خارق للعادة، جمع الله له هذه العلوم الجمة في صدره مع فقده للبصر ليخدم هذه الأمة، ولا يزال الناس إلى اليوم يحفظون من خلال قصائد الشاطبي كلام الله سبحانه وتعالى، فأنتم جميعاً الآن لا يقرأ أحد منكم القراءات إلا وهو معتمد على ما كتبه الشاطبي في قصيدته، وكذلك ابن الجزري رحمه الله في كتبه التي جمعت فأوعت ولم تترك شيئاً، فالكتاب جمع فيه ألف طريق وطريق واحد، وتحبير التيسير في القراءات العشر برواياتها العشرين، وكذلك طيبة النشر جمع فيها الطرق فأتى فيها بما زاد على الشاطبية بالطرق التي لم يذكرها الشاطبي في قصيدته، وقد ذكر الشاطبي رحمه الله في مقدمة الشاطبية تنويهاً بالعلماء الذين نقلوا هذا العلم وحفظوه على هذه الأمة، فإنه يقول في مقدمتها:

    بدأت بباسم الله في النظم أولا تبارك رحماناً رحيماً وموئلا

    وثنيت صلى الله ربي على الرضا محمد المهدى إلى الناس مرسلا

    وعترته ثم الصحابة ثم من تلاهم على الإحسان بالخير وبلا

    وثلثت أن الحمد لله دائماً وما ليس مبدوءاً به أجذم العلا

    وبعد فحبل الله فينا كتابه فجاهد به حبل العدا متحبلا

    وأخلق به إذ ليس يخلق جدةً جديداً مواليه على الجد مقبلا

    وقارئه المرضي قر مثاله كالأترج حاليه مريحاً وموكلا

    هو المرتضى أما إذا كان أمةً ويممه ظل الرزانة قنقلا

    فيا أيها القاري به متمسكاً مجلاً له في كل حال مبجلا

    هنيئاً مريئاً والداك عليهما ملابس أنوار من التاج والحلا

    فما ظنكم بالنجل عند جزائه أولئك حزب الله والصفوة الملا

    أولو البر والإحسان والجود والتقى حلاهم بها جاء القران مفصلا

    عليك بها ما دمت فيها منافساً وبع نفسك الدنيا بأنفاسها العلا

    جزا الله بالإحسان عنا أئمةً لنا نقلوا القرآن عذباً وسلسلا

    فمنهم بدور سبعة قد توسطت سماء العلى والعدل زهراً وكملا

    لها شهب عنها استنارت فنورت سواد الدجى حتى تفرق وانجلا

    ويقول فيها:

    وإن كتاب الله أوثق شافع وأغنى غناء واهباً متفضلا

    وحيث الفتى يرتاع في ظلماته من القبر يهريه سناً متهللا

    هنالك يهنيه مقيلاً وروضةً ومن أجله في ذروة العز يجتلى

    يناشده في إرضائه لحبيبه وأخلق به سؤلاً إليه موصلا

    1.   

    دور العلماء في الفتوحات والجهاد

    وهذا التنويه بحفظة هذا العلم وما بذلوه في سبيل حفظه ونشره كذلك هو الذي جعل الإمام محمد بن عثمان قيماز الذهبي يؤلف كتاب تذكرة الحفاظ، فينوه بالذين حفظوا هذا الحديث على مر العصور، والذين كان لهم تبريز وزيادة في ذلك، وجاء بعده السيوطي فألف أيضاً طبقات الحفاظ للتنويه بهؤلاء الذين كانت لهم منزلة في حفظ العلم، وكان لهم مزية كذلك في جمعه لهذه الأمة، ومن المعلوم أن تاريخ هذه الأمة، وتقدمها إنما كان بجهود العلماء العاملين، فما حصل فتح في تاريخ هذه الأمة إلا بأيدي العلماء، وهم دائماً في الصف الأول وفي المقدمة، فهم الذين يجاهدون العدو بأيديهم وبألسنتهم، وهم الذين ينبهون الأمة إلى المخاطر، وهم الذي يقفون في وجه الاختلاف والنزاع، وهم الذين يمنعون التفرقة المذمومة، ولذلك كان لهم الدور البارز في إعادة الخلافة بعد سقوطها، فإن التتار لما قتلوا الخليفة ببغداد في عام ستمائة وست وخمسين، وقتلوا من أهل بغداد سبعمائة ألف، وسالت الطرق بالدماء، ورموا الكتب في الأنهار، وكانوا يظنون أن الخلافة الإسلامية لن تعود أبداً، قام العلماء بالدور البارز فقام العز بن عبد السلام في مصر وكان يلقب بائع الملوك، وكان أيضاً يلقب سلطان العلماء، وكان صاحب عزة بالله جل جلاله وقوة فيه، وكان لا تأخذه في الله لومة لائم، فهيأ أهل مصر للجهاد في سبيل الله، ولتحرير ما احتله التتار من بلاد الإسلام، وقام كذلك في الشام عدد من العلماء في وجه التتار، ومنهم: أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية ، وقد جاهدهم بنفسه، وكان يتقدم أمام الصف في وقت المعركة فيقول: بالله الذي لا إله إلا هو لتنصرن وليهزمن، فقيل له: قل: إن شاء الله، فقال: أقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، وذلك أنه رأى في المسلمين إذ ذاك عوامل النصر، فجزم أنه لا بد أن يتحقق لهم وعد الله عز وجل، وكذلك فإن الذين جاهدوا في المشاهد المشهورة، وكان لهم الأثر في فتح الأنصار إنما كان ذلك بإمرة العلماء وقيادتهم، فـأسد بن الفرات هو الذي تولى فتح صقلية، وكذلك العلماء الذين كانوا في جيش طارق بن زياد في الأندلس، وكذلك الإمام الغافقي رحمه الله، وهو من كبار العلماء وقد قاد الفتح في أوروبا حتى بلغ جنوب باريس، وقتل في معركة بلاط الشهداء، وهكذا في كل معركة من المعارك، وفي كل فتح نجد العلماء العاملين يقودون هذه الأمة ويرفعون لواء الإسلام ويقومون بالحق؛ لأنهم يعلمون أنهم ينوبون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمانهم لكان في مقدمة المجاهدين في سبيل الله، الساعين لإعلاء كلمة الله، فهذا مكانه، وكل من أراد أن يكون في مكانه فلا يكون إلا في المقدمة وفي هذا المكان.

    1.   

    إحياء العلماء للحضارة بكل مجالاتها

    وكذلك فإن العلماء هم الذين أحيوا الحضارة، وأظهروا لهذه الأمة النموذج الشرعي المرضي عند الله سبحانه وتعالى في أسلوب الحكم وغيره، فالذين اشتغلوا منهم بالتأليف في مجال السياسة مثلاً هم الذين رسخوا نظام الإسلام السياسي من أمثال أبي يوسف صاحب أبي حنيفة ، و أبي عبيد القاسم بن سلام ، و يحيى بن آدم ، و ابن رجب ، و الماوردي ، و أبي يعلى ، وقبل هذين أبو المعالي عبد الملك بن أبي محمد الجويني الشافعي ، وكذلك الآمدي سيف الدين ، وفي هذه البلاد كذلك الإمام الحضرمي المرادي ، فكل هؤلاء ألفوا كتباً هي المرجع في مجال السياسة في أمور هذه الأمة، فالإمام الحضرمي كتابه الإشارة في تدبير الإمارة، هو أقدم كتاب ألفه أهل هذه البلاد، لا يعرف لهم كتاب قبله، و الماوردي كذلك كتابه في السياسة الشرعية اسمه الأحكام السلطانية، و أبو يعلى كتابه اسمه الأحكام السلطانية، و الآمدي كتابه اسمه الإمامة، و الأصبهاني كتابه اسمه الإمامة، و أبو المعالي الجويني كتابه اسمه غياث الأمم في التياث الظلم، و يحيى بن آدم و أبو يوسف كلاهما كتابه اسمه الخراج، و ابن رجب كتابه اسمه الاستخراج لأحكام الخراج.. وهكذا، فكتبهم موجودة منتشرة، وكلها تدل على فهمهم العميق في السياسة وممارستهم لها، وقيامهم بشأنها.

    1.   

    استقلال العلماء عن السلطان

    وكذلك كان لهم على هذا الاستقلال التام عن الملوك والأمراء، فلم يكونوا يؤثرون عليهم، بل كان العلماء هم الذين يؤثرون على الملوك، ولذلك فإن الشريف الجرجاني رحمه الله يقول في قصيدته المشهورة:

    ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما

    ولكن أذلوه جهاراً وجهموا محياه بالأطماع حتى تجهما

    ويقول فيها:

    أأشقى به غرساً وأجنيه ذلةً إذاً فابتغاء الجهل قد كان أحزما

    نماذج من عزة العلماء

    وقد قال صاحب أهل الشام وهو أحد العلماء المتأخرين وكان في جامع دمشق، فدخل أحد الملوك المسجد وقد سأل قبل دخوله من بقي من وجوه الناس لم يستقبلني، فقيل: بقي الشيخ الفلاني لم يأت، فقال: أين هو؟ فقيل: في حلقته يدرس الناس في الجامع الأموي، فاشتد غضبه فذهب إليه، فدخل في المجلس والشيخ يدرس فلم يقطع تدريسه، فاضطر الملك لأن يجلس بين يديه فجلس، فسلم عليه الشيخ وأقبل على درسه، فلما طال المجلس بسط الشيخ رجله فمدها إلى جهة الملك، فازداد غيضاً على غيض، وغضباً على غضب، فلما خرج من المسجد استشار ذويه ووزراءه فقال: ما الحيلة في هذا الرجل؟ فقالوا: لن تذله بشيء إلا بالطمع في الدنيا، فأرسل إليه مالاً كثيراً فإنه سيذل لك، فأرسل إليه رسولاً بمال كثير، فجاء يحمله إلى الشيخ، فلم يلتفت إليه وقال: ارجع إليه فقل له: إن من يمد رجله لا يمد يده، فهذا هديهم وهذا سلوكهم، وكانوا يقولون: من أكل من مرقة السلطان احترق لسانه عن قول الحق، وكذلك فإنهم كانوا يهتمون بأمور الشعوب ومصالحها، ويدبرون شئونها، فالقضاة بالأندلس لما اختل أمر السياسة قام كل قاض، ولا يكونون إلا من العلماء الكبار بتدبير أمر المدينة التي هو فيها، فجمعوا بين القضاء والإمارة، وكذلك من رجع إلى تراجم الأئمة الأعلام كالإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي رحمة الله عليه، يجد أنه كان مهتماً بأمور الرعية كلما ظلم أحد من الناس، أو انتزعت حديقة لأحد، أو حيل بينه وبين الوصول إلى بعض ماله، أو فرضت ضريبة عليه، كتب النووي إلى الملوك وكان يهددهم في كتاباته، وينهاهم عن الظلم والعسف، ويأمر بالمعروف وينهاهم عن المنكر، وكان لا يخاف في الله لومة لائم، وكان شديداً في الحق، وكان الإمام سحنون رحمة الله عليه هو عبد السلام بن سعيد التنوخي في تونس بمثابة الأمير، وكان لا يمشي في ركب الأمير إذا انطلق الأمير إلى أية مهمة فمن عادة الناس أن يخرج القضاة معه، وكان سحنون لا يقبل ذلك، فيقول: إنما هي مذلة فلم يقبلها، ولم يكن يأخذ راتباً من بيت المال طيلة سبعين سنة ولي فيها القضاء، وكان يولي بعض القضاة من عند نفسه نواباً عنه، وكان يشترط على الخليفة أن يأخذ هو الجزية من أهل الكتاب من اليهود فيدفع منها رواتب موظفيه ونوابه، فسئل عن ذلك فقال: إن الجزية مال حلال مجزوم بحله، وإذا ترك أخذها إلى السلاطين فإنهم سيظلمون أهل الذمة، فأنا آخذها منهم ولا أظلمهم، وأصرفها في مصرفها الشرعي، وهو نفقة القضاة والولاة الذين يوليهم، وهذا الذي كان يقوم به العلماء من خدمة الدين ومن خدمة المجتمع هو لا شك الذي أبقى هذا الدين حتى وصل إلينا كما أنزل، ولا يزال له من يقوم بشأنه ويتولى رعايته، ولم يزل الحال على ذلك حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

    وسيختم الله علماء هذه الأمة بعيسى ابن مريم عليه السلام، ( فإنه سينزل حكماً عدلاً عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ولا يحل لكافر أن يجد ريح نفسه إلا ذاب كما يذوب الملح في الماء، وإن نفسه ليبلغ ما يبلغ بصره، فيختم الله به علماء هذه الأمة، وإذا مات معه خيرة أهل الأرض من المسلمين ماتوا موتة رجل واحد تأتيهم ريح لينة فتأخذ أرواحهم من آباطهم، وبعد ذلك لا يبقى على الأرض من يقول: الله، وحينئذ تقوم الساعة على حفالة أو حثالة كحفالة الشعير لا يباليهم الله باله )، وقبل ذلك لا بد أن يبقى في هذه الأمة من يتولى حفظ هذا الدين من العلماء وبالأخص في رأس كل مائة عام؛ فقد تعهد الله لنبيه بذلك، فهم المجددون الذين يجددون أمر الدين، ويتحملون أعباءه، ويصدعون بالحق ولا يخافون في الله لومة لائم كما في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه في الصحيح: ( بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم ).

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767139125