إسلام ويب

آداب طلب العلمللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تخصصات العلوم الإسلامية التي اشتغل بها العلماء كثيرة، ومن تعلمها، فوصل إلى حد متوسط من إدراكها، واستطاع تدريس كل واحد من هذه العلوم فهو (العالم)، ومن تخصص في بعضها لم يستحق هذا اللقب، وإنما يستحق أن يدرج في حملة العلم والمتخصصين في بعض جوانبه دون بعض. وعلى طلاب العلم أن يعطوا هذا العلم حقه من الاهتمام والعناية، وأن يحرصوا على آدابه ووسائله وشروطه، وأن يستشعروا فضله ومزيته.

    1.   

    العلم والآداب

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه لطلب العلم، وبعد:

    العناصر التي سأتحدث عنها في هذا الدرس هي:

    العنصر الأول: فضل العلم وأهله.

    العنصر الثاني: أجر طلب العلم وتعليمه.

    العنصر الثالث: الكتب العلمية وفضلها.

    العنصرالرابع: شروط طلب العلم.

    العنصر الخامس: وسائل تحصيل العلم.

    العنصر السادس: أنواع العلوم.

    1.   

    فضل العلم وأهله

    العنصر الأول: فضل العلم وأهله:

    إن الله سبحانه وتعالى قد رفع قدر العلماء فأنزلهم أعظم منزلة حين استشهدهم على أعظم شهادة -بعد أن شهد بها، وأشهد بها ملائكته- فقال تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ[آل عمران:18] .

    وأخبر أنهم وحدهم هم الذين يخشونه حق خشيته فقال: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ[فاطر:28] .

    وحكم لصالحهم على من سواهم في قوله: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ[الزمر:9] .

    وأخبر أنهم وحدهم المؤهلون لفهم كتابه فقال: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ[العنكبوت:43] .

    وأخبر أنه يرفع درجاتهم في الدنيا والآخرة فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ[المجادلة:11] .

    ولم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالازدياد من شيء إلا من العلم فقال: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا[طه:114] .

    وقد نوَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه المكانة للعلم وأهله في عدد كبير من الأحاديث منها:

    ما أخرجه البخاري في الصحيح من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه).

    ومنها ما أخرجه البخاري في الصحيح من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله المعطي، ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك).

    ومنها ما أخرجه مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلاّ نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه).

    وأخرج البخاري كذلك في الصحيح من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا، فكان منها طائفة نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وأصاب منها طائفة أخرى أمسكت الماء على الناس فسقوا ورعوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت عشبًا، فذلك مثل من نفعه الله بما جئت به فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم ينفعه هدى الله الذي أرسلت به).

    وأخرج أصحاب السنن وأحمد في المسند وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو عالمًا أو متعلمًا).

    وقال: (..وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له كل شيء حتى الحيتان في الماء)، وفي الحديث: (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم).

    وهذه المنزلة العالية إنما استحقها حملة العلم لأنهم ورثة الأنبياء، فقد صح عن رسول الله صلى عليه وسلم أنه قال: (العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍ وافر).

    وقد أخرج البخاري تعليقًا ووصله ابن أبي عاصم في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما العلم بالتعلّم، وإنما الحلم بالتحلّم).

    هذه المنزلة التي هي بهذه المكانة ما نالها هؤلاء إلاّ بأن الله سبحانه وتعالى قد اختارهم لائتمانهم على وحيه؛ فالوحي من عند الله ولم يكن ليجعله بدار هوان، ولن يودعه المفلسين، وإنما يختار له أهل العدالة؛ ولذلك أخرج الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث وأبو عمر بن عبد البر في مقدمة التمهيد من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله؛ ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين).

    وهؤلاء هم ورثة الأنبياء، وهم عدول كل خلف، هم شهود الله تعالى على الناس، وهم قادتهم الذين أمر الله بالرجوع إليهم عند الخلاف، فقد قال الله سبحانه وتعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ[النساء:83] ، ولم يقل: لعلموه جميعًا، وإنما أحال العلم على هؤلاء.

    وأحال عليهم -كذلك- عند الجهل فقال: فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ[النحل:43].

    وقد جاء في فضل حملة القرآن بالخصوص أحاديث كثيرة مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أهل القرآن هم أهل الله وخاصّته من خلقه).

    وحملة القرآن هم حملة حروفه وحدوده ومعانيه، وليسوا حملة الحروف فقط.

    1.   

    أجر طلب العلم وتعليمه

    العنصر الثاني: أجر طلب العلم وتعليمه: ورد في هذا الكثير من النصوص، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الاشتغال به عبادة، وأنه كالجهاد في سبيل الله، وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم أجر المشتغل بالتعليم، وما له من المنزلة، وأنه يكتب له أجور من عمل بذلك إلى يوم القيامة، فقد صح عنه أنه قال: (من دعا إلى هدى كان له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا).

    وقال: (بلغوا عني ولو آية).

    وقال: (ليبلغ الشاهد منكم الغائب).

    وقال: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فرُبَّ حامل فقه ليس بفقيه، ورُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه).

    وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بطلبة العلم، فقال: (سيفد عليكم رجال يلتمسون هذا العلم، فاستوصوا بهم خيرًا)فأولئك الذين أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم خيرًا يدل على عظم ما هم مشتغلون به، ومزيته في هذا الدين؛ ولذلك أخرج مالك في الموطأ عن أبي بكر بن عبد الرحمن أنه كان يقول : (من غدا أو راح إلى المسجد لا يريد إلا ليتعلم خيرًا، أو ليعلمه، ثم رجع إلى بيته؛ كان كالمجاهد في سبيل الله رجع غانمًا).

    وقد سئل مالك عن المقرب للقتل الذي لم يبقَ من عمره إلاّ ساعة: في أية طاعة يصرفها؟

    قال: (علم يتعلمه).

    فقيل: يا أبا عبد الله ! إنه لا يعمل به!

    فقال: (تعلمه أفضل من العمل به).

    وقال الشافعي رحمه الله: (طلب العلم أفضل من صلاة النافلة).

    وقد نظم ذلك السيوطي رحمه الله فقال:

    والعلم خير من صلاة نافلة فقد غدا الله برزق كافله

    قال أهل العلم: بالعلم فُضِّل السلف على الخلف؛ لأن كل عالم ورَّث علمه وتركه لمن وراءه فقد استمرت حياته لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاّ من ثلاث:

    علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية).

    فجعل هذا العلم الذي ينتفع به من عمل ابن آدم الذي لا ينقطع، ومن كسبه المستمر.

    ومن هنا فكل منتفع بعلم عالم من الماضين يكتب له أجره وأجر من تبعه على ذلك إلى يوم القيامة؛ وبهذا يعلم فضل السلف على الخلف، كما قال جدي محمد علي رحمه الله:

    وكل أجر حاصلٍ للشهدا أو غيرهم كالعلماء والزُّهَدَا

    حصل للنبي مثله على أجور ما كان النبي فعلا

    مع مزيد عدد ليس يحدُّ وليس يحصي عده إلاّ الأحد

    إذ كل مهتدٍ وعاملٍ إلى يوم الجزاء شيخه قد حصلا

    له من الأجر كأجر العاملِ ومثل ذا من ناقص أو كامل

    وشيخ شيخه له مثلاه وأربع لثالث تلاه

    وهكذا تضعيف كل مرتبة إلى رسول الله عالي المرتبة

    ومن هنا يعلم تفضيل السلف وسبقهم في فضلهم على الخلف

    إذاً: أجر تعليم العلم عظيم؛ لأن المعلم إنما يبلغ عن الله تعالى، وينوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبليغ رسالات ربه، ولأن المفتي كذلك يوقع عن رب العالمين.

    وهذه المنزلة العظيمة لا شك أن خطرها عظيم، فكذلك أجرها يكون بهذه المنزلة.

    1.   

    الكتب العلمية وفضلها

    كتابة الحديث

    أما العنصر الثالث: ما يتعلق بالكتب العلمية وفضلها.

    فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد نهى أن يكتب عنه غير القرآن فقال: (لا تكتبوا عني غير القرآن، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه)وكان ذلك خشية أن يجعل في القرآن ما ليس منه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم كما فعل النصارى حين أدرجوا كلام المسيح بن مريم وكلام الحواريين في الأناجيل.

    وبعد هذا أذن النبي صلى الله عليه وسلم في الكتابة عنه فقد أذن لـعبد الله بن عمرو بن العاص أن يكتب ما يسمع منه، وأذن لـأبي هريرة -كذلك- في كتابة الصادقة، وهي صحيفة كانت عنده، كتبها من في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ابن عمرو يسمي صحفه أيضًا بالصادقة، وقال: (لولا الصادقة والوهط والوفيط ما حرصت على شيء من هذه الدنيا) والوهط والوفيط: أرضان لـعمرو بن العاص وقفهما على الفقراء وجعل نظارتهما إلى ابنه عبد الله، وهما بجنوب الطائف، والصادقة التي كتب فيها من في رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا العلم.

    وكذلك فإن النبي صلى لله عليه وسلم قال: (اكتبوا لـأبي شاه)وهو رجل من أهل اليمن، حضر حجة الوداع فسمع خطبة النبي صلى لله عليه وسلم وتعليمه للناس فلم يحفظ ذلك، فسأله أن يأمر أصحابه أن يكتبوا له، فأمرهم أن يكتبوا له.

    ومن معجزات النبي صلى لله عليه وسلم أن أصحابه لما نهاهم عن الكتابة عوضهم الله بالحفظ العجيب فكان أحدهم يسمع الخطبة بطولها فيحفظها كما هي، ويحفظ الحديث الطويل بألفاظه دون أن يحرف شيئًا من ذلك، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعينهم على الحفظ بالتَّرَسُل في الكلام، وقد كان لا يهذُّ الكلام هذًّا، وإنما قوله الفصل، فلو أراد إنسان أن يعد كلماته لفعل، وكان أيضًا في خطبه يرفع صوته، فقد كانت خطبه تسمع من البلاط، والبلاط خمسمائة متر من المسجد.

    وفي الحديث: (كان إذا خطب علا صوته، واحمرت عيناه، واشتد غضبه كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم)وذلك أبلغ لاستقرار ذلك في النفس.

    ومثل هذا في تغييره للمنكر ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرة سافرناها بين مكة والمدينة فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح أقدامنا، وجعلت أعقابنا تلوح؛ فنادى بأعلى صوته مرتين أو ثلاثًا: (ويل للأعقاب من النار، ويل للأعقاب من النار)، وكذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ويل للأعقاب من النار) ورفع بها صوته.

    وفي حديث عائشة رضي الله عنها أنها يوم مات سعد بن أبي وقاص دخل عليها أخوها عبد الرحمن يتوضأ في حجرتها فقالت: يا عبد الرحمن ! أسبغ الوضوء فإني رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ويل للأعقاب من النار).

    فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرر الكلام حتى يفهم عنه كما في حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان إذا سلم على قوم سلم عليهم ثلاثًا، وإذا تكلم بالكلمة أعادها ثلاثًا؛ لتفهم)أي: لتحفظ.

    وكان أصحابه يراجعون بعض محفوظاتهم عليه كما ثبت في الصحيح من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه دعاء النوم، وأن يجعل آخر كلامه قبل أن ينام هذا الدعاء وهو: (اللهم! أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك؛ رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت) قال البراء : فأعدت عليه فقلت: وبرسولك الذي أرسلت. فقال: (لا. وبنبيك الذي أرسلت).

    تاريخ تدوين الحديث

    أول ما بدأ تدوين الحديث أن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز أمر بذلك عندما زالت العلة التي من أجلها كان النهي، فقد دونت المصاحف، وكثر حملة القرآن، وأمن أن يخلط بغيره؛ فأمر عمر بن عبد العزيز بتدوين السنة وكتابتها، وتجرد لذلك عدد من الرجال منهم: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، وكان من أحفظ هذه الأمة، وكان لا يرى كتابة الحديث في البداية، ولكنه اقتنع أخيرًا بكتابته، ويقال: إنه لم يقتنع بكتابته في أيام عمر بن عبد العزيز وإنما اقتنع في أيام هشام بن عبد الملك ؛ وذلك أن هشاماً دعاه فجلس معه على فراشه، وجعل رجالاً من وراء الستر، وأمرهم أن يكتبوا كل حديث يحدثه به الزهري ، فقال له هشام : إني أريد أن تحدثني بأربعمائة حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسنادك فيها، فأمسك بيده فحدثه بأربعمائة حديث يعدها، وكتبها أولئك الرجال، فتركه سنة ثم دعاه إلى مجلسه وخلا به، فقال: أريد أن تعيد علي ما حدثتني به العام الماضي فإني قد نسيته، وأمر رجالاً أن يكتبوا أيضًا من وراء الستر، فحدثه بالأحاديث كما هي بترتيبها، ولم يقدم واحدًا ولم يؤخره ولم يغير منها شيئًا، فقارن أمير المؤمنين هشام بين ما كتبه الرجال في العام الماضي وما كتبه هذا العام فلم يجد أي فرق، فعرض ذلك على الزهري، ومن هنا اقتنع الزهري بكتابة الحديث.

    بدأ تدوين وكتابة الكتب من ذلك العصر، ولكن إنما ألفت بأسماء وتصانيف وبوبت في أيام أتباع التابعين، واختلف في أول من ألف، لكن اشتهر في كل مدينة بعض المؤلفين، ففي مكة عبد الملك بن جريج ، وفي المدينة مالك بن أنس ، وفي العراق هشيم الواسطي ، وعبد الملك بن صبيح ، ويزيد بن هارون ، وسفيان الثوري وأضرابهم، واشتهر بالشام الأوزاعي ، وبمصر الليث بن سعد.

    هؤلاء أوائل من ألفوا، ولم يصل إلينا من مؤلفاتهم إلاّ موطأ مالك.

    أهمية الكتابة للعلم

    الكتب أصبحت شرطًا في العلم ومرجعًا له؛ ولذلك قال عبد الله بن المبارك :

    العلم صيد والكتابة قيده

    فلا يمكن أن يحصل على العلم إلاّ بذلك.

    وقال ابن المبارك أيضًا:

    أيها الطالب علمًا ائت حماد بن زيدِ

    فاطلبن العلم منه ثمّ قيّدهُ بقيدِ

    لا كثور وكجهم وكعمرو بن عبيد

    وقد كان خلفاء هذه الأمة ووزراؤها وقادتها يبالغون في الاهتمام بالكتب، وتشجيع أهلها على تأليفها، واشتهر عمل الوراقين في هذه الأمة، وأصبحت الكتب داخلة في كيان هذه الأمة، وأمرًا من حياتها لا يستغنى عنه أبدًا، ولولا ما قيض الله لهذه الأمة من المؤلفين الجهابذة الذين جمعوا العلم في الكتب لضاع علم هذه الأمة، وقد أثنى كثير من الناس على الكتب بسبب أنها حفظت هذا العلم حتى إن أحد الفقهاء يقول:

    لنا جلساء لا يمل حديثهم ألباء مأمونون غيباً ومشهدا

    يفيدوننا من علمهم علم ما مضى وعقلاً وتأديباً ورأياً مسددا

    فلا فتنة نخشى ولا سوء عشرة ولا نتقي منهم لساناً ولا يدا

    فإن قلت أموات فلست بكاذب وإن قلت أحياء فلست مفندا

    1.   

    شروط العلم

    العنصر الرابع: شروط تحصيل العلم؛ فقد ذكر أهل العلم لتحصيل العلم سبعة شروط هي:

    الغربة والرحلة

    الشرط الأول: الغربة والرحلة.

    فما دام الإنسان بين أهله وذويه مشغولاً بهموم دنياه، فقلما يصفو ذهنه، أو يخلص له وقت لطلب العلم، فإذا رحل واغترب وجد وقتًا للطلب؛ ولذلك يقول أحد العلماء:

    سأطلب علمًا أو أموت ببلدة يقلّ بها سكب الدموع على قبرِي

    وموسى كليم الله لم ينل العلم الذي طلبه حتى قال: حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا[الكهف:60] .

    والنبي صلى الله عليه وسلم ما أنزل إليه الوحي حتى (حبب إليه الخلاء، فكان يخلو في غار حراء يتحنث فيه وهو التعبد- الليالي ذوات العدد).

    وقد كان كثير من أهل العلم يؤثر الغربة والرحلة في طلب العلم على ما سوى ذلك.

    وقد اشتهرت الرحلة من أيام الصحابة إلى زماننا هذا:

    فقد رحل أنس بن مالك من البصرة إلى المدينة في طلب حديث واحد، ورحل عبد الله بن أنيس من المدينة إلى الشام في طلب حديث واحد، ورحل أبو أيوب الأنصاري من المدينة إلى مصر في طلب حديث واحد.

    ثم اشتهرت رحلات التابعين بعد هذا وأتباعهم.

    فهذا أمير المؤمنين في الحديث الإمام محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري دخل مدن الدنيا وقراها التي يذكر فيها الحديث على رجليه، وكان قد عمي وهو طفل في الرابعة من عمره فكف بصره، وكانت أمه امرأة صالحة؛ فكانت تتصدق وتجتهد في الدعاء -والناس نيام- أن يرد الله على ولدها بصره، فرد الله عليه بصره، واستيقظ من نومه فإذا هو مبصر، فقالت له: (إن الله رد عليك بصرك لتحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخدمه) فنذر نفسه للاشتغال بهذا الحديث وحفظه، وقيظه الله لذلك، وقد رحل إلى الأمصار كلها في طلب الحديث، حتى إنه خرج من خراسان يقصد اليمن ليدرك عبد الرزاق بن همام الصنعاني ، فلما وصل مكة قيل له: إن عبد الرزاق قد مات، فكر راجعًا إلى البصرة، فلما أتاها قيل: إن عبد الرزاق حي باليمن، فكر راجعًا إلى مكة، حتى لقي من شهد جنازة عبد الرزاق ، وكل ذلك على رجليه!

    وكذلك أحمد بن حنبل ورفيقه يحيى بن معين ورفيقهما إسحاق بن راهويه ، خاضوا مشارق الأرض ومغاربها في طلب الحديث وجمعه.

    وكذلك المكي بن إبراهيم -وهو شيخ البخاري - قال: (كتبت بإصبعيّ هاتين عن ستين من التابعين، ولو علمت أنه كان يحتاج إليّ لزدت).

    والبخاري رحمه الله قد اختار صحيحه من سبعمائة ألف حديث يحفظها.

    وقد ذُكر عن أحمد بن حنبل أنه كان يحفظ ألف ألف حديث بالمكرر.

    وكذلك روي هذا عن أبي زرعة الرازي فقد كان يحفظ ألف ألف حديث.

    وأهل العلم قديمًا يقولون:

    الأهل والجهل سـاكنان في بـلدٍ فاصبر عن الأهل أو فاصبر على الثاني

    التواضع

    الشرط الثاني: التواضع لمن يأخذ الإنسان عنه.

    فإن طالب العلم لابد أن يتواضع، والتواضع من صفات الكرماء:

    وإن كريم الأصل كالغصن كلما تزايد من خير تواضع وانحنى

    وقد أثنى الله به على خيرة خلقه فقال: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا[الفرقان:63] .

    والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله أوحى إلي أن تواضعوا؛ حتى لا يبغي أحد على أحد).

    والذي أحرز العلم لا يمكن أن ينيله ولا أن يعطيه لمن لا يتواضع له؛ لأنه ما ناله إلا بشق الأنفس والتعب الشديد ولهذا قال أحد العلماء:

    ما ابيضّ وجه باكتساب كريمةٍ حتى يسوِّدَه شحوب المطلبِ

    ولذلك لا يمكن أن ينيله لمن لا يحترمه ويقدره، ولهذا فإن موسى عليه السلام قال للخضر عليه السلام: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا[الكهف:66] ، فقال: (هَلْ أَتَّبِعُكَ) بصيغة الاستفهام، ولم يقل: سأتبعك بصيغة القرار، وقال: (عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي) فجعل نفسه طالبًا، وقال: (مِمَّا عُلِّمْتَ) أي: بعض ما علمت، ولم يقل: كل ما عندك، فكان ذلك غاية في التواضع، وهذا التواضع يقتضي الإقبال الكامل على العالم ليأخذ عنه الإنسان علمه، فهذا جبريل عليه السلام لما جاء يعلمنا ديننا جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه؛ وكل ذلك لتمام الإقبال عليه، ليعلمنا أن على المتعلم أن يقبل بكل ذاته على المعلم، حتى يكون مستوعبًا لكل ما يقول، وهذا ما أرشد إليه كثير من أهل العلم، فقد قال أحد العلماء في نصيحته لولده:

    لـ(معي) الهمام اللوذعي الألمعي سِرْ واجمعن علومه في مجمعِ

    وكن الوعاء لما يفوه به (معي) لا تفلتنك كلمة من في (معي)

    (معي ): لقب أحد العلماء في بلادنا.

    حتى الكلمة الواحدة.

    ولهذا قال سحنون لولده عندما أراد السفر إلى المشرق:

    (يا بنيّ! تقدم مصر وفيها ابن القاسم وأصحاب مالك ، وتقدم المدينة وفيها أصحاب مالك ؛ فإذا وجدت كلمة خرجت من دماغ مالك ليس عند أبيك أصلها فاعلم أن أباك قد قصر في الطلب).

    الورع

    الشرط الثالث: الورع.

    والورع: اتقاء الشبهات بعد اتقاء المكروهات والمحرمات.

    وذلك أن العلم نور، ونور الله لا يمكن أن يوضع في المكان الموحش الخرِب، وإنما يختار للسراج الزجاج المضيء اللامع فيوضع فيه، ولهذا قال الشافعي:

    شكوتُ إلى وكيعٍ سوءَ حفظي فأرشَدَني إلى ترك المعاصي

    وأخبَرني بأنَّ العلمَ نورٌ ونور اللهِ لا يُهدى لعاصي

    وروي عنه أنه قال: لما أتيت مالكًا جلست في طرف الحلقة فلما انفضت دعاني فقال:

    (يا بنيّ! إني أرى أن الله قد قذف في قلبك شيئًا من نوره فلا تطفئه بظلمة المعصية).

    وقال ابن عباس : (للمعصية وحشة في النفس، وظلمة في الوجه، وانكماش في القلب) وكل ذلك من آثار المعصية.

    ولذلك لا يمكن أن ينبسط صاحبها مع العلم، وأن يدرك جزئياته.

    الجوع

    الشرط الرابع: الجوع؛ فمن كان مشغولاً بالمآكل والمشارب لا يمكن أن يحرز ما ترفع إليه الرءوس من العلم، فإنهم يقولون: البِطنة تذهب الفِطنة.

    والشافعي يقول: (ما رأيت سمينًا عاقلاً إلاّ محمد بن الحسن الشيباني ).

    والجوع مدعاة لصفاء القريحة، ولعدم الاشتغال عن العلم كذلك.

    المخاطرة في طلب العلم

    الشرط الخامس: المخاطرة في طلبه، فلا ينال الإنسان هذا العلم حتى يخاطر في طلبه، ولذلك فإن موسى عليه السلام ما نال مطلوبه من العلم حتى ركب البحر في سفينة مخروقة.

    مخالفة الهوى ومعصيته

    الشرط السادس: مخالفة الهوى ومعصيته، قد رتب الله على ذلك الفوز بالجنة وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى[النازعات:40-41].

    والمتبع لهواه لا يمكن أن يستغل وقته في طلب العلم؛ لانشغاله باتباع الهوى، وطلب العلم شاق على النفوس، فلذلك يدعو الهوى إلى النوم وإلى الكسل وإلى خلطة الناس، وهذه الأمور لا يُنال معها العلم، فمن كان نوّامًا أو كسولاً أو مخالطًا للناس فلا يمكن أن ينال من العلم الحظ الوافر، ولهذا قال أحد الشعراء:

    قالت مسائل سحنون لقارئها لن تدرك العلم حتى تلعق الصَبِرَا

    لا يدركُ العلم بطَّالٌ ولا كَسِلٌ ولا ملولٌ ولا من يألف البَشَرَا

    (مسائل سحنون) أي: المدونة.

    العمل بالعلم

    الشرط السابع: الاتباع له والعمل به.

    فإن العلم ينادي العمل، فإن أجابه وإلا ارتحل، والعلم كالشجرة والعمل كالثمرة، ولا ثمرة إلا بشجرة، ولا خير في شجرة لا ثمر لها.

    ولذلك قال جدي محمد علي رحمه الله:

    العلم من دون العبادة هبا لا يستقر فحريٌ أن يذهبا

    والعلم في التمثيل مثل الشجرة أما العبادة فمثل الثمرة

    ففضله من جهة وفضلها من جهة ثمرة وأصلها

    وهذه الشروط السبعة نظمها ابن هلال بقوله:

    له تَغَرَّبْ وتواضعْ واتَّرِعْ وَجُعْ وَهُنْ وَاعْصِ هَواك واتَّبِعْ

    1.   

    وسائل الحصول على العلم

    العنصر الخامس: وسائل الحصول على العلم، وهي سبعة كذلك:

    الإخلاص لله سبحانه وتعالى في الطلب

    الوسيلة الأولى: الإخلاص لله سبحانه وتعالى في الطلب، فالله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا[الأنفال:29] ، ويقول: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ[البقرة:282] ، فإذا اتقى الإنسان ربه وأخلص له جعل الله له فرقانًا يميز به بين الحق والباطل، وهذا الفرقان هو بداية الحصول على العلم.

    والإخلاص لله سبحانه وتعالى يزيد بركة الوقت والعمر، وهذا ما يحتاج إليه الطالب للعلم، وهو كذلك يزيد بركة العلم؛ فليس العلم عن كثرة الرواية، إنما العلم ما أدى إلى خشية الله.

    الذكاء

    الوسيلة الثانية: الذكاء، فإن كثيرًا من المسائل لا يمكن أن يفهمها الأغبياء، بل اشتغالهم بها من العبث، والاشتغال بما لا يطاق، فإنما يشتغل بالطلب من كان أهلاً له، كما قال أبو العلاء المعري:

    أرى العنقاء تكبر أن تصادا فعاند من تطيق له عنادا

    وقديمًا قال أحد الفقهاء:

    تصدر للتدريس كل مهوّسِ بليد تسمى بالفقيه المدرسِ

    فحُقَّ لأهل العلم أن يتمثلوا ببيت قديم شاع في كل مجلسِ

    لقد هزلت حتى بدا من هزالها كُلاها وحتى سامها كل مفلسِ

    فمن لم يتأهل لذلك بذكائه فلا يمكن أن يزاحم أهل العلم عليه.

    والذكاء قسمان:

    1- موهوب.

    2- مكتسب.

    فالموهوب منه: ما فطر الله الناس عليه، وقد جعلهم متفاوتين في الذكاء والإدراك.

    والمكتسب منه: ما يحصل بالدعاء والعبادة، وقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إذا استغلقت عليه مسألة وصعب عليه فهمها أقبل على الله بالدعاء، فيجتهد ويقول: (يا مفهم سليمان! فهمني، ويا معلم داود! علمني) ويجتهد بذلك حتى تفتح له المسألة.

    والأذكياء من الطلبة هم الذين يستحقون ما يوقف على طلاب العلم وما يخصص لهم من بيت المال، وقد قال جدي محمد علي رحمه الله:

    من واجب الإسلام جمع مالِ تقضى به حقوق بيت المالِ

    إن لم يكن كحامل علومِ فرض الكفاية من الموسومِ

    بحسن إدراك مع السريرة والطيب في سجية والسيرة

    ومن خلا من هذه الأوصافِ منعه لفقد الاتصافِ

    بل طلب العلم بتلك المرتبة خالٍ من المصلحة المجتلبة

    بل هو من تكليف ما لم يطقِ وعبث في فعله والمنطقِ

    وكل ذين حجروه حجرا فكيف يأخذ عليه أجرا

    ذكره الموَّاق في الإيداعِ فانظر تجده (يوم يدع الداعي)

    علو الهمة

    الوسيلة الثالثة: علو الهمة، فمن كانت همته متدنية اشتغل بما اشتغل به أبناء الدنيا من الحرص على جمعها والحصول على ملذاتها، ولم يكن ليتجرد لطلب العلم وللزوم المشاق، فإنما يصل إلى المشاق من كان من ذوي الهمم العالية، كما وصفت الخنساء أخاها صخر بن عمرو بن الشريد السلمي:

    أعينيَّ جودا ولا تجمدا ألا تبكيان لصخر الندى

    ألا تبكيان الحميد النبيل ألا تبكيان الفتى السيدا

    رفيع العماد طويل النجا د ساد عشيرته أمردا

    إذا القوم مدوا بأيديهم إلى المجد مد إليه اليدا

    فنال الذي فوق أيديهم من المجد ثم غدا مصعدا

    يكلفه القوم ما عالهم وإن كان أصغرهم مولدا

    وإن ذكر المجد ألفيته تأزر بالمجد ثم ارتدى

    وكما قال زياد بن حمل في وصف أحد أصدقائه:

    إلى المكارم يبنيها ويعمرها حتى ينال أمورًا دونها قحمُ

    فمن كانت همته عالية يتجشم الأمور حتى ينال أمورًا لا ينالها إلا المقتحمون.

    وهذه الهمة العالية هي التي ميزت ابن عباس رضي الله عنهما، فقد روي عنه أنه قال: (توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا في العاشرة من عمري، فذهبت إلى لدة لي من الأنصار فقلت: إن الله قد قبض نبيه صلى الله عليه وسلم وإن علمه في أصحابه، فتعال بنا نجمع علم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لعلنا نسد لهذه الأمة يومًا مسدًا تحتاج إليه، فقال: ومتى يحتاج إلينا؟ دعنا نلعب، فذهبت وتركته).

    وما هي إلا سنوات يسيرة حتى أصبح ابن عباس عضوًا في مجلس شورى الأمة الإسلامية، وأصبح عمر يجلسه بين كبار أهل بدر، ويسميه: (فتى الكهول) و(ترجمان القرآن) ولذلك يقول فيه أحد الشعراء:

    بلغت لعشرٍ مضت من سنيِّـ ـكَ ما يبلغ السّيد الأشيب

    فهمُّك فيها جسام الأمور وهمُّ لـداتك أن يلـعبوا

    ويقول فيه حسان بن ثابت رضي الله عنه:

    إذا ما ابن عباس بدا لك وجهه رأيت له في كل محمدة فضلا

    إذا قال لم يترك مقالاً لقائلٍ بمنتظماتٍ لا ترى بينها فصلا

    كفى وشفى ما في النفوس فلم يدع لذي إربةٍ في القول جدًا ولا هزلا

    والهمة العالية هي التي تقتضي من الإنسان أن يحرص على معالي الأمور وعلى الازدياد من العلم. وتكميل المطاف فيه.

    الحفظ

    الوسيلة الرابعة: الحفظ؛ فإن العلم لا يناله إلا من حفظه، ولذلك كانوا يقولون:

    ليس بعلم ما حوى القِمَطْرُ ما العلم إلا ما حواه الصدرُ

    القمطر: وعاء الكتب، وما حواه ليس بعلم، إنما العلم ما حواه الصدر؛ ولهذا قال الشافعي رحمه الله:

    علمي معي حيثما يممت يتبعني قلبي وعاء له لا جوف صندوقِ

    إن كنت في البيت كان العلم فيه معي أو كنت في السوق كان العلم في السوقِ

    ويقول ابن حزم رحمه الله:

    فإن يحرقوا القرطاس لا يحرقوا الذي تضمنه القرطاس بل هو في صدري

    يسير معي حيث استقلت ركائبي ويمكث إن أمكث ويدفن في قبري

    الوقت

    الوسيلة الخامسة: الوقت، فيحتاج في تحصيل العلم إلى وقت، ولا يمكن أن يحصله المستعجلون، فلا ينال هذا العلم إلا بأن يعطيه الإنسان وقتًا جزيلاً من وقته، ولا يرضى بهوامش الوقت كما قال ابن عيينة: (إن العلم لن يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك).

    ولذلك فإن الذين طلبوه قد تجردوا له، فوفروا له كثيرًا من الوقت، ليس لهم شغل إلا طلب هذا العلم والحرص عليه، يواصلون فيه الليل بالنهار, والنهار بالليل، ولذلك يقول جدي محمد علي رحمه الله في وصف طلبة العلم:

    وأقصاص طلاب العلوم أمامهم موقرة من هيبة وجلالِ

    وأكثر طلاب المدارس همه بيان حرام أو بيان حلالِ

    يظلون لا يألون حتى كأنهم وليس بهم داء مراض سُلالِ

    وعمارها من كل ضنء كريمة كريم خلال من كريم خِلالِ

    أَغَرّ كمصباح الظلام بل انه كمثل تَلال العارض الْمُتَلالِ

    يقيمون فرض الخمس عند ندائها نداء للاعمى أو نداء بلالِ

    (يظلون لا يألون) أي: ليس لهم أية راحة، يجتهدون طيلة الوقت.

    (وليس بهم داء مراض سُلال) أي: كأنهم مصابون بالسل الرئوي، وليس بهم داء.

    ويقول أيضًا:

    لي جيرة كنجوم الصحو غُرَّانُ شمٌّ طهارى ثيابًا أينما كانوا

    من كل قطر تواخي بينهم كرمًا هماتهم وأروم القوم شُذَّانُ

    يزدان بالعلم أهل العلم كلهم والعلم من جيرتي يسمو ويزدانُ

    لا أستلذ مقامًا بينهم فرقًا من الفراق ولا آسى إذا بانوا

    الشيخ

    الوسيلة السادسة: الشيخ؛ فيحتاج المتعلم إلى شيخ ناصح يعلمه ويرشده وينتخب له، ويتعلم من أدبه وسلوكه، وأثر العلم عليه قبل أن يتعلم من علمه، كما قالت العالية أم مالك رحمه الله:

    (اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل أن تتعلم من علمه)، وقديمًا قال أبو حيان رحمه الله:

    يظن الغمر أن الكتب تهدي أخا فهم لإدراك العلومِ

    وما يدري الجهول بأن فيها غوامض حيرت ذهن الفهيمِ

    إذا رمت العلوم بغير شيخ ضللت عن الصراط المستقيمِ

    وتلتبس الأمور عليك حتى تصير أضل من توما الحكيمِ

    وأهل الحديث يجرحون الراوي بسرقة الحديث، أي: بتحديثه من غير سماع من الشيخ، فإذا كان يأخذ من الكتاب فإنه مجروح بذلك لديهم.

    الزميل المرافق

    الوسيلة السابعة: الزميل المرافق الذي يعين الإنسان على الطلب، ويزيل عنه النكد، ويساعده في الفهم والحفظ، وينافسه في الازدياد من هذا العلم، وهذا الزميل يستفيد منه الإنسان أكثر مما يستفيد من الشيخ نفسه؛ لكثرة الملازمة والمنافسة، ولذلك يقول أحد العلماء:

    وليس كل فتى يدري حقيقة ذا إن التناوة تطفي ذهن كل فتى

    والتناوة: عدم المذاكرة مع الزميل والقرين، بل طالب العلم عرضة للنكد والتأثر بغربته وعزلته، ولا يزيل ذلك عنه إلا معاشرته للأصدقاء الأوفياء والأذكياء الذين يحرص على منافستهم، والزميل المقارن للإنسان الذي ينافسه في الطلب معين له على الحفظ وعلى الاستمرار، ولذلك فإن الإمام سليمان بن مهران الأعمش رحمه الله بحث عن زميل في قوة ذهنه وعلو همته فلم يجده، فاشترى تيسًا فربطه عنده، وكان يقرأ عليه العلم ويقول: أفهمت؟! فاشتهر تيس الأعمش بالذكر بين الناس لذلك.

    ويتدرب الإنسان مع زميله على التدريس، والبحث والمناظرة، وكل ذلك يحتاج إليه الطالب في تحصيل العلم.

    1.   

    أنواع العلوم

    ينقسم العلم إلى قسمين:

    - علوم دنيوية.

    - علوم دينية.

    العلوم الدنيوية

    القسم الأول: العلوم الدنيوية هي ما ينفع في تحصيل درهم المعاش، وهي داخلة في تحقيق الاستخلاف في الأرض؛ ولهذا فهي -من هذا الوجه- فرض كفاية على المسلمين، وهي مثل العلوم الطبيعية التي يحتاج إليها الناس، وكذلك ما يحتاجون إليه من العلوم البحتة.

    العلوم الدينية

    القسم الثاني: العلوم الدينية، وهي أهم، وهي التي ترجع إلى الدين وحفظه والعناية به، وهي التي ورد فيها الفضل السابق، وإنما تذكر الأخرى معها تبعًا لها، وتنال من فضلها بنية صاحبها إن أخلص، وهذه تنقسم إلى قسمين:

    مقاصد ووسائل أو مبادئ ومتمات.

    ويمكن تقسيمها -أيضًا- إلى سلالات، فمثلاً في علوم القرآن نجعل القرآن -مثلاً- قسمًا مستقلاً من أقسام العلوم الدينية، وفي هذا القسم خمسة علوم هي:

    1- علم التجويد: الذي هو أداء القرآن والنطق به، بصفات الحروف ومخارجها، وكيفية النطق بها.

    2- القراءات: اختلاف الأحرف، وما اختلف فيه القراء.

    3- التفسير: بيان معاني القرآن وما يستنبط منه.

    4- الرسم والضبط: كتابة المصحف التي كتبها الصحابة, والضبط الذي ضبطه به التابعون، من النقط والشكل.

    5- علوم القرآن: وهو يشمل أسباب النزول، والمكي والمدني، والمحكم منه والمتشابه، وإعجازه بأوجه الإعجاز المختلفة، وتاريخ المصاحف وكتابتها، وتراجم الرواة والقراء.

    إذًا: هذه خمسة علوم، بعدها مجموعة أخرى هي الحديث، ويدخل فيه ستة علوم هي:

    1- علم المصطلح: مصطلحات أهل الحديث.

    2- علم متون الحديث، وهو علم الحديث رواية.

    3- علم شروح الحديث، وهو: ما يستنبط من الحديث وما يستخرج منه من العلم، وذلك في شروح الحديث المعروفة.

    4- علم الرجال وعلم الجرح والتعديل، ويدخل فيه الطبقات -أيضًا- لنقلة الحديث.

    5- العلل: بيان علل الحديث وبيان الفرق بين الصحيح والضعيف.

    6- علم التخريج ودراسة الأسانيد، ببيان من أخرج الحديث ومواضعه منه، ودراسة الأسانيد حتى يحكم على الحديث.

    ثم السلالة الأخرى: علوم الفقه، وهي عشرة:

    1- علم الفقه المذهبي في المذاهب، ومذاهب أهل السنة المشتهرة أربعة هي: المذهب الحنفي، والمذهب المالكي، والمذهب الشافعي، والمذهب الحنبلي، ويمكن أن يضاف إليها -أيضًا- المذهب الظاهري، أما المذاهب المندثرة لأهل السنة فهي كثيرة، وهذه المذاهب لابد من دراستها من كتبها المتخصصة فيها، وأخذها من الكتب التي تقارن لا يفي بها، ويكثر فيها الغلط.

    2- علم الفقه المقارن، وهو: مقارنة هذه المذاهب بما يسمى بالخلاف العالي والخلافيات ونحو ذلك.

    3- علم القضاء، وهو علم مستقل ألف فيه كثير من التآليف المستقلة، في أدب القاضي والبينات والإقرار والشهادات ونحو ذلك.

    4- علم فقه النوازل، وما يتعلق به كالفتاوي، وقد ألف في كثير من الكتب.

    5- علم الفرائض، وهو: ما يتعلق بالتركات وقسمتها.

    6- علم الآداب الشرعية، وقد ألف فيه عدد من الكتب.

    7- علم أصول الفقه.

    8- علم تخريج الفروع على الأصول، وهو الذي تعرف به فائدة أصول الفقه.

    9- علم القواعد الفقهية والأشباه والنظائر والفروق.

    10- علم تاريخ التشريع وبيان نشأة المذاهب وتدوينها.

    ثم سلالة العلوم العقلية، وهي سلالة مستقلة، ومنها علم التوحيد، ويبحث عن حقوق الله سبحانه وتعالى، وشرح الإيمان وأركانه وما يتعلق به، ويشمل ذلك مشاهد القيامة وغير ذلك.

    ثم علم الكلام وهو المسائل النظرية في العقائد، والمناظرات فيها، وذكر الفرق والأقوال، ويمكن أن يقسم هذا إلى قسمين:

    1- علم الكلام النظري.

    2- علم الفرق والمقالات وهو علم مستقل أيضًا.

    ثم علم الجدل وهو يشمل قسمين:

    1- الجدل الفقهي.

    2- الجدل العقدي.

    ثم علم المنطق، وعلم آداب البحث والمناظرة، وآداب الخلاف، وأسباب الخلاف.

    وعلم السير، وهي سلالة مستقلة، وتبحث في السير وما يتعلق بها مثل:

    1- علم المغازي والفتوح والأمصار.

    2- علم الشمائل النبوية.

    3- علم التاريخ الإسلامي.

    4- علم الأنساب العرب والعجب.

    علوم اللغة: وهي سلالة مستقلة وهي كثيرة منها:

    1- علم المفردات اللغوية.

    2- علم النحو.

    3- علم الصرف.

    4- علم البلاغة.

    5- علم الاشتقاق.

    6- علم الشعر.

    7- علم العروض والقوافي.

    8- علم الإنشاء.

    9- علم الأدب.

    10- علم الهجاء والخط وأنواع الخطوط.

    11- علم الحساب الفلكي.

    12- علم الحساب الرقمي.

    فهذه أهم تخصصات العلوم الإسلامية التي اشتغل بها العلماء، ومن جمعها جميعًا فوصل إلى حد متوسط من إدراكها، واستطاع تدريس كل واحد من هذه العلوم؛ فهو العالم، ومن تخصص في بعضها لم يستحق هذا اللقب -العالم- وإنما يستحق أن يدرج في حملة العلم والمتخصصين في بعض جوانبه دون بعض.

    وجمع هذه العلوم سهل، والجامعون لها في تاريخ الأمة كثير، ولكن اليوم بسبب غزو الحضارة الغربية ركن الناس إلى التخصص في جوانب هذه العلوم؛ فاقتضى ذلك أن يقل المهتمون بجمعها كلها، وأن يندروا، وذلك من رفع العلم الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، فقد صح عنه -في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا يقبض هذا العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبضه بموت أهله، حتى إذا لم يبقِ عالمًا اتخذ الناس رؤساء جهالاً فاستفتوا فأفتوا بغير علم؛ فضلوا وأضلوا) .

    فمن رفع هذا العلم إقبال الناس على التخصصات وترك الإحاطة بها.

    نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح والإخلاص في القول والعمل.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767094572