بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد:
وقد كان العلماء في تاريخ هذه الأمة قادة الإصلاح دائماً، فعندما شاع الإفساد في أيام يزيد بن معاوية ، وقتل الحسين بن علي رضي الله عنه، واستبيحت مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم قاد العلماء المواجهة، فكان سليمان بن صرد رضي الله عنه وقد شهد بدراً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من علماء الصحابة، قاد المواجهة في العراق، وكذلك عبد الله بن حنظلة الغسيل ابن أبي عامر قاد المواجهة في المدينة، و عبد الله بن الزبير بن العوام قاد المواجهة في مكة، وهم من علماء الصحابة جميعاً، وبعدهم لما حصل الخلل أيضاً في آخر دولة بني أمية قاد إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب وكان من العلماء قاد المواجهة حتى سقطت دولة بني أمية وقوضت، وبعد ذلك لما حصل الخلل أيضاً في أيام بني العباس، قام العلماء فكان منهم محمد النفس الزكية بالمدينة، وهو محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، وقد أفتى مالك رحمه الله بالخروج معه، وأخوه إبراهيم كذلك قام بالبصرة، وهم بذلك يقتدون بعدد من سلفهم الصالح كـالحسين بن علي بن أبي طالب ، وكـزيد بن علي بن الحسين ، وكذلك بالفقهاء الذين خرجوا مع ابن الأشعث على عبد الملك حين اختلت أحوال الرعية وفسدت أمور الدين، فإن ابن الأشعث لما خرج بالعراق خرج معه الفقهاء؛ فسميت في التاريخ ثورة الفقهاء، وكان معه إذ ذاك أنس بن مالك من الصحابة، و عامر بن شراحيل الشعبي و سعيد بن جبير و إبراهيم النخعي ، وغيرهم من أئمة التابعين، فكل هؤلاء قد قاموا بالحق لله سبحانه وتعالى حين احتاجت الأمة إلى من يقودها ويوجهها ضد الفساد، وكان لهم الأثر البالغ في تغيير أحوال الناس، وفي بذل الجهود، فمن لم ينجح منهم في محاولته نجح على الأقل في إظهار أن هذا الأمر مخالف للشرع، وأنه غير مقبول لميزان الشرع، وذلك كاف؛ لأنه إعذار إلى الله سبحانه وتعالى، وعلى المرء أن يسعى ويبذل جهده، وليس عليه أن يساعده الدهر، فـسليمان بن صرد رضي الله عنه قتل بعين التمر، و الحسين بن علي رضي الله عنه قتل هو ومن معه بكربلاء، و محمد النفس الزكية قتل بالمدينة، وأخوه إبراهيم قتل بالبصرة، والذين نجحوا وكان لهم الأثر قاموا بالإصلاح ما استطاعوا، فأدوا الأمور على وجهها، ولم يكونوا يريدون حظوظاً نفسيةً، ولا أموراً لصالح أنفسهم، بل كانوا يريدون مصالح الدين، واستقامة أحوال هذه الأمة، واستقامة أمور الرعية على الوجه الشرعي، ولم يكن أحد منهم يطلب سلطةً ولا مكانةً ولا مالاً ولا جاهاً، إنما كانوا يريدون التمكين لدين الله، والسعي لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه.
وفي بلادنا هذه كان عبد الله بن ياسين الجذولي رحمه الله أول الدعاة المخلصين وهو من كبار العلماء، فقد ربى الناس على الإسلام، ووجد أهل هذه البلاد لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه، ولا يتقيدون بشيء من أوامره ونواهيه، فرباهم على منهج الله ورسوله، وكان يؤدب من خالف شيئاً من توجيهاته، فإذا تخلف الرجل عن ركعة واحدة من الصلاة جلده عشرة أسواط، وإذا تخلف عن ركعتين جلده عشرين سوطاً، وإذا تخلف عن ثلاث ركعات جلده ثلاثين سوطاً، وإذا تخلف عن الصلاة الرباعية كاملةً جلده أربعين سوطاً، وكان لدعوته الأثر البارز في نشر الإسلام في هذه البلاد، كان لا يسجد أحد سجدةً لله، ولا يقرأ علماً ولا قرآناً ولا ذكراً في هذه البلاد إلا كان لـعبد الله بن ياسين أجر منه؛ لأنه الذي رسخ الإسلام في هذه البلاد وقواه، وكذلك ترك المرابطين على هذه السنة الحسنة، فكانوا يأخذون من العلماء ويرجعون إلى أقوالهم، فقد كان ابن ياسين المرجع في حياته فلما قتل رحمه الله جاءوا بالإمام الحضرمي المرادي .
وبعده جاءوا بـإبراهيم الأموي ، وكانوا لا يعدلون عن أقوال هؤلاء الأئمة الأعلام ويأخذون بقولهم، ولما اختلت أحوال الناس بعد ذلك كان للعلماء الدور البارز في تثبيت هذا الدين في هذه البلاد، فقد مكثت هذه البلاد قروناً عديدة ليس فيها دولة ولا نظام، وفيها النهب والغارات بين القبائل والسلب، ولم يكن يقيم أمر الدين إلا العلماء العاملون الصالحون، الذين يعلمون الناس الخير ويأمرونهم به، ويدافعون عن بيضة الإسلام، وكان عدد منهم يدعو لإقامة دولة الإسلام، والذين اشتغلوا بالسياسة من علمائنا في هذه البلاد ذوو عدد في كل عصر من العصور، فبعد دعوة ناصر الدين دعا عدد كثير من العلماء إلى إقامة دولة الإسلام، ومنهم: الشيخ محمود المامي رحمة الله، وقد قال في قصيدته النونية المشهورة:
أزيلوا الغرب قبل قيام عيسى لعل الله ينعشه سنينا
فيخرج قائم بالعدل منكم فلستم بعده تتخالفونا
وينفي ظلم بعضكم لبعض وبالحد المقام تطهرونا
بنو العباس ما زالوا كراماً يقتل جمعهم ويصلبونا
إلى أن أدركوا ثأراً لقرن وما أدركتم ثأراً قرونا
وقلتم لا جهاد بلا إمام نبايعه فهلا تنصبونا
وقلتم لا إمام بلا جهاد يعززه فهلا تضربونا
إذا جاء الدليل وفيه دور كفى ردعاً لقوم يعقلونا
فياشمشة أهل الذكر منكم سلوا إن كنتم لا تعلمونا
تعين ذاك وليسأل سواكم سواهم من يجيب السائلينا
كحرمة أو كباب بني علي فإني منهما في الداخلينا
وآل الحاج أنصار كرام إلى أبناء جبنة ينسبونا
وكذلك فإن الشيخ المختار الكنتي أيضاً دعا لإقامة دولة الإسلام في النيجر وفي نيجيريا، واستجاب لدعوته الشيخ عثمان فودي ، فأقام إمارةً إسلاميةً طبق فيها الحدود، وجاهد فيها في سبيل الله، وكذلك أبناؤه من بعده محمد فيللو وأولاده، وكذلك كان الشيخ الحاج عمر طال الفوتي أيضاً ممن دعا لإقامة دولة الإسلام، والجهاد في سبيل الله، وكذلك الشيخ السامولي في السنغال، وجامبي، وقبل هذين أيضاً الإمام عبد القادر الفوتي ، وهو الذي يسمى المامي ، فقد أقام الحدود في (فوتا) كما قال الشيخ محمود المامي : لله در الإمام عبد القادر ، فلقد رأيته يقيم الحدود ضحىً بـ (فوتا)، وغيرهم كثير، فالشيخ سيدي محمد ابن الشيخ سدية رحمة الله عليهما كان يدعو لإقامة دولة الإسلام في هذه البلاد، وللجهاد والحيلولة دون الاستعمار، وقصائده في ذلك مشهورة، ومنها قصيدته الرائية لتي يقول فيها:
حماة الدين إن الدين صار أسيراً للصوص وللنصارى
فإن بادرتموه تداركوه وإلا يسبق السيف البدارا
وكذلك كان عدد منهم أيضاً يوجه الأمراء وينصحهم ويأمرهم وينهاهم، ويشتد عليهم، ومنهم العلامة محمود بابا ، وكان شديداً على أهل الباطل والظلم، وذلك ما وصفه به العلامة المتالي رحمة الله عليهم أجمعين، فإنه يقول في مرثيته ومرثية الأمير محمود لحبيب :
فلله شهر عب بدءاً ومختماً عباب المشاكي والثقاف لمعتلي
محك الغبار الصيرفي وبابه وروض العواصيل الحبيب المبجل
فأول أرباع من الثاني طرحه به يتجلى عمر ضب مبجل
وللثالث اضمم رابعاً مبدلاً له بثاني حروف المعجم الرمز ينجلي
فلله كم من زائف عز ميزه ومن مشكل بعد الرضا لم يحلل
وكذلك من قبل هذا كان العلامة المختار بن اتشغا موسى ، وابنه محمد المشهور بـآب ، فقد قاما بأطر الأمراء على الحق، وإكراههم على كثير من الأمور التي لا يحبونها؛ لأنها موافقة للشرع، وكان العلماء يتشددون في هذا، فمن قبل كان العلامة يحيى بن يحيى المصمودي الليثي صاحب مالك قد أفتى أمير الأندلس لما أفطر في نهار رمضان أنه لا يجزئه في الكفارة إلا أن يصوم شهرين متتابعين، وقد خالفه علماء الأندلس فقالوا: بل يجزئه إطعام ستين مسكيناً، أو عتق رقبة، فقال يحيى : إنما يطعم من بيت المال وليس يملكه، أو يعتق من بيت المال وليس يملكه، فلا يردعه إلا أن يصوم شهرين متتابعين، وقد أخذ يحيى في هذا بما أثر عن عدد من السلف قبله، فـأبو حنيفة رحمه الله لما دعاه المنصور إلى تولي القضاء فامتنع منه، قال المنصور : والله لتتولين القضاء، فقال أبو حنيفة : والله لا أتولاه، فقيل له: أتحلف على ما حلف أمير المؤمنين على خلافه؟! قال: أمير المؤمنين أقدر على التكفير مني.
وعندما أرسل المنصور إلى مالك و ابن أبي ذئب و أبي حنيفة يسألهم عن المال الذي تحت يده قال له مالك رحمه الله: أمير المؤمنين أدرى بما تحت يده، فإن كان خيراً فهو يعرفه، وإن كان غير ذلك فهو يعرفه، وعليه أن يتقي الله على الحالين، وقال له ابن أبي ذئب لما سأله عن المال الذي تحت يده قال: شر مال والله، يؤخذ من غير حله ويوضع في غير محله، ولما سأل عنه أبا حنيفة رحمه الله قال: إنما هو مال الله، وأنت قد ائتمنك الله عليه فضعه حيث أراك الله، فأرسل إلى الثلاثة بمال، فقال للرسول: احمل هذا إلى ابن أبي ذئب فإذا أخذه فاقتله، واحمل هذا إلى أبي حنيفة فإذا رده فاقتله، واحمل هذا إلى مالك ولا تتعرض له، وذلك بحسب فتواهم وإجابتهم.
وقد ذكر العدوي في حاشيته على شرح الخرشي على مختصر خليل : أن أربعةً من علماء المالكية كانوا عند السلطان بتونس، وكان ذلك العام عام جدب وقحط، فدعاهم إلى مائدة كبيرة، فأما أحدهم فقد امتنع من الأكل وقال: لا آكل مثل هذا، وأما الآخر فقال: إني صائم وأريد أن آخذ نصيبي بالإفطار في البيت، وأما الثالث فأكل قليلاً ثم ترك باقيه، وأما الرابع فأكل كثيراً وحاول أن يأتي على ما استطاع من الطعام، فلما خرجوا ناقشوا ذلك، فأما الذي امتنع فقال: هذا المال حرام، ولا يحل لكم أكله ولا له هو، ويجب التورع عنه، ويجب أن يعرف السلطان ذلك ولم يعرفه إذا أكلتموه، بل لا بد أن تبينوا له أنه حرام، وأنه لا يحل أكله، وأما الذي ذكر أنه صائم فقال: هذا مستهلك أضمنه إذا لم أوصله إلى أهله، وأنا أعرف طلبة العلم المحتاجين الفقراء، فأردت أن أحتال لأوصل إليهم نصيبهم من هذا المال، فذكرت أني صائم لآخذ نصيبي فأرسله إليهم.
وأما الثالث الذي أكل شيئاً يسيراً فقال: أكلت فقط قدر نصيبي من بيت المال وكففت عن باقيه.
وأما الرابع الذي أكل كثيراً فقال: إن هذا المال في يد هذا الطاغية الظالم، فأردت أن أمنعه من أن يستعين به على معصية الله، فأخذت منه ما استطعت، فكل كان له تأويله فيما قام به.
وعموماً فإن تاريخ هذه الأمة حافل بإصلاح العلماء وقيامهم لله بالحق، ورعايتهم لأمر هذا الدين، وقيادتهم للأمة وسياستهم لها، وتوجيههم الأمة كلها إلى الوجهة الشرعية المرضية عند الله سبحانه وتعالى، وما يسمع اليوم في كثير من البيئات وبالأخص في البيئة السياسية لمحاولة إقصاء العلماء عن هذا الميدان، وتسمعوا بعضهم يقول: إن هذا المجال لا يصلح لمن كان من أهل الفقه، كأن الفقه عيب أو نقص خلقي، فمن اتصف به لا يصلح لبعض الأعمال، فهذا هو في غاية الانحراف والجهالة، ولا يمكن أن يقبل بوجه من الوجوه، بل لا بد أن يكون أهل العلم في محلهم ومكانتهم، وأن يبينوا للناس ما أوجب الله عليهم، وأن يخلفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القيام برعاية الدين، وسياسة الدنيا به، فهم السياسيون، وهم الاقتصاديون، وهم الاجتماعيون، وهم الذين يعرفون أحكام الشرع في الأمور، وهم الذين يؤدون النصيحة على وجهها الصحيح، ومن سواهم لا يعرف ذلك فلا يحل له أن يتكلم فيما لا علم له به، ومن كان من أهل العلم ذا اختصاص معين فينبغي أن لا يعلو اختصاصه أيضاً، وأن لا يتجاوزه، فليس له أن يتكلم فيما لا يحسن، وقد كان الإمام المنذري رحمه الله تعالى محدث مصر وفقيهها، فلما جاءها العز بن عبد السلام امتنع من الإفتاء وقال: لا ينبغي أن أفتي في بلد فيه مثل العز بن عبد السلام ، وكذلك كان عدد من علماء الأندلس يتورعون من الإفتاء بعد مجيء الباجي إلى الأندلس، فقالوا: لا يفتى وفي البلد سليمان بن خلف ؛ لأنه قد درس الأصول والحديث، فأصبح لديه من العلم ما ليس لدى أهل الأندلس، فكانوا يرجعون عن أقوالهم لقوله، وقبل ذلك كانوا ينزلون منذر بن سعيد البلوطي في منزلته، وقد كان المنذري رحمه الله شديداً في الحق، وقد جاء قحط شديد للأندلس، فأرسل إليه الأمير الأموي يلتمس منه أن يصلي بالناس صلاة الاستسقاء، فسأل الرسول: كيف تركت الأمير؟ فقال: تركته وقد دخل إلى منتزهه بين جواريه، فقال: والله لا أصلي الاستسقاء وهو على هذا الحال، حتى يشعر الأمير بما فيه الناس من اللأواء والجهد والضنك، ثم بعد ذلك اشتد الحال بالناس فأرسل إليه الأمير يلتمس منه الاستسقاء، فسأل الرسول: كيف تركت الأمير؟ فقال: تركته في مصلاه والمصحف بين يديه ودموعه تقطر، فقال: الآن أصلي الاستسقاء، فخرج إلى المصلى فرأى الناس يبكون وهم مقبلون على الله سبحانه وتعالى بجد، فلما رآهم خطب فيهم خطبته المشهورة التي افتتحها بقول الله تعالى: سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:54]، ومد يديه للدعاء فما ردهما حتى أنزل الله المطر وسقاهم.
وقد كان كثير من العلماء يقومون أيضاً بأعمال لا يقوم بها إلا السلاطين، ففي العصر السابق على عصرنا كان العلامة بابا ابن الشيخ سدية رحمة الله عليهم أجمعين يقوم بأمور لا يقوم بها إلا السلاطين، فيتولى الإصلاح بين الناس، وتأديبهم وردعهم، وكان جده الشيخ سدية قبله كذلك يقوم بهذه المهمات، ويتولى رعاية أمور الدين وسياسة أمور الناس، هذا عن بعض مكانة العلماء في المجتمعات عموماً وفي مجتمعنا بالخصوص.
وأما ما يتعلق بحقهم فيجب لهم على المسلمين أن ينزلوهم منزلتهم، وأن يقدروهم، وأن يحترموهم، وأن يأخذوا بفتواهم وأمرهم، وأن يرتدعوا عما نهوا عنه، ويجب احترام آرائهم، فهم قد اختيروا باختيار رباني لهذه المهمة، فإذا اجتهدوا فمن أصاب منهم فله أجران، ومن أخطأ فله أجر وليس عليه وزر في خطئه، وحتى لو وقعوا في بعض الأخطاء فإنها تغتفر في مقابل ما قدموا لدين الله، وفي مقابل نصرتهم لهذا الدين وقيامهم بشأنه، وقد قال ابن القيم رحمه الله: زلات العلماء أقذار، وهم بحار، وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث.
وكذلك قال ابن تيمية رحمه الله: كل من اجتهد في طلب الحق فهو معذور أصاب أو أخطأ، سواءً كان ذلك في الأصول أو في الفروع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب كان له أجران، وإذا اجتهد فأخطأ كان له أجر )، ولذلك يجب تقديرهم واحترامهم وإجلالهم، فهم ساسة الأمة وقادتها، وهم خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أمناء الله على الوحي، واحترامهم يقتضي أن يتجاوز عن مسيئهم، وأن يقبل من محسنهم، وإذا خالفهم الإنسان في الرأي فلا بد أن يكون ذلك باحترام، وأن يبين مكانتهم ومنزلتهم، كما كان اختلاف سلفنا الصالح في كثير من المسائل، وقد ذكر مالك رحمه الله في كتابه إلى الليث : إن الاختلاف في المسائل لا يفسد للود قضية، فهم يختلفون في المسائل ويخالف بعضهم بعضاً، ولكن ذلك لا يفسد للود قضيةً، ولا يقتضي الخروج عن الأدب معهم، والحفاظ على منزلتهم ومكانتهم، وكذلك يجب الدعاء لعلماء المسلمين أحياءً وأمواتاً، والترحم عليهم؛ فإنهم سبقوا إلى الإيمان، ونصروا الدين، وقد قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10].
ونحن نعلم أن العلماء غير معصومين، وأنهم يقدَّرون ولكن لا يقدسون، فتقع منهم الأخطاء ونعلم أنها خطأ، لكن لا يقتضي ذلك نبذ الصواب في أقوالهم، وقد كان رجل يقرأ كتاب فتح الباري للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني رحمه الله في مجلس محمد بن سليمان بن عبد الوهاب التميمي ، فكان بعض المتطرفين في مجلسه والكتاب يقرأ، فقرأ القارئ، وأطال القراءة حتى وصل كلمةً فيها تأويل لصفة من صفات الباري جل جلاله، فشغب ذلك المتطرف وقال: هذا خطأ وخلل في الاعتقاد، فقال له الشيخ: اسكت، فما أنت إلا كالذبابة لا تنزل إلا على القذر، حضرت من بداية الدرس إلى الآن وقد سمعت العلم الصحيح ولم يقع ذهنك على شيء منه حتى وصلت إلى خطأ واحد فشغبت به كالذبابة لا تقع إلا على القذر.
وقد قال الشافعي رحمه الله للبويضي لما سلم إليه كتابه قال: خذ هذا الكتاب على خطأ كثير فيه، قال: قلت: يا أبا عبد الله ! أصلحه لنا، قال: كيف وقد قال الله تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء:82] أبى الله العصمة إلا لكتابه، فلا كتاب على وجه الأرض معصوم من الخطأ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إلا القرآن وحده، وما سواه من كتب أهل العلم لا بد أن يعلم أنها يؤخذ منها ويرد كما قال مالك : ما منا أحد إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر.
فلذلك لا تترك الكتب، ولا أقوال أهل العلم بسبب ما يحصل فيها من الخطأ؛ فإنه مغمور في جنب ما فيها من الصواب، ففيها من الصواب أكثر مما فيها من الخطأ مما لا مقارنة فيه، وهكذا آراء العلماء وأقوالهم، فإن لهم من الصواب ورسوخ القدم في الحق والعلم ما يقتضي التجاوز عن أخطائهم فيما أخطئوا فيه من ذلك؛ لأنه ليس شيئاً في مقابل ما قدموه.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يختم بالصالحات أعمالنا، وبالحسنات آجالنا، وأن يستجيبَ دعاءنا، ويصلح أحوالنا.
السؤال: ما وجه الجمع بين حديث: ( إنما السيد الله ) وحديث: ( لا يقول أحدكم: أطعم ربك، وليقل: سيدي ومولاي )؟
الجواب: بالنسبة للحديثين ليس بينهما تعارض، فالسيد (بأل) اسم من أسماء الله، بإثبات (أل) اسم من أسماء الله، فإذا أطلق السيد فهو الله جل جلاله؛ لأنه مالك الكون كله وما فيه، فالسيد معناه الملك، والملك اسم من أسماء الله، والسيد اسم من أسماء الله، ومالك الملك اسم من أسماء الله، وكل ما كان في الملك على الإطلاق فهو اسم من أسماء الله جل جلاله أو صفة من صفاته، فهذا المقصود، فالسيد بمعنى مالك الكون كله اسم من أسماء الله، أما سيد القوم أو سيد البيت أو نحو ذلك، أو سيد فلان فهذا لا يقتضي تلك السيادة المطلقة؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( قوموا لسيدكم )، فلا يقصد بذلك الملك، إنما يقصد به السيادة في المجال الدنيوي الخصوصي.
السؤال: كيف الرد على من يزعم أنه كان يوجد بين أحرف القرآن تعارض؛ ولذلك أمر عثمان رضي الله عنه بحرق بعض النسخ؟
الجواب: أن هذا غير صحيح، فلا تعارض بين أحرف القرآن المنزلة على النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن عثمان رضي الله عنه أخذ بالعرضة الأخيرة التي عرضها جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت في رمضان في العام العاشر من الهجرة، قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بأشهر يسيرة، فلم يعش النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذه العرضة إلا شوالاً وذي القعدة وذي الحجة ومحرماً وصفراً واثني عشر يوماً من شهر ربيع الأول، فهذه العرضة بها أخذ عثمان وأراد أن يرد ما سواها، وقد احتفظ ابن مسعود بمصحفه ولم يقبل حرقه، وقال لأصحابه: ضلوا مصاحفكم، أي: اخفوها، فكان ذلك؛ لأنه متأكد أنه سمع ما رواه في مصحفه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا اجتهاد من ابن مسعود فإنه يرى أن العرضة الأخيرة قد لا تكون ناسخةً لما سبقها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أنزل عليه القرآن على سبعة أحرف، فيمكن أن تبقى الأحرف على وجهها دون نسخ.
السؤال: ما الرد على النصارى الذين يزعمون صحة الإنجيل الموجود اليوم مستندين إلى قوله تعالى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلْ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ [يونس:94]، قالوا: لو لم يكن صحيحاً لما أمر الله الرسول صلى الله عليه وسلم بسؤال أهله؟
الجواب: أن ما بأيدي النصارى اليوم ليس كتاباً واحداً، بل بأيديهم إلى الآن ستة كتب، والكتاب السابع لا يريدون إخراجه وهو موجود، وهذه الكتب لا تتوافق إلا في أشياء قليلة جداً ليست في عصر المسيح ابن مريم، وإنما هي قصص من التاريخ جاءت بعد المسيح بكثير، ولو كان هذا هو الكتاب المنزل على المسيح ابن مريم كيف يكون فيه التحدث عن ارتفاع عيسى، وعن محاولة قتله وصلبه، وعن أخبار الحواريين؟ كيف يكون الكتاب المنزل على عيسى يتحدث عن التاريخ الذي حصل بعد عيسى بمدد طويلة من الزمن؟ فلذلك ليس هذا الكتاب الذي بأيديهم هو الإنجيل الذي أنزل الله على عيسى قطعاً، والذي بأيديهم ليس كتاباً واحداً بل إنجيلٌ يختلف عن إنجيل وآخر يختلف عن الأناجيل الأخرى، فهي أناجيل مختلفة تماماً، ولا يصدق بعضها بعضاً، ولا يتوافق معها، والله سبحانه وتعالى إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالرجوع إلى ما كان لدى الأنبياء السابقين وما أنزل عليهم؛ ليكون ذلك تثبيتاً على الحق، وذلك ليس في أحكام الدين، وليس في العقائد، وإنما هو فيما يتعلق بما لحق الأنبياء من الأذى؛ لأنه قال له: مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ [فصلت:43]، وبين له أن الرسل من قبله أوذوا جميعاً في ذات الله، فما منهم أحد إلا أوذي بكل أنواع الأذى، فإبراهيم رمي في النار، ونوح آذاه قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، حتى قال: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ [هود:38]، وموسى آذاه بنو إسرائيل بأنواع الأذى حتى قال: يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ [الصف:5]، وهكذا عيسى حاول النصارى قتله وصلبه فرفعه الله إليه وقدسه منهم، وكذلك قتلوا زكريا ويحيى وأهدوا رأس يحيى بن زكريا عليهما السلام إلى بغي منهم، فكل ذلك كان من الأذى الذي لحق الأنبياء السابقين، والذين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم من بقايا أهل الكتاب الذين آمنوا به وصدقوه يشهدون بذلك ويقرون به، وما بأيديهم من الكتب التي لم تحرف بعد، كبعض الأجزاء من التوراة، وكانت بأيدي اليهود إذ ذاك لم تحرف، وفيها الشهادة برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها وصفه ومهاجره، وفيها وصف المدينة، وفيها وصف أصحابه، وفيها تسمية بعضهم كـأبي بكر و عمر ، وفيها كثير من الأمور المتعلقة ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم وأخباره، وقد كان عبد الله بن سلام رضي الله عنه حبر اليهود، وكان يحفظ ذلك كله، وقد استشهد الله بشهادته في القرآن، فبين الله سبحانه وتعالى معرفته به وشهادته به.
قالوا كذلك إنهم ليسوا مطالبين باتباع القرآن؛ لأن الله تعالى يقول: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [المائدة:68]، فقوله: وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [المائدة:68] هو القرآن، والمقصود بإقامة التوراة والإنجيل لالتزام بما فيهما من البيعة المعقودة في أعناقهم باتباع النبي صلى الله عليه وسلم، ففي كل الكتب المنزلة بيعة أخذها الله على الأنبياء جميعاً أن من لقي منهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يتبعه وأن ينصره، وهي بيعة لأتباعهم من بعدهم كما قال الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ * أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران:81-83].
والسؤال حذف منه وجه الرد عليهم؛ لأن وجه الرد هو قوله: حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [المائدة:68] وهو القرآن.
السؤال: هذا السؤال عن حديث وضع اليد على محل الشكوى، وأن يقول الإنسان: ( أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر ) هذا الحديث ونحوه، هل فيه دليل على أن الراقي يمكن أن يرقي نفسه والحال أنه متلبس بالمرض خلافاً لما هو شائع من ذلك؟
الجواب: أن الرقي بالقرآن جرب أن نفعها إنما هو إذا كانت صادرةً من طرف آخر، أما استعاذة الإنسان وتعوذه بأذكار المساء والصباح، وبأذكار المرض وغيرها، فهي أذكار يفعلها الإنسان، وكذلك قراءته للمعوذات ونفثه في يده ومسحه لجلده كل ذلك من الأذكار وليس من الرقى.
السؤال: معرفة مكان السحر كيف يكون؟ وإذا ما عرف مكانه بماذا يبطل؟
الجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم سحره بنات لبيد بن الأعصم ، وجعلن السحر بين حجرين في بئر بالمدينة، وقد أراه الله مكان السحر فكان ذلك بالوحي، فأدخل شخصاً إلى البئر فانتزع سحراً من بين حجرين في أسفل البئر، فأخرجه، ( ولما سئل: هل سيقتل من سحره؟ قال: لا، أما أنا فقد شفاني الله ).
ولا يعرف مكان السحر إلا بإقرار الساحر أو بإخبار من رآه حينما وضع السحر في مكان.
أما الاستعانة بالجن في معرفة مكان السحر أو نحو ذلك فهي من الأمور المحرمة ولا خير فيها، أما إبطال السحر فيكون بالقرآن.
السؤال: هذا السؤال عن غسل داخلة الإزار للمصاب بالعين، ماذا يعني بداخلة الإزار؟
الجواب: أن داخلة الإزار هي الطرف الذي يلي الحقو من إزار الإنسان، فالإزار يفعله الإنسان بين يديه فيأخذ طرفه فيجعله على حقوه الأيسر، ثم يديره من أمامه ثم من خلفه، فالطرف الذي يكون على حقوه الأيسر هو داخلته، أي: رأس الإزار الذي يجعل على الحقو الأيسر هو الذي يسمى بداخلة الإزار، فالإزار له داخلة وخارجة أي: رأس داخل ورأس خارج، فالرأس الداخل هو الذي يكون عند حقو الإنسان الأيسر، والرأس الخارج هو الذي يديره الإنسان من ورائه.
السؤال: ( إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله )، ما معناه؟
الجواب: أن الحديث اختلف أهل العلم في معناه، فقال طائفة منهم: إنما في الحديث جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، فيجوز للإنسان إذا لم يكن يتعين عليه التعليم أن يأخذ الأجرة عليه؛ لأنه سينشغل عن التدريس بغيره، وهذا مذهب جمهور أهل العلم خلاف للشافعي ، فـالشافعي رحمه الله وبعض المالكية كذلك يرون أنه لا يجوز الارتزاق على قرب، ويرون أن إمامة المسجد والخطابة والأذان وكذلك التعليم والقضاء ونحوها مما لا تؤخذ عليه الأجرة، ولكن إذا عطل ذلك الإنسان عن الكسب فيجوز له أخذ الأجرة عليه بمقابل تعطيله عن الكسب، وقد حصلت قصة لأحد القضاة من الشافعية شهد عنده معلم قرآن فرد شهادته، فقال له: أيها القاضي! علام ترد شهادتي؟ فقال: لأنك تأخذ أجراً على كتاب الله، فقال: وأنت أيها القاضي تأخذ أجراً على كتاب الله، قال: أنا مكره أكرهت على القضاء، قال: نعم أكرهوك على القضاء فهل أكرهوك على أخذ الدراهم؟ فقال: هات شهادتك.
السؤال: هذا السؤال عن معنى التوكل لغةً وشرعاً؟
الجواب: أن التوكل هو الاعتماد على الله سبحانه وتعالى، وأن يؤمن الإنسان أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، ويفوض أمره إلى الله، ويرضى بما قسم الله له وما قدر عليه، فإذا حصل أي أمر فيه نفع له فليعلم أنه من فضل الله، وإذا حصل أي أمر فيه ضرر به فليعلم أنه من عدل الله، ويكون راضياً بكل ذلك، متوكلاً عليه غير راكن إلى الأسباب، فالركون إلى الأسباب أن يعدل الإنسان إلى الأسباب، والتوكل عليها هو من الشرك، فليس للإنسان أن يتوكل على الراقي في قراءته، ولا على الطبيب في علاجه، بل لا بد أن يتوكل على الله وحده، وأن يعلم أن هذه أسباب قد تنفع وقد لا تنفع، ونفعها إنما هو من قبل قدر الله سبحانه وتعالى، فما قدر الله النفع فيه من هذه الأسباب نفع، ولذلك قاعدة الأسباب: أن تركها معصية، وأن التوكل عليها شرك، وليس معنى التوكل أن يترك الإنسان الأسباب، فأنتم تعرفون أن أصحاب الكهف شهد الله لهم بالإيمان، فقد قال الله تعالى: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف:13]، ومع ذلك قد أخذوا بالأسباب فقد قال الله تعالى: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً * إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً [الكهف:19-20]، فهذا يقتضي أن التوكل لا ينافي الأخذ بالأسباب، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما ترزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً )، فالطير تعمل (تغدو خماصاً) فهي تلتقط، فلو كان التوكل ينافي الأسباب لبقيت الطير في وكورها حتى جاءتها أرزاقها.
السؤال: بماذا تنصحون من ابتلي في دينه وماله ونفسه؟
الجواب: أن على الإنسان أن يعلم أن المؤمن لا يصيبه إلا ما هو خير له، ( إن أصابته سراء فشكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء فصبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ).
فالمؤمن دائماً إلى خير، فإذا أصابه الله تعالى بأي بلاء ففي ذلك الخير له؛ لأن الله تعالى يقول في كتابه: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، وذلك مقتض لأن يجزم الإنسان بأن كل ما أصابه فيه النفع له والخير، وبأن ما قدر الله له فهو مصلحته، ولا يمكن أن ينال مصلحةً من غير ذلك، وليعلم ( أن الأمة لو اجتمعت جميعاً على نفعه بشيء لم تنفعه إلا بشيء قد كتبه الله له، وإن اجتمعت على أن تضره بشيء لن تضره إلا بشيء قد كتبه الله عليه، رفعت الأقلام وجفت الصحف ).
السؤال: ما دور العلماء في المرحلة التي تمر بها بلادنا في هذه الأيام؟
الجواب: أن العلماء يجب عليهم بيان الحق، وإعلاء كلمة الله، والتجرد من حظوظ النفوس، وأن ينصروا الله سبحانه وتعالى، وأن يقوموا بالحق، وأن لا يخافوا فيه أحداً، سواءً كان صاحب سلطان أو صاحب مال أو صاحب جاه، فلا يبالون بذلك، بل لا بد أن يتجردوا لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه، والأخذ بالحق.
السؤال: هذا السؤال كثرت في هذه الأيام حملة إعلامية على علماء الأمة في بلادنا خصوصاً العلامة الشيخ محمد سالم بن عبدود حفظه الله، وقد ظهرت هذه الحملة على مواقع تنسب للإسلاميين في الإنترنت فما موقفهم من ذلك؟
الجواب: أن العلماء هم الإسلاميون، وأن الإسلاميين هم العلماء، وأن من أراد التفريق لا يمكن أن ينال ذلك أبداً، وبالنسبة للطعن في العلماء وبالأخص في أمناء الوحي ووراث رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس أمراً جديداً، وهو من شأن اليهود والمنافقين في كل زمان، وقد سمعت كثيراً من الطعن ينشر في مواقع الإنترنت في عدد كثير من رءوس الدعوة ومن العلماء المتوفين ومن الأحياء، وكله إنما يقوم به الذين لا خلاق لهم من الذين يرغبون في الطعن في هذا الدين، ولا يرون الطعن فيه إلا من خلال رموزه وأشخاصه، وقد تكلم من قبلهم في كثير من علماء الأمة، فما تسمعونه اليوم من كلام المستشرقين في أبي هريرة ، ومن كلامهم في محمد بن شهاب الزهري ، ما قصدوا به شخص أبي هريرة ولا شخص محمد بن شهاب ، وإنما قصدوا به الطعن في الحديث؛ لأن هؤلاء هم الذين يحفظون الحديث، فإذا سقطت هيبتهم لم تبق للحديث هيبة، وكذلك الطعن في أئمتنا الأعلام هو من هذا القبيل، وهو غريب جداً أن يصدر في هذا البلد الذي أهله جميعاً من المحبين للإسلام وأهله، فلا أشك أنه إذا كان صدر في هذا البلد فإنما هو من مؤامرات اليهود ومن كيدهم، ومن عمل أذنابهم وأذيالهم الذين يحركونهم من بعد، والغريب في الأمر أنهم ما سلطوا في ذلك إلا على أطهر الناس، وما تكلم فيه أيضاً إلا بشيء هو أبعد الناس عنه، فمثلاً يذهبون إلى أشرف الأنساب على وجه الأرض فينسبونه إلى أخس الأنساب على وجه الأرض، وأخس الأنساب على وجه الأرض نسب اليهود الذين هم إخوان القردة والخنازير، وأشرف الأنساب على وجه الأرض نسب بني هاشم وبالأخص نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذريته الطاهرة وعطرته الطيبة، وإذا اختاروا من يطعنون فيه فإنما يختارون أطهر الناس وأبعدهم عن طعنهم، وذلك يدل على عدم توثيقهم، وبالنسبة لموقف الإسلاميين من ذلك جميعاً هو معروف برفضهم لذلك وإنكارهم له واستنكارهم لكل ما يحصل من ذلك، فما هو إلا طعن في الإسلام وفي الرسول صلى الله عليه وسلم وفي ورثته وخلفائه الهادين المهديين المهتدين، والإسلاميون بريئون من كل ذلك، ومن منهجهم إجلال العلماء وتوقيرهم واحترامهم، وأيضاً الرد عنهم والرد عن أعراضهم، ويجب عليهم أن يفعلوا ذلك وأن يقوموا به، والمواقع المذكورة مواقع عامة ينقلها كل من هب ودب في هذه البلاد وفي سواها وهي مفتوحة على العالم كله، وكل إنسان يكتب فيها ما أراد، وبالأخص فيما يتعلق بالتعليقات، فكل إنسان يكتب فيها ما أراد، ومسئوليته عليه، ولكن يجب على أهل المواقع أن يطهروها من هذا الرجس والأدران والأمور المخالفة للشرع التي لا تقبل بوجه من الوجوه، ويجب على أهل المواقع والقائمين عليها أن يكونوا أهل انتباه وحذر من أن يستغلوا لنشر هذه الدسائس والرذائل التي ما قصد بها إلا الطعن في دين الإسلام، وما قصد فيها إلا الطعن في الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وفي عترة آل بيته وفي خلفائه ووراثه من بعده، وبالأخص في هذا العصر، فالذين يتكلمون فيهم قطعاً هم أعداء لهذا الدين وأعداء لهذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
نقف عند هذا الحد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر