بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:
فقد سبق تقسيم الطهارة إلى حسية ومعنوية، وسبق تقسيم الطهارة الحسية إلى: طهارة حدث وطهارة خبث، وذكرنا أن طهارة الحدث قد تكون من الطهارة المعنوية، وسبق تقسيم طهارة الحدث إلى كبرى وصغرى، وإلى مائية وترابية، وسبق ذكر فرائض الوضوء وسننه ومندوباته ومكروهاته، ووصلنا إلى نواقضه ومبطلاته.
والنواقض جمع ناقض، وهو مبطل الشيء، من نقض الغزل إذا أعاده.
قال المصنف رحمه الله:
[نواقض الوضوء ستة عشر بول وريح سلس إذا ندر
وغائط نوم ثقيل مذي سكر وإغماء جنون ودي
لمس وقبلة وذا إن وجدت لذة عادة كذا إن قصدت
إلطاف امرأة كذا مس الذكر والشك في الحدث كفر من كفر].
قوله: (نواقض الوضوء ستة عشر) هذه هي الرواية: (نواقض الوضوء ستة عشر) وكلمة الفصل تجعل قبل نواقض الوضوء، أي: خارج البيت.
هذا الفصل معقود لما ينقض الوضوء ويبطله، وهو ثلاثة أقسام: أحداث، وأسباب، وما ليس بحدث ولا سبب.
القسم الأول: الأحداث. والأحداث جمع حدث، والحدث يطلق في الفقه على ثلاثة أمور: الخارج من أحد السبيلين، والخروج نفسه، والحكم المترتب على الأعضاء وهو الماء.
والحدث هنا معناه ما يخرج من أحد السبيلين، وهذا القسم الأول من نواقض الوضوء وهو الحدث، وهو ما يخرج من أحد السبيلين، أي: سبيل البول وسبيل الغائط.
القسم الثاني من نواقض الوضوء: ما هو سبب لخروج الحدث، فهو ليس حدثاً، ولكنه سبب لخروج الحدث، وهذا مثل اللمس والقبلة .. إلى آخره.
القسم الثالث: ما ليس بحدث ولا سبب، مثل الردة، أي: الخروج عن الإسلام، وكذلك عند المالكية الشك في الحدث، وكلاهما ليس بحدث ولا سبباً.
ابتدأ المصنف أولاً بالأحداث فقال: (بول وريح سلس إذا ندر) أي: أن من نواقض الوضوء البول والريح، وعطف عليهما السلس سواء كان سلس بول أو سلس ريح أو غير ذلك.
وقوله: (إذا ندر) معناه: بشرط أن يكون قليلاً، فالسلس معناه الشيء المتكرر الذي لا يتحكم الإنسان فيه، فالذي يخرج من أحد السبيلين إذا كان الإنسان متحكماً فيه هذا الطبيعي، ولذلك يكون ناقضاً مطلقاً، والشيء الذي لا يتحكم فيه إذا كثر وتكرر فإنه لا ينقض الوضوء، إلا إذا كان خروجه بكمية معهودة أو نحو ذلك، مثلاً إذا كان البول يخرج بصفة دائمة فهذا لا ينقضه، لكن إذا خرج بكمية كبيرة، فمعناه أن الإنسان قد بال، والبول ناقض.
إذاً السلس إذا كان نادراً قليلاً فهو من نواقض الوضوء، وإذا لم يكن قليلاً بأن كثر وتكرر على الإنسان فهو غير ناقض للوضوء، وسبب ذلك أن الله لا يكلف الإنسان إلا ما يطيق، وما لا يتحكم الإنسان في إمساكه فهو خارج عن تكليفه وقدرته، وقد قال الله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا [الطلاق:7]، وقال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا[البقرة:286].
والإنسان الأصل فيه السلامة من الشك، ولكن إذا أصيب بالشك والوساوس، فإذا تكرر ذلك عليه وكان دائماً يشك فليعتبر ذلك من قبيل السلس، ولا ينقض إذا كثر، وإذا كان الشك يحصل نادراً غير متكرر فليعتبره مثل السلس النادر فينقض.
(وغائط) هذا الناقض الآخر من نواقض الوضوء، وأصل الغائط في اللغة معناه المكان المنخفض، وذلك أن الناس كانوا يقصدونه لقضاء حوائج الإنسان، فسمي الحال باسم المحل، فالمحل المنخفض يسمى غائطاً، وهو ما غاط من الأرض، أي: من انخفض منها.
(نوم ثقيل) هذا الناقض الآخر وهو النوم الثقيل، والنوم منه ما هو ثقيل، أي: مذهب للعقل لا يدرك الإنسان معه أصوات من حوله، ومنه ما هو خفيف لا يمنع الإنسان من سماع ما حوله من الأصوات.
وقد اختلف أهل العلم في اعتبار النوم ناقضاً، فذهب بعض أهل العلم إلى عدم اعتباره مطلقاً، وذلك بعيد جداً؛ لأنه ثبت في حديث صفوان بن عسال: ( ولكن من غائط وبول ونوم)، فيما يتعلق بالمسح على الخفين، فعده النبي صلى الله عليه وسلم من نواقض الوضوء لهذا الحديث.
وأما نومه صلى الله عليه وسلم فإنه ليس كنومنا؛ لأنه تنام عيناه ولا ينام قلبه، ومن هنا فالنوم غير ناقض لوضوء النبي صلى الله عليه وسلم وحده، ولكنه ناقض لوضوء من سواه.
والذين لا يرون النوم ناقضاً مطلقاً يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم نام عن الصلاة مع أصحابه في غزوة من الغزوات، ولم يوقظهم إلا حر الشمس كما ثبت في الصحيح، واستيقظ ثلاثة رجال فلم يتكلموا، فاستيقظ عمر الرابع، فجعل يكبر حتى استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان يقظاناً لصلى في الوقت؛ ولا يحل تأخير صلاة حتى يطلع الشمس، ولكن يجاب عن هذا بأن الله سبحانه وتعالى أمسك نفوسهم تشريعاً لنا؛ ولنعرف ماذا نصنع إذا فات وقت الصلاة، وقد بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأمسك نفوسهم، ولو شاء لردها في وقت غير هذا.
والجمهور القائلون بنقض الوضوء بالنوم اختلفوا في اعتبار النوم، فبعضهم اعتبر حال النائم، وبعضهم اعتبر حال النوم نفسه، فمنهم من اعتبر حال النائم فقالوا: النوم أمر خفي لا يعرف الإنسان الفرق بين الثقيل منه والخفيف، وبالأخص أنه قد يأتي في لحظة واحدة وفي أقل من ثانية، فينام الإنسان نوماً ثقيلاً، ولذلك لا يمكن التعليل به؛ لأن العلة لا بد أن تكون وصفاً ظاهراً منضبطاً، والأوصاف الخفية لا يعلل بها، ولذلك اعتبروا حال النائم فقالوا: إذا كان النائم مضطجعاً أو مرتفقاً فنومه ناقض عليه مطلقاً سواء كان خفيفاً أو ثقيلاً، وإذا كان قائماً أو راكعاً أو جالساً فنومه لا ينقض عليه مطلقاً سواء كان خفيفاً أو ثقيلاً.
وهذا القول هو مذهب الشافعية والحنابلة، فإنهم اعتبروا حال النائم ولم يعتبروا حال النوم.
أما القول الثاني فهو اعتبار حال النوم نفسه فقالوا: لا عبرة بحال النائم؛ لأن الناقض إنما هو النوم، فهو الذي نبحث فيه، ولا نبحث في حال معتريه، أي: المتصل به.
والنوم لا بد أن يفرق بين خفيفه وثقيله، فخفيفه مثل الغشية التي تصيب الإنسان فلا تنقطع عنه الأصوات، فهذا لا ينقض عليه؛ لكثرته، لكن إذا كثر ندب الوضوء منه؛ لئلا يخالطه نوم ثقيل ولا يشعر به؛ فإن طوله قد يؤدي إلى مخالطة النوم الثقيل.
والفرق بين الثقيل والخفيف عندهم بعض العلامات الظاهرة، فمنها ما إذا كان محتبياً، والاحتباء هو أن يمسك يديه أمام ركبته، فيرفع ركبتيه ويمسك يديه أمامهما، فإذا انحلت حبوته ولم يشعر هذا دليل على أن النوم ثقيل، وكذلك إذا سال ريقه ولم يشعر فهذا دليل على أن النوم ثقيل، وبعضهم يذكر الرؤيا فيقول: إذا رأى رؤيا فهذا النوم ثقيل، لكن من الناس من يرى رؤيا في نومه الخفيف، وهو يسمع كلام من حوله، ولذلك قد لا تعتبر الرؤيا فارقاً بين النوم الثقيل والخفيف، فأهم فارق بين النوم الثقيل والخفيف هو انقطاع الأصوات عن الإنسان وانقطاع الإحساس.
(مذي) كذلك من نواقض الوضوء المذي، وهو يستعمل في اللغة على وزن ظبي، فيقال: مذي كما استعمله المؤلف هنا، ويستعمل كالمني فيقال: مني، أي: على وزن فعيل، وهو ماء رقيق يخرج عند اللذة الصغرى بالإنعاظ، وليس مثل المني، فالمني له تدفق ورائحة طلع أو عجين، وسيأتي حكمه، أما المذي فإنه يسيل سيلاناً ولا يتدفق تدفقاً.
والمذي يلزم منه الجنابة الصغرى، ورفعها هو بغسل ذكره كله بنية؛ لما ثبت في الصحيح: ( أن علياً رضي الله عنه قال: كنت امرأً مذاءً، فاستحييت أن أسأل النبي صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته، فأمرت المقداد أن يسأله فسأله، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أنه يغسل فرجه ويتوضأ وضوءه للصلاة).
وهذا هو الذي يلزم من المذي أن يغسل الإنسان فرجه وأن يتوضأ وضوءه للصلاة، ومحل ذلك إن لم يكثر، فإن كثر فكان سلساً غير نادر فإنه لا يلزم منه ذلك.
(سكر) وهو زوال العقل بسبب شرب المسكر، فهو ناقض للوضوء؛ لأن العقل قد زال، فلا يدري الإنسان ما يخرج منه؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( العينان وكاء السهِ، فإذا نامت العينان انطلق الوكاء)، فالإنسان إذا ذهب عقله لا يدري ما يحصل له، وهذا يشمل السكر الحرام والسكر الجائز، فالسكر الحرام هو تعمد شرب الإنسان المسكر حتى يزيل عقله، والسكر الجائز أن يشرب الإنسان ما يراه حلالاً،كأن يشرب شيئاً يراه عصيراً فتبين خمراً فسكر منه.
(وإغماء) كذلك من نواقض الوضوء الإغماء، وهو زوال العقل بسبب المرض، فإذا أغمي على الإنسان ولو لحظة واحدة انتقض وضوءه؛ لأنه لا يدري ما يحصل له في حال زوال عقله.
(جنون) وهو تغطية العقل بسبب مس الجن، ويحصل أيضاً من الأمراض النفسية، فهذا ناقض من نواقض الوضوء، ولو كان لمدة يسيرة؛ لأن الإنسان يزول عقله، وإذا زال لا يدري ما يحصل له.
(ودي) هذا الناقض الآخر وهو الودي، ويسمى الوديّ أيضاً، وهو ماء أبيض يخرج من البول عند التعب، وقد يخرج وحده فيقع عند التعب، ويقع أيضاً عند طول الجلوس أو الانقطاع عن النوم لفترة طويلة.
وحكمه حكم البول، فهو ناقض من نواقض الوضوء، لكن لا يلزم منه غسل الذكر ولا الغسل، أي: لا يلزم منه إلا الاستنجاء والوضوء فقط مثل البول.
وهذه النواقض كلها أحداث ما عدا النوم والإغماء والجنون فهي أسباب.
ثم ذكر أيضاً من الأسباب قوله: (لمس) وهو مس الجنس الآخر بقصد الشهوة، وهو ناقض للامس والملموس معاً، إذا كانا يحسان بذلك، أما إذا كان الملموس لا يحس باللمس فإنه غير ناقض عليه، وسواء كان هذا اللمس بالمباشرة أو من فوق حائل إذا قصد اللذة أو وجدها، فإن لم يقصدها أصلاً وحصل مس كالتزاحم في الأسواق أو في الأماكن العمومية فمس امرأة من غير قصد، فإن ذلك غير ناقض عليه إلا إذا وجد لذة.
إذاً قصد اللذة ناقض باللمس ولو لم يجدها، ووجودها ناقض ولو لم يقصدها، لكن إذا لم يقصد ولم يجد فلا نقض باللمس.
(وقبلة) هذا داخل في أصل اللمس، لكنه مستقل بنفسه؛ لأنه لا يمكن أن يقع إلا عن قصد.
والقبلة معناها وضع الفم على الفم لقصد معنى فيه لقصد اللذة، وهي ناقضة للوضوء إذا كانت لقصد اللذة، أما إذا كانت لوداع أو لرحمة كتقبيل الصغير ونحو ذلك فلا نقض بها.
(وذا) أي: وهذا، والمقصود به الأمران معاً وهما لمس وقبلة، فكلاهما مقيد بقصد اللذة أو وجودها، وأقصد اللمس ولا يقصد به القبلة، (وذا) أي اللمس (إن وجدت لذة عادة) أي وجدت لذة يعتادها الإنسان بذلك (كذا إن قصدت) كذلك إذا قصدت ولو لم توجد.
(إلطاف امرأة) من النواقض كذلك وهي أسباب: إلطاف المرأة، وهو أن تدخل أصبعها بين شفري فرجها، وهذا مختلف فيه هل هو ناقض للوضوء عليها أم لا؟ والمشهور في المذهب المالكي أن الإلطاف لا ينقض الوضوء بالنسبة للمرأة، فليس كمس الذكر بالنسبة للرجل، ولذلك قال المتأخرون: ليس في نظم ابن عاشر فرع ضعيف إلا هذا الفرع وحده وهو إلطاف المرأة.
(كذا مس الذكر) كذلك من الأسباب الناقضة للوضوء مس الذكر، والمقصود مس الذكر المتصل بالإنسان، إما إذا كان قد انفصل عنه فمسه لا ينقض، وهذا المس سواء قصدت به اللذة أو لم تقصد، وجدت أو لم توجد، وسواء كان المس بباطن الأصابع أو الكف، أما بظاهر الكف وهو ظهرها فإن أحس به إحساسه ببطنها فهو ناقض عليه وإلا لم ينقض، وكذلك الإصبع الزائدة، فإن أحس بها إحساسه بأصابعه نقض مسها لذكره، وإن لم يحس بها إحساسه بأصابعه الأخرى لم تنقض عليه.
ومس الذكر من نواقض الوضوء؛ لما روت بسرة بنت صفوان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مس ذكره فليتوضأ)، وهذا الحديث معمول به عند جمهور أهل العلم؛ لصحته من ناحية الإسناد، فقد قال عبد الله بن أبي بكر بن حزم: (تذاكر أبي وعروة بن الزبير يوماً ما يجب في الوضوء، فذكر عروة وذكر حتى ذكر مس الذكر، فقال أبي: ما عرفته، فقال عروة: حدثتني بسرة بنت صفوان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من مس ذكره فليتوضأ)، وفي رواية: أن عروة حدث بذلك عن مروان عن بسرة، وفي رواية: أنه حدثه مروان بذلك فأرسل شرطياً إلى بسرة، فسألها فصدقت مروان، وهذا النوع هو الذي يسمى لدى أهل الحديث بالمزيد في متصل الأسانيد، فالإسناد متصل، فقد سمع ذلك عروة من بسرة، وسمعه من مروان عن بسرة، وسمعه من الحرسي عن بسرة، فحدث به تارة بالمباشرة عن بسرة وتارة بالواسطة، ولذلك يسمى هذا بالمزيد في متصل الأسانيد، وهو ليس بعلة، ولا يقدح في صحة الحديث.
والحنفية يردون هذا الحديث فيقولون: هذا الحكم من أحكام الرجال، وليس من أحكام النساء، وهو مما يكثر تردده، فيكثر السؤال عنه فيكثر الجواب عليه، فتقتضي الحاجة رواية الرجال له، فإذا لم يروه الرجال دل ذلك على بطلانه، ولذلك لا يرون مس الذكر ناقضاً؛ ويستدلون بحديث طلق بن علي: ( أنه سأل النبي صل الله عليه وسلم عن مس الذكر؟ فقال: وهل هو إلا بضعة منك)، أي: هل هو إلا مضغة منك.
وقد اختلفت الآثار عن الصحابة في ذلك، فروي عن عمر رضي الله عنه عدم النقض بمس الذكر فقال: (ما أبالي إذا مسسته أم مسست أنفي)، فجعله مثل مس الأنف.
وثبت عن ابن عمر أنه كان يتوضأ منه، فكان يغتسل، فإذا خرج من مغتسله توضأ، فسأله ابنه: أليس الوضوء داخلاً في الغسل؟ فقال: بلى ولكني أمس ذكري، فإذا مس ذكره يتوضأ.
وكذلك ثبت عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن ابنه كان يقرأ عليه المصحف، فأدخل يده في إزاره فاحتك، فقال: لعلك مسست ذكرك؟ قال: نعم، قال: قم فتوضأ.
إذاً يترجح بهذا حديث بسرة بنت صفوان، وبالأخص أن الرواية لا يشترط فيها أن يكون الراوي ذا صلة بمرويه، بل إذا سمعه واستثبت فيه فذلك كافٍ، وبسرة ثقة، وقد سمعت ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، ولو لم يروه من سواها فالرواية لا يشترط فيها التعدد على الراجح، ولذلك قال الحافظ ابن حجر في نخبة الفكر في ذكر العزيز قال: (وليس شرطاً للصحيح على الصحيح) أي: وليس العزيز وهو ما رواه اثنان فأكثر في كل طبقة، ليس شرطاً للصحيح على الصحيح؛ لأن لدينا عدداً كثيراً من الأحاديث الصحيحة هي من قبيل الغريب والمفردات، كحديث عمر: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، وهو في الصحيحين، فإنه قد انفرد به بشرط اللفظ والصحة يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم التيمي، وانفرد به بشرط اللفظ والصحة محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن علقمة بن وقاص، وانفرد به بشرط اللفظ والصحة علقمة عن عمر، وانفرد به بشرط اللفظ والصحة عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه تواتر بعد يحيى بن سعيد، فرواه عنه عدد كثير من الناس، فدل ذلك على أن التعدد في الرواية ليس بشرط للصحة.
ثم قال: (والشك في الحدث) هذا بيان لما ليس بحدث ولا سبباً من النواقض، فمنه الشك في الحدث، والشك درجة من درجات العلم، فعلم الإنسان الحاصل بعقله ينقسم إلى أربعة أقسام:
الأول: اليقين، وهو مجتمع العلم أن يوقن بالأمر فيقطع به.
الثاني: الظن، وهو أن يحصل لديه غلبة، ولا يحصل لديه القطع، فيغلب على تصوره أمر، ولكن لا يحصل لديه القطع به.
الثالث: الشك وهو مستوى الطرفين، فلا يستطيع الإثبات به ولا النفي، متوسط بينهما.
الرابع: الوهم وهو الذي يقابل الظن، ولذلك يمكن أن نجعل اليقين على مائة درجة، وأن نجعل الظن على خمس وسبعين درجة، ونجعل الشك على خمسين درجة، ونجعل الوهم على خمس وعشرين درجة مقابل الظن، فإذا حصل لدى الإنسان مجرد خمس وعشرين درجة بالمائة، فهذا هو الوهم، وما يقابله وهو خمس وسبعون درجة في المائة هو الظن، وخمسون بالمائة من العلم هو الشك مستوى الطرفين.
ولا يقصد هنا حصول هذه الدرجة بالضبط، بل المقصود أن يحصل لديه ما هو أقوى من الوهم، فالشكوك متفاوتة، ولذلك شكك في الأمر متفاوت؛ لأنه ما بين خمس وعشرين بالمائة إلى خمسين بالمائة كله يسمى شكاً، وكذلك الظنون متفاوتة، فما فوق خمسين بالمائة إلى أن تصل تسع وتسعين بالمائة كله ظن وهو متفاوت.
واليقين كذلك متفاوت، فمن اليقين ما لا يحمل الشك، ومنه ما يمكن أن يحمله، والاعتقاد الجازم الذي لا يقبل الشك هو أعلى درجات اليقين، ودونه يقينك بأنك سمعت فلان قال كذا، ولكن يمكن أن يعرض لك شك في ذلك فتحتاج إلى أن تتذكر أو تستثبت، هل سمعته قال ذلك أو لا؟
وإذا شك الإنسان في حدث بعد طهر علم، فإن مذهب مالك رحمه الله أن ذلك ناقض للوضوء.
إذاً لا بد أن يكون قد أيقن أنه توضأ ثم عرض الشك بعد الوضوء، هل انتقض الوضوء أم لا، فإذا توضأ الإنسان ثم شك هل خرج إلى الخلاء أم لا بعد ذلك، أو خرج منه ريح أم لا، أو هل نام أم لا فعرض له شك، فمذهب مالك رحمه الله أن الذمة قد عمرت بمحقق فلا تبرأ إلا به، وهذه قاعدة من قواعد الفقه، وهي الذمة إذا عمرت بمحقق لا تبرأ إلا به، فأنت قطعاً مطالب بالوضوء؛ والنبي صلى اله عليه وسلم قال: ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث ما لم يتوضأ)، وقد شككت هل أنت متطهر أم لا؟ فالذمة عامرة بمحقق، وهو أنك في الأصل يجب عليك الوضوء، وقد شككت هل أنت الآن متطهر أم لا، ولذلك تعمل باليقين فتتوضأ احتياطاً للدين:
وباحتياط في أمور الدين ومن فر من شك إلى يقين
ومذهب جمهور أهل العلم أن الشك في الحدث بعد طهر علم لا ينقضه، وفي الأصل أن الشك في الوضوء أي الشك في الطهارة ناقض للوضوء، وهنا فرق بين الأمرين: الشك في الحدث والشك في التوضؤ، فإذا شككت هل توضأت أم لا، لكنك موقن أنك لم تكن على طهارة وشككت هل توضأت أم لا؟ فلا اعتبار لهذا الوضوء عند الجميع؛ لأن الوضوء مشكوك فيه، والأصل عدمه.
لكن إذا توضأت فأيقنت أنك متوضئ، وشككت في الحدث بعد ذلك، فهذا الذي ينقض عند المالكية، ولا ينقض عند من سواهم.
وسبب ذلك أن الجمهور يرون أن اليقين لا يزول بالشك مطلقاً، فأنت أيقنت أنك توضأت، وعرض لك الشك بعد ذلك، والشك لا يرفع اليقين، فاليقين السابق عليه لم يرتفع به، والمالكية يقولون: ليس هذا شكاً في مقابل اليقين؛ لأن اليقين الأول قد زال بالشك فيه، واليقين والشك مستحيل أن يجتمعا، فأنت إذا أيقنت بشيء وجزمت به لا تشك فيه بعد ذلك، وأنت الآن شاك فيه، وقد قال أحد العلماء ناظماً هذه المسألة:
الشك في الأحداث لا ينقض عكس الذي أشياخنا قد رضوا
يقصد المالكية.
ومنهم من قال ما قلته من عدم النقض فلا تومضوا
إلا لما فيه الدليل الذي منهاجه للمهتدي أبيض
أحمد والنعمان والشافعي والليث والأوزاعي لا ينقض
وضوءنا بالشك إسحاق لا ينـ قض والثوري هذا الوضو
فكلهم قالوا: لا ينقض الوضوء بالشك.
(كفر من كفر) كذلك مما ليس بحدث ولا سبباً من النواقض: الكفر، وهو الردة عن الإسلام، فهي ناقضة للوضوء، وذلك أن الله سبحانه وتعالى بين أن الكفر مبطل للعمل، والوضوء من العمل، فقد قال الله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ[الزمر:65]، وقال تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [المائدة:5].
وقد اختلف في ذلك؛ فذهب الجمهور إلى أن الردة ناقضة للعمل كله، فهي مبطلة للوضوء، وذهب الشافعي رحمه الله إلى أن إبطال العمل بالكفر من شرطه أن يموت الإنسان على الكفر، أما إذا تاب ورجع فإنه لا ينقض عليه ولا يبطل عمله، واستدل الشافعي بقول الله تعالى: مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [البقرة:217]، فيمت وهو كافر، هذا اشتراط وهو قيد.
وقد اختلف الأصوليون في المطلق هل يحمل على المقيد أم لا؟ فنحن لدينا إطلاق في آيات متعددة: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ[الزمر:65]، وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [المائدة:5]، ولم يقيد ذلك بالموت عليه، وآية البقرة جاء فيها القيد: ومَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ[البقرة:217]، فالذين يرون أن المطلق يبقى على إطلاقه، وأن المقيد يبقى على قيده يقولون: الإبطال درجتان: إبطال شامل عام لكل عمل، وهو ما إذا مات الإنسان على كفره إذا ارتد، ومات على الكفر، فهذا الكفر مبطل لكل عمل أياً كان، وإبطال للعمل السابق دون اللاحق وهو في حق من ارتد ثم رجع للإسلام، فالإسلام يجب ما قبله، ولكن ردته مبطلة لما سبقها من العمل، ولا تبطل ما لحقها. إذاً هذا إبطال مقيد بالسابق دون اللاحق.
وعموماً لكلا القولين دليل، فمذهب الجمهور الاستدلال بالإطلاق بالآيات المذكورة، ومذهب الشافعي الاستدلال للتقييد في آية البقرة.
ومن العلماء من يرى أن القيد إذا جرى مجرى الغالب أو في مقام التهديد والتنفير، فإنه لا يعتبر، فمجيء القيد جاري مجرى الغالب، منه قول الله تعالى: وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ[النساء:23] فقوله: (اللاتي في حجوركم) هذا جاري مجرى الغالب ولا اعتبار له، فالربيبة تحرم مطلقاً سواء كانت في الحجر أم لم تكن فيه، والذي جاء في مقام التنفير والتهديد مثل: فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ[البقرة:217] فهذا تحذير من الردة مطلقاً، والمقصود بالردة هنا ما كان بالقصد، أما إذا ارتد الإنسان من غير قصد كمن نطق بالكفر من غير إرادة له، فمذهب الجمهور أنه لا يكفر بذلك، ولا يترتب عليه نقض للوضوء ولا بطلان للصلاة ولا بطلان لشيء من العمل.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يخاطب بذلك في أمر الدنيا، ولا يخاطب به في أمر الآخرة، فتجرى عليه أحكام الدنيا، فيجدد عقد النكاح، وتبطل الصلاة إن كان في وقتها، وينتقض الوضوء بمجرد جريان الكفر على لسان الإنسان ولو لم يقصده.
وعموماً فإن الحكم بتكفير المعين يشترط له سبعة شروط:
الشرط الأول: ألا يكون مكرهاً عليه. فإذا أكره الإنسان على الكفر فنطق به فإنه لا يكفر بذلك؛ لقول الله تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النحل:106].
الشرط الثاني: أن لا يكون جاهلاً به. فإن أنكر عقيدة من عقائد المسلمين وهو لا يعلم أنها عقيدة، فإنه يعذر بجهله، مثل كثير من عوام المسلمين الذين يجهلون كثيراً من أمور العقائد، وربما أنكروها، فإنكارهم لها لا يعتبر كفراً، وهم معذورون بذلك الجهل، وهذا في غير المعلوم من الدين بالضرورة، فالمعلوم من الدين بالضرورة لا يعذر فيه بالكفر، فمن أنكر وجوب الصلاة مثلاً لا يعذر بذلك؛ لأنه لا يمكن أن يعرف الإسلام إذا كان لا يعرف الصلاة، ومن أنكر حرمة قتل النفس فهذا يكفر مطلقاً؛ لأنه لا يمكن أن يعرف الإسلام وهو لا يعرف أن قتل النفس حرام، فقتل النفس بغير حق حرام، وهكذا المعلوم من الدين بالضرورة، سواء كان ذلك في أمور الجوارح أو في عمل القلب، فمن أنكر البعث بعد الموت أو أنكر اليوم الآخر جملة وتفصيلاً، أو أنكر وجود الجنة، أو أنكر النار فهذا يكفر مطلقاً؛ لأن هذا من المعلوم بالضرورة بحيث لا يمكن أن يكون الإنسان مسلماً إلا إذا كان يعرف هذه الأمور.
أما تفاصيل ذلك كمن أنكر بعض الأمور التفصيلية، كمن أنكر عذاب القبر لأنه لا يعلمه، أو أنكر الصراط لأنه لا يعلمه، أو أنكر وزن الأعمال لأنه لا يعلمه، فإنه يعذر بجهله بتفصيلات ذلك، لما ثبت في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل عليّ عجوزان من اليهود، فذكرتا عذاب القبر فكذبتهما، ولم أنعم أن أصدقهما، فلما قامتا دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن عذاب القبر؟ فقال: عائذاً بالله من عذاب القبر).
فـعائشة لم تكن تعلم أن الموتى يعذبون في قبورهم؛ ولذلك أنكرت عذاب القبر حينما ذكره العجوزان من اليهود، وعلمها النبي صلى الله عليه وسلم إثبات عذاب القبر، وأنه عقيدة يلزم الإيمان بها، ولكن لم يأمرها بالتوبة مما مضى ولم يجدد عقدها، فدل ذلك على عدم الكفر بهذا النوع، وأن الجهل يعذر به في هذه المسائل.
الشرط الثالث: أن يكون قاصداً للكفر، فإذا جرى على لسانه قول لا يقصده، فإنه لا يكفر به كغلط اللسان لما ثبت في الصحيح في آخر من يدخل الجنة، فيقول: (اللهم أنت عبدي وأنا ربك! أخطأ من شدة الفرح)، وكذلك في حديث: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده المؤمن)، وفيه فيقول: ( اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح)، فهذا لا يكفر، فالحديث الأول دخل الجنة به، والثاني هذا وصف من أوصاف أهل الإيمان وإقرار بالنعمة لله وشكر لها، فلا يكفر به وإن أخطأ الإنسان في ذلك.
الشرط الرابع: ألا يكون الإنسان متأولاً، فإن كان متأولاً معتمداً على شبهة يراها دليلاً، أو اجتهد في طلب الحق فأخطأ فهو معذور في ذلك؛ لحديث عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب كان له أجران، وإذا اجتهد فأخطأ كان له أجر)، ومن المستحيل أن يجتمع على الإنسان التأثيم والأجر في وقت واحد، فلا يمكن أن ينال أجراً هو إثم أو هو كفر، وهو إذا اجتهد فأخطأ مأجور قطعاً بدلالة هذا الحديث، ولا يجتمع التأثيم والأجر؛ لأنهما ضدان، فدل ذلك على أنه لا يكفر بالاجتهاد في طلب الحق إذا أخطأ الإنسان فيه، ولذلك فكثير من الفرق الإسلامية تقول أقوالاً هي كفر، ولكن أصحابها يتأولون فيها، فما قالوها تجاسراً على الكفر، وإنما قالوها طلباً للحق واجتهاداً، فيعذر من كان منهم كذلك، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (كل من اجتهد في طلب الحق فهو معذور أصاب أو أخطأ، سواء كان ذلك في الأصول أو في الفروع).
وقد قال الذهبي رحمه الله في ترجمته لـبشر المريسي في سير أعلام النبلاء بعد أن ذكر تكفير أهل العلم له وطعنهم فيه وذمهم له: (ولكن أبى الله أن يكون من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وصلى الخمس إلى القبلة، وصام، وزكى، وحج البيت كمن لم يفعل شيئاً من ذلك ونعوذ بالله من البدعة وأهلها).
الشرط الخامس: ألا يكون مغطىً على عقله. فمن شرط الكفر أن يكون الإنسان مكلفاً، فالصبي والمجنون ومن ليس مكلفاً لا يعتبر مرتداً بنطقه بالكفر، أو بفعله لما هو كفر، ولذلك إذا كان الإنسان مغطىً على عقله بسبب سكر أو غيره، كالخوف الشديد، فنطق بالكفر فإنه لا يكفر بذلك؛ لما ثبت في الصحيح: ( أن رجلاً كان مسرفاً على نفسه، فلما أدركه الموت جمع أولاده وذويه، فأخذ عليهم العهد إذا هو مات أن يحرقوا جثته، وأن يقسموا رماده نصفين، فيذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، قال: فلئن قدر الله ليعذبنني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات فعلوا به ما أمر، فأمر الله البر فجمع ما فيه، والبحر فجمع ما فيه، فقال: أي عبدي! ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك يا رب، فغفر له).
فهذا الرجل كان مغطىً على عقله من الخشية عندما قال: (فلئن قدر الله عليّ ليعذبنني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين)، ولذلك غفر الله له.
أما من مات على الكفر فإن الله لا يغفر له قطعاً: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48]، فكل من مات على الكفر لا يمكن أن تقع عليه المغفرة، وهذا الرجل غفر الله له فدل ذلك على أنه لم يمت على الكفر.
الشرط السادس: أن يثبت عليه الكفر. فإذا قال قولاً هو كفر أو فعل فعلاً هو كفر، ولكنه أنكره ولم يثبت عليه، فإنكاره عليه يعتبر توبة منه، والكفر حكم قضائي يحتاج إلى إثبات، فلا يمكن أن يكون التكفير بيد كل من هب ودب، ولو كان كذلك لما بقي أحد في دائرة الإسلام، فيسهل التكفير حينئذٍ، ولهذا كان التكفير حكماً قضائياً يحتاج إلى إثبات وصدور حكم، ولا بد في هذا الحكم من الاعتماد على أمر كما قال شريح: القضاء جمر فنحه عنك بعودين، يقصد الشاهدين.
الشرط السابع: إقامة الحجة. أن تقام الحجة على الإنسان، فإذا كان الإنسان يقول قولاً أو يفعل فعلاً هو كفر، ولكنه لا يعتقده كفراً، ولم تقم عليه الحجة فإنه لا يكفر بذلك؛ لقول الله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء:15]، فبعثة الرسول من إقامة الحجة، وإذا لم تبلغ الإنسان الحجة ولم تقم عليه فإنه يعذر بذلك، وإقامة الحجة إنما تحصل بالرد على شبهته وإبطالها من طرف من يثق هو به، إما إذا أتاه من دونه من ناحية السن ومن ناحية العلم والمستوى، فإن ذلك لا يقيم عليه الحجة، إنما يقيم الحجة عليه من يمكن أن يسمع منه، ومن يمكن أن يستجيب له.
قال المصنف رحمه الله:
[ويجب استبراء الأخبثين مع سلت ونتر ذكر والشد دع]
هنا بدأ المصنف في أحكام الاستطابة وأحكام دخول الخلاء، وهذه الأحكام منها ما هو واجب، ومنها ما هو مندوب.
فالواجب منها الاستبراء، والاستبراء معناه استبراء المحل، سواء كان محل البول أو محل الغائط، فلا يجوز للإنسان أن يقوم ما دام يحس بشيء سيخرج منه؛ لما في ذلك من تعرض ثوبه للنجس وتعرض صلاته للبطلان، فيجب على الإنسان استبراء الخارج، أي: انتظاره حتى يخرج.
وهذا هو الاستبراء، وهو الاستتار من البول الذي جاء في الصحيح (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين جديدين، فقال: أما أنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير. ثم قال: بلى؛ أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة).
وقد أخرج البيهقي وغيره كذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( استتروا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه)، أي: أكثر عذاب القبر من عدم الاستتار من البول، ولا عذاب إلا في حق المحرم، فما ليس حراماً لا يعذب عليه، فدل هذا على وجوب الاستتار من البول وحرمة عدم الاستتار منه.
والأخبثان: هما البول والغائط، وفي ذلك قال: (ويجب استبراء الأخبثين) معناه: استبراؤهما.
وبين ما يحصل به الاستبراء فقال: (مع سلت ونتر ذكر) المقصود بسلته إمرار الإصبعين عليه، السبابة والإبهام بيده اليسرى، فيسلته بذلك سلتاً خفيفاً. والنتر هو إقامته حتى لا يبقى فيه انثناء؛ لأن الانثناء يمكن أن يمسك شيئاً من البول يتهيأ للنزول.
ثم قال: (والشد دع) أي: لا يكون النتر بشدة، ولا يكون السلت بشدة؛ لما في ذلك من الضرر على الإنسان، وإلحاق الضرر بالإنسان حرام، فلا يجوز للإنسان النتر الشديد الذي يؤدي إلى الضرر والأذى، وكذلك السلت الشديد الذي يؤدي إلى الضرر والأذى، فليس ذلك مطلوباً شرعاً، بل المطلوب هو مجرد استفراغ البول، وأن يعرف الإنسان أنه لم يبق في المحل شيء قد تهيأ للخروج.
وهكذا في الغائط لا بد من استفراغه واستبرائه.
ومع هذا لا ينبغي للإنسان أن يطيل كثيراً بالجلوس على الخلاء، فهو سبب من أسباب الوسواس وسبب من أسباب الهم والغم، فعلى الإنسان أن يقتصر على قدر الحاجة في دخول الخلاء، وبالأخص إذا تذكر أنه مكان لا يذكر فيه اسم الله، وأن قرينه الملكي قد اعتزله في هذا الوقت، ولذلك ينبغي أن يتعجل، وألا يزيد على قدر الضرورة في ذلك.
ومن مندوبات الخلاء وأحكام الاستبراء أنه يندب للإنسان إذا دخل الخلاء أن يذكر قبل دخوله؛ لأنه محل مأوى الشياطين، فعلى الإنسان أن يستعيذ قبل دخوله، واستعاذته أن يقول: (أعوذ بالله من الخبث والخبائث)، أو (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث)، فالخبث جمع خبيث وهم ذكران الشياطين، والخبائث جمع خبيثة وهن إناث الشياطين، ويمكن أن يكون اللفظ من الخبث والخبائث.
ومن الخبث أن يكون الإنسان خبيثاً في نفسه، أي متنجساً، أو قذراً، والخبائث هي الأعمال السيئة حينئذٍ.
وكذلك يندب الذكر بعد خروجه منه؛ لأنه كان منقطعاً عن ذكر الله في هذه الفترة، وقد أتيحت له فرصة الذكر فيقول: (غفرانك)، أو (اللهم غفرانك)، عند خروجه ذكراً لله سبحانه وتعالى؛ لأنه قد كان منقطعاً عن الذكر في هذه الوقت، وقد أتيحت له فرصة الذكر.
ويحرم الذكر على الخلاء وفي داخل مكانه، وهذا في المكان المعد، أي: المكان المعد مثل الحمامات وغيرها، أما إذا كان في الخلاء في الأرض الفضاء، فإنه يمكن أن يذكر في محله، فالذكر قبله وبعده في الخلاء؛ لأن المكان طاهر، ولكن لا يذكر ما دام جالساً على البول أو على الغائط لا يذكر.
وفي الخلاء يندب التستر؛ لأنه عرضة للشياطين والهوام، فيتستر.
ويندب أن يضع ثوبه على رأسه، فقد جاء في حديث ابن عمر (أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم جعل ثوبه على رأسه وهو جالس على الخلاء)، والمقصود بذلك ستر الرأس إما حياء من الله؛ لأنه الآن في هذا الحال لا يذكر الله فيه، وإما لأن ذلك مما يعين أيضاً على خروج الخارج.
وكذلك عدم الكلام؛ فلا يتكلم مع أحد إلا إذا كان في أمر مهم لا بد منه كطلب ما يزيل به، كما في حديث ابن مسعود: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يبغي له ثلاثة أحجار، فأتاه بحجرين وروثة، فأخذ الحجرين ورمى الروثة، فقال: إنه ركس)، أي: نجس، الركس هو الرجس.
وكذلك يندب الابتعاد إذا كان الإنسان يريد الغائط، فينبغي أن يبتعد عن الناس حتى لا يؤذيهم، وفي حديث المغيرة بن شعبة: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهب إلى الخلاء أبعد المذهب)، وفي حديث المسح على الخفين من حديث المغيرة بن شعبة كذلك: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم توارى عنه)، فذهب حتى توارى عنه ولم يره.
وكذلك يندب عدم استقبال القبلة وعدم استدبارها بالبول وبالغائط؛ لحديث أبي أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تستقبلوا القبلة، ولا تستدبروها ببول ولا غائط، ولكن شرقوا أو غربوا)، وهذا خطاب لأهل المدينة الذين ليست القبلة في شرقهم ولا في غربهم، أما من كانت القبلة في شرقه فلا يقال له شرّق، وكذلك من كانت في غربه، فإذاً الخطاب هنا لمن لم تكن القبلة في شرقه ولا في غربه.
يقول أبو أيوب: (فأتينا الشام فوجدنا كنفاً قد بنيت إلى جهة القبلة، فكنا ننحرف ونستغفر الله).
ومذهب الجمهور أن الكنيف إذا كان مبنياً حتى ولو كان إلى جهة القبلة فبينك وبين القبلة جدار وبناء، ولا يلزم الانحراف حينئذٍ، ولكن لا ينبغي أن تبنى الكنف كذلك، لكن إذا وجدتها قد بنيت فلا يلزمك الانحراف، وإذا فعلت فلا بأس كما كان أبو أيوب يفعل رضي الله عنه.
وكذلك يندب الجلوس، فإذا كان الإنسان يريد الغائط فلا بد فيه من الجلوس قطعاً؛ لئلا يتنجس بدنه أو ثوبه، وإذا كان يريد البول فالأفضل له الجلوس كذلك، ويجوز البول قائماً لما ثبت: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائماً)، وإذا كان المكان قذراً لا يستطيع الإنسان الجلوس فيه ونحو ذلك، والمكان له أربع صور؛ لأنه إما أن يكون رخواً، وإما أن يكون صلباً، وكلاهما إما أن يكون رطباً وإما أن يكون يابساً.
وهذه أربع صور، وقد نظم تفصيلها أحدهم بقوله:
باليابس الصلب اجلس وقم برخو نجس
والنجس الصلب اجتنب واجلس وقم إن تعكس
فاليابس الصلب إذا كان يابساً صلباً فإن الأفضل أن يجلس الإنسان عليه لئلا يتطاير البول عليه.
(وقم برخو نجس) إذا كان رخواً ورطباً مع ذلك طين، فإن الإنسان يقوم فيه؛ لأنه إذا جلس سيتنجس.
و(النجس الصلب اجتنب) إذا كان صلباً نجساً لا يستخدمه الإنسان للخلاء أصلاً؛ لأنه إذا جلس عليه تنجس به؛ ولأنه نجس وإذا قام سيتطاير عليه البول.
(واجلس وقم إن تعكس) إذا كان رخواً طاهراً فيجوز لك القيام، ويجوز لك الجلوس.
قال المصنف رحمه الله:
[وجاز الاستجمار من بول ذكر كغائط لا ما كثيراً انتشر]
يجب على الإنسان إزالة أثر النجاسة، وقد سبق أن آلات الطهارة ووسائلها ثلاثة أقسام: الماء والصعيد الطاهر وغير الطاهر.
إذاً المزيل هو الذي يستجمر به، والاستجمار أصله استعمال الجمار، والجمار هي الحجارة، وذلك أن اليابس الذي هو حجر هو أفضل ما يستجمر به، فإذا كان مع الماء فذلك أكمل، والجمع بين الماء والحجر هو أكمل شيء في الاستجمار، فإن لم يجد استعمل الماء وحده، فإن لم يجد استعمل الحجر وحده، فإن لم يجد استعمل اليابس غير الحجر.
وما يستجمر به له شروط:
الأول: أن يكون طاهراً، فلا يستجمر بالنجس؛ لأن (النبي صلى الله عليه وسلم رمى الروثة وقال: إنه ركس)، فالنجس لا يطهر به مطلقاً.
الثاني: أن يكون منقياً، فإن كان أملس شديد الملوسة، بحيث يدلك النجس في المحل ولا يزيله، فهذا لا يتطهر به ولا يستجمر به، فلا بد أن يكون مزيلاً للأثر.
الثالث: ألا يكون مؤذياً، فإن كان حديداً أو فيه ضرر على الإنسان استخدامه، مثل الحديد الذي فيه صدأ كأن يصاب به الإنسان منه بالمرض، وكذلك يمكن أن يجرحه فهذا لا يستخدم في الاستجمار.
الرابع: ألا يكون محترماً. والمحترم الذي لا يجوز الاستجمار به هو أربعة أمور: المطعوم مطلقاً، فالطعام ولو كان قد أصبح مستخدماً كالخبز اليابس لا يجوز الاستجمار به؛ لأن الطعام محترم شرعاً، والمكتوب، أي: كل ما كتب فيه شيء أياً كان بأيّة لغة كانت لا يجوز الاستجمار به؛ لأن الكتابة قد تكون فيها اسم الله، وقد يكون فيها اسم محترم شرعاً، وهكذا بأية لغة كانت، فكل ما فيه كتابة فهو محترم شرعاً لا يستجمر به.
وكذلك الذهب والفضة فقد جعلهما الله قيماً للأشياء، وهذا يقتضي احترامهما، ولذلك قال الله تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً [النساء:5] وفي القراءة الأخرى ( قِيَما)، فهذه الأموال جعلها الله قيما للبشر، جعلها قياماً، أي: قواماً لأمر الدنيا، ولذلك هي محترمة شرعاً فلا يجوز الاستجمار بها.
إذاً الصور أربع: الأولى: الجمع بين الماء والحجر، الثانية: استعمال الماء وحده، الثالثة: استعمال الحجر وحده، الرابعة: استعمال المزيل غير الحجر اليابس غير الحجر.
(وجاز الاستجمار من بول ذكر) أي: يكفي، فجاز هنا بمعنى أجزأ، وهو واجب وليس جائزاً، ولكنه مجزئ فقط، أي: إذا استجمر الإنسان من البول بحجر فذلك مجزئ، ولا يلزمه الماء، هذا المقصود هنا، أنه إذا استجمر بحجر فمسح أثر البول فذلك مجزئ، وهذا في بول الذكر بخلاف بول المرأة فلا بد فيه من الاستنجاء بالماء لأنه ينتشر، فيتجاوز محل خروجه بخلاف بول الذكر فإنه لا يتجاوز محل خروجه.
(كغائط لا ما كثيراً انتشر) أي: يجوز الاستجمار بمعنى يجزئ من الغائط إذا لم ينتشر، فإذا لم يتجاوز محل خروجه أجزأ الاستجمار منه فقط بالمسح فيها ثلاثة أحجار، أو بحجر واحد بثلاثة أوجه منه، فالحجر الواحد إذا كان كبيراً يمكن أن يستجمر به الإنسان ثلاثاً، وإذا كانت الحجارة صغيرة فلا بد من الاستجمار بثلاثة أحجار إن وجدها، وإلا استعمل حجرين كما في حديث ابن مسعود، فالعبرة بالإنقاء، أي: بإزالة الأثر، ولذلك قال: (كغائط لا ما كثيراً انتشر) أي: لا يجزئ الاستجمار من الغائط الذي انتشر كثيراً، أي: تجاوز محلّه.
بعد أن انتهى المؤلف رحمه الله من أحكام الوضوء، وقد ذكر فرائضه وسننه ومندوباته ومكروهاته، وذكر بعد ذلك مبطلاته التي هي نواقضه، بدأ بأحكام الطهارة طاهرة الحدث الكبرى، وهذا الفصل الذي كان لدينا الآن وهو أحكام الاستطابة ودخول الخلاء، هو من طاهرة الخبث لا من طهارة الحدث، ولكنه مرتبط بها، ولذلك ذكر معها، فرجع إلى طهارة الحدث الكبرى فقال المصنف:
[فصل فروض الغسل قصد يحتضر فور عموم الدلك تخليل الشعر]
(فصل) كلمة فصل من البيت، (فروض الغسل) الفروض جمع فرض، ومعناه الواجبات، والغُسل بضم الغين وهو اغتسال الإنسان، فهو اسم مصدر اغتسل يغتسل اغتسالاً هو المصدر، وغُسلاً هذا اسم المصدر، أما الغَسل فهو الفعل في الغير كغسل الثوب وغسل اليد، ويقال: غسل وجهه غسلاً، ولكن يقال: اغتسل هو غسلاً بالضم، أي: اغتسالاً.
(قصد يحتضر) أي: النية، فهي ركن من أركانه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى).
وقوله: (يحتضر) أي: يستصحبه الإنسان عند بداية الغسل.
(فور) أي: موالاة، فلا بد أن يكون الغسل متوالياً، فإن غسل يديه ثم خرج إلى عمله فعاد يريد إكمال الغسل، فلا بد من الاستئناف من جديد، وكذلك إذا غسل وجهه أو رأسه، ثم أراد الإكمال بعد مدة فلا بد من أن يبدأ من جديد. إذاً لا بد من الفور وهو الموالاة.
وقد سبق أن ما يقطع الفورية من الوقت هو بيبس الأعضاء في زمان معتدل، وهذا الذي قيده هو به قال: (بيبس الأعضا في زمان معتدل)، فيبس الأعضاء في زمان المدة التي تقطع الموالاة هي يبس الأعضاء في الزمان المعتدل والشخص المعتدل والمكان المعتدل كما سبق.
(عموم الدلك) أي: أن يعم الإنسان بدنه بالغسل بصب الماء والدلك معاً، أما بصب الماء فهو محل اتفاق، وأما الدلك فهو محل خلاف كما سبق في الوضوء.
(تخليل الشعر) كذلك من فرائض الغسل أن يغسل الإنسان شعره وما تحت الشعر من بدنه، وهذا المقصود بالتخليل، أي: أن يدخل الماء في داخله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غسل رأسه من الجنابة، بلّ أصابعه فأدخلها حتى يوصلها إلى أصول شعره، ثم يصب عليه بشيء كالقلاب يبدأ به، أي: يأخذ شيئاً فيغترف به، فيصب على رأسه، حتى إذا ظن أنه سقى أصول شعره أو روّى أصول شعره، أفاض عليه ثلاث غرفات، ثم يدلكه، وهذا مبالغة في التنقية والتطهير، وهذا يشمل شعر الرأس وشعر اللحية، فلا بد من تخليله، لكن إذا كان مضفوراً فلا يلزم نقضه سواء كان لرجل أو امرأة، فالضفر يجوز للرجال، وهو من سنة النساء، فإذا كان الشعر مضفوراً فلا يجب نقضه لكن يلين حتى يدخل فيه الماء، فإذا دخل فيه الماء فذلك كافٍ، ومحل هذا إذا لم يكن مضفوراً بغيره، فإن كان موصولاً بخيوط أو نحوها لزم نقضه.
وكذلك في المسح عليه إذا مسحت المرأة على رأسها، فإن كان موصولاً بشيء يغطيه ويستره مثلما يحزم به الشعر، فإن كان ذلك الذي يحزم به الشعر كثيراً يغطي ثلثه أو ربعه فلا بد من إزالته، وإن كان شيئاً يسيراً مثل حزمة واحدة أو اثنتين أو شيء يسير لا يغطي ربع الرأس، فإنها تمسح من فوقه ثم تعيد المسح من تحت الشعر فقط.
ورتب على عموم الدلك قول المصنف:
[فتابع الخفي مثل الركبتين والإبط والرفغ وبين الإليتين]
(فتابع الخفي) معناه احرص على أن تغسل الخفي، أي: ما غار من البدن.
(مثل الركبتين) أي: تكاميشهما، فالركبتان إذا قام الإنسان حصلت فيهما تكاميش، فما كان بداخلها لا يصل إليه الماء، ولذلك لا بد أن ينحني الإنسان حتى تزول تكاميش ركبته ليغسلها.
وكذلك قفا الركبة فإنه من المواضع الغائرة فلا بد أن يتابعه الإنسان.
وكذلك الإبط لا بد من متابعته؛ لأنه من الأمور الخفية وينبع عنه الماء.
وكذلك الرفغ فإنه من الأماكن الخفية وهي المغابن، فينبع عنه الماء فلا بد من متابعته، والإنسان القائم لا بد أن يبقى تثنٍ في رفغيه في الغالب، فإذا باعد بين فخذيه استطاع أن يغسل رفغيه بإحكام.
وكذلك بين الإليتين، أي: ما بين الإليتين، أي: الوركتين فما بينهما من التكاميش، أي: تكاميش الدبر، فلا بد من إيصال الماء إليه والدلك، وهكذا إذا كان في الإنسان جرح غائر، أو كان فيه موضع خلق غائراً أصلاً فلا بد من إيصال الماء إليه، حتى لو كان الجرح في رأسه وقد نبت عليه شعر كان فيه انحناء أو انثناء فلا بد أن يوصل الماء إليه.
ومثل ذلك ثقب الأذن إذا كانت أذنه مثقوبة، فإنه يوصل الماء إلى داخل الثقب؛ لأنه من ظاهر الجسد الذي يلزم غسله، ولكن لا يلزم دلك ما بداخل الثقب فيكون ذلك مثل الاستنشاق في الأنف.
قال المصنف رحمه الله:
[وصل لما عسر بالمنديل ونحوه كالحبل والتوكيل]
(وصل) أي: توصل (لما عسر) من البدن الوصول إليه في الدلك (بالمنديل) وهو المنشفة (ونحوه كالحبل) أي: كاستعمال حبل، (والتوكيل) كذلك إذا كان الإنسان عاجزاً عن غسل ما بين كتفيه، فيجوز له أن يوكل زوجته على دلك ذلك، أو أن يستعين من يستعين به إذا كان مستتراً؛ قد ستر ما بين سرته وركبته يجوز له أن يوكل من يغسل له بين كتفيه، هذا إذا كان عاجزاً عن الوصول إليه.
والدلك في الغسل حكمه حكم الدلك في الوضوء، وقد سبق الخلاف فيه هل هو لتحقق وصول الماء إلى الأعضاء أو هو واجب لذاته، وهذا الخلاف راجع إلى أمر لغوي، وهو هل يدخل الدلك في معنى الغسل في اللغة.
ثم ذكر سنن الغسل فقال:
[سننه مضمضة غسل اليدين بدءا والاستنشاق ثقب الأذنين
مندوبه البدء بغسله الأذى تسمية تثليث رأسه كذا]
هذا معناه أن للغسل سنناً بعد الواجبات، ومن هذه السنن: المضمضة والاستنشاق والاستنثار في الوضوء، وقد سبق الخلاف فيهما بين الوجوب في الغسل والوضوء معاً، وبينا عدم الوجوب فيهما، أي: السنية فيهما كما هو المذهب المالكي هنا، والتفريق بين المضمضة والاستنشاق، فجعل الاستنشاق واجباً لحديث: ( فليجعل في أنفه ماء ثم لينتثر)، وأصل الأمر الدلالة على الوجوب، وأن الأنف أيضاً من ظاهر الوجه؛ لأنه ليس يطبق بخلاف الفم، فداخل الفم مطبق ولا يظهر عادة.
(غسل اليدين بدءاً) كذلك غسل اليدين بدءاً، أي: قبل إدخالهما في الإناء، فهو سنة، والاستنشاق قد سبق وكذلك الاستنثار.
(ثقب الأذنين) أي: مسح ثقب أذنيه وهو صماخ الأذنين فيمسح.
قال المصنف رحمه الله:
[مندوبه البدء بغسله الأذى تسمية تثليث رأسه كذا
تقديم أعضاء الوضوء قلة ما بدء بأعلى ويمين خذهما]
(مندوبه البدء بغسله الأذى) معناه: مندوبات الغسل، وقد أفرد المندوب هنا مع أنه متعدد، ولكنه مضاف إلى الضمير، والمفرد إذا أضيف إلى الضمير يعم، والنكرة إذا أضيفت إلى الضمير تعم دائماً، ومن ذلك قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ[الأحزاب:50]، فهنا قال: (وبنات عمك) وهو مفرد مضاف إلى الضمير فيعم، ولا يقصد به عم واحد، وكذلك خالك فهو مفرد مضاف إلى الضمير فيعم، ومن هذا قول الشاعر:
بها جيف الحسرى فأما عظامها فبيض وأما جلدها فصليب
(بها جيف الحسرى) أي: البهائم الهالكة من شدة القحط.
(فأمها عظامها فبيض وأما جلدها) الحسرى ليس لها جلد واحد، لكن المقصود جلودها، فلما أضيفت النكرة إلى الضمير عمت (أما جلدها فصليب).
وقوله: (مندوبه البدء بغسله الأذى) أي أن يبدأ الإنسان بغسل فرجه ومذاكيره وذاك منه، أي: مواضع النجاسة منه، لما ثبت في حديث ميمونة (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اغتسل غسل يديه ثم غسل مذاكيره وذاك منه)، أي مواضع النجس منه، وكذلك في حديثها أيضاً غسل ما أصابه من أذى المرأة، أي: من النجس، وكذلك في حديث عائشة بدؤه بغسل فرجه، وذلك مندوب أن يبدأ الإنسان بغسل الفرج؛ لأنه سيتوضأ ويندرج وضوءه في غسله، وإذا أخر غسل الفرج فسينتقض وضوءه بمسه كما سبق.
(تسمية) كذلك من مندوبات الغسل التسمية، وهي أن يذكر اسم الله تعالى قبله؛ لأنه بمثابة الوضوء، وقد سبق أن الوضوء يندب فيه التسمية، وذكرنا أن الحديث الذي ورد في ذلك لا يصح وهو: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه).
(تثليث رأسه كذا) معناه أن من مندوبات الوضوء أن يثلث غسل رأسه إذا كان عليه شعر؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، والتثليث معناه أن يغرف عليه ثلاث غرفات فيدلكه مع كل غرفة، أما إذا كان قد حلق رأسه، فلا يطلب منه هذه الغرفات الثلاث إلا على الاحتياط فقط؛ لأنه محلوق الرأس ولا يحتاج إلى متابعة، وهذه الغسلات والدلكات إنما هي للشعر لا لمجرد بشرة الرأس، فليس لها خصوصية عن سائر بشر الإنسان مثل كل أعضائه الأخرى إذا كان رأسه محلوقاً فهو مثل منكبه.
(تقديم أعضاء الوضوء) كذلك من المندوبات في الغسل أن يبدأ الإنسان بأعضاء وضوئه فيتوضأ وضوءه للصلاة، أي: مثل وضوئه للصلاة أن يغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، وكذلك يمسح برأسه، وإن شاء عجل غسل رجليه في أول غسله، كما إذا كان في مكان نظيف، وإن شاء أخرهما، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل أخر غسل رجليه حتى يخرج من مغتسله، فيغسلهما لئلا يبق أثر التراب فيهما، ولذلك يجوز تأخير غسل الرجلين في نهاية الغسل، ويجوز تعجيلهما مع أعضاء الوضوء.
(قلة ما) أي: من مندوبات الغسل تقليل الماء وعدم الإسراف فيه؛ لأن الله تعالى نهى عن السرف فقال: وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأنعام:141]، وقد (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ بمد ويغتسل بصاع)، والمد هو ملء اليدين المتوسطتين غير مقبوضتين ولا مبسوطتين، والصاع هو أربعة أمداد بمد النبي صلى الله عليه وسلم.
(بدء بأعلى ويمين خذهما) كذلك من مندوبات الوضوء بدأ بأعلاه، فيبدأ بعد أعضاء الوضوء برقبته ثم بعاتقه الأيمن وهكذا بعضده، ويبدأ الإنسان بظاهر العضو قبل باطنه، والإنسان إذا أراد أن يغسل يده يغسل ظاهرها أولاً قبل باطنها، وكذلك إذا أراد أن يغتسل غسل ظهره أولاً قبل بطنه؛ لأن الجسد كله بمثابة اليد، واليد يغسل ظاهرها قبل باطنها، وكذلك في الاغتسال يبدأ بظاهره قبل باطنه ندباً.
(بدأ بأعلى ويمين) أي: يبدأ بالجانب الأيمن منه ندباً؛ لما ثبت في هيئة غسل النبي صلى الله عليه وسلم، فيقسم الإنسان نفسه، فيغسل شقه الأيمن، وإذا توقف إلى الركبة ثم غسل شقه الأيسر إلى الركبة، ثم غسل ساقه اليمنى ثم غسل ساقه اليسرى فذاك أيضاً.
(خذهما) أي: خذ هذين المندوبين.
قال المصنف رحمه الله:
[تبدأ في الغسل بفرج ثم كف عن مسه ببطن أو جنب الأكف
أو إصبع ثم إذا مسسته أعد من الوضوء ما فعلته]
إذا أردت الاغتسال فإنك تبدأ بالغسل في الفرج كما سبق، ثم إذا غسله الإنسان لا بد أن يكف عن مسه؛ لأن مسه ناقض للوضوء، وإذا مسه فعليه أن يتوضأ بعد غسله، والأصغر يندرج في الأكبر، والطهارة الصغرى مندرجة في الكبرى، فإذا اغتسل الإنسان فذلك كافٍ له عن الوضوء، ولكن إذا مس ذكره بعد اغتساله فذلك ناقض للوضوء، فيحتاج إلى تجديد للوضوء بعد نهاية الغسل.
(ثم كف عن مسه) أي: مس الفرج (ببطن أو جنب الأكف)، فالذي ينقض هو مسه ببطن أو جنب لكف أو إصبع، أما ظاهر الكف إذا لم يحس فلا يضر مس ذكره ولا ينقض، وكذلك مس الذكر بالساعد دلكه لا ينقض الوضوء.
والأكف جمع كف وكذلك الأصابع.
(أو إصبع) معناه: ببطن أو جنب أصبع أيضاً، فإذا مسست الذكر فهو ناقض للوضوء بسبب ذلك.
ثم ذكر موجبات الغسل، أي: ما يلزم منه الغسل فقال:
[موجبه حيض إنفاس إنزال مغيب كمرة بفرج إسجال ]
يوجب الغسل أربعة أمور هنا، والخامس سنذكره أيضاً.
الأمر الأول: خروج دم الحيض.
والحيض مصدر حاض الوادي إذا سال، والمقصود به الدم الجاري بنفسه من قبل من تحمل عادته، والدم الجاري بنفسه بخلاف الدم الذي جرى لموجب كوطء أو جرح، من قبل من تحمل، بخلاف الدم الذي جرى من غير القبل كالدبر ونحوه، فلا يكون حيضاً، من قبل من تحمل عادة بخلاف الصغيرة جداً، وكذلك الآيسة الكبيرة فما جرى منها يعتبر دم علة وفساد، أي: استحاضة ولا يعتبر حيضاً.
والحيض إنما يوجب الغسل انقطاعه، أي: عند نهايته يلزم الغسل منه، وسواء كان هذا الحيض مستمراً لوقت أو قصر وقته، فمذهب المالكية أن أقل الحيض قطرة واحدة، فإذا قطرت قطرة واحدة في وقته فإنهم يعتبرونها حيضاً، ثم تغتسل المرأة بعدها، فإذا عاد إليها الحيض مرة أخرى اعتبرت المنع، فإذا انقطع عنها اغتسلت أيضاً وهكذا.
(إنفاس) هذا الموجب الثاني من موجبات الغسل وهو النفاس، وهو تنفس الرحم بالولد، فإذا ولدت المرأة فانقطع عنها دم الولادة، فإنه يلزمها الغسل كذلك، وإذا استمر عليها الدم فإنها تجلس له.
وقد اختلف في المدة، فمذهب الجمهور أنها تجلس أربعين يوماً، وإذا استمر فوق أربعين تغتسل ولا تبالي به تصلي وتصوم. ومذهب مالك أن دم النفاس يمكن أن يستمر إلى ستين يوماً، وهذا الخلاف أيضاً نظيره الخلاف في أقل الطهر وأكثره، وفي أقل الحيض وأكثره، فكل ذلك محل خلاف؛ لأن المرجع فيه إلى العادة، ودليل الرجوع في ذلك إلى العادة قول النبي صلى الله عليه وسلم لـفاطمة بنت أبي حبيش: (تحيّضي ستاً أو سبعاً في علم الله)، فدل هذا على أن عادة النساء مختلفة إما ست وإما سبع، أي: ليالٍ، ولا يعد في ذلك يوم ابتدائه ويوم انتهائه؛ لأنه مشكك فقد يأتي الحيض في أول النهار، وقد يأتي في وسطه، وقد يأتي في آخره، واليوم الذي يأتي فيه الحيض عادة لا ينضبط مجيئه فيه بوقت محدد.
وقد اختلف أهل العلم في أقل الحيض، وقد سبق أن المالكية يرون أن القطرة الواحدة تعتبر حيضاً، وغيرهم من أهل العلم يرى أنه لا بد أن يكون شيئاً معتبراً، فلا يكفي الخيط أو القطرة الواحدة، بل لا بد أن ينزل دم.
وكذلك اختلف في أطول مدته، ومذهب الجمهور أن أطول مدة الحيض خمسة عشر يوماً، وذلك في حق غير الحامل.
وقد اختلف في الحامل هل تحيض أم لا؟
فمذهب المالكية أنها تحيض، وأن ما يخرج منها من الدم إذا جاء في وقت عادتها فهو حيض، وذلك أنه دم جاء في وقت العادة، فدل ذلك على أنه حيض.
ويرى الشافعية والحنابلة أن ما يخرج من الحامل لا يعتبر حيضاً، بل يعتبر استحاضة، فلا يلزم به غسل، ومع ذلك يندب الغسل به لئلا يكون حيضاً.
والحامل إذا كانت قبل ثلاثة أشهر فهي مثل غيرها أكثر مدة حيضها خمسة عشر يوماً، فإن كانت بعد ستة أشهر فإن الحيض قد يستمر بها أكثر من ذلك، فيصل إلى عشرين يوماً، واختلف فيما بين ثلاثة أشهر وستة أشهر، وهو الأشهر الثلاثة الوسطى من الحمل، هل تعتبر كما قبل الثلاثة أو كما بعد الستة؟ هذا محل خلاف عند المالكية وليس فيه ترجيح، والعبرة بذلك بعادة النساء، وهي تختلف من بلد إلى بلد وباختلاف التغذية.
ونظير هذا ما ذكرناه من الخلاف أيضاً في النفاس، فـمالك رحمه الله رأى أنه يمكن أن يستمر الدم ستين يوماً، والشافعية والحنابلة رأوا أنه لا يستمر إلا أربعين يوماً، وما زاد على ذلك يعتبر استحاضة لا حيضاً.
(إنزال) هذا الموجب الثالث من موجبات الغسل، وهو الإنزال، أي: خروج المني من الإنسان بلذة، فإذا خرج المني من غير لذة لعلة لمرض أو للسع عقرب، أو للذة غير معتادة، كحك الرحل ونحوه، فهذا لا يلزم به الغسل، إنما يلزم الغسل بمني خارج بسبب اللذة المعتادة، سواء قل المني أو كثر.
ومحل وجوب الغسل إذا خرج من ذكره، أما إذا تحرك في محله ولم يخرج فلا يلزم منه الغسل.
السبب الرابع: (مغيب كمرة بفرج) الكمرة هي رأس الذكر، فإذا غاب بفرج مطلقاً (إسجال) أي: مطلقاً، الإسجال الإطلاق، فهذا يشمل كل فرج سواء كان قبلاً أو دبراً، وسواء كان من إنسان أو من حيوان، وسواء كان من حي أو ميت، فكل ذلك موجب للغسل، فإذا وطء ميتةً فغابت كمرته فيها فذلك موجب للغسل.
وبقي سبب خامس من موجبات الغسل وهو إسلام الكبير، فمن كان كافراً كبيراً فأسلم فيلزمه الغسل، بخلاف الصبي إذا أسلم فلا يلزمه الغسل؛ لأنه غير مكلف أصلاً، لكن الكبير لا بد أن يكون قد جرى عليه موجب للغسل في كفره، والرجل الكبير أو المرأة الكبيرة البالغة لا بد أن يكون جرى عليها سبب للغسل، إما حيض، وإما نفاس، وإما جماع، وإما إنزال، فيلزمه أن يغتسل إذا دخل الإسلام، وهذا الغسل يجزئ قبل النطق بالشهادتين، والأصل أن يكون بعد النطق بهما؛ لأن الإسلام هو بالنطق بالشهادتين، وقبل أن ينطق بهما لا فائدة في عمله، فإذا نطق بالشهادتين من الآن فصاعداً أصبحت أعماله الصالحة تكتب له ومنها الغسل، ولكن مع ذلك إذا كان قد عزم على النطق بالشهادتين واقتنع بالإسلام فاغتسل قبل النطق بهما فذلك الاغتسال مجزئ ومسقط للوجوب.
قال المصنف رحمه الله:
[والأولان منعا الوطء إلى غسل والآخران قرآناً حلا
والكل مسجداً وسهو الاغتسال مثل وضوئكم ولم تعد موال]
(والأولان) هما الحيض والنفاس، (منعا الوطء إلى غسل) لا يحل وطء المرأة في حيضها ولا في نفاسها، لقول الله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222]، وقراءة الجمهور على ما ذكرنا: (ولا تقربوهن حتى يطهرن)، والطهر يقع بالجفوف وبالقصة البيضاء، وفي قراءة أخرى: (حتى يطّهرن) أي: يتطهرن، وهذه القراءة يفسرها قوله: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ[البقرة:222]، فهو تصريح بالمفهوم.
ومحل هذا إذا كانت المرأة قادرة على الغسل، فإذا كانت مريضة لا تستطيع الاغتسال فطهرت، فتيممت للصلاة، فقد ذهب ابن عباس وعدد من أهل العلم إلى أنه يجوز وطئها حينئذٍ، قال ابن عباس: الصلاة أكبر من الوطء، وإذا استباحت الصلاة، فالصلاة أكبر من الوطء. وهذا مذهب ابن شعبان من المالكية؛ فإنه يرى أن الحائض إذا كانت لا تستطيع الغسل فتيممت، فتيممها مبيح لوطئها.
(والآخران قرآناً حلا) الآخران وهما الإنزال ومغيب الحشفة بالفرج (قرآناً حلا) أي: منعا قراءة القرآن، فالجنب لا يحل له أن يقرأ القرآن، والجميع يمنع دخول المسجد ولذلك قال: [والكل مسجداً]، فيشمل ذلك الطواف ودخول المسجد لغير ذلك. نكتفي بهذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على النبي محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر