بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فسنحاول بإذن الله تعالى أن نتحدث في تقويم الله تعالى في القرآن لغزوة بدر، وذلك في سلسلة من الحلقات إن شاء الله، ولابد بين يدي الحديث في ذلك من بيان أن أسلوب الله سبحانه وتعالى في القصص ليس أسلوب سرد يذكر الوقائع بأسمائها وأسماء أهلها وتواريخها، فليس ذلك نافعًا للناس، وإنما يأتي الله سبحانه وتعالى بالقصص على أسلوب مؤثر، حتى كأن السامع مشارك في القصة؛ ليستفيد منها الدروس والعبر.
فأنتم بسماعكم لتقويم الله تعالى لغزوة بدر، وما يوجه الله به المؤمنين من الكلام الدائم الخالد، وما تصرف به المؤمنون من التصرفات الصالحة، وما وجههم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالنتائج التي وصلوا إليها، كأنما تشاركون في غزوة بدر، وكأنما تحضرونها بأنفسكم، وهذا هو المقصد؛ لأن المقصد هو السمو بالإنسان عن وحل هذه الحياة الدنيا وما فيها من الشواغل، فهي ضرة الآخرة، والإنسان محتاج إلى التطهر مما فيها من الأقذار والعيوب، ولا يمكن أن يتطهر من ذلك، ولا أن يسمو بنفسه إلى الدرجات العلى، إلا بالاتصال بالله، والاتصال برسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والصالحين، الذين رضي الله عنهم وأرضاهم، وبتحقق الإنسان بحالهم وما هم فيه، وعمله بمثل ما عملوا.
فإنه سيسمو عن هذه الدنيا ويزهد فيها، ويترفع عليها، حتى يتصف بما وصف الله به المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله أثنى عليهم أجمعين على سابقهم ولاحقهم بقوله: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا[الفتح:29].
وأنتم لا شك محتاجون إلى أن تلحقوا بأولئك النفر الذين رضي الله عنهم وأرضاهم، وهم الأسوة الصالحة لكم، فلا ترضون أبدًا أن تنقطعوا عنهم، ولا أن يحال بينكم وبينهم، فأنتم ترجون مجاورة النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى من الجنة، وترجون أن تحشروا تحت لوائه، وأن تنادوا باسمه يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ[الإسراء:71].
وتريدون أن تشربوا من حوضه بيده الشريفة، وكل ذلك يقتضي منكم أن تسلكوا ما سلكه، وما سلكه أصحابه، وأن تحققوا ما أمرهم الله به، فالأمر ليس متجهًا إليهم وحدهم، بل هو متجه إليكم أجمعين.
والله تعالى إذا ذكرهم فأثنى عليهم ذكر من يلحق بهم ممن بعدهم، وتذكروا ما قال الله تعالى في سورة الجمعة، فإنه سبحانه وتعالى عندما امتن على المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم قال: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ[الجمعة:1-4].
فهنا قال: وآخرين منهم؛ أي: من أصحابهم من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أهل ملته.
لما يلحقوا بهم: ولما لنفي الماضي المنقطع، معناه: سيلحقون بهم لا محالة.
وبين الله تعالى أن ذلك فضل من الله يخص به من شاء من عباده: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ[الجمعة:4]، جعلني الله وإياكم منهم.
إن اللحاق بهم أمر شاق عسير يحتاج إلى كثير من الجد والتشمير، ولنتذكر قول زهير بن أبي سلمى:
يكلف شأو امرأين قدما حسنًا نالا الملوك وبذا هذه السوقا
هو الجواد فإن يلحق بشأوهما على تكاليفه فمثله لحقا
أو يسبقاه على ما كان من مهل فمثل ما قدما من صالح سبقا
فلا بد أن نحرص جميعًا على اللحاق بذلك الركب الذي قد سبق، وأن نعلم أن ذلك غير عسير على الله، فالناس جميعًا نسبتهم إلى الله واحدة، وهي العبودية، سابقهم ولاحقهم جميعًا عباد لله: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا[مريم:95].
وإنما يتفاوتون بحسب تقواهم؛ ولذلك قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ[الحجرات:13].
ومن هنا، فإنه لا مانع أن يكون في بعض المتأخرين من يكون أدنى دارًا وجوارًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من كثير من المتقدمين، إذا أخلصوا لله وأتقنوا العمل وقدموا وضحوا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة يومًا، فأخذ عودًا فنكت به في الأرض، فقال: (وددت لو رأيت إخواننا، قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: بل أنتم أصحابي، وإخواني قوم آمنوا بي ولم يروني، للواحد منهم أجر خمسين، قالوا: يا رسول الله، منا أو منهم؟ قال: بل منكم، إنكم تجدون على الحق أعوانًا، ولا يجدون على الحق أعوانًا).
ومن هنا، فإن فضل الإنسان ينقسم إلى قسمين: فضل موهوب، وفضل مكتسب، فالفضل الموهوب: هو ما منحه الله تعالى للذين فضلهم بالسابقة في الإسلام، وصحبة النبي صلى الله عليه وسلم، والجهاد معه، والدفاع عنه، وهذا فضل من عند الله ليس مكتسبًا منهم، فإنهم لم يختاروا أنفسهم لصحبة النبي صلى الله عليه وسلم، إنما اختارهم الله لذلك فقدمهم، واختارهم لذلك العصر، ولنتذكر قول عائشة رضي الله عنها: ( كان يوم بعاث يومًا قدمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، فاقتتل فيه أهل المدينة، فقتل أشرافهم وملوكهم، وبقي شبابهم الذين يقبلون الحق إذا سمعوه، فاستجابوا لنداء رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعاهم إلى الإسلام ).
فلذلك هذا السبق الذي هو هبة من الله سبحانه وتعالى، وتفضيل خاص منه، لا تدركونه، لكنكم تدركون ما وراء ذلك، وهو المكتسب من العمل، فالعمل متاح مفتوح، وأنتم الآن تعيشون في زمان مثل الزمان الذي عاش فيه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الشعب بمكة، في وقت الاستضعاف، والذلة، والمسكنة، في الوقت الذي أنزل الله ذكراه في قوله: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[الأنفال:26].
فإن سنن الله تعالى هي التي تدبر هذا الكون وتقلبه ظهرًا لبطن، وتعيد أحداث التاريخ وتكررها، وقد قال الله تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَءِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ[النمل:62].
فالله سبحانه وتعالى في ذلك الوقت أجاب المضطر حين دعاه، وكشف السوء، وجعلهم خلفاء في الأرض، وأنتم الآن في حلقة من التاريخ هي مثل الحلقة التي دارت عليهم، فجدير بكم الآن أن ترفعوا أيدي الضراعة إلى الله؛ ليجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء، ويجعلكم خلفاء الأرض، فهذا من صفة الله، وصفاته ثابتة لا يعتريها نقص ولا تبدل، وهو على ما عليه كان قبل خلق السموات والأرض سبحانه وتعالى جل جلاله وتقدست أسماؤه وصفاته.
وبهذا يعلم أن ما كان مكتسبًا من التشريف والمقام الرفيع أنتم جميعًا أهل له إن شاء الله، وأنتم جميعًا كذلك قد اتخذتم القرار الإسلامي في أنفسكم، فآمنتم بالله ورضيتم به ربًّا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولًا، وبالإسلام دينًا، لم يكرهكم أحد على ذلك، ولم يغركم عليه بمال، ولا بمنصب، ولا بجاه؛ فلذلك لم يبقَ أمامكم إلا هذا المشوار الطويل الشاق، الذي هو غير محفوف بالورود، بل هو محفوف بالأشواك، ومن نجح فيه فإنه يصل إلى ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ومن تردى فيه ورجع فإنه لا يضر الله ولا رسوله ولا المؤمنين، وإنما يضر نفسه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما صح عنه: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك).
فالذين يدعون إلى الله وينصرون رسوله صلى الله عليه وسلم لابد أن يبقى لهم خاذل، وأن يبقى لهم مخالف، ولكنه لا يضرهم؛ لأن الله تعالى ناصرهم لا محالة، فسينصرهم الله تعالى بعز عزيز أو بذل ذليل، وبكيد الله عز وجل، الذي لا يمكن أن ينقض، ولا أن يبدل.
ولذلك فإن دراستنا لسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغزواته، وشمائله- لها كثير من الأهداف، فمن أهدافها البالغة:
زيادة محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإن ذلك شرط في الإيمان: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)، والناس اليوم في كثير من الأحيان بين جاف عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا يصل حبه إلى شغاف قلبه، وبين غالٍ فيه، لا يعرف حبه الحقيقي الصحيح الموافق للشرع، فالطرفان كلاهما مذموم، والوسط هو المحمود، وهو أن يحب الإنسان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد مما يحب نفسه ووالده وولده، وأن يؤثره على نفسه، وأن يقدمه على كل أمره، وأن يطيعه في كل ما أتى به من عند الله، وأن يقدم أمره على أمر الخلائق جميعًا، وأن يكون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يده فرضًا لا يجد خيارًا عنه وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ[الأحزاب:36].
فلا بد من الطاعة الكاملة، والانقياد، وقد قال الله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[النساء:65].
والفائدة الثانية: من هذه الفوائد هي: التشبه بهم؛ لنلحق بهم، فالمجال مفتوح للمسابقة، ما لم تطلع الشمس من مغربها، وهذا المجال ليس فيه قصور ولا تقصير، فالشوط طويل، وللإنسان في النهار سبح طويل، وله في الليل كذلك وقت للمنافسة، وعليه أن يستعين بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة؛ ليلحق بمن سبق، وقد قال الحكيم:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي حين سأله، وقد رأى ما هو فيه وأصحابه، فرأى أنه قاصر عاجز عنه فقال: (يا رسول الله، متى الساعة؟ قال: فما أعددت لها؟ قال: أما إني ما أعددت لها كثير صلاة ولا صيام، ولكني أحب الله ورسوله، فقال: أنت مع من أحببت).
كذلك من فوائد دراستنا لهذا: أن نتلقى عن الله مباشرة، وأن نسمع منه جل جلاله تقويمه للأحداث، وبيانه لما ينبغي أن يكون، فلا فائدة من السرد التاريخي الذي لا يؤثر في النفوس، ولا يكون ذا عبرة للإنسان، ولا يشق منه طريقه، ولا يعرف منه من أين يأتي، ولا من أين يخرج، وإنما يستفيد الإنسان من التاريخ إذا جعله دروسًا وعبرًا، فلم يكرر الأخطاء، وأخذ بالصواب والتزمه، فإن الله تعالى لم يترك خطأ إلا وبين وجه الخطأ فيه، ومن أين دخل الخطأ على الأمة، وكذلك أرشد إلى كل صواب.
ومن هنا، فنحن نتلقى عن الله مباشرة فيما نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، من تقويم الله تعالى لغزوات رسوله صلى الله عليه وسلم.
كذلك، فإن هذا مما يحفز الهمم، ويقوي العزائم، فإن المؤمنين في كثير من الأحيان ينهزمون أمام هذا الواقع المتردي السيئ، وهم ينظرون إلى النظام العالمي الجديد، ويرون جيوش الأعداء تجوس خلال الديار، وهي تجر جنادعها، وتغزو البحار بحاملات الطائرات، وتغزو الفضاء الخارجي بالأقمار الصناعية، وتغزو الأراضي كلها بالجواسيس، ومع ذلك، فإن هذا الحال الذي نحن فيه قد سبقته أحوال هي أشد منه، وقد نصر الله دينه وأهل دينه، وأعلى كلمته، ولم تبق لأولئك الظالمين بقية، فليس لهم أي أثر في هذه الحياة: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا[مريم:98]، لم تبق لهم باقية.
فهذا مما يقوي العزائم، ويزيد أهل الإيمان إيمانًا، ويزيد كذلك شجاعتهم في الحق، وبالأخص عندما يتذكرون أن أولئك السابقين الذين بذلوا أنفسهم لله تعالى، قد نزلوا مقامًا عليًّا يغبطهم عليه كل من وراءهم، وأن الذين كانوا في زمانهم، وعاشوا معهم، ولم يبذلوا ما بذلوا- قد ماتوا، ولم يصلوا إلى المقام الذي وصل إليه أولئك المضحون، فهل انتفع المنافقون بفرارهم في غزوة أحد؟ هل طالت أعمارهم؟ هل ازدادت أرزاقهم؟ هل رفع عنهم بلاء كان سيصل إليهم؟ هل انتقص أجل أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين باعوا أنفسهم لله؟ هل نقص رزق أحد منهم؟
إنهم قد نالوا الخلود والبقاء، فهذه الدنيا ليست دار خلود ولا بقاء، إنما البقاء والخلود في الدار الآخرة؛ ولذلك نالوا ذلك البقاء وذلك الخلود، ووصلوا إلى أشرف المقامات وأعلاها، ولو عاشوا في فرار ومذلة، وطلبوا في الأرض نقبًا فدخلوا فيه، وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تزدد أعمارهم، ولم تزدد أرزاقهم، ولن يصلوا إلى ما وصل إليه المضحون الباذلون.
وهذا يقتضي منا نحن ألا ننهزم أمام هذا الواقع الذي نعايشه، وأن نتذكر هذه المواقف التي ندرسها، فهذه المواقف ما هي إلا دروس وعبر، علينا أن نطبقها في أنفسنا، وفي عوائلنا وأسرنا، وأن نربي عليها أولادنا وبناتنا، وعلى النساء أن يربين عليها أولادهن، وأن تكون مفاهيم في أذهانهم حاضرة غالبة على ما يتلقى عن وسائل الإعلام، وما يتلقى في المدارس الفاسدة النظام، وما يتلقى كذلك من الشارع المختلط، فلابد في مقابل ذلك مما هو أقوى، وأبلغ تأثيرًا، وهو حياة محمد صلى الله عليه وسلم، وأصحابه.
فهذا الذي يمكن أن نصارع به، وندافع، وقد قال الله تعالى: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا[الفرقان:52]؛ فلذلك نجاهد أنفسنا بهذا القرآن الكريم، ونجاهد به أعداءنا، ونجاهد به أولادنا وأهلينا؛ لعلهم يلتزمون ما أمر الله به، فيسعدوا بذلك سعادة أبدية، لا شقاء بعدها، نسأل الله تعالى أن يسعدنا أجمعين بالقرآن الكريم.
إن هذه الغزوة الشريفة، وهي غزوة بدر، غزوة نجحت فيها ثلة قليلة من المؤمنين، قد صدقوا الله ما عاهدوه عليه، وضحوا، وبذلوا أرواحهم لله تعالى، غير معتمدين على حولهم، ولا على قوتهم، ولا على وسائلهم، لم يعتمدوا إلا على إيمانهم واتصالهم بالله تعالى، وكانوا ثلاثمائة وأربعة عشر رجلًا، أو وثلاثة عشر رجلًا، أو وخمسة عشر رجلًا، ولم يقتل منهم إلا ثمانية، وقد هزم الله عدوهم أمامهم، فقتلوا سبعين، وأسروا سبعين، وكتب لهم النصر والخلود والبقاء، وخاطبهم الجبار جل جلاله فقال: (افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم).
فسبقت مغفرة الله تعالى ذنوبهم، فلا يقع منهم ذنب إلا وقد سبقته المغفرة، وخلد الله تعالى ذكرهم، وتركهم مثالًا لكل من يلحق بهم من بعدهم، وجعلهم أساتذة في الإيمان والتضحية والبذل، فكل إنسان منهم حتى لو كان مستواه العلمي ضعيفًا، وحتى لو لم يكن يحفظ من القرآن إلا الفاتحة وسورة أو سورتين، وحتى لو لم يكن عارفًا بكثير من تفاصيل الأحكام الفقهية، مع ذلك أصبحوا أساتذة للعالم، تعنو لهم وجوه العلماء، والمضحين، والقادة، والمجاهدين، والباذلين، ويجعلونهم جميعًا فوق رءوسهم؛ لأنهم صدقوا فأنزل الله السكينة في قلوبهم، وعاملوا الله تعالى فربحت تجارتهم، ورضي اللهُ عنهم وأرضاهم، وقد قواهم الله تعالى بما أنزل عليهم من الملائكة الأبرار، وقد علم الملائكة كيف يجاهدون العدو، فأمرهم بضرب الرقاب والبنان، وأنزل كذلك الهزيمة في قلوب أعدائهم، فخوفهم منهم، فأراهم المؤمنين كثيرًا، وهم قليل، وقذف كذلك في قلوب المؤمنين الشجاعة، فأراهم عدوهم قليلًا، وهم كثير.
فالعدو كان أكثر من ألف، وفيهم من أنواع العتاد والسلاح ما لا يحصر، والمؤمنون كانوا فقط ثلاثمائة وأربعة عشر، أو خمسة عشر، أو ثلاثة عشر، وليس لهم من الخيل إلا ثلاثة، وليس لهم من السيوف إلا ثمانية، وليس لهم من الإبل إلا مائة بعير، يعتقب على كل بعير ثلاثة، وليس لهم من الأزواد إلا السويق، ومع ذلك نصرهم الله هذا النصر المبين، الذي ما زال مضرب مثل في كل الأحيان، إذا أراد أهل الإيمان أن يبالغوا في معركة من المعارك وما حصل فيها من النصر نسبوها إلى معركة بدر، كما قال أبو تمام في معركة عمورية:
إن كان بين ليالي الدهر من رحم موصولة أو ذمام غير مقتضب
فبين أيامك اللائي نصرت بها وبين أيام بدر أقرب النسب
فأصبحت هذه الغزوة مضرب المثل، وكانت يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان، أعز الله فيها أهل الإيمان، وعفر فيها وجوه أهل الكفر، وجعل مصيرهم إلى القليب في هذه الحياة الدنيا، وإلى النار في الدار الآخرة، وبذلك أدخل من الغم والهم على إبليس اللعين ما لم يدخل عليه من قبل؛ فإنه جاء يقدمهم، فلما رأى الحق نكص على عقبيه: وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ[الأنفال:48].
فأدخل الله عليهم من الغم والهم والحزن ما لم يدخل عليه في ماضي الدنيا، وما سبق فيها من الأيام؛ لأنه رأى أن هذا اليوم ينزل الله فيه جند الملائكة مسومين، وأن رسول الله عليه وسلم يصف فيه أهل الجنة، وأهل التقوى، وأهل البذل، الذين كانت في يد أحدهم تمرات، ليس له غذاء سواها، وهو شاب صغير زودته أمه بتمرات، ليس لها مال تزوده به، فليس لها إلا تمرات، فأعطتها ولدها الخارج للجهاد في سبيل الله، فكانت تلك التمرات في يده، وهو يتقدم في وجه الصف، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس، فيقول: (تقدموا إلى جنة عرضها السموات والأرض. فقال هذا الشاب: يا رسول الله، عرضها السموات والأرض؟! بخ بخ! إنه لعيش طويل إن بقيت حتى آكل هؤلاء التمرات، فرمى بهن وتقدم حتى قتل، فنال الشهادة في سبيل الله)، فأصبح أولئك النفر قادة لكل المجتمعات، ومثالًا يؤتسى به، ويقتدى به في كل العصور.
إننا قبل التحدث عن هذه الغزوة، وأسبابها، ونتائجها، وما ذكر الله تعالى في تقويمها، لابد أولًا: أن نتحدث عن جندها الذين صنعوها، فأولئك الرجال الذين صنعوا التاريخ، وأقاموا هذا الصرح العظيم لهذه الأمة، ينبغي أن تتدارس حياتهم، وأن يعرف كيف بنيت حياتهم؛ لنبني نحن حياتنا على مثل ما بنوا عليه حياتهم، فإن الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل، واقتراب من الساعة، وجهالة من الناس، وبعثه في أم القرى، وهي قرية نائية بين جبال شاهقة، ليس فيها زرع ولا كلأ، وليس فيها مصانع، وكل حاجيات أهلها مستوردة، ويسكنها طائفة من الأعراب، ليست لهم حكومة ولا ملك ولا نظام، إن قريشًا لقاح لا تملك.
وقد كانوا إذ ذاك يسودهم ما يسود أهل الجاهلية من: عبادة الأصنام، وقطيعة الأرحام، والاعتداء على كل من لديه مال، وانعدام الأخلاق، وانعدام القيم، ونقص العقول، وعدم الاستفادة من الدين الذي جاء به الرسل، فقد كانت كل حياتهم لا ينظمها إلا تقاليد أهل الجاهلية، وإلا مختلقاتهم التي هي بعيدة عن العقل والدين، وكانوا إذ ذاك أحرص الناس على الدنيا، وأشدهم طمعًا فيها، وكان كل إنسان منهم لا يستطيع أن ينفع أخاه؛ لأنه يخاف أن ينقص ذلك رزقه، وكانوا يقتلون أولادهم، وبناتهم؛ خشية أن يشركوهم في أرزاقهم، وكانوا في غاية التخلف والقذارة، والنقص في كل الجوانب، فلما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم إليهم استجاب له من اختارهم الله تعالى، فنقاهم، وخلصهم من ذلك القذر، والكدر، واختارهم لصحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، فأتوه مذعنين طائعين، لم يحتاجوا إلى المناقشات، ولا إلى نصب البراهين العقلية، ولا إلى المجادلات، رأوا الحق فانقادوا وراءه، وسمعوا القرآن فأسلموا، ورأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرفوا أن وجهه ليس وجه كذاب، فانقادوا لما جاء به من عند الله تعالى، ولم يعنوا أنفسهم بكثير من العناء، الذي يعني به من دونهم نفسه، لم يتعبوا في نصب البراهين العقلية، ولا في إقامة الحجج، ولا في معرفة ما يتلقى عن طريق الحس، وما يتلقى عن طريق العقل، وما يتلقى عن طريق الذهن، لم يتعبوا أنفسهم في الفصل بين هذه الأمور، بل انقادوا طائعين للحق حين عرفوه أبلج أمام أعينهم، فلم يشكوا في شيء منه، ولم يرتابوا، ولما كانوا من المبادرين للهداية أنزل الله تعالى في قلوبهم السكينة، وأيدهم بنصره، فكانوا خير ملأ يمشون على وجه هذه الأرض.
في بداية دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يدعو إلا من يثق به، فكان الناس إذ ذاك كثيرًا، وكانت مكة تعج وتموج بأنواع الناس، لكن لم يدع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذا الدين الذي جاء به من عند الله إلا من كان أهلًا لذلك:
أرى العنقاء تكبر أن تصادا فعاند من تطيق له عناداً
فلم يدع المفلسين ولا المفسدين، إنما دعا أبا بكر، وخديجة بنت خويلد، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وأبا عبيدة، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، وأولئك الرهط الذين اختارهم الله تعالى، فجعلهم علية القوم، فملأ الله قلوبهم من الإيمان والتقوى، ونور بصائرهم، فعرفوا الحق فلزموه.
وحينئذٍ قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم المستجيبين له إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: قوم يمكن أن يزايلوا هذا المجتمع، وأن يفارقوه حتى يتربوا هذه التربية الجديدة، التي تغير تصوراتهم، وتغير آراءهم، وتجعلهم أهلًا للتمكين والنصر، ولا يمكن أن يتم ذلك في الأجواء العادية، بل لابد أن يفصلوا عن المجتمع في محضن خاص بهم، ينفصلون فيه عن المجتمع فصلًا كاملًا، ولا يمكن أن يطَّلع المجتمع على حالهم، ولا على أسرارهم؛ لأنه يخاف عليهم حينئذٍ أن يمنعوا من تربيتهم، وأن يمنعوا مما يريدون الوصول إليه من هذه القيم، التي يريدون ترسيخها في أنفسهم، وهذه الطائفة اختار لها رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي، وكانت دارًا على الصفا قريبًا من الحرم، وقريبًا من زمزم، وفيها تأمين وتغطية، فإن الصفا والمروة دائمًا يسعى الناس بينهما في كل ساعة من ليل أو نهار؛ فلذلك لا يستغرب خروج الإنسان من دار الأرقم، أو دخوله؛ لأن الناس يظنون أنه يسعى بين الصفا والمروة؛ فلهذا اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الدار لذلك.
وأيضًا، فإن هذه الدار لم تكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا لأحد من بني هاشم، ولا لبني المطلب، ولا لأحد من حلف المطيبين، وإنما كانت لشاب من بني مخزوم وهم من حلف لعقة الدم، وهم الحلف المغاير لبني هاشم، المضاد لهم حتى في الجاهلية.
فاختار رسول الله صلى الله عليه وسلم دارًا منهم لأن تكون أول محضن تربوي في الإسلام، فربى فيه أربعين رجلا ًعلى هذا الدين وقيمه، فتخلصوا من شرك الجاهلية، وشوائبها، وصفات أهلها، ورسخوا في أنفسهم الإيمان والتقوى والإخلاص والصدق مع الله تعالى، وتقديم أمر الله على أهوائهم، وتخلصوا من شخصياتهم، ومما تربى عليه أهل الجاهلية من العبية، فأزال الله عبية الجاهلية وتفاخرها بالآباء عنهم، فلم يعد أمر الجاهلية لديهم يساوي قرشًا، بل لا يساوي جناح بعوضة.
كل ما يتفاخر به أهل الجاهلية من شرب الخمر، ومن سبي النساء، ومن الغلبة في المعارك، ومن تملك البهائم، ومن التنافس في الذهب والفضة، وغير ذلك، لم يعد يساوي جناح بعوضة لدى أولئك النفر، الذين رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك التربية الإيمانية الخالدة.
والقسم الثاني: قوم لا يستطيعون مزايلة المجتمع، وإن كانوا مستعدين لهذه التربية، فليست لديهم عوائق في أنفسهم، فهم من أكمل الناس عقولًا، وأتمهم استعدادًا لهذه التربية، وهم صالحون لها مائة في المائة، لكنهم لا يستطيعون الانفصال عن المجتمع، لحاجة المجتمع إليهم، وهؤلاء لم يشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخلهم في دار الأرقم؛ لئلا يكتشف بهم تنظيم أولئك الذين اختارهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الاختيار الدقيق.
ومثال هذا القسم الثاني: عبد الله بن مسعود، وكان راعيًا يرعى الغنم على قريش، فلو أضل قوم شاة من الليل، فجاءوا يطلبون ابن مسعود، فوجدوه في دار الأرقم، لاكتشف هذا العمل السري المكتوم، وهذا ما لا يريده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن مسعود كان مؤهلًا لكل ما يتلقاه أصحابه في دار الأرقم، بل من الغريب أنه هو وأصحابه تربوا تلك التربية في دار سعيد بن زيد، فجاءوا ناجحين بكل المقاييس مائة بالمائة.
ومن أمثلة هذا القسم الثاني أيضًا: خباب بن الأرت، وكان حدادًا يصلح للناس أبوابهم ونوافذهم، ويحد لهم سكاكينهم وسيوفهم، والناس بحاجة إليه، فلو جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم فجاء قوم يطلبونه فوجدوه في دار الأرقم لاكتشف هذا العمل السري الذي قام عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن أمثلتهم أيضًا: عمار بن ياسر، وقد كان تاجرًا يبيع للناس بالسقط، فلو أدخله رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم مع أولئك الذين اختيروا لهذه المهمة التربوية لأدى ذلك إلى اكتشافهم؛ لأن الناس يبحثون عن عمار بن ياسر، ويطلبون منه تجارته، وهو لا يستغني عن بيع تجارته إلى الناس، فاختار لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم المحضن الثاني في الإسلام، وهو بيت سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد الله بن رياح بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب وزوجته هي فاطمة بنت الخطاب بن عمرو بن نفيل، وهي ابنة عمه، وقد أسلما وحسن إسلامهما، وتقبلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به من عند الله تعالى، وتعلما ما أوحي إليه من القرآن إذ ذاك، وكانا يحفظان عن ابن مسعود سورة (طه)، وهي من السور الأول اللواتي حبا بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن مسعود، فإنه قال: (الكهف)، و(مريم)، و(طه)، و(الأنبياء)، هن العتاق الأُولَيَات حباني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحفظهن من في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أول من حفظهن من في رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والقسم الثالث: قوم لديهم عوائق في أنفسهم؛ فلديهم استعجال، أو لديهم نقص في الحصافة، فلا يستطيعون كتمان السر، ولا يستطيعون خطاب الناس بالتورية والمعاريض، بل لا يستطيع إلا مباداة الناس بالعلن، وهذا القسم لا يصلحون لدار الأرقم، ولا يصلحون لدار سعيد بن زيد، فهؤلاء قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إسلامهم، ولكنه ردهم إلى قومهم.
ومن أمثلة هذا القسم: أبو ذر جندب بن جنادة الغفاري رضي الله عنه، وكان من أصدق المؤمنين، بل قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجةً من أبي ذر)، وهو رجل من أهل الجنة لا محالة، قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رحم الله أبا ذر، يعيش وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده)، ولكنه مع ذلك لم يكن لديه من كتمان السر والاستعداد الفطري لكتمان السر ما يستطيع كتمان ذلك السر به.
ودليل ذلك ما أخرج البخاري في الصحيح في قصة إسلامه، فإنه قال: لما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم بمكة كنا في بني غفار، فكانت تأتينا أخباره، فلا يأتي راكب إلا حدث عنه، فلما كثرت عليَّ أخباره أرسلت أخي، فقلت: اذهب إلى مكة فأتني بجلية خبر هذا الرجل، فذهب، فرجع فقال: الناس فيه مختلفون، منهم مصدق له ومنهم مكذب، وقومه عليه أشداء، فلم يشفِ لي غليلًا، فقعدت على راحلتي، فأتيت مكة، فاستقبلني الملأ من قريش، فحذروني منه، وقالوا: حذار حذار أن يسحرك محمد، فوضعت القطن في أذني؛ خشية أن أسمع شيئًا من كلامه؛ لئلا يسحرني، فجلست عند الكعبة، فأتاني علي بن أبي طالب فجلس إلي، وكان شابًّا صغيرًا، فقال: لعلك ضيف لست من أهل هذه البلدة، فقلت: أجل، فقال: ممن الرجل؟ قلت: من غفار، قال: هل لك في أهل بيت يضيفونك؟ فقلت: أنا محتاج إلى ذلك، فقال: اتبعني، فلم يستطع علي أن يأخذه معه؛ لشدة قريش على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه، يخاف أن يؤذوا أبا ذر حين أتاهم جديدًا، فخرج علي أمامه وأبو ذر يتبعه، حتى دخل به على النبي صلى الله عليه وسلم، فأحسن ضيافته وأكرمه، ثم عرض عليه الإسلام فأسلم، وقال: والله ما أتيت إلا لتقصي أخبارك، فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله. فقال: يا رسول الله، من تابعك على هذا الأمر؟ قال: (رجل وامرأة وعبد وصبي)، لا يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفشي أسرار هذا العمل إلى أبي ذر، فلم يخبره بكل الذين دخلوا في الإسلام، بل أخبره بنماذج تدل على أن كل شريحة من شرائح المجتمع قد دخلها الإسلام: رجل وامرأة وعبد وصبي، كل شريحة قد مثلت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ارجع إلى قومك فكن فيهم، فإذا علمت أن الله أظهرني فالحق بي)، فقال: والذي بعثك بالحق لأعلننها بين أظهر قريش، قال: فخرجت، فإذا الملأ من قريش يجتمعون عند الكعبة، فوقفت بين أظهرهم فصحت بأعلى صوتي: ألا إني أسلمت وتابعت محمدًا على دينه، فقاموا إلي يضربونني؛ كل إنسان منهم يلطمه بما يستطيع؛ فمن ضارب بنعله، ومن ضارب بعصاه، ومن ضارب بطرف ثوبه، حتى خر مغشيًا عليه، وتركوه، فلما كان من الغد تركهم حتى اجتمعوا، فصاح بهم: ألا إني أسلمت وتابعت محمدًا على دينه، فقاموا إليه يلطمونه ويضربونه مثلما فعلوا بالأمس حتى خر مغشيًا عليه، ثم في اليوم الثالث قام بين أظهرهم أيضًا، فصاح عليهم: ألا إني أسلمت وتابعت محمدا ًعلى دينه، فقاموا يضربونه، فجاء أبو بكر فحال بينهم وبينه، وقال: أتقتلون رجلًا من غفار وتجارتكم تمر على غفار، فحال بينهم وبينه، وجعل يده على منكبه حتى أخرجه من المسجد، وقال: اذهب إلى قومك، فإني أخاف أن يقتلك قريش، فخرج أبو ذر إلى قومه، ( فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة جاء يحمل قربة فيها ماء، فقال: يا رسول الله، أتعرفني؟ فقال: نعم).
فهاجر إليه، وكان من المهاجرين الأولين.
كذلك من أمثلة هذا النوع أيضًا الطفيل بن عمرو الدوسي، وكان أيضًا من أهل الرأي والمكانة في قومه والشجاعة، لكن لم يكن لديه طاقة تحمل الأسرار وكتمانها، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فعرض عليه الإسلام في مكة، فأسلم، فقال: (ارجع إلى قومك فكن فيهم فإذا علمت أن الله أظهرني فالحق بي). فقال: يا رسول الله، اسأل الله أن يجعل لي آية. فسأل الله، فجعل الله نورًا في وجهه، فقال: إني أخاف أن يخافه قومي، فجعله في رأس عصاه، فجاء قومه من الليل، وبيده تلك العصا، وهي تشع، في رأسها نور، قال: فاستقبلني أبي، فقلت: إليك عني، فلست منك ولست مني. قال: ولم يا بني؟ قلت: تابعت محمدًا ودخلت في دينه، قال: ديني دينك. فاستقبلتني أمي، فقلت: إليك عني، فلست منك ولست مني، قالت: ولم يا بني؟ قلت: تابعت محمدًا ودخلت في دينه. قالت: ديني دينك. فاستقبلتني صاحبتي، فقلت: إليك عني، فلست منك، ولست مني. قالت: ولم؟ قلت: تابعت محمدًا ودخلت في دينه. قالت: ديني دينك.
وأنتم هنا ترون أن الرجل صاحب علانية، لا يستطيع كتمان سر؛ فلذلك لم يشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخله في دار الأرقم، ولا في دار سعيد بن زيد، بل أخرجه إلى قومه، وقد أسلم على يديه أربعون بيتًا من قومه، فجاء بهم مهاجرين إلى المدينة عندما سمع بهجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ناجحًا في الدعوة والعمل العلني، لكن لم يكن يصلح لتلك التربية السرية التي ربى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بمكة.
إننا بهذا نعلم كيف كان انتقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجال، وكيف كان اختياره لهم، وأن هذا الأمر لم يأتِ عن عدم روية، ولم يأتِ عن عدم تفكير وتخطيط، بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطط أحسن تخطيط؛ لأنه تخطيط مؤيد بالوحي، لا يمكن أن تنعكس معلوماته ولا أن تكذب، كل تخطيطه مبني على معلومات صادقة، لا يمكن أن يقع فيها خلل ولا خطأ، ولو وقع فيها أي اشتباه لجاء الوحي ببيانه من عند الله، يأتيه الوحي صباح مساء.
لكن يبقى- بعد معرفتنا لأسلوب الرسول صلى الله عليه وسلم في انتقاء الرجال واختيارهم- أن نعرف الأركان التي بنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك التنظيم المحكم، الذي أقام به دولة الإسلام، وأعلى به كلمة الله، وأزاح به الشرك عن جزيرة العرب، كيف كانت أسس هذا التنظيم الذي أقامه النبي صلى الله عليه وسلم، فإن كل ملأٍ من الناس يجتمعون لابد أن يجتمعوا على فكر يوحدهم، ولابد أن يكون لهم أساس يعتقدونه ويقتنعون به ويجتمعون عليه، فما هي أركان عمل النبي صلى الله عليه وسلم الجماعي؟
أركان عمل النبي صلى الله عليه وسلم في تربية أصحابه
كانت أركان عمل النبي صلى الله عليه وسلم الجماعي خمسة، هي التي ربى عليها أصحابه، وكون عليها تنظيمه، وأقام بها دولة الإسلام:
فالركن الأول: هو الربانية؛ الاتصال بالله، والتوكل عليه، والاعتماد عليه، وقصد وجهه الكريم، والأنس به سبحانه وتعالى، هذا الركن بارز في تربية النبي صلى الله عليه وسلم وتنظيمه، وبارز جدًا في أصحابه.
فمن أمثلة هذه الربانية قوله لـأبي بكر رضي الله عنهما- وهما في الغار، وقريش يحيطون بالغار من كل جانب: (لا تحزن إن الله معنا، يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما)، ربانية عجيبة تقتضي ثبات جأش وشجاعة وتوكلًا على الله واعتمادًا عليه، وتقتضي ازدراءً لأعداء الله واحتقارًا لهم، واحتقارًا لكل وسائلهم وما يملكونه، هذا الكلام يعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد ينمي إلى المشركين، وقد يصل إلى أسماعهم؛ لأنه في الغار، والغار قريب منهم، وهم ينظرون، فقال: (لا تحزن إن الله معنا، يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما).
ربانية عجيبة هي ربانية الأنبياء والمرسلين من قبل، نجدها عند نوح لما قال لقومه: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ[يونس:71]، ونجدها عند هود عندما قال: إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[هود:56].
ونجدها عند إبراهيم عندما رمى به قومه في النار، فقال: حسبي الله ونعم الوكيل، وعندما عرض له جبريل قال: يا إبراهيم، ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم، فقال الله: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ[الأنبياء:69].
ونجد هذه الربانية أيضًا لدى أيوب عليه السلام، حينما دام به البلاء ثماني عشرة سنة، وهو صابر محتسب، ثم بعد ذلك، عندما كانت امرأته تبيع ضفائرها؛ تقطع ضفيرة فتبيعها في تغذيته هو، تبيع ضفيرة في غدائه وتبيع ضفيرة في عشائه، حتى حلقت رأسها فرآها، فرحمها، ولم يبقَ لديهم أي شيء يتغذون به، وهم في غاية البلاء، قال: ربِّ، إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين، فاستجاب الله دعاءه، وامرأته قد ذهبت وتركته على طرف قمامة لبني إسرائيل، وهي تخاف أن يتخطفه الكلاب، فجاءت، فوجدت رجلًا قد عوفي، وبرئ، وزال عنه كل ما به، وقد كان من أحسن الرجال صورة، وأتمهم خلقة، وإذا هو يلبس ملابس جميلة، وقد اغتسل وتنظف وتطيب من طيب لم تشم قبله طيبًا أحسن منه رائحة، فجاءت إليه، فقالت: أيها الرجل، ماذا فعل مبتلًى كان هنا، لعله تخطفته الكلاب؟ فقال: إنك تسألين عني، فأنا أيوب قد عافاني الله تعالى.
فهذه الربانية والاتصال بالله سبحانه وتعالى والتوكل عليه يقتضي شجاعة في الحق وصبرًا على كل ما يلقاه الإنسان من كيد الأعداء، ويقتضي كذلك إيمانًا بأن ما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأنه رفعت الأقلام وجفت الصحف عما هو كائن، وقد ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه على هذه الربانية العجيبة، فتذوقتها قلوبهم، وتشبعت بها أجسامهم، حتى قال خبيب بن عدي بن جحجبي رضي الله عنه، والمشركون يصلبونه على خشبة:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان لله مصرعي
وذلك في ذات الإله فإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع
وحتى قال ابن رواحة رضي الله عنه:
والناس إلب علينا فيك ليس لنا إلا السيوف وأطراف القنا وزر
وحتى قالت امرأته عندما رأته يواقع جاريته، فأنكرت ذلك عليه وغضبت، فأنكر لها ذلك، فقالت: إني أعلم أن الجنب لا يقرأ القرآن، فاقرأ عليَّ القرآن حتى أعلم أنك صادق. فقرأ عليها قوله هو من الشعر:
شهدت شهادة لا ريب فيها بأن الله ليس له شريك
وأن محمدًا عبد رسول إلى الثقلين أرسله المليك
فقالت تلك المرأة الربانية: صدقت الله وكذبت عيني!
لا يمكن أن تتصور أن أحدًا يقرأ القرآن على جنابة، ولا يمكن أن تتصور أن كلامًا طيبًا فيه الشهادتان يستطيع إنسان أن ينطق به وهو يكذب بوجه من الوجوه.
فهذه الربانية التي ربى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الجيل الطيب بقيت معهم واستمرت عليهم، وقد وصفهم علي بن أبي طالب وصفًا عجيبًا، ففي آخر أيام حياته في رمضان الذي قتل فيه رضي الله عنه، ذكر أصحابه فقال: آه على أصحابي، فسئل عن وصفهم، فذكر أشياء عجيبة، ذكر أنهم كانت قلوبهم أصفى من الماء العذب؛ ليس فيها حقد، ولا غل على أحد، وذكر أنهم كانوا يقومون الليل ولا يضجرون بقيامه، وأنهم كانوا يتلذذون بسماع القرآن وقراءته، وأنهم كانوا يتصدقون من كسبهم الطاهر الحلال الطيب، ويخفون صدقاتهم حتى عن أنفسهم، وذكر أنهم كانوا يكثرون العبرة والتفكر في عجائب الخلق، فينظرون إلى بدائع خلق الله في النجوم، وفي خلق السموات، وفي الأرض، وهؤلاء هم الذين يستطيعون أن يضحوا بأرواحهم في سبيل الله.
ورحم الله غالياً البصادي حيث يصف تضحيتهم فيقول:
وقامت بنصر الله أنصار دينه وبيعت من الله النفوس النفائس
فنفوسهم نفائس، وقد باعوها لله سبحانه وتعالى، ويذكرنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه ببعض أوصافهم عندما وقف على طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه عندما قتل يوم الجمل، فمسح عنه التراب وهو يبكي ويقول:
فتًى كان يدنيه الغنى من صديقه إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر
فتًى لا يعد المال ربًا ولا ترىبه نخوة إن نال مالًا ولا كبر
فتًى كان يعطي السيف في الروع حقه
.
هذا كان حال طلحة بن عبيد الله، وهو مثال من تلك الأمثلة الرائعة لأهل الإيمان والتقوى والإنابة، الذين رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الربانية، فكانت أنفسهم أكبر من أن تخالط أوساخ الدنيا، أو أن تركن إلى أهلها، بل كانت نفوسهم متعلقة بالله، ولا ترغب إلا فيما عند الله.
إذًا هذا هو الركن الأول، هو الربانية، وما أحوجنا إلى إعادتها في تربيتنا إلى أنفسنا الآن! ما أحوجنا إلى هذا الركن العظيم من الربانية! فهو يكاد يكون حلقة مفقودة في حياة الناس اليوم، فالناس اليوم يعتمدون على البحث عن الأسباب، فإذا تأخر المطر وجاء القحط لم يقولوا وقع ذلك بسبب الذنوب، ولم يلجئوا إلى الله، بل يقولون إن تيار كناري قد نقل الجبهة المدارية إلى مكان كذا مثلًا.
وإذا جاء الغلاء بحثوا في التضخم والانكماش، ولم يبحثوا في الذنوب التي بسببها يحصل الغلاء، وإذا جاء وباء عام بحثوا عمن نقل هذه العدوى، وجاء بها من البلد الفلاني، ولم يتذكروا: (ومن أعدى الأول؟).
إن هذه الربانية حلقة ضائعة لابد من إعادتها إلى تصور المسلمين، لابد أن يعلم المؤمن في قرارة نفسه، وأن يعمل على ذلك الأساس، أن مقامه ومكانه إنما هو في الاتصال بالله سبحانه وتعالى، وابتغاء وجهه الكريم، والأنس به، والتعلق به، والتوكل عليه، وأن كل ما دون ذلك وما سواه، إنما هو بمثابة بناء العنكبوت: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ[العنكبوت:41-42]؛ فلذلك لا ينبغي للإنسان أن يتعلق بمال ولا بجاه ولا بمنصب، وحتى بالأسباب كلها، لابد أن يعلم أنها لا تغير شيئًا من قضاء الله وقدره، وأن يكون متصلًا بالله، يقول صادقًا:
فليتك تحلو والحياة مريرةوليتك ترضى والأنام غِضَاب
وليت الذي بيني وبينك عامروبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هينوكل الذي فوق التراب تراب
ويقول صادقًا ما قال الآخر:
إلهي عبدك العاصي أتاك مقرًا بالذنوب وقد دعاك
فإن تغفر فأنت لذاك أهل وإن تأخذ فمن نرجو سواك
ويقول صادقًا ما قال الآخر:
بجمال وجهك سيدي أتشفع ولباب جودك بالدعا أتضرع
يا من يرى ما في الضمير ويسمع أنت المعد لكل ما يتوقع
يا من يرجّى للشدائد كلها يا من إليه المشتكى والمفزع
يا من خزائن رزقه في قول كن امنن فإن الخير عندك أجمع
ما لي سوى فقري إليك وسيلة فَمِنِ افتقاري إليك فقري أدفع
ما لي سوى قرعي لبابك حيلة فلئن منعت فأي باب أقرع
ومن الذي أدعو وأهتف باسمه إن كان فضلك عن فقيرك يمنع
حاشا لمجدك أن تقنط داعياً الفضل أجزل والمواهب أوسع
ويقول صادقًا ما قال الآخر:
إذا عرضت لي في زمانيَ حاجة وقد أشكلت فيها عليَّ المقاصد
وقفت بباب الله وقفة ضارع وقلت إلهي إنني لك قاصد
ولست تراني واقفًا عند باب من يقول فتاه سيدي اليوم راقد
الركن الثاني من أركان عمل النبي صلى الله عليه وسلم الجماعي هو: التربية:
فإنه صلى الله صلى الله عليه وسلم ربى ذلك الجيل تربية مخالفة لما كان عليه المجتمع، وأثرت فيهم هذه التربية أثرًا بالغًا عجيبًا، ويكفي أن ننظر إلى أحوالهم قبل هذه التربية وأحوالهم بعدها، وسنجد البون الشاسع والفرق الكبير، لنأخذ- مثلًا- مثالًا واحدًا وهو عمر بن الخطاب، كيف كان عمر قبل هذه التربية؟ يقول عن نفسه: كنت أضل من حمار الخطاب، ما عرفت أحدًا إلا ظلمته، وذكر عن نفسه أنه وأد ثلاثًا من بناته، وكان يصنع صنمًا من التمر، فيعبده، ويسجد له، فإذا جاع أكله.
وبعد هذه التربية أصبح إمام الهدى، وخليفة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويقول للحجر الأسود: والله إني لأعلم إنك لحجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك، فإن أولئك القوم قد انتفعوا بهذه التربية، فتربت عقولهم بما ازدادوا به من العلم، وتربت قلوبهم بما ازدادوا به من التقوى والخلق، وتربت أبدانهم بما تعودوا عليه من الشظف والشدة، فاستطاعوا أن يضحوا وأن يبذلوا في سبيل الله.
ولنتذكر أن قوم موسى لما نجاهم الله من فرعون وجنوده، وأغرق عدوهم وهم ينظرون، وما زالوا يرون هلاك فرعون
وجنوده، وما زالوا يعيشون نشوة الانتصار، مروا على قوم يعبدون أصنامًا لهم، فقالوا: يا موسى، اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة.
وعندما فرض الله عليهم دخول أريحا، والجهاد في سبيل الله: قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ[المائدة:22].
وعندما اشتد لجاجهم قالوا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ[المائدة:24]، ففرض الله عليهم التيه أربعين سنة يتيهون في الأرض، حتى مات ذلك الجيل الذي تعود على الخنوع والمذلة لفرعون وجنوده، وتربى جيل جديد من الشباب لم يعرفوا الخنوع والمذلة، تعودوا على حياة الشظف والبداوة، فهم الذين استطاعوا أن يجاهدوا في سبيل الله، فنصر الله بهم الدين وأعلى بهم كلمته، ومكن لهم في الأرض، ومكنهم من رقاب أعدائهم.
إن هذه التربية التي ربى بها محمد صلى الله عليه وسلم أصحابه كان فيها شيء من الشدة والشظف، كحال الشعب، فإن الذين تربوا فيه ثلاث سنين قد تعودوا على حياة الشظف والشدة وضيق العيش، ولكنهم صبروا وصابروا، حتى إن من كان يناصرهم من غير المسلمين قد تأثروا بما كانوا عليه؛ فلذلك كان ذلك الجيل، بحيث يضحون ويبذلون ولا يتراجعون أبدًا، فعندما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجهاد في غزوة بدر، قالوا: ( والله لا نقول لك كما قال أصحاب موسى لـموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا هاهنا قاعدون، والله لو خضت بنا عرض هذا البحر لخضناه معك، ما تخلف منا رجل ولا امرأة )، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم فيهم الصدق والإنابة والإخلاص؛ لأنه رباهم هذه التربية؛ فلذلك وثق بكلامهم واعتمد ما قالوه.
والركن الثالث من هذه الأركان: هو الإخاء، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بينهم حتى اندمجت أرواحهم وقلوبهم، وحصل بينهم من المحبة ما لم يحصل بين أفراد الأسرة الواحدة، تآخوا بأخوة الإسلام، فكان كل إنسان منهم يحب أخاه في الله، ويحب له ما يحب لنفسه، ويؤثره على نفسه؛ ولذلك كانوا يتوارثون بهذه الأخوة في صدر الإسلام، فقد أخرج البخاري في الصحيح من حديث أم العلاء رضي الله عنها قالت: (كان المهاجري يرث الأنصاري والأنصاري يرث المهاجري بأخوة الإسلام، حتى نزل قول الله تعالى: وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ[الأحزاب:6]، قالت: فكانوا يوصون لهم).
فلذلك تآخى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إخاءً عجيبًا، فكان كل واحد منهم يحب أخاه حتى يجعله قرة عينه، ويؤثره على نفسه، ويقول فيه صادقًا مثلما قال الشاعر:
لو علمنا مجيئكم لفرشنا شغوف القلب أو سواد العيون
وجعلنا بين الجفون طريقاً ليكون المرور دون الجفون
فأحبوا إخوانهم في الله حبًّا شديدًا، قدموهم فيه على أنفسهم، وآثروهم على أنفسهم؛ ولذلك أثنى الله على الأنصار بقوله: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ[الحشر:9].
وهذه التربية من آثارها ما شهد الله به في كتابه للمهاجرين، فإنه قال: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ[الحشر:8].
وقال فيهم: يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ[البقرة:273].
فهذا أثر من آثار هذه التربية، هم فقراء، لكن من لا يعرف واقعهم وداخلة أمورهم يظنهم أغنياء، فهذه التربية العجيبة، التي ربى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الجيل، بقيت طابعًا خالدًا فيهم، وقد ربوا بها الأجيال اللاحقة، فتركوا بصماتهم في الأجيال وآثارهم عليهم؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من رأى محمدًا؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من رأى من رأى محمدًا؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى من رأى محمدًا؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم).
ثم بعد هذا الركن الرابع من أركان عمل النبي صلى الله عليه وسلم التنظيمي الجماعي: هو الأخذ بالأسباب،
فلم يترك النبي صلى الله عليه وسلم أي سبب يؤدي إلى النصر في زمانه إلا أعمله، سواء كان ذلك السبب مما كان معروفًا لدى أهل مكة، وأهل جزيرة العرب، أو كان مستوردًا من حضارات الأمم الأخرى، فقد أرسل الكمندوزات السرية والبعوث والسرايا، وجيش الجيوش، وعقد الألوية، ونظم الأنصار، وجعل على كل طائفة منهم نقيبًا، وكذلك كتب الكتب إلى الملوك، وإلى كل جبار، يدعوهم إلى الإسلام.
وكذلك الأسباب المستوردة من أمثلتها: الخندق، فهو مستورد من حضارة فارس، ومن أمثلتها: الخاتم، فهو مستورد من حضارة الروم، فإنه لم يتخذه حتى قيل: ( إنهم لا يقرءون كتابًا إلا مختومًا، فاتخذ خاتمًا نقشه: محمد رسول الله، كأني أنظر إلى بياضه في يده ).
وكذلك المنبر، فهو من حضارة الحبشة وقد استورده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل هذه الأسباب من أسباب النصر أعملها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والركن الخامس من أركان عمل النبي صلى الله عليه وسلم الجماعي: هو التدرج والمرحلية، فلم يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم على مغامرة، ولا على مخاطرة، هل سمعتم أنه في العهد المكي قتل أحدًا من رموز الشرك بمكة؟ هل سمعتم أنه هدم صنمًا قط بمكة قبل الفتح؟
فإنه لم يقدم على أية مغامرة، ولا أية مخاطرة، كان يسير بالتخطيط والتدريج، كلما ازداد العدد يزداد الإنتاج، عندما بلغ المقاتلون من أصحابه ثلاثمائة كانت معركة بدر، وعندما بلغوا عشرة آلاف كان فتح مكة، وعندما بلغوا ثلاثين ألفًا دانت الجزيرة العربية كلها لدين الله، وخرجوا إلى الروم في غزوة تبوك؛ ولذلك قال: (أحصوا لي من دخل في دين الله)، وفي رواية: (اكتبوا لي من دخل في دين الله)، وهذا حديث حذيفة بن اليمان في صحيح البخاري.
فلذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطط التخطيط المحكم، ولا يقدم على خطة حتى يعد لها عدتها، وذلك امتثال منه لقول الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ[الأنفال:60].
وسيأتينا ذلك إن شاء الله تعالى في سرد وقائع غزوة بدر إن شاء الله في سورة الأنفال.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل ما نقوله ونسمعه حجة لنا لا علينا، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يجعلنا من المنتفعين بالعبر، والآخذين بالسنن، المتبعين لهدي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر