إسلام ويب

فقه المعاملات [4]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد شرع الله سبحانه وتعالى الأحكام وفصلها، وذلك شيء يختص بالألوهية فله التشريع وحده، ثم أمر بتبليغ أحكامه وبيانها، وذلك يكون بضوابط، من شعور بأمانة البيان، وعدم المجاملة في الحق، والورع في الفتوى والإفتاء عن علم، حتى لا يقع أحد في القول على الله بغير علم.

    1.   

    ضوابط الفتوى والتورع فيها

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فإن الله سبحانه وتعالى هو وحده الذي يستحق التشريع؛ فمن خصائص الألوهية التحليل والتحريم، ولا يمكن أن يكون أحد من دون الله تعالى محلاً أو محرماً، بل ذلك من خصائص الألوهية كما قال الله تعالى: أَمْ لَهمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ[الشورى:21]، وكما قال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ[يونس:59]، فلا بد أن يكون التحليل والتحريم من عند الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن أن يتولى ذلك أحد من دونه؛ لأن التحليل والتحريم مترتب على العلم بمآلات الأمور ومصيرها، ومآلات الأمور لا يعلمها إلا الله؛ فالله تعالى هو الذي يعلم ما تئول إليه الأمور، وقد قال تعالى: أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ[الشورى:53].

    وقد استأثر بالحكم فقال: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ[الشورى:10]، وقال: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ[الأنعام:57]؛ فالحكم كله لله سبحانه وتعالى ولا حكم من دونه، ولا يمكن أن يتحاكم البشر إلا إليه؛ لأنه الذي يعلم مصالحهم ويكفلها ويضمنها، ومن سواه لا يمكن أن يعرف مصالح المستقبل إذا عرف مصالح الماضي أو اليوم الذي هو فيه، فسيجهل مصالح الغد والمستقبل؛ كما قال زهير بن أبي سلمى :

    وأعلم علم اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عمي

    وقد شرع الله سبحانه وتعالى للعباد من الأحكام ما يحقق مصالحهم؛ فما من أمر من أمور الدنيا أو من أمور الآخرة إلا وفيه حل من عند الله سبحانه وتعالى وهو الحكم الذي اختاره وارتضاه لعباده، وإذا عرف الإنسان ذلك اطمأن واطمأنت نفسه؛ لأنه يعلم أن الحل موجود، وأن كل مشكلة تأتي فحلها في هذه الشريعة المطهرة، وهي من عند الله سبحانه وتعالى وهي معصومة من التغيير والتبديل.

    يبقى أن بيان ذلك هو أمانة في أعناق الذين يتولون البيان عن الله، وهم الموقعون عن رب العالمين، وهؤلاء قد حملوا أمانة عظيمة جسيمة، وهي أمانة الفتيا والتوقيع عن رب العالمين والتبليغ عنه، وهذه الأمانة لا شك أن كثيراً من الناس يضعف عند أدائها فيتأثر بالضغوط، بالخوف أو بالطمع أو بغير ذلك من عوارض الدنيا، ولكن الله سبحانه وتعالى أحق أن يخاف، وأحق أن يطمع فيما عنده، فلا بد فيمن يوقع عن رب العالمين من التجرد المطلق لله سبحانه وتعالى، وألا يخاف فيه لومة لائم، وأن يعلم أنه سيعرض عليه مغلولاً حتى يجيب عما أفتى فيه؛ فقد أخرج أبو داود في السنن بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أفتي على غير ثبت فإثمه على مفتيه )، والقول على الله بغير علم من أكبر الكبائر، وقد عده الله تعالى مع الشرك؛ فقال تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ[الأعراف:33]، ولهذا كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم تشق عليهم الفتيا في الأمر النازل، فيردها بعضهم إلى بعض خشية أن يتكلموا بما لا يحسنون، وكذلك التابعون من بعدهم، ففقهاء المدينة السبعة كانت تأتي النازلة فتعرض على أحدهم فيقول: استفتوا فيها فلاناً، فإذا عرضت على ذلك قال: استفتوا فيها فلاناً، حتى تعود إلى الأول، وكذلك من بعدهم من أتباع التابعين؛ فالإمام مالك بن أنس رحمه الله كان يقول: (ينبغي للعالم أن يورث جلساءه قول: لا أدري، ليكون أصلاً في أيديهم يرجعون إليه). وكان يقول:

    من كان يهوى أن يرى متصدراً ويكره لا أدري أصيبت مقاتله

    ولذلك سئل رحمه الله عن اثنتين وأربعين مسألة فقال في ثمانية وثلاثين منها: لا أدري، وجاءه رجل من خراسان يسأل في مسألة فقال: يا أبا عبد الله ! أرسلني أهل خراسان أسأل عن حكم كذا وكذا، فسكت مالك فترة ثم رفع طرفه فقال: لا أدري، فقال الرجل: يا أبا عبد الله ! ماذا أقول لأهل خراسان؟ قال: قل لهم: أبو عبد الله يقول: لا أدري. فلا بد أن يجد الإنسان في نفسه الجراءة على قول: (لا أدري) فيما لا يعلم وألا يتجاسر على الفتيا فإن التجاسر عليها مهلكة، وبالأخص في هذا الزمان الذي رفع فيه العلم وظهر فيه الجهل، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وذكر أنه سيزداد؛ فقد أخرج البخاري و مسلم في الصحيح من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله لا يقبض هذا العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبضه بموت أهله حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فاستفتوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا )، وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في حديث أبي هريرة في صحيح البخاري : ( إن بين يدي الساعة أياماً يظهر فيها الجهل، ويرفع فيها العلم، ويكثر فيها الهرج، قالوا: وما الهرج يا رسول الله؟! فأشار بيده يحرفها، أي: القتل )، فسيقل العلم وسيكثر السؤال، ويقل المجيبون بالحق ويكثر الذين يجيبون بغير حق، والإجابة بغير حق هي من سمات المنافقين؛ فهم الذين كانوا يتجاسرون على الإجابة ويقدمون بين يدي الله ورسوله، وقد نهى الله عن ذلك فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ[الحجرات:1]، وقال تعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ[النساء:83]، وهذه الآية صريحة في الرد إلى الذين يستنبطون وأنهم الذين يمكن أن يفهموا الوقائع، وينزلوا عليها الأدلة، ومن ليس من أهل الاستنباط وهو يقر بذلك عجباً له كيف يفتي؟! إذا كان الإنسان يقر بأنه ليس من أهل الاستنباط، ولا علاقة له بالأدلة ولا بفهمها ولا بمراتب الدلالة، ولا بأوجهها ولا علاقة له بدراسة أنواع الأدلة ومراتبها كيف يتجاسر على الفتيا؟

    وما أقوله في إجابة أسئلتكم إنما هو من الظن كما كان مالك يقول: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ[الجاثية:32]، يقول ذلك في المسائل الاجتهادية، فما نقوله هو من الظن، فإن كان فيه صواب، فذلك من توفيق الله وفضله وما كان فيه من الخطأ فهو من نفسي ومن الشيطان، وأستغفر الله سبحانه وتعالى من كل ذلك.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    1.   

    الأسئلة

    الزيادة في الدين مقابل الأجل

    السؤال: شخص باع لشخص آخر عشرين ألفاً على أجل عشرة أشهر بأربعين ألفاً، فهل يعتبر هذا سلفاً جر نفعاً أم لا؟

    الجواب: لا، هذا رباً صريح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الذهب بالذهب رباً إلا هاء وهاء )، وقال: ( لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل يداً بيد سواءً بسواء )، وفي حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه في صحيح مسلم ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الذهب بالذهب والفضة بالفضة والقمح بالقمح والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد، سواءً بسواء، فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد )، ومن المعلوم أن الذهب والفضة إنما يتميزان عن غيرهما في الأصل بأنهما الأثمان، هما ثمن المبيع وقيمة المتلف، وبهما تدفع صدقات النساء وبهما تدفع الديات، وقد كان ذلك حينما كانا عملة يرجع الناس إليها، أما اليوم فقد أصبحت أثمان المبيعات وقيم المتلفات وصدقات النساء وديات القتلى كلها تدفع بالعملات التي تعارف الناس عليها؛ فهذه العملات تأخذ حكم الذهب والفضة في ذلك؛ لأن الحكم تعللي، والأصل في الأحكام كلها أن تكون تعللية؛ ولهذا فما لا يحل في الذهب والفضة لا يحل في العملات؛ فما يحل فيها كربا الفضل أي: الزيادة إذا اختلف الجنس فإنه مباح، فإذا اشترى الإنسان بالأوقية دولارات فيجوز التفاضل؛ لأن القيمة مختلفة، كما يجوز ذلك بين الذهب والفضة، أما إذا كان الجنس واحداً بأن كانت أوقية بأوقية أو دولاراً بدولار أو ذهباً بذهب أو فضة بفضة فهذا لا يجوز التفاضل فيه، بل لا بد أن يكون يداً بيد مثلاً بمثل.

    استئذان الحاكم في إقامة الجمعة

    السؤال: ما قولكم في أهل قرية وجبت عليهم الجمعة فابتدءوا إقامتها في قريتهم هذه؛ إلا أنهم صلوا ثلاث جمع قبل استئذان حاكم المقاطعة التي يتبعون لها؟

    الجواب: الصلاة فريضة افترضها الله سبحانه وتعالى على عباده، وهي الصلة بين العبد وربه، وهي حق الله المتمحض؛ فلا يستشار فيها أحد، كما لا يستشار الحاكم في إقامة صلاة الصبح ولا صلاة الظهر ولا صلاة العصر ولا صلاة المغرب ولا صلاة العشاء، كذلك لا يستأمر في صلاة الجمعة؛ فلا فرق، فهي فرض يومها، فإن الله افترضها على محمد صلى الله عليه وسلم وهو بمكة قبل الهجرة، ولم يكن يستطيع أداءها بمكة، فصلاها أصحابه بالمدينة جمعهم أبو أمامة أسعد بن زرارة و مصعب بن عمير رضي الله عنهما بنقيع الخضمات بحرة بني بياضة تحت ظلال النخل، فكانوا يصلون الجمعة، حتى قدم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً وهم يصلونها، وصلاها بنو عبد القيس بجواثى وهي قرية بالبحرين كما في صحيح البخاري ، ومسجد جواثى الذي كانت تصلى فيه الجمعة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم قد زرته وأطلاله الباقية الآن لا تتسع إلا لعشرين رجلاً فقط، وقد كانت الجمعة تصلى فيه على حياة النبي صلى الله عليه وسلم.

    كيفية إخراج الزكاة في الشركات

    السؤال: قلتم: إن الشركات لا تجب عليها الزكاة؛ لأنها شخصية اعتبارية، إذاً: كيف أدفع الزكاة بصفتي مالكاً لهذه الشركة؟ وأذكر أن محاسبة هذه الشركة لا تعطي صورة صادقة عن حالتها المالية؟

    الجواب: المؤسسات والشخصيات الاعتبارية لا تبعث يوم القيامة؛ فلذلك لا يكتب عليها، الكتابة والتكليف إنما هي على الشخصيات الحقيقية؛ فالمكلف إذا بلغ بدأ الملائكة يكتبون أعماله، وستعرض عليه في صحائفه، ويحشر إلى الله سبحانه وتعالى، أما الشركة فليست حقيقة باقية، بل إنما يبعث الناس أفراداً كما قال الله تعالى: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا[مريم:95].

    ومن هنا فكل إنسان من ملاك المال الذين اجتمعوا فأسسوا شركة، تجب عليه زكاة ماله، ما كان منه في تلك الشركة وما كان في غيرها، فإذا كان يملك مالاً وهو عبارة عن أسهم في هذه الشركة، ومالاً عبارة عن أسهم في شركة أخرى، أو عن سيولة في صندوقه أو حسابه، فإنه يجب عليه جمع ذلك كله وزكاته إذا حان الأجل، وهو تمام الحول، فإذا مضى الحول وجب عليه أن يزكي كل ذلك المال، أما تقويم أسهم الشركات كما إذا كانت الشركة مثلاً خالصة لإنسان واحد يملكها، أو لرجلين يملكانها وقيمتها تنقسم إلى قسمين: إلى قيمة سوقية وقيمة اسمية؛ فالقيمة السوقية معناها: ثمن هذه الأسهم في السوق، والقيمة الاسمية هي: قيمة السهم التي شورك بها في الأصل، فالعبرة ليست بالقيمة الاسمية، بل بالقيمة السوقية؛ لأن تسييل هذا الأسهم أمر شاق ويأخذ وقتاً، ولا يستطيع أحد من الشركاء عادة أن ينسحب بنقوده ويترك الأعيان والديون على البقية الذين سيبقون في الشركة؛ فلذلك لا بد أن تقوم تقويماً سوقياً فتعرف قيمتها.

    وهذا التقويم لا بد فيه كما سبق من خبرتين: خبرة الفقه وخبرة المحاسبة، فلا تغني إحدى الخبرتين؛ لأن خبرة الفقه تقتضي أن ينتزع من الأمور ما لا زكاة فيه كالثقة؛ فالثقة داخلة في التقويم الذي يصدره البنك المركزي أو المؤسسة المالية في البلد؛ فكل بلد من البلدان ترعى اقتصاده مؤسسة، وهذه المؤسسة هي التي تقوم بدور البنك المركزي أو مؤسسة النقد، وهي التي تقوم أسهم الشركات، وتنظر بعدد من المعايير، منها معيار الجودة ومعيار الثقة، والإقبال على الخدمة وميزان العرض والطلب، وغير ذلك من المعايير التي يرجع إليها المقوم عند تقويمه للشركة، هذه المعايير كثير منها لا يزكى، مثل الثقة، أي: أن هذه المؤسسة محل ثقة لدى الناس، وهذه لها قيمة عند المقوم الاقتصادي، لكن ليس لها قيمة في الزكاة.

    ومن هنا لا بد أن تنزع قيمة الثقة من تقويم الشركات، فرأس المال المصرح به لكل شركة في الواقع قد لا يكون موجوداً، وقد يكون عبارة عن أعيان وديون، وقد يكون عبارة عن أصول مستهلكة، مثل عقارات ومباني ومكاتب وكمبيوترات وسيارات، وغير ذلك من الأمور التي لا زكاة في أعيانها، فحينئذ لا بد من خبرة الفقيه، ولا بد من خبرة المحاسبي الذي يستطيع أن يقوم لنا أسهم هذه الشركة تقويماً دقيقاً، وحينئذ ينظر كل مالك إلى نصيبه الحقيقي الذي لو وضعت هذه الشركة للبيع في السوق لاشتريت بهذه القيمة، ونال هو منها هذا النصيب؛ فهذا النصيب هو الذي يزكى.

    ثبوت حديث: (يأتي زمان على أمتي من لم يأكل الربا نال من غباره) والمقصود منه

    السؤال: هل صحيح أن ما يلي حديث شريف، وهو: ( يأتي زمان على أمتي من لم يأكل الربا نال من غباره

    الجواب: نعم، ورد هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، والمقصود به: التحذير لا إقرار الواقع، فكثير من الناس يستدلون به ويقولون: أمر الربا سهل ميسور؛ لأنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيعم ومن لم ينل منه نال من غباره، فيقال: نعم، لكن جاء ذلك على وجه التحذير منه لا على وجه إقراره؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما حذرنا من ذلك؛ لنأخذ منه العبرة والحذر؛ ولنعلم أن أكل الربا سبب للعنة، وسبب لعدم استجابة الدعاء، وسبب لحرمان الإنسان من التوفيق للطاعات، وسبب لحرب الله ورسوله، هذه أربعة أمور تترتب على أكل الربا؛ فالذي يأكل الربا ملعون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك موكله؛ فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه )، وقال: ( هم سواء ).

    وكذلك أكل الربا سبب لعدم استجابة الدعاء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك )، وكذلك هو سبب لعدم التوفيق للطاعات لقول الله تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ[البقرة:275]، فهم بمثابة المجانين، تصرفاتهم غير مضبوطة، وقد اختلف أهل التفسير في تفسير هذه الآية؛ فقالت طائفة منهم: يقومون من المحشر، أي: عندما يحشرون من قبورهم يقومون يتخبطون كالمجانين، وذلك من عقوبتهم الأخروية، وقالت طائفة أخرى: بل تصرفاتهم في الدنيا كذلك، الذين يأكلون الربا في الدنيا لا يقومون في أمورهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، ونحن نشاهد هذا كثيراً، فتصرفات أهل الربا كثيراً ما تأتي عليهم بالوبال؛ فالربا في البداية ينفق السلعة، ثم بعد ذلك يمحقها، ثم بعد ذلك يحرق صاحبه، وكم من إنسان كان من أهل الثروة والغنى، ولكنه اشتغل بأكل الربا، فمحق الربا ماله وأهلكه، ولم يبق معه إلا الندم حيث لا ينفع الندم.

    فلذلك لا بد أن نحذر الربا حذراً شديداً، وأن نحذر من كبيره وصغيره، ولا بد أن نعلم أننا قطعاً لا نقدر على حرب الله ورسوله، وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ[البقرة:278-279]، فهذا صريح في التهديد بحرب من الله ورسوله لمن لم ينته عن أكل الربا، وهذه الحرب قطعاً لا يمكن أن يقوم لها أحد من البشر.

    ثم بعد هذا لا بد أن نعلم كذلك أن الله تعالى هو الذي يهب المال ويعطيه، وقد توعد بمحق الربا؛ يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ[البقرة:276]، وهذا المحق وعيد من الله سبحانه وتعالى بصيغة الخبر، أي: أن الأمر قد حسم وقضي؛ فهو من عمل الأمس وليس من عمل الغد، يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا[البقرة:276]، هذا أمر متقرر، قد رفعت الأقلام فيه وجفت الصحف، فالربا ممحوق، يمحقه الله، وهذا يقتضي: أن من يريد الربح من الربا غير رابح قطعاً، فلا يمكن أن يربح من يريد الربح من خلال أي صفقة ربوية بحال من الأحوال.

    كذلك لا بد أن نعلم أيضاً أن كثيراً من الناس ينظرون إلى ما يذكره الفقهاء في كتبهم من الصور التي كانت موجودة قديماً من صور الربا، فيظنون أن الربا انحصر فيها، ويقولون: الذي يذكره الفقهاء هو بيع الأرز بالأرز متفاضلاً، وبيع القمح بالقمح متفاضلاً، واليوم لا يبيع أحد الأرز بالأرز ولا القمح بالقمح، ويظنون أن الأملاك ليس فيها رباً، وهذا يقتضي أن الربا لم يعد موجوداً أصلاً، وأنتم تعلمون أن هذا من أفسد ما يمكن أن يتصوره شخص؛ فهو فاسد في الشريعة بالكلية، فالربا باق، وقد حذر الله منه ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلا بد من الحذر منه واجتنابه والبعد عنه.

    بيع السلعة بثمن إلى أجل

    السؤال: هل تجوز الصيغة الآتية، وهي: أعطيك هذه السيارة على أن تدفع لي كذا، مثلاً: أن تعطيني مليونين بعد عامين؟

    الجواب: إذا كان هذا بيع إلى أجل فالبيع إلى أجل من الأمور الجائزة، وهو أن تبيع سلعة محددة معلومة بمثمن محدد معلوم إلى أجل؛ فهذا جائز، سواءً كان ذلك الثمن يدفع دفعة واحدة كالمثال المذكور هنا أو يدفع بالتقسيط، في كل شهر تدفع كذا وكذا؛ فهذا من الأمور الجائزة ولا حرج فيه، لكن لا بد أن نعلم أن المبيع حينئذ لا بد أن يكون موجوداً؛ لئلا يحصل الكالئ بالكالئ، والكالئ معناه: المتأخر، وأن تشتغل ذمتان معاً بصفقة واحدة فهذا لا يجوز، يمكن أن تشغل إحدى الذمتين، لكن الأخرى لا بد أن يكون منابها مدفوعاً عاجلاً؛ فلذلك لا بد من تعجيل أحد العوضين إذا أجل الآخر.

    ضوابط صلاة المرأة في المسجد والتوفيق بين الأحاديث الواردة في ذلك

    السؤال: إذا كانت المرأة في بيتها تسمع الصلاة في المسجد ولا ترى المصلين بعينها؛ فما الأحسن لها أن تصلي في بيتها أم الذهاب إلى المسجد؟

    الجواب: المرأة إذا كانت تجد مكاناً في المسجد لا تخالط فيه الرجال فصلاتها في المسجد حينئذ أفضل، وإذا كانت تخالط الرجال وتخشى الفتنة أو تخشى منها؛ فصلاتها في بيتها أفضل؛ ولهذا نجمع بين النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم كحديث أم حميد الساعدية : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن صلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في مسجد قومها، وصلاتها في مسجد قومها أفضل من صلاتها في مسجد الجامع )، وبين النصوص التي فيها حض على صلاة الجماعة مطلقاً بما يشمل الرجال والنساء، وإذن النبي صلى الله عليه وسلم لهن بشهود الصلاة معه في المسجد، وحديث عائشة : ( أن النساء كن يشهدن الفجر مع النبي صلى الله عليه وسلم فيرجعن متلفعات بمروطهن، ما يعرفن من الغلس )، وكذلك حديث ابن عمر و أبي هريرة في صحيح البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله )، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( من شهدت منكن معنا العشاء الآخرة فلا تمسن طيباً )، كل هذا أحاديث تدل على شهود النساء الجماعة في المسجد، والحديث الأول وهو حديث أم حميد الساعدية يقتضي أن بيتها أفضل لها.

    والجمع بين هذا الحديث والأحاديث الكثيرة أن هذا في حق من تخشى منها الفتنة أو تخشى عليها، أو التي تختلط مع الرجال في المسجد، حيث لم يكن في المساجد مكان مخصص قديماً، وكان النساء يصلين في صفوف وراء الرجال؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها )، فالمقصود بالصفوف إذا لم يكن بين صفوف الرجال وصفوف النساء حائل، فأول صفوف النساء هو الذي يلي الرجال؛ فهو شرها، أي: أقلها أجراً، وآخرها أي: أبعدها عن الرجال هو أفضلها، أي: أكثرها أجراً، وأول صفوف الرجال أي: أقربها إلى الإمام أفضلها، وآخرها أي: أقربها إلى النساء أقلها أجراً.

    دفع الزكاة للأخت المتزوجة من رجل فقير

    السؤال: أخت متزوجة برجل فقير، وتسكن مع أبيها والأب غني، وهو ينفق عليها، فهل تعطيها أختها الزكاة؟

    الجواب: المرأة إذا كانت فقيرة وكان زوجها فقيراً فهي مصرف من مصارف الزكاة، يجوز دفعها لها؛ لأنها لا تجب نفقتها على غني؛ لأن النفقة إنما هي واجبة على الزوج، والزوج فقير كما في السؤال، فعلى هذا هي مصرف من مصارف الزكاة، لكن ليس لوالدها أن يدفع إليها الزكاة؛ لأن ذلك سينقص من مئونتها، وهو يتحمل مئونتها، والزكاة لا يمكن أن يوفر بها عرْض ولا عرَض، كما قال محمد مولود رحمه الله:

    لا تجعلن عرضاً بها مصونا أو عرضاً فتمنع الماعونا

    فالزكاة لا يمكن أن يوفر بها الإنسان ماله ولوازمه، بل لا بد أن تكون خالصة لله سبحانه وتعالى، ليس للإنسان فيها أي أرب ولا نفع؛ فالإنسان إذا كان ينتفع بالزكاة بأن تخفف عنه مئونة بعض أهله، أو تنقص عنه بعض لوازمه، فإنه لم يخرج الزكاة لله تعالى، وإنما أخرجها لمصالحه الخاصة.

    الحقوق المتعلقة بتركة الميت

    السؤال: رجل توفي وأوصى بثلث ماله للفقراء، فهل القرابة مقدمة في هذه الوصية أم لا؟

    الجواب: لفظ (الموصي) يجب احترامه شرعاً، ولا يحل تبديله، وقد قال الله تعالى: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ[البقرة:181]، وهذا صريح في أن وصية الإنسان في ثلث ماله حق له هو، وقد مات وانقطع عن الخصومة في هذه الدنيا؛ فلا يحل الاعتداء على حقه ونقصه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عن دبر منكم )، أي: جعل الله سبحانه وتعالى هذا الثلث من مال الإنسان صدقة عليه يتصرف فيه بعد موته بالوصية، فيكون خالصاً له هو لا يناله الورثة، وذلك أن الميت إذا مات ترتب في تركته أي: فيما يتركه من المال خمسة حقوق:

    الحق الأول: حق تعلق بعين؛ كالمرهون، وعبدٌ جنى، فإذا كان له سيارة يملكها، وعليه دين، وقد رهن فيه السيارة، أو له دار يملكها وعليه دين وقد رهن فيه الدار فإن صاحب ذلك الدين مقدم في هذه الدار، ما لم يقض دينه ولا يمكن أن ينتفع من هذه الدار، ولا تصل إلى الورثة ولا إلى أهل الوصية ولا تقضى منها الديون الأخرى؛ لأن الذي رهنت له أولى بها حتى يقضى الدين الذي هي مرهونة فيه.

    والحق الثاني: هو مؤن تجهيزه بالمعروف، ومؤن التجهيز تشمل أيضاً مؤن العلاج، إذا كان المتوفى يعالج في مستشفىً تجاري مثلاً، وأنفقت عليه أموال طائلة، وكان لا يمكن أن يخرج من المستشفى إلا بعد تسديد الفاتورة؛ فهذه الفاتورة هي من مؤن التجهيز، ومثلها مؤنة تغسيله وكفنه ودفنه، ويدخل في ذلك أيضاً ما كان من المعروف من النقل؛ فنقله من مكان بعيد إذا كان يكلف تذاكر كبيرة، وكان يمكن أن يدفن في المكان الذي هو فيه دون تكلفة، فليس ذلك من المعروف، ولا بد أن ينظر فيه إلى الحق، لا يخرج من ماله هو إذا كان له قصر وصبية، بل إنما يخرجه المتطوعون من أموالهم؛ فالذي يخرج من ماله هو مؤن تجهيزه بالمعروف فقط، فالنفقات الكبيرة التي ينفقها الناس على نقل الأموات من بلد إلى بلد، هذه لا تكون من تركة الميت إذا كان له أولاد صغار قصر يتامى؛ لأنه تكلف في أمر جائز من مال أولئك اليتامى، ومال اليتامى لا يمكن أن ينفق منه على مثل هذا؛ فمؤن التجهيز منها تسديد فاتورة العلاج، ومنها غسله وكفنه ومؤن دفنه بالمعروف، أما ما زاد على المعروف وهو مثل النقل مسافة بعيدة ونحو ذلك، فهذا لا يخرج من تركته.

    والحق الثالث: هو ديونه التي لم يرهن فيها شيء من ماله، فيجب تسديدها جميعاً؛ لأنها تحل ما كان منها مؤجلاً وما كان حالاً سواء، فإذا مات ابن آدم فقد خربت ذمته؛ لأن الذمة عبارة عن وعاء مقدر، قدره الشارع مع الإنسان، يتحمل به؛ لأن كل إنسان له أملاك محصورة، وهي ما في يده، وله عقلية تجارية، وآمال مستقبلية وإنتاج يمكن أن ينتجه في المستقبل، فهذا الإنتاج من الحكمة ألا يعطل؛ فلذلك جعل الشارع له ذمة، وهي بمثابة وعاء مقدر، أي: ظرف مقدر مع الإنسان تحفظ فيه الأموال التي هي وهمية غير حقيقية لديه، كطاقاته وما يتحمله، سواءً كان ذلك إتلافاً أو كان معاملة، فما أتلفه من المتلفات يدخل في ذمته، وما اشتراه من المشتريات يدخل في ذمته، وما تحمله من التبعات يدخل في ذمته؛ فهي بمثابة ظرف، لكن هذا الظرف مرتبط بحياة الإنسان، فإذا مات الإنسان خربت ذمته، ولم تبق له ذمة.

    ومن هنا إذا كان على الإنسان ديون مؤجلة لأجل بعيد، لعشرين سنة أو ثلاثين سنة، فمات اليوم وقد بقيت هذه الديون؛ فإنها تحل بنفس موته.

    وهنا أذكر أن الذين يشترون الدور من الشركات، مثل شركات البنيان التي عندنا هنا، سوكوجين مثلاً أو غيرها، إذا كان العقد صحيحاً فعقد شخص مع هذه الشركة واشترى منها داراً لمدة عشرين سنة أو عشر سنوات يسدد كل شهر قسطاً معيناً، إذا مات فقد حلت الديون التي عليه، وحل جميع الأقساط التي عليه الآن، لكن بالإمكان أن يأتي ورثته أو ولي أمره فيجدد عقداً جديداً مع الشركة يقول: نعم، أنتم ديونكم قد حلت جميعاً، لكننا نحن نتعهد بها ونتحملها، فسنستمر معكم في العقد، وأنا أتحمل بدفع القسط الشهري في وقته، ويبدأ العقد الجديد.

    ومثل ذلك ما ذكر من قبل في فتوى تطهير المال، من كان له مال من حرام، أو مال مشكوك فيه، ولا يريد أن يأتي في كفة سيئاته يوم القيامة، ويريد أن يتخلص منه الآن قبل ألا يكون دينار ولا درهم، ويتذكر قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ[البقرة:254]، لا بَيْعٌ فِيهِ[البقرة:254]؛ أي: لا يمكن أن يماكس الإنسان ويساوم في الحقوق التي عليه، وَلا خُلَّةٌ[البقرة:254]؛ أي: لا تنفع فيه العلاقة والصحبة، وَلا شَفَاعَةٌ[البقرة:254]؛ أي: لا وساطة ولا شفاعة يمكن أن يسقط في مقابلها حق، هذه ثلاثة أمور منفية يوم القيامة، لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ[البقرة:254]، فأراد التخلص من ذلك فدعى عدلين من المسلمين، وصرح لهما بما معه من المال، وقال: أنا عندي كذا وكذا من المال أشك فيه، أو أوقن أنه ليس لي، وأريد الخلاص منه، ولا أستطيع أن أدفعه دفعة واحدة؛ لما يترتب علي من الأضرار المادية والمعنوية. لذلك فسأدفعه إليكما بالتقسيط، وأنا أستطيع أن أدفع منه شهرياً كذا وكذا، فيفاوضه العدلان، يقولان: لا، تستطيع أكثر من ذلك، زدنا، حتى يتفقا معه على قدر محدد يدفعه، إذا مات هو قبل سداد الجميع؛ فإن ذلك قد حل في ماله الآن.

    لكن إذا أدى ذلك إلى ضرر بورثته، وبالإمكان أن يتقدم ولي أمرهم فيقول لعدلين من المسلمين: هذا المال الذي كان في ذمة والدنا قد توفاه الله، وقد بقي منه كذا وكذا، وهو حال الآن، لكن في تسديده دفعة واحدة ضرر علينا، فأنظرونا ونحن نضمنه وسندفعه في كل شهر كذا وكذا، وحينئذ ينتقل الضمان من ذمة الميت المتوفى إلى ذمة أوليائه، فذمة الميت تخرب بمجرد الموت؛ ولهذا: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعي للصلاة على جنازة سأل: هل عليه من دين؟ فإن قيل: عليه دين رجع ولم يصل عليه، وجيء يوماً برجل فلما تقدم للصلاة عليه قال: هل عليه من دين؟ فقيل: نعم، درهمان )، درهمان فقط، ( فرجع ولم يصل عليه فقال أبو قتادة : هما علي يا رسول الله! )، فتحملهما أبو قتادة فبرأت ذمة الميت وتعلق الدين بذمة أبي قتادة ، ( فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى على الميت )، قال أبو قتادة : ( فكان إذا لقيني قال: أقضيت الدين عن صاحبك؟ فقلت: لا، فسألني فقال: أقضيت الدين عن صاحبك؟ قلت: نعم، قال: الآن بردت جلدة صاحبك )، وكذلك: ( جيء بميت آخر فسأل: هل عليه من دين؟ فقيل: نعم، عليه درهمان أو ديناران فتأخر النبي صلى الله عليه وسلم فقال علي بن أبي طالب : هما علي يا رسول الله! )، فضمنهما علي بن أبي طالب وسددهما، ( فصلى النبي صلى الله عليه وسلم على الميت ).

    وبعد هذا في آخر عمر النبي صلى الله عليه وسلم أوجب الله عليه قضاء الديون عن الموتى المعسرين، وهذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، يجب عليه صلى الله عليه وسلم قضاء الدين عن كل ميت معسر من أمته؛ ولهذا صح عنه أنه قال في آخر عمره: ( من مات عن حق أو ضياع فهو لورثته، ومن مات وعليه دين فعلي وإلي )، أي: يتحمله النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من مسئولياته صلى الله عليه وسلم، فكان يجب عليه قضاء الدين عن الموتى الذين لا يملكون ما تقضى به الديون عنهم.

    ثم إن الدين الذي يحل بمجرد الموت إذا كان مالكه ومستحقه إنما زاد من أجل التأخير، وقد حل الآن فهو يستحقه بالغاً ما بلغ؛ لأنه في الأصل عقد هذه الصفقة لبيع هذه السيارة إلى أجل سنة أو سنتين بثمن كذا ولو باعها حالة لكان الثمن أقل، لكن لا اعتبار لذلك الآن؛ لأنه إذا حط فإن هذا من الحطيطة في بيع الأجل، وذلك لا يمكن إلا إذا كان الإنسان يتطوع به لورثة الميت، فقال: أنا أحط عنكم من هذا المبلغ كذا وكذا وأعطوني البقية؛ فيصالحهم على بقية ذلك.

    والحطيطة تصح في السلم ولا تصح في القرض؛ ولذلك قال القواعدي :

    وضع بقرض سلم قد دخلا وحط في السلم لا قرض فلا

    ومعنى هذه القاعدة أن من أمهات الربا أُمين: إحداهما: (ضع وتعجل). والأخرى (حط الضمان وأزيدك). فـ(ضع وتعجل) معناه: انقص عني بعض الدين وأدفعه لك حالاً، و (حط الضمان وأزيد) معناه: أخرني وأنظرني وسأزيدك في الدين، فـ(ضع وتعجل) تدخل في القرض والسلم، و(حط الضمان وأزيدك) تدخل في السلم لا في القرض، وقد روي: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لبني قينقاع لما أجلاهم عن المدينة أن يضعوا وأن يتعجلوا )، فقد كانت لهم ديون على أهل المدينة فأجلهم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام يخرجون فيها من المدينة إلى الشام لأول الحشر، هذا أول حشر اليهود إلى الشام، فحشرهم الآن الذي تسمعون عنه بمجيئهم من الفلاشا وجمهوريات روسيا وغيرها واليمن، يجتمعون جميعاً في أرض محشرهم؛ لأنهم جميعاً يحشرون إلى الشام كما قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا[الحشر:2]، فأول الحشر هو حشر اليهود إلى الشام، فإن الله تعالى يقول: وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا[الإسراء:104]، وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ[الإسراء:104]، أي: من بعد موسى، لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ[الإسراء:104]، أي: تفرقوا فيها، فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ[الإسراء:104]، إذا اقترب موعد قيام الساعة، جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا[الإسراء:104]، أي: حشرناكم في الشام.

    ولما أراد النبي صلى الله عليه وسلم إخراجهم إذا لهم ديون على الناس فقال: ( ضعوا وتعجلوا )؛ لأن الديون مؤجلة، (ضعوا) أي: انقصوا بعض ديونكم وتعجلوا بعضها.

    والسلم قد سبق بيانه في العقود، وهو أن تدفع مالاً الآن لشخص ويتحمل لك في ذمته موصوفاً في الذمة، كأن تدفع مليوناً لشخص الآن، ويتحمل لك سيارة من موديل كذا وكذا ومواصفاتها كذا وكذا، أو أنت تدفع إليه نقداً قدره كذا وكذا، كألف دولار ويتحمل لك مثلاً عدداً معيناً من الكراتين من البطاريات أو غير ذلك، فهذا هو السلم.

    تأخير الحج مع القدرة على أدائه

    السؤال: هل يكون آثماً من أخر الحج وهو يجد تكاليفه بدون عذر؟

    الجواب: الحج ركن من أركان الإسلام، وقد قال الله تعالى: وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ[آل عمران:97]، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هؤلاء الأمصار؛ فلينظروا من فيهم ممن استطاع الحج فلم يحج، فليفرضوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين.. ما هم بمسلمين.. ما هم بمسلمين). وقال علي رضي الله عنه على المنبر: (من استطاع الحج فلم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً). فقد قال الله تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ[آل عمران:97]، وعلى هذا فمن استطاع الحج فيجب عليه أن يبادر إليه، والراجح: وجوب الحج على الفور لا على التراخي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( حجوا قبل ألا تحجوا، قالوا: وما بال الحج يا رسول الله؟! قال: يجلس أعرابها على أذناب أوديتها فلا يصل إلى البيت أحد )، وقد أخرج أبو داود في السنن بإسناد فيه ضعيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أراد الحج فليبادر؛ فإنه قد يمرض المريض، وتأتي الحاجة، وتضل الراحلة )، وهذه أعذار تحول دون الحج؛ فلذلك على الإنسان أن يبادر إليه.

    وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الحج واجب على التراخي لا على الفور، واستدلوا بأن الحج فرضه الله على النبي صلى الله عليه وسلم في نهاية العام الثامن من الهجرة، فجاء العام التاسع ولم يحج فيه النبي صلى الله عليه وسلم، بل أرسل أبا بكر يحج بالناس، ثم في العام العاشر حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، وعلى هذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحج بعد أن فتح الله عليه مكة، واستطاع الحج في العام التاسع فلم يحج ذلك العام، وإنما أخرها لعام آخر، ولكن الجواب عن هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليحج إلا في وقت الحج، والعام التاسع كان عام نسيئة، والنسيء كان أهل الجاهلية يفعلونه، وهو تأخير بعض الأشهر عن وقتها؛ فقد جعل أهل مكة شهر ذي الحجة في ذلك العام محرماً، وهو الشهر الذي بعد ذي الحجة، وقد كانوا يفعلون هذا في الجاهلية فأبطله الله تعالى بسورة التوبة وقال فيها: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ[التوبة:37]، ولذلك يقول أحدهم:

    ونحن الناسئون على معد شهور الحل نجعلها حراما

    والنبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع قال: ( إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض )، فأبطل النسيء فاستدار الزمان كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وقد قال الله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ[التوبة:36]، فاستدار الزمان كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض فحج النبي صلى الله عليه وسلم بوقت الحج؛ فلذلك يعتبر الإنسان القادر على الحج إذا أخره آثماً إذا كان قادراً عليه واستطاع ذلك، والاستطاعة التي شرطها الله في قوله: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا[آل عمران:97]، وشرطها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل في قوله: ( وحج البيت، من استطاع إليه سبيلاً )، تعريفها هي: الزاد والراحلة والسبيل السابلة، الزاد أي: النفقة، والراحلة أي: ما يوصل الإنسان إلى تلك البقاع، والسبيل السابلة أي: الأمن على النفس والمال، فإذا كان الإنسان يجد ما يوصله من المال نفقة ونقلاً، وكان يأمن على نفسه وماله في الطريق، فإنه قد وجب عليه الحج، ولا يحل له التأخر عن أدائه، وهذا هو الراجح والأدلة قائمة عليه.

    محرمية أم الزوجة من الرضاعة

    السؤال: أم الزوجة من الرضاعة: هل تكون محرماً للزوج أم لا؟

    الجواب: النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب )، وهذا عام في كل ما حرم من النسب؛ فإنه يحرم من الرضاعة.

    الحكم على صحة ما في كتاب قرة العيون في النكاح الشرعي

    السؤال: عن كتاب اسمه (قرة العيون) في النكاح الشرعي، ماذا عن صحة ما فيه؟

    الجواب: لم أطلع على هذا الكتاب ولا علم لي بصحة ما فيه.

    التخلص من المال الحرام بصرفه على الأقارب

    السؤال: فيما يخص التوبة من الأموال المحرمة: هل يجوز للمخرج أن يشير على العدلين إلى أسر من الأقارب، فيصرفوا لها تلك الأموال أو بعضها؟

    الجواب: الأصل أن التائب قد خرج من هذا المال إرضاءً لله سبحانه وتعالى، وعليه فليس فيه له أي حق وهو يريد البراءة منه مطلقاً، ولا يريد أن تتعلق ذمته بشيء منه؛ فهو يعلم أنه مال عام للمسلمين وهو وأبعد الأباعد فيه سواء، فليس لأقاربه هو خصوصية عن غيرهم من المسلمين، بل هم في ذلك سواء.

    ولكن مع هذا على العدلين ألا يفتنا مريد التوبة؛ فالذي يريد التوبة يقبل منه ما استطيع؛ لأن القبول في مثل هذا النوع هو الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يكره فتنة الناس، كل ما يؤدي إلى فتنتهم فهو مقطوع شرعاً، وقد قال: ( أيها الناس! إن منكم منفرين )، وبين النبي صلى الله عليه وسلم خطر الحيلولة بين الناس وبين التوبة؛ فلذلك يمكن أن يساهلا الشخص ويلايناه لعل ذلك يقطع فتنته، لكن لا بد أن يعلماه بالحكم الشرعي، وأنه كغيره من المسلمين في ذلك المال، وقد تاب منه وخرج، فليس له فيه أي حق مختص ولا لأقاربه.

    معاشرة الزوج والصبر عليه وحكم ما يتلفظ به كناية عن الطلاق

    السؤال: لدي أبوان وبينهما مشكلة وهي أن الوالد يسيء معاملة الوالدة، يشتمها أنواع الشتم وكذلك يشتم أهلها حتى الموتى منهم، ويزداد الشتم إذا نصحته في معاملة الآخرين معاملة حسنة، والطامة الكبرى تأتي عندما تنصحه في قضاء الطهارة التي لا تصح العبادة إلا بها، وقد تكون عليه جنابة، فيغضب ولا يرفعها، ويزداد الغضب، وهو دائماً يتلفظ لها بعبارات الطلاق مثل: لك رقبتك، وما شابهها من العبارات، وقد وقع أخيراً في هذه العبارة، فاعتزلته منذ أسبوع حتى تعرف الحكم في هذا القول، وحالته هي كالتالي: العمر يزيد على سبعين سنة، وهو غير متعلم لأحكام الشريعة، مع أنه دائماً آتيه بأشرطة؛ لعله يسمعها، وهو شديد الغضب مع العجلة في الأمور، ويغضب بسرعة ثم إنه ربما اتصف بالخرف، لكن ذلك بعيد، ويحتاج إلى الرعاية لا سيما رعاية الزوجة؟

    الجواب: هذا النوع من الأقوال قطعاً من المعصية، ولا يحل للإنسان تعمده إذا كان عاقلاً تام التصرف، ومع ذلك يجب على أولاده وزوجته بره ونصحه بالتي هي أحسن، والسعي لإصلاحه والدعاء له لعل الله يصلحه، وإذا شتم الزوجة فتضررت، فلها الحق أن ترفع الضرر عن نفسها بالرفع إلى القاضي، ولكن مع ذلك صبرها عليه أفضل لها، إن كانت تستطيع الصبر فهو أفضل لها، فتصبر عليه.

    وبالنسبة للفظ الذي جاء من ألفاظ الطلاق، وهو (رقبتك لك) مثلاً، هذا النوع ليس صريحاً في الطلاق وإنما هو تمليك، أي: أنه يملكها أمر نفسها، وإذا لم تأخذ هي بالطلاق، فهذا لا يعتبر طلاقاً؛ لأنه ليس صريحاً من صرائح الطلاق وإنما هو تمليك، والتمليك ما لم تأخذ به لا يحصل الطلاق، ولذلك لا بد من الصبر على مثل هذا النوع وبالأخص إذا ذكر أن في عقله شائبة فهو قد تجاوز السبعين، وربما كان فيه خرف أو نقص في العقل؛ فلا بد من مراعاة ظروفه، والحرص على إصلاحه بالتي هي أحسن، وعلى أولاده أن يبالغوا في بره وإكرامه، والسعي لإصلاحه لعل الله تعالى يزيل عنه سوء الخلق، والزوجة لها الحق في أن ترفع الضرر عنها لكن مع ذلك صبرها أفضل لها.

    السنة النبوية في تطويل الصلاة وتخفيفها

    السؤال ما حكم تطويل بعض الأئمة مع أنه ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من صلى بالناس فليخفف )، وكذلك الذي في أيدينا من الكتب كلها لا يوجد في الركوع ولا في السجود عدا ثلاث مرات: سبحان ربي الأعلى في السجود، وسبحان ربي العظيم في الركوع، وأنا وجدت بعض الدعاة يطولون الركوع بدلاً من ثلاث مرات ستة وثلاثين مرة، فهل هذا يجوز؟

    الجواب: بالنسبة للحديث هو حديث معاذ بن جبل : ( أن رجلاً من الأنصار كان يعمل في النهار في مزرعته فجاء إلى مسجد قومه في صلاة العشاء وهو يقود ناضحيه، فألقى أزمتهما على باب المسجد ودخل في الصلاة، فلما أحرم معاذ افتتح بعد الفاتحة بسورة البقرة وآل عمران في الركعة الأولى )، قرأ البقرة وآل عمران في الركعة الأولى، ( وكان ركوعه كقيامه، فنام الرجل في الصلاة، فلما استيقظ جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكوه إليه، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: من صلى بالناس فليخفف، فإن منهم المريض والضعيف وذا الحاجة )، وهذا الحديث صريح في أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتخفيف في أئمة الجماعة الذين يصلون بالناس.

    وهذا التخفيف لم يحدده بعدد محدد، وقد قال ابن دقيق العيد رحمه الله: (والله ما التخفيف الذي أمر به إلا الذي كان يفعله). فمن المستحيل أن يتعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله؛ فهو معصوم، فالتخفيف الذي أمر به هو الذي كان يفعله، وقد كان صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الظهر فيقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة ثلاثين آية، وفي الركعة الثانية ثلاثين آية بعد الفاتحة، وفي الثالثة خمس عشرة آية، وفي الرابعة خمس عشرة آية، وفي صلاة العصر كان يقرأ بعد الفاتحة خمس عشرة آية في الركعة الأولى، وخمس عشرة آية في الركعة الثانية، وسبع آيات بعد الفاتحة في الثالثة، وسبع آيات بعد الفاتحة في الرابعة؛ كما في حديث أنس في صحيح مسلم ، وكان صلى الله عليه وسلم يطيل القراءة في صلاة الصبح، وكذلك صلى المغرب بسورة الأعراف يقسمها بين الركعتين، سورة الأعراف هي طولى الطوليين في العهد المكي، وأطول ما نزل من القرآن قديماً الأنعام والأعراف، فكان يقسم الأعراف بين الركعتين في صلاة المغرب، وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم صلى العشاء بسورة الطور وسورة النجم، وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم أيضاً صلى صلاة المغرب بسورة التين، وصلى العشاء أيضاً بسورة التين، وصلاها بسورة الزلزلة يكررها بين الركعتين، تعمد تكريرها فصلى الركعة الأولى بالفاتحة والزلزلة، والركعة الثانية بالفاتحة والزلزلة، وكانت صلاته متقاربة؛ فركوعه كان قريباً من قيامه، ورفعه كان قريباً من ركوعه، وكان يطيل فيه حتى قال علي رضي الله عنه: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيل في الرفع من الركوع حتى نقول: هل سها؟ )، وقوله: (هل سها؟) معناه: يظنون أنه سها من تطويله في الرفع من الركوع، وكذلك في سجوده، وكان يعد له خمسون تسبيحة في الركوع، كان يسبح خمسين تسبيحة في ركوعه، وكذلك كان يقول في ركوعه: ( سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي، سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي، سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي )، وكان يقول في الركوع أيضاً: ( سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة )، وكان يقول في الرفع من الركوع: ( ربنا لك الحمد حمداً ملء السموات وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ).

    وقد حض النبي صلى الله عليه وسلم على الإكثار من الدعاء في السجود فقال: ( أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا فيه لأنفسكم بالدعاء، فقمن أن يستجاب لكم )، وكان يقول: ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد )، وكان صلى الله عليه وسلم في السجود يكثر أن يقول: ( اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك )، وقال صلى الله عليه وسلم: ( من قال في ركوعه: سبحان ربي العظيم ثلاثاً فقد تم ركوعه، وذلك أدناه، ومن قال في سجوده: سبحان ربي الأعلى ثلاثاً فقد تم سجوده، وذلك أدناه )، وذلك أدناه أي: هذا أقل تمامه، فهذا أدناه وليس أعلاه.

    وكذلك خلفاؤه الراشدون من بعده فقد صحب العمل التطويل في الصلاة؛ فقد أخرج مالك في الموطأ عن الفرافصة قال: ( ما حفظت سورة يوسف إلا من كثرة قراءة عثمان لها في الصبح )، سورة يوسف كان عثمان كثيراً ما يقرؤها في صلاة الصبح إماماً بالناس فحفظها الفرافصة من في عثمان في الصلاة، وكان أبو بكر يصلي الصبح بالبقرة وآل عمران قراءة بطيئة فيقولون له: (يا خليفة رسول الله! كادت الشمس تطلع! فيقول: لو طلعت ما وجدتنا غافلين). ( وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالناس العشاء الآخرة ليلة وقد تأخروا فصلاها بسورة المؤمنون فقرأ من أولها )، وقراءة النبي صلى الله عليه وسلم فيها ترتيل حتى يستطيع العاد أن يعدها كلمة كلمة، ( قرأها حتى بلغ ذكر موسى أو عيسى فأخذته سعلة فركع )، أخذته سعلة أي: كحة، فركع صلى الله عليه وسلم.

    فالصلاة هي صلتنا بالله سبحانه وتعالى، وعلينا ألا نتعجل فيها، وأن نعلم أنها مائدة الله سبحانه وتعالى وإذنه لنا، ونحن لا نرضى أن نكون من المحجوبين عن رب العالمين، ومن أذن الله له بالصلاة فهو قد شرف تشريفاً عظيماً؛ ولهذا قال عبد الحق الإشبيلي رحمه الله في مقدمة كتاب الصلاة والتهجد: (الحمد لله الذي أذن لعباده بطاعته فخروا بين يديه متذللين، ولوجهه معظمين، لم يغلق بينه وبينهم باباً، ولا أسدل دونهم حجاباً، ولا خفض أودية ولا رفع شعاباً). فتكريم عظيم أن يأذن الله للعبد في السجود بين يديه.

    وحاجتنا إلى الله لا حصر لها، ونحن نرفع إليه حوائجنا في سجودنا وصلاتنا، وكان عروة بن الزبير رضي الله عنه يسأل الله كل شيء في الصلاة حتى الملح للطعام، قال: (أسأل الله كل شيء في سجودي حتى الملح للطعام). وكذلك فإن عدداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا إذا صلوا لا يتحركون في الصلاة، وتطول الصلاة، فيأتي الحمام فينزل فيبيض على عمائمهم يظن أنهم بمثابة الأساطين من عدم حركتهم وطول قيامهم.

    وهذه الصلاة هي أهم أعمالنا وأمورنا، والذي لا يعطيها من وقته إلا دقائق محصورة يسيرة، وتشق عليه مع ذلك، ويعدها كبيرة لا يمكن أن يكون من الخاشعين؛ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ[البقرة:45]؛ فمن كان من الخاشعين لا تكبر عليه الصلاة، ومن لم يكن من الخاشعين لا بد أن تكبر عليه الصلاة، وتشق عليه ويتطاولها ويرى أنها أمر عظيم جداً، وهي في الواقع راحة يرتاح بها الإنسان من هموم الدنيا، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( أرحنا بها يا بلال ! )، وقال: ( وجعلت قرة عيني في الصلاة )، و عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى عماله: (إن أهم أموركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع وأضيع).

    وأذكر مرة من المرات أنني قبل حوالي عشرين سنة صليت صلاة العصر في الجامع السعودي، وأظن أنني خففتها جداً، فلما سلمت كلمني أحد الشيوخ في المسجد فقال: إن الصلاة طويلة، وإنها أخذت وقتاً طويلاً، وأنه مشغول ولديه التزامات فقلت: يا أخي! إذا خرجت من المسجد أين ستذهب؟ فقال: أريد الذهاب إلى مكان كذا، فقلت: هل لك سيارة؟ قال: لا، قلت: كم ستمكث تنتظر الحافلة على الشارع؟ قال: ثلاثين دقيقة أو عشرين دقيقة، فقلت: كم مكثت في الصلاة؟ قال: عشر دقائق، فقلت: الوقت الذي تمضيه في انتظار الحافلة لا تمضي نصفه في مناجاة الرب الكريم سبحانه وتعالى، فقال: صدقت، وكان بعد ذلك ممن يحرصون على تطويل الصلاة؛ لأنه أدرك أن الوقت الذي يضيع هو الوقت الذي يمكثه الإنسان في غير مناجاة الله.

    ومناجاة الله تشريف عظيم، وأمر ينبغي أن يشتاق إليه الإنسان؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وذكر منهم: ( ورجل قلبه معلق بالمساجد )، إذا كان الإنسان يتعلق بالمساجد وبالصلاة، يشتاق إليها وينتظر وقتها، وإذا سمع النداء لا يسمع صوتاً أحسن عنده من: حي على الصلاة.. حي على الفلاح، لا يسمع صوتاً أحسن عنده من التكبير والتهليل، ويأتي مطمئناً فهذا الذي تكفر خطاياه وتكون صلاته ربحاً له؛ فكل خطوة يخطوها تكفر بها عنه سيئة وتكتب له بها حسنة، وترفع له بها درجة، ثم يكون بعد ذلك جلوسه في الصف، وانتظاره للصلاة، وصلاته كل ذلك ربحاً له، بعد أن كفرت خطاياه، ورفعت منزلته، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ألا أخبركم بما يرفع الله به الدرجات ويكفر به الخطايا؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط.. فذلكم الرباط.. فذلكم الرباط )، وقال صلى الله عليه وسلم: ( بشر المشائين في سدف الليل إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة )، فنحن محتاجون إلى هذا النور، ومحتاجون إلى هذه الصلاة التي تكفر من خطايانا، وترفع من درجاتنا وتقربنا من ربنا سبحانه وتعالى.

    وحوائجنا لو أردنا كتابتها، مجرد عريضة نكتبها لأخذت وقتاً كثيراً، والحوائج التي تريدها عند الله إذا أردت أن تكتبها في كتاب، ستأخذ وقتاً طويلاً، هذه الحوائج ارفعها إلى الله بسؤال الضراعة في الصلاة، ولا تتعجل؛ ولذلك صلى أنس بن مالك رضي الله عنه خلف عمر بن عبد العزيز رحمه الله فأطال عمر الصلاة فلما سلم قال أنس : (ما صليت بعد النبي صلى الله عليه وسلم وراء أحد أشبه به صلاة من هذا الفتى، كان يركد في الأوليين ويخف في الأخريين، وكان يتم الركوع والسجود ويخف القيام والجلوس). وكذلك فإن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما ولاه عمر رضي الله عنه على العراق، اشتكاه رجل من بني أسد، فذكر أن سعداً لا يحسن الصلاة بالناس، وأنه يطيلها بهم، فدعاه عمر فقال: (ماذا تصلي لهم؟ قال: والله! إني لأصلي لهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أركد في الأوليين وأخف في الأخريين، فقال: ذلك الظن بك).

    فالركعتان الأوليان لا بد أن تشكل عقدة الصلاة، ولا بد أن يركد فيهما الإنسان؛ لأن نفسه تأتي من بعيد في رحلة إلى الله؛ كما قال البشير الأنباري رحمه الله:

    وإن عماد الدين لله رحلة وعند انتهاء السير تستأنف النجوى

    لا بد أن يفهم الإنسان أنها رحلة إلى الله، وفي بدايتها يتأهب للخشوع والحضور، ويهيئ نفسه لذلك ويجاهدها؛ فالنفس تريد الفرار من الباب فإذا رددتها حاولت الفرار من النافذة، فإذا رددتها استقامت، فيكون ذلك شاقاً في الركعتين الأوليين، ثم ينسجم في الركعتين الأخريين، فآخر الصلاة هو الخاتمة، وينبغي أن يكون أحسنها كما ترجو أن يكون خير أعمالك آخر عمرك.

    فلهذا علينا ألا نستطيل الصلاة، وأن نحرص على صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال: ( صلوا كما رأيتموني أصلي ).

    تزويد المرضى بالدم عند حاجتهم إليه

    السؤال: ما حكم التغذية بالدم في حق المرضى الذين تجرى لهم عمليات جراحية، وبعضهم يجد نزيفاً داخلياً مثلاً، فما حكم تزويده بالدم؟

    الجواب: الأصل في الأنجاس كلها حرمة التعالج بها في داخل الأبدان، هذه قاعدة نص عليها الفقهاء جميعاً، وهي التي نظمها محمد مولود رحمه الله بقوله:

    وامنع دواء باطن الأجساد بنجس واختلفوا في البادي

    فالنجس منه الدم، والدم حرام؛ لقول الله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ[المائدة:3]، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الله لم يجعل شفاء أمتي في ما حرم عليها )، لكن مع هذا قد يكون ذلك محل ضرورة، كما إذا اتفق الأطباء على أن هذا الإنسان لديه فقر في الدم، أو لديه نزيف أدى إلى استنزاف دمه، فلم يبق له ما يكفي لحياته؛ فحينئذ هو مضطر، والمضطر يباح له ما اضطر إليه؛ كما قال الله تعالى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ[الأنعام:119]، وقال تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ[البقرة:173]، وهذا الإنسان غير باغ ولا عاد، بل هو مضطر لاستعمال الدم، فيجوز له ذلك، وهذا الدم لا يوصف بطهارة ولا بنجاسة؛ لأن المضطر له قسم سادس بعد أقسام التكليف، وأقسام الخطاب التكليفي هي:

    الواجب والمندوب والحرام والمكروه والمباح.

    فالمضطر إليه بعد هذه الأقسام ليس منها، فلا يقال: هذا مضطر إليه، فيكون واجباً أو يكون مندوباً، أو يكون مباحاً.. لا، بل هو قسم آخر سادس وراء هذه الأقسام، وهو ما اضطر الإنسان إليه، فهو مما وراء ذلك كما قال الله تعالى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ[الأنعام:119]، وعلى هذا فالإنسان الذي هو مضطر لاستعمال الدم يجوز له استعماله، ويتقيد في ذلك بقدر الضرورة؛ لأن الضرورة لا يتعدى محلها والضرورة تقدر بقدرها.

    رد بطاقات الاتصال غير الصالحة بعد شرائها

    السؤال: ما حكم البطاقات التي يردها أصحابها بدعوى أنهم لم يجدوا مقابلها من المكالمات؟

    الجواب: هذا يقع كثيراً؛ فكثيراً ما يشتري الإنسان بطاقة شحن، فلا يجد فيها رقماً أو يجد ذلك الرقم مستعملاً أو يجد فيه خللاً؛ فلا تصلح هذه البطاقة للاستعمال، وهذا يقع إما للخلل في الأجهزة، وهذا ممكن، وإما للسرقات؛ فإن بعض الناس يذكر أرقام الأوراق، فيركب أرقاماً خيالية وهمية، فيصل من خلالها إلى رقم قد يصادف رقماً فيه عشرة آلاف وقد يصادف رقماً فيه خمسمائة فقط؛ فهذا النوع يقع، فإذا اشتراها الإنسان مغلقة وباعها كذلك، فلا رجوع عليه، بل الرجوع على الشركة، وإذا كان هو ممثلاً معتمداً للشركة يرجع عليه صاحبها بالثمن الذي دفع فيها، ثم يرجع هو على الشركة بتلك البطاقة.

    ولا بد من التصديق في مثل هذا النوع، لكن لا بد لذلك من ضوابط قانونية، ومن هذه الضوابط: أن تكون الشركة مثلاً لديها وسائل التحقق، تعرف متى استعملت هذه البطاقة بالضبط، وهذا بالإمكان أن يقع؛ فالشركة يمكن أن تعرف متى استخدمت هذه البطاقة، ويمكن أيضاً من خلال الأجهزة أن يعرف رقم الهاتف التي استخدمت فيه هذه البطاقة، وعلى هذا إذا عرف أن الإنسان لم يستخدمها، وأن الهاتف الذي استخدمها غير هذا الهاتف، فحينئذ يأخذ ماله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم أخذ مال الناس بالباطل، وقال: ( فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا )، ومال المسلم حرمته كحرمة دمه.

    دواعي القصر في السفر وأحكامه

    السؤال: ما هي دواعي القصر؟

    الجواب: قصر الصلاة إنما يكون في السفر، كما قال الله تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ[النساء:101]، والضرب في الأرض هو السفر، وهذا السفر ينقسم إلى قسمين: إلى سفر مأذون فيه، وسفر منهي عنه، فالسفر المأذون فيه سواءً كان مأموراً به، كالسفر في الجهاد أو الدعوة أو طلب العلم، أو كان مأذوناً فيه إذناً مستوي الطرفين، كالسفر من أجل التجارة، أو من أجل اكتساب خبرة، أو دراسة علم من علوم الدنيا؛ فهذا السفر قطعاً يباح فيه القصر؛ لأنه تستباح به الرخص.

    والنوع الثاني هو السفر المنهي عنه، وهذا أنواع، فمنه السفر المحرم؛ كسفر الإنسان هارباً عاقاً لوالديه، وسفر الزوجة ناشزاً من زوجها، ومثل ذلك سفر الإنسان الذي عليه ديون، وهو يفر من أهلها خشية قضائها؛ فهذا السفر حرام لا يترخص فيه، ومثل ذلك ما دون هذا من الأسفار المنهي عنها، كالسفر اللاهي، أي: الذي يسافر من أجل اللهو والمتعة فقط، وليس له نية أخرى، فهذا سفره لمجرد المتعة، والسفر لمجرد المتعة قد يموت فيه الإنسان؛ فلذلك لا ينبغي أن يسافر الإنسان لمجرد المتعة، فهذا السفر يكون على وجه الكراهة، وقد اختلف في حكم القصر فيه؛ فقالت طائفة: هو مثل السفر المحرم، فلا يحل القصر فيه، وقالت طائفة أخرى: هو مثل السفر المباح، فيحل فيه القصر، وتوسط آخرون فرأوا الكراهة بين القولين، فقالوا: تكره الصلاة في السفر الذي يلهو به صاحبه، والذي ليس له نية أخرى غير اللهو.

    والعاقل الفقيه إذا سافر في أي سفر فبالإمكان أن ينوي له عدداً من النيات؛ فينوي مثلاً في السفر طلب العلم على كل حال؛ لأنه لا يمكن أن يتجه اتجاه إلا سمع من العلم ما لم يسمع من قبل، وينوي كذلك تعليمه؛ فهو عليه أن يعلم ما معه من العلم، وينوي صلة الأرحام في الجهة التي يتجه إليها، وينوي الابتغاء من رزق الله وفضله، وينوي السير في مناكب الأرض استخلافاً فيها، وينوي النيابة عن النبي صلى الله عليه وسلم في تبليغ دعوته، وهكذا حتى يحصل لديه عدد من النيات فيكون سفره على ذلك مطلوباً على كل حال.

    وهذا السفر مختلف أيضاً في تحديده؛ فالشارع لم يحدد مسافة معينة لا يقصر فيما كان أقل منها، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أي تحديد، وقد قصر النبي صلى الله عليه وسلم في سفر إلى عسفان، وقصر أصحابه ما بين مكة وجدة، فرأى بعض أهل العلم أن المسافة غير محصورة وغير مقيدة، فهي على إطلاق قول الله تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ[النساء:101]، وهذا مذهب الشافعي رحمه الله فرأى أن كل سفر يحل قصر الصلاة فيه.

    وذهب آخرون إلى أنه لا بد من تحديد، وهؤلاء اختلفوا؛ لأن هذا التحديد أمر اجتهادي؛ فذهب كثير منهم إلى أن المسافة التي تقصر فيها الصلاة هي ثمانية وأربعون ميلاً، والميل مختلف فيه فقيل هو الميل الإنجليزي أي: ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع، وقالت طائفة أخرى: بل هو ألفا ذراع، وهذا المشهور، وقالت طائفة أخرى: بل هو خمسمائة ذراع، وهذا القول اختاره بعض أهل الأندلس، ولكن القول المشهور بين الناس أن الميل هو الكيلو، فهو ألفا ذراع، أي: ألف متر، فعلى هذا ثمانية وأربعون ميلاً هي ثمانية وأربعون كيلو، وهذا المشهور بين الناس؛ فرأوا أن هذه هي مسافة القصر، ولكن الواقع أن الدليل يقتضي أن كل ما يحوج إلى الزاد والراحلة فهو السفر، أي: الذي إذا أراد الإنسان قطعه احتاج إلى الزاد والراحلة فهذا هو السفر، وعلى هذا فإن المالكية رحمهم الله قالوا: من قصر الصلاة في خمسة وثلاثين ميلاً بطلت صلاته، ومن قصرها في أربعين ميلاً فصاعداً صحت صلاته، والخلف فيما بين خمسة وثلاثين وأربعين، هل تصح الصلاة معه أم لا؟ فما كان أقل من خمسة وثلاثين كيلو ليس سفراً؛ لأن الإنسان عادة لا يحتاج فيه إلى الزاد والراحلة، وما كان أربعين كيلو فصاعداً قطعاً هذا سفر، يحتاج الإنسان فيه إلى الزاد والراحلة، وما بين ذلك مختلف فيه؛ ولهذا يقول أحد الفقهاء رحمهم الله:

    من قصر الصلاة في أميال (بعد له) تبطل بلا إشكال

    (بعد له) أي: خمسة وثلاثين، (تبطل بلا إشكال).

    وقصرها من بعد ميل لا ضرر

    أي: من بعد أربعين.

    والخلف فيما بين هذين اشتهر

    وهو ما بين خمسة وثلاثين وأربعين.

    وهذا هو الذي يقوم عليه الدليل؛ فإن الدليل قائم على أن السفر هو ما كان معروفاً في العهد النبوي، وهو ما يحوج الإنسان إلى الزاد والراحلة؛ فما احتاج الإنسان في قطعه إلى الزاد والراحلة فهو سفر تقصر فيه الصلاة، وما ليس كذلك فلا، والصلاة التي تقصر هي الرباعية، وهي الظهران والعشاء، وما سوى ذلك من الصلوات لا يقصر؛ إلا أنه اختلف في نوافل النهار، هل تسقط مع القصر أم لا؟ فذهب بعض الصحابة إلى سقوطها، وقد كان ابن عمر لا يصلي شيئاً من نافلة النهار في السفر، ويقول: (لو كنت مسبحاً لأتممت). وروي ذلك عن ابن عباس أيضاً، وكان بعض الصحابة لا يترك شيئاً من نوافله في السفر، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الليل في السفر، فحسمت الخلاف، فصلاة الليل تصلى في السفر قطعاً؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي قيام الليل على راحلته أنى توجهت به، وصلى قيام الليل على حماره متجهاً إلى خيبر، أي: على عكس القبلة.

    أما صلاة النهار كالضحى، وأربع قبل الظهر، واثنتين بعدها، واثنتين قبل العصر فهذه محل خلاف، هل تسقط في السفر أم لا؟ وقد جاء في حديث أم هانئ أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح اغتسل فصلى ثماني ركعات، وكان ذلك في وقت الضحى، وقطعاً لا يحل للنبي صلى الله عليه وسلم تطويل الصلاة بمكة؛ لأنه مهاجر والمهاجرون قد باعوا مكة لله تعالى، فلا تحل لهم الإقامة فيها؛ ولهذا أخرج البخاري و مسلم في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يقيمن مهاجر بعد قضاء نسكه بمكة أكثر من ثلاث )، وفي رواية لهما: ( يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه بمكة ثلاثاً )، وهذا يقتضي: أن الإنسان إذا نوى إقامة أربعة أيام صحاح فقد انحل سفره، وقد أخرج ذلك مالك في الموطأ عن سعيد بن المسيب قال: (إذا نويت إقامة أربعة أيام صحاح فقد انحل سفرك). وعلى هذا فمن أراد إقامة أربعة أيام صحاح أو كان لا يدري متى يسافر وينطلق؛ فإنه يتم الصلاة، وإذا كان مسافراً فجاء إلى بلد له حاجة فيه ولا يدري متى تقضى؛ فإنه يبقى على القصر حتى يعرف هل هو مسافر أو سيتأخر؟ وبقاء النبي صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح تسعاً وعشرين ليلة وهو يقصر الصلاة؛ إنما كان ذلك لتجييشه للجيوش وهدمه للأصنام، وكان كل يوم على أهبة السفر، وكذلك مقامه بتبوك تسعاً وعشرين ليلة، وكذلك مقام أنس بن مالك بأذربيجان ستة أشهر وهو يقصر الصلاة إنما كان ذلك من أجل الثلج؛ فكان أنس كل يوم يريد الخروج ولكن الثلج ينزل، فيتـأخر إلى الغد حتى مضت ستة أشهر بأذربيجان وهو يقصر الصلاة.

    فالإنسان الذي له شغل لا يدري متى ينتهي، كالمسافر إلى بلد يريد أن يتم فيه عملاً معيناً، وهذا العمل غير مرتبط بوقت فإنه يبقى على قصره حتى يرجع، بخلاف الذي لديه كورس دراسي ويعرف أن الدراسة تبدأ يوم كذا من الشهر الفلاني وتنتهي يوم كذا؛ فهذا لا بد أن يتم الصلاة؛ لأنه غير ضارب في الأرض، بل هو مقيم في ذلك الوقت.

    وبالنسبة للزوجة إذا كانت مقيمة فهي قاطعة للسفر، أما إذا كانت مسافرة مع الزوج فلا تقطع حكم السفر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سافر بأزواجه وكن معه جميعاً في حجة الوداع، وكان يقصر الصلاة، وكذلك كان إذا غزا غزوة أقرع بينهن فأيتهن خرجت القرعة لها سافر بها، فكان يقصر الصلاة، فعلى هذا إذا قدمت عليه زوجته في بلد وهي مسافرة لا تقطع حكم السفر، أما إذا قدم هو عليها وهي مقيمة، فذلك البلد بلد له لما أخرجه البيهقي في المعرفة وغيره: عن عثمان بن عفان رضي الله عنه ( أنه تزوج بمكة فأتم الصلاة وقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من تأهل ببلدة فهو منهم )، فهذا يقتضي أنه من أهل ذلك البلد بمجرد تزوجه منهم، ودليل ذلك من القرآن قول الله تعالى: ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المَسْجِدِ الْحَرَامِ[البقرة:196]، فقد أوجب الله سبحانه وتعالى دم التمتع والقران على من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، ولم يقل: من لم يكن هو من حاضري المسجد الحرام، بل قال: ( من لم يكن أهله )، وأهل الرجل زوجته.

    وقد اختلف أهل العلم فيمن له أهلان، أهل من حاضري المسجد الحرام، وأهل في بلد آخر، كمن له زوجة في مكة وزوجة في نواكشوط، إذا قدم مكة متمتعاً مثلاً أو قارناً هل يلزمه دم التمتع أم لا؟ هذا محل خلاف بين أهل العلم؛ لأن الأهل جاء بلفظ العموم؛ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ[البقرة:196]، والنكرة إذا أضيفت إلى الضمير عمت، فهذا يقتضي أن يكون أهله جميعاً من حاضري المسجد الحرام.

    وقالت طائفة أخرى: بل يؤخذ بالإطلاق، فمن كانت له زوجة بمكة أو تزوج من جديد بها، فقد أصبح أهله حاضري المسجد الحرام؛ فلذلك لا يقصر ولا يلزمه دم التمتع ولا القران.

    قصر المسافرين طيلة العام

    السؤال: ما حكم قصر ربان السفينة وأصحاب سيارات الأجرة؟

    الجواب: بالنسبة للذين يسافرون بأهليهم كسائقي السفن الكبرى، والذين لهم بيوت في السفينة، ومعهم أهلوهم فيها طيلة العام، فهؤلاء يقصرون الصلاة، ولو كان ذلك طيلة العام كله؛ كما قال خليل رحمه الله: (وإن نوتياً بأهله).

    و(النوتي) هو ملاح السفينة، (بأهله) أي: معه أهله في السفينة، فهذا يقصر الصلاة، وكذلك الإنسان الذي هو صاحب تاكسي مثلاً، ويعمل بها طيلة الشهر ذهاباً من بلد إلى بلد، وإياباً كذلك، فهذا في تلك البلدان التي ليس له فيها دار ولا أهل وهو لا ينوي فيها إقامة أربعة أيام صحاح يبقى على قصره، وفي الطريق يقصر طبعاً، لكن إذا دخل البلد الذي يملك فيه داراً أو له فيه أهل -أي: زوجة- فقد انقطع سفره بذلك.

    وهنا مسألة خفيفة وهي: لو عبر بلده ولم يدخله، إذا كان الإنسان مثلاً له أهل في (أبي تلميت) أو يملك فيه داراً فمر منه مسافراً على الشارع ولم يدخل المدينة وهو لا يريد دخولها وهو مسافر إلى مدينة النعمة، فعندما خرج من أبي تلميت مثلاً حان وقت الصلاة وهو حول زمزم فهل يقصر الصلاة أم لا؟

    فالجواب: إذا اعتبر ما كان عليه فهو مسافر، وإذا اعتبر أنه مر بوطنه مروراً هكذا، فقد انقطع سفره، والمالكية يرون أن مجرد المرور قاطع للسفر، وقد قالت طائفة أخرى ومنها بعض الشافعية أن المرور والعبور لا يقطع حكم السفر إذا كان الإنسان لم يدخل تلك المدينة؛ لأن مجرد المرور لا يعتبر استقراراً.

    تعدد النية في الغسل

    السؤال: ما حكم امرأة حاضت وهي جنب، هل تغتسل بنية واحدة أم ماذا؟

    الجواب: الراجح أن الغسل يمكن أن تتعدد فيه النية، كما إذا أجنبت المرأة ثم حاضت؛ فإنها تغتسل غسلاً واحداً بنيتين، بنية رفع الجنابة وبنية التطهر من الحيض، فيكفيها ذلك.

    وقالت طائفة من أهل العلم وهذا مذهب الشافعي : لا إشراك في النية، فلا بد أن تغتسل غسلين، لكن مذهب جمهور أهل العلم أنه يكفي لذلك غسل واحد، ومثل هذا ما إذا كان الإنسان ينوي رفع الجنابة وغسل الجمعة، فنواهما معاً، وهنا لا بد من النية، إذا نوى الجمعة فقط لم يحصل واحد منهما، وإذا نوى الجنابة فقط حصلت الجنابة ولم يحصل غسل الجمعة، وإذا نواهما معاً حصلا معاً، ومثل ذلك إذا نوت الغسل من الحيض ولم تنو الغسل من الجنابة لم يرتفع شيء، وإذا نوت الغسل من الجنابة ولم تنو الغسل من الحيض لم يرتفع شيء، وإذا نوتهما معاً ارتفعاً معاً.

    اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

    اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أنت أعلم به منا، اللهم اغفر لنا جدنا وهزلنا وخطأنا وعمدنا وكل ذلك عندنا، اللهم اجعل خير أعمالنا آخرها وخير أعمالنا خواتمها وخير أيامنا يوم نلقاك.

    سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718711

    عدد مرات الحفظ

    765234038