بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه, ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
مرحباً بكم يا ضيوف الرحمن! يا حجاج بيت الله الكريم! مرحباً بكم في دار الهجرة في مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، مرحباً بكم في مهبط الوحي، ودار الإيمان.
إن الله سبحانه وتعالى قد أنعم عليكم بنعمة عظيمة، وجمع لكم شرف الزمان والمكان، فأنتم الآن في الأيام العشر من ذي الحجة، وهي أشرف أيام السنة، وقد صح في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من الأيام العشر. قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء ).
فهذه الأيام محبوبة إلى الله سبحانه وتعالى، وهو يحب العمل الصالح فيها مما يقتضي تضعيفه له وزيادته ونماءه وبركته، ومما يقتضي كذلك كثرة قبوله من العاملين؛ لأن الله سبحانه وتعالى غني عن عبادة العابدين، وهو لا يقبل من العمل إلا ما كان صالحاً: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27]، لكن المواسم التي يختارها الله للعمل الصالح تكون فرصة للقبول، فيختار الله فيها لقبول عمل من يختارهم، والذين يختارون لهذا العمل لا تأتي لوائحهم بالتأشيرات الرسمية؛ بل إنما يؤشر لهم رب العزة سبحانه وتعالى، فهو الذي يدعوهم ليباهي بهم ملائكته، فيجمعهم في هذه البقاع المقدسة, وفي هذا الزمان المقدس ليغفر لهم، ويباهي بهم ملائكته, وليستجيب دعواتهم، ويحقق آمالهم، فهذه فرصة عظيمة إذاً، وبالأخص إذا علم الإنسان أن هذه الأيام قد أقسم الله بها في كتابه، وجمهور أهل التفسير أنها المقصودة بقول الله تعالى: وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:1-2]، فجمهور المفسرين من الصحابة والتابعين على أن الليالي العشر هي عشر ذي الحجة، وهي في هذا الشهر الحرام الذي هو من الأشهر الحرم التي قال الله فيها: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة:36]، وهذه الأشهر الحرم عظيمة عند الله سبحانه وتعالى، وأعظمها عشر ذي الحجة، وفيها يومان عظيمان هما: يوم عرفة, ويوم النحر، فهما أعظم أيام السنة، فيوم عرفة لا يمر على إبليس في السنة يوم أخزى منه في يوم عرفة؛ لكثرة ما يرى من المغفور لهم، والذين لم يستطع التأثير عليهم، ويوم العيد هو يوم الحج الأكبر عند جمهور أهل العلم؛ لأن معظم أعمال الحج تكون فيه، وفيهما تتم عشر ذي الحجة.
وذهب بعض العلماء أن فضل العشر غير مقتصر على الحجاج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في صيام يوم عرفة: ( أحتسب على الله في صيام يوم عرفة أن يكفر ذنوب سنتين ) أي: أن يكفر ذنوب السنة الماضية, والسنة القادمة، قال أهل العلم: هذا يقتضي أيضاً نجاة الإنسان في السنة القادمة؛ لأنه وعد بمغفرة ذنوبه في السنة القادمة، ولا يتم ذلك إلا إذا عاش السنة القادمة، وإذا عاشها فيكون هذا ضماناً لطول العمر الذي يحتاج الناس إليه، وإذا لم يعشها فإنه لم يوفق في الغالب لصيام يوم عرفة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في هذه العشر يجتهد بالطاعات، ويكفي إرشاده لذلك؛ فقد أرشد المؤمنين إلى الإكثار من الطاعات في هذه الأيام، وبين أن أجر ذلك أعظم عند الله سبحانه وتعالى من أجر الاجتهاد في غيرها, وبالأخص إذا اجتمع مع ذلك شرف المكان.
وهذا المكان الذي أنتم فيه هو المكان الذي اختاره الله سبحانه وتعالى قبل خلق السموات والأرض؛ ليكون مهد هذه الدولة الإسلامية، ومهبط الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الهواء الذي تتنفسون فيه هو الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنفس فيه، وهو الذي كان ينزل فيه جبريل من السماء وله ستمائة جناح، ما بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب، وهو الذي كان يسير فيه الذين رضي الله عنهم وأرضاهم، وهو مكان المغفرة والرحمة، فهذا المكان اختاره الله سبحانه وتعالى ليكون بلداً طيباً آمناً، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الله سمى المدينة طابة )، فالمدينة سماها الله طابة، وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم طيبة، وأطلق الله عليها اسم المدينة في كتابه كذلك، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: ( أمرت بقرية أكالة للقرى، يقولون: يثرب، وهي المدينة )، ومعنى كونها أكالةً للقرى: أن مال القرى الأخرى عندما تفتح ينقل إلى هذا البلد فينفق في سبيل الله, كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لتفتحن عليكم كنوز كسرى وقيصر فتنفق في سبيل الله ).
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم كذلك فضلها في عدد كثير من الأحاديث الصحيحة عنه:
منها: قوله صلى الله عليه وسلم: ( إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها، وإني أحرم المدينة وأدعو لها بضعفي ما دعا به إبراهيم لمكة ).
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: ( اللهم اجعل في المدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة ).
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: ( اللهم بارك لنا في مدينتنا، اللهم بارك لنا في مدنا، اللهم بارك لنا في صاعنا، واجعل مع البركة بركتين ).
وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم صح عنه في وصفها قوله: ( المدينة كالكير تنفي خبثها، وينصع طيبها ).
وصح عنه كذلك أنه قال: ( ما خرج منها أحد رغبة عنها إلا أبدلها الله خيراً منه ).
وصح عنه كذلك أنه قال: ( من كاد لأهل المدينة أذابه الله كما يذوب الملح في الماء ).
وفي الحديث الآخر: ( ما كاد أحد لأهل المدينة إلا انصاع كما ينصاع الملح في الماء ).
وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم قال: ( تفتح العراق فيأتي قوم يبسون، فيخرجون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وتفتح الشام فيأتي قوم يبسون، فيخرجون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وتفتح اليمن فيأتي قوم يبسون، فيخرجون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون )، ومعنى (يبسون): أي: يضلون في سيرهم، وهذا بيان لعلم من أعلام النبوة، ودليل من أدلتها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بفتح هذه البلدان، وانتقال كثير من الذين يطلبون الرفاهية من المدينة إلى البلدان المفتوحة الجديدة.
وكذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم أنه قال: ( لا يصبر أحد على لأوائها وشدتها إلا كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة ).
وفي حديث ابن عمر: ( أن مولاة له استأذنته في الخروج من المدينة إلى العراق فقال: أي لكاع اصبري؛ فلقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: والذي نفس محمد بيده! لا يصبر أحد على لأوائها وشدتها إلا كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة ).
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذلك: ( من صبر على لأوائها وشدتها كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة ).
وفي حديث أبي ذر في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يصبر أحد على لأواء المدينة وشدتها إلا كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة ).
وفي حديث أبي سعيد الخدري كذلك: ( أن رجلاً استأذنه في أيام الحرة في الذهاب من المدينة, وذكر عياله ودينه وغلاء السعر في المدينة, فقال: لا آمرك بذلك؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من صبر على لأوائها وشدتها كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة ).
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك بين الفضل المختص ببعض المواضع في المدينة ومنها بعض مساجدها.
فهذا المسجد النبوي الشريف هو البقعة التي اختارها الله سبحانه وتعالى لتكون عاصمة العالم، فاختارها مهبطاً للوحي، ومسكناً للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته، فهذا المكان هو الذي عاش فيه في حياته، ومنه يبعث، وهو أول من تنشق عنه الأرض، فأول من تنشق عنه الأرض من الموتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فضل هذا المسجد فقال: ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى )، ومعنى قوله: ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ) أي: لا تشد الرحال إلى مسجد لقصد فضله والتعبد فيه إلا إلى هذه المساجد الثلاثة، ولا يقتضي ذلك النهي عن شد الرحال مطلقاً، فالإنسان مأذون له في شد الرحال في التجارات, ومأمور بها في الغزو في سبيل الله، وفي طلب العلم، وغير ذلك.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بين كذلك أن أجر الصلاة في هذا المسجد أعظم من أجر صلاة في غيره، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام )، وهذا الحديث في الصحيحين، والفضلية هنا غير محصورة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل)، وهي أفعل تفضيل تدل على الزيادة؛ لكن لا تقتضي حصراً، فيمكن أن تكون صلاة بعض الناس أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه من المساجد، واستثناؤه للمسجد الحرام يمكن أن يكون استثناءً من مطلق المساجد، ويمكن أن يكون استثناءً من هذا التضعيف المخصوص، فيمكن أن يكون المعنى: فهي أفضل منه بأقل من ذلك، أو يكون المعنى فهي مساوية لها، أو يكون المعنى فالصلاة في المسجد الحرام أفضل، وكل ذلك قد قيل به.
ثم إن هذا المسجد بالخصوص أيضاً جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم عاصمة الإسلام، فقد كان مكان التعليم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فلم تكن له مدرسة، ولا مكان اجتماع يعلم الناس فيه إلا هذا المسجد، فإذا نزل إليه وحي من ربه أو حصل أمر في المسلمين نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس: الصلاة جامعة، فيصعد المنبر فيعلمهم ما أوحي إليه، ولذلك فقد كان يعلمهم كل أمورهم على المنبر، فقد صلى عليه مرتفعاً ليرى الناس صلاته وقال: ( صلوا كما رأيتموني أصلي ).
وكذلك فقد كان هذا المسجد مكان عقد الألوية والجيوش، فهو عاصمة الإسلام العسكرية الحربية، ومن هنا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد الألوية لجيوشه وسراياه وبعوثه من هذا المسجد، وأحيا ذلك خلفاؤه من بعده، فـأبو بكر الصديق رضي الله عنه عندما بعث الجيوش إلى الشام عقد عشرة ألوية للشام في المسجد، وعقد فيه كذلك ألوية العراق.
وقد كان كذلك مكان التدريب العسكري، فقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم للأحباش في أن يرموا فيه بحرابهم، وفي حديث عائشة: ( أنها اشتهت أن تنظر إليهم، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في باب المسجد وكانت تنظر من بين كتفه وعنقه، فلما أطالت قال: أشبعت؟ أشبعت؟ ) أي: هل اكتفيت من النظر إلى لعب الأحباش بحرابهم؟
وكذلك فقد كان عاصمة الإسلام في إقامة الحدود والقضاء، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن له محكمة إلا هذا المسجد الذي ترونه، فقد كان يقضي بين الناس بين جدران هذا المسجد، وكان صلى الله عليه وسلم يحكم في أمور الناس كلها من هذا المكان المشرف، وفي حديث أم سلمة رضي الله عنها وكانت حجرتها في الجانب الغربي من المسجد وهي الآن في وسطه في توسعة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، فقالت: ( جاء خصم فاختصموا عند باب حجرتي، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوعظهم وقال: إنما أنا بشر مثلكم وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فإنما أقتطع له جمراً من النار، فليأخذه أو فليدعه ).
وكذلك فقد كان هذا المسجد أيضاً محطة الإعلام للمسلمين، فهو وسيلة الإعلام الوحيدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يعلن منه قراراته وأنباءه وأحكامه، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد إنكار أمر يقول: ( ما بال أقوام يفعلون كذا )، وإذا أراد الحض على أمر حض عليه من فوق منبره على أعواد منبره بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، وكذلك خلفاؤه من بعده كانوا يعلنون الأحكام والأقضية فوق المنبر، فهذا أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه قال يوماً على المنبر: ألا إن الأسيفع -أسيفع جهينة- قد رضي من دينه وأمانته بأن يقال: سابق الحاج فادان معرضاً، فأصبح قد رين به، فمن كان له عليه دين فليعد بالغداة فلنقسم ماله بينهم بالحصص.
وقد كان المسجد كذلك مكان المستشفى في دولة الإسلام في هذه المدينة العظيمة، فقد أقام فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم خباءً لـأبي عمرو سعد بن معاذ رضي الله عنه لما جرح يوم الأحزاب، وقد أصابه سهم في أكحله، والأكحل: عرق في الذراع، فأقام له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمةً في المسجد أو خباءً في المسجد كان يعوده فيه، وقد سأل الله ألا يميته حتى يقر عينه في بني قريظة حين نقضوا العهد، ففتح الله بني قريظة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومكنه من رقابهم، فحكم فيهم سعد بحكم الله من فوق سبع سموات، قال: انظروا من جرت عليه الموسى فاقتلوه، وجعل ذريتهم وأموالهم غنيمةً للمسلمين.
وكذلك فإن المسجد كان محل بيت المال، وعاصمة الاقتصاد في الإسلام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبسط فيه البسط في مؤخرته ويوضع فيه الستار، فيأتي الناس بصدقاتهم ويضعونها على البسط، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالبسط فتبسط في الثلاث الأخيرة من رمضان، ويكلف من أصحابه من يحرس الصدقات، فإذا صلى صلاة الفجر يوم العيد جلس إليها فوزع صدقات الفطر، ثم ذهب إلى المصلى فصلى صلاة العيد.
وكذلك فقد كان المسجد مكان السجن، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ربط ثمامة بن أثال الحنفي، وهو من بني حنيفة من بني بكر بن وائل، وكان سيد اليمامة، فأوتي به أسيراً جاءت به خيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيماً رءوفاً فأراد لهذا السيد الإسلام، وأن يكون ذا مكانة في المسلمين، فربطه في المسجد في سارية من سواريه، فمر عليه في طريقه إلى الصلاة فقال: ( يا محمد! إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تمنن علي مننت على شاكر ) فمن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إلى الحرة واغتسل وجاء فأعلن إسلامه، ثم هجم على قريش ملبياً.
وكذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جيء بـسفانة بنت حاتم الطائي - وأبوها حاتم بن عبد الله الطائي المشهور بالجود- حبسها في المسجد مع السبي، فمر بها في طريقه إلى الصلاة فقالت له: ( يا محمد! مات الوالد، وغاب الوافد، فامنن علي منَّ الله عليك، ولا جعل لك إلى لئيم حاجة، فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعائها، فسألها: من والدك؟ فقالت: حاتم بن عبد الله الطائي، فقال: ومن وافدك؟ فقالت: عدي بن حاتم، فقال: آلفار من الله ورسوله؟! فمن عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت وحسن إسلامها، ثم خرجت ضعينة في إثر أخيها عدي بن حاتم إلى الشام حتى جاءت به مسلماً فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام ).
كذلك فإن أبا لبابة رضي الله عنه لما أعلن لليهود سراً من أسرار المسلمين في غزوة بني قريظة تاب إلى الله فربط نفسه في سارية من سواري المسجد، وأنتم ترونها الآن في الروضة، وقد كتب عليها سارية التوبة، فهذه السارية هي التي ربط فيها أبو لبابة نفسه، ونذر ألا يفك أسره حتى يتوب الله عليه، فتاب الله عليه، وأطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا تعرفون مكانة هذا المسجد في الإسلام وأهميته، وتعرفون كذلك أن المساجد ذات أمر عظيم لدى المسلمين، وأنها منطلق الإسلام ومحل الهداية فيه، فلا يمكن أن تهجر بحال من الأحوال، ومن هجرها فقد تعرض لسوء الخاتمة، ولذلك أخرج مسلم في الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ( من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بهم -أي: في المكان الذي ينادى بهن فيه- فإنهن من سنن الهدى، وإن الله تعالى شرع لنبيكم سنن الهدى، ولعمري لو أن كل أحد منكم صلى في بيته كما يفعل هذا المتخلف لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد رأيت الرجل يهادى بين الرجلين حتى يدرج في الصف ).
ومن هنا يعلم أن مدة بقائنا في هذا الظرف الزماني والمكاني المقدس المشرف تقتضي منا أن نرجع بدروس عظيمة في ديننا، ومنها: أن يزداد اهتمامنا بالمساجد عنايةً وعمارةً، وإجابةً لنداء الله إذا سمعناه، وهذا هو أقل درس نأخذه من المسجد النبوي, ونحن نرى حرص الرجال والنساء وجميع الأجناس على كل صلاة فيه، وأن يشهدوا تكبيرة الإحرام، فعلينا أن نستصحب هذا الحرص مدة أعمارنا، وأن نحرص على أن نصلي في مساجد الله، وأن نعمرها، فقد قال الله تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ [التوبة:18].
كذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نوه ببعض الأمكنة في هذا المسجد، ومنها: الروضة المشرفة، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي )، فهذا تنويه بموضعين من المسجد أحدهما الروضة المشرفة، وقد اختلف أهل العلم في حدودها، فذهب إمامنا مالك رحمه الله إلى أن الروضة هي مقدم المسجد جميعاً؛ ما كان يمين المنبر وما كان شماله، ودليله على ذلك: أن بيوت النبي صلى الله عليه وسلم كانت في شرق المسجد وفي غربه، ففي شرق المسجد بيت حفصة وبيت عائشة، وفي غربه بيت أم سلمة وسودة، فهذا يقتضي أن بيوت النبي صلى الله عليه وسلم في جانبي المسجد في شرقه وغربه، وعلى هذا فالروضة ما بين المنبر وبيت النبي صلى الله عليه وسلم, والبيت مفرد أضيف إليه صلى الله عليه وسلم، والمفرد إذا أضيف إلى العلم أو إلى الضمير أو إلى المعرفة يعم، مثل قول الله تعالى: وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ [الأحزاب:50]، ومثل قول الشاعر:
بها جيف الحسرى فأما عظامها فبيض وأما جلدها فصليب
فجلدها يقصد به: جلودها، وعلى هذا فتفسير مالك رحمه الله لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما بين بيتي ومنبري -أي: ما بين جميع بيوتي ومنبري- روضة من رياض الجنة ).
وذهب جمهور أهل العلم إلى أن ذلك مختصة بالجهة الشرقية أي: ما كان عن يسار المنبر بينه وبين البيت أي: بيت عائشة الذي دفن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعموماً فهذه الروضة أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها روضة من رياض الجنة، والروضة: المكان الممرع أي: الكثير المرعى والخصب، وقد اختلف أهل العلم في معنى كون هذه الروضة من الجنة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن هذه البقعة بذاتها توضع في الجنة فتكون منها، ويكفي هذا تشريفاً وتعظيماً.
القول الثاني: أن المعنى أنها حلقة ذكر إلى أن تقوم الساعة، لا تخلو من حلق الذكر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنة يا رسول الله؟ قال: حلق الذكر )، فحلق الذكر هي من رياض الجنة، وهذه الروضة من رياض الجنة دائماً؛ لما فيها من الذكر والتعليم.
القول الثالث: أن المقصود أنها قبر لرجل من أهل الجنة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( القبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار )، والمقصود بأنه من أهل الجنة ممن يأتي بعد انقضاء الوحي هو المسيح ابن مريم عليه السلام، فعلى هذا قالت طائفة من أهل العلم: سيكون ذلك المكان المشرف مدفناً للمسيح ابن مريم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( روضة من رياض الجنة )، والقبر روضة من رياض الجنة، والمقصود بأنه من أهل الجنة في آخر الزمان هو المسيح ابن مريم عليه السلام، وعموماً هذه الأقوال الثلاثة كلها تقتضي شرف هذا المكان.
وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتنون بهذه الروضة، وكذلك التابعون من بعدهم، ففي حديث عروة بن الزبير رضي الله عنهما: ( أن أم المؤمنين عائشة كانت تستأمره إذا خرج الناس من المسجد بعد صلاة الظهر فتدخل فتصلي عند سارية هنالك، وقد أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الظهر انفتل إليها وصلى عندها ركعتين )، وهذه السارية كتب عليها اليوم سارية عائشة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي عندها ركعتين بعد صلاة الظهر، وقد حافظت على ذلك عائشة أم المؤمنين، وكذلك عروة بن الزبير بعدها.
كذلك فإن هذا المنبر الذي ترونه سيوضع على حوض النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة, كما أخبر بذلك في قوله: ( ومنبري على حوضي )، وهذا تنويه بالموضع الثاني من مواضع المسجد.
وكذلك فإنه قال: ( ومنبري على ترعة من ترع الجنة )، ومعنى ذلك: أن هذا المنبر سيوضع على نهر من أنهار الجنة يوم القيامة، وهذا النهر هو الكوثر، فلا منافاة بين النصين، فالكوثر ترعة من ترع الجنة، أي: نهر من أنهارها، وهو حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أشد بياضاً من اللبن، وأنقى حلاوةً من العسل، وكيزانه بعدد نجوم السماء، وعرضه ما بين أذرح وبصرى، لا يظمأ من شرب منه أبداً، ويرد الناس إليه متفاوتين عند خروجهم من الساهرة، ويطرد عنه أقوام قد غيروا وبدلوا فيعرفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمارات أمته فيقول: ( يا رب! أمتي أمتي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم، فيقول: فسحقاً فسحقاً فسحقاً ).
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن نوعين من أنواع الناس يطردون عن هذا الحوض كما تطرد غرائب الإبل, وهما:
النوع الأول: أهل التغيير والتبديل، الذين ابتدعوا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والنوع الثاني: أنصار الظلمة وأعوانهم، فقد أخرج عبد الرزاق في مصنفه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنه سيستعمل عليكم أمراء يظلمون الناس، ويكذبون في الحديث -وفي رواية: ويؤخرون الصلاة عن أوقاتها- فمن صدقهم في كذبهم، أو أعانهم على ظلمهم فلن يرد علي الحوض )، فأولئك يطردون عن الحوض يوم القيامة كما تطرد غرائب الإبل، نسأل الله السلامة والعافية.
وهذا يزيدكم إيماناً ويقيناً، فهذا المنبر الذي ترونه سيوضع على الحوض الذي ستردونه جميعاً، وهذا ربط للدنيا بالآخرة، وربط لحياتكم هذه بحياتكم الأخرى؛ لتتقنوا أعمالكم، وتتزودوا من الأعمال الصالحة قبل فوات الأوان.
ثم إن هذا المسجد الشريف كذلك من أعظم ما يدركه الإنسان فيه من الخير: أن يدرك أن محبوبه صلى الله عليه وسلم الذي يجب على كل مؤمن أن يحبه أشد من حبه لنفسه التي بين جنبيه، وأشد مما يحب والده وولده والناس أجمعين، قد كان يحب هذا المسجد، ويحب هذه المدينة العظيمة، ففي حديث أنس رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قفل من سفر فرأى جدرات المدينة )، والجدرات هي الحيطان، والمقصود بها: ما كان فيها من الحصون: ( نص سرعة حباً للمدينة ) أي: يسرع إسراعاً شديداً محبةً لهذه المدينة، ولذلك فإنه قال كما في الصحيحين: ( إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها )، ومعنى ذلك: أن أهل الإيمان المحبين لله ورسوله يحبون هذه المدينة، ويأرزون إليها فيعودون إليها من كل أرض ومكان، ولذلك فإن محبتها شاهد في قلب المؤمن على إيمانه، فالذي يحب أن يعيش فيها وأن يموت فيها هذا دليل على تمام إيمانه، ولهذا قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اللهم إني أسألك شهادةً في سبيلك، وموتاً في حرم نبيك.
وكذلك فإن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه -وكان أميراً للمدينة- لما استدعاه عمه عبد الملك إلى الشام خرج، فلما رأى أحداً عن يمينه نظر إلى يسار وهو مولى له, ورفيق له في السفر, فقال له: يا يسار أترانا ممن نفته المدينة؟ وهو يبكي بكاءً شديداً، يقول: أترانا ممن نفته المدينة؟ وهذا الاستحضار ينبغي أن نستذكره جميعاً، فلابد أن يجد المؤمن فرقاً بين قدومه على المدينة وخروجه منها، فيوم المقدم لا شك يوم فرح وسرور، ويوم الخروج منها لا شك بخلاف ذلك إلا إذا خرج إلى فريضة من فرائض الله كما تخرجون إلى الحج إن شاء الله، ولهذا يقول العلامة عبد الله بن سيدي محمود رحمه الله عندما خرج من المدينة رجوعاً إلى أهله:
بان الرسول وبانت عنك طيبته إن الأحبة والأوطان أعداء
فالأحبة والأوطان أعداء للإنسان إذا كانوا سبباً في خروجه من المدينة، ولهذا فإن عمر رضي الله عنه بكى بكاءً شديداً حين سمع جويريات بني النجار ينشدن:
يا حبذا محمد من جار نحن جواري من بني النجار
فبكى لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل حين سمع إنشادهن لذلك أشهد الله على محبته للأنصار.
وقد خرج عمر ذات ليلة يعس في هذه المدينة، فسمع عجوزاً من الأنصار وهي تنشد:
على محمد صلاة الأبرار صلى عليك الطيبون الأخيار
قد كنت قواماً بكىً بالأسحار يا ليت شعري والمنايا أطوار
هل تجمعني وحبيبي الدار
فبكى عمر لذلك بكاءً شديداً.
فأنتم تستشعرون هذا الخير العظيم حين جاء الله بكم فجمعكم مع محمد صلى الله عليه وسلم في الدار، وهذا أمر عظيم جداً، ونعمة كبيرة، فلابد من شكرها لله سبحانه وتعالى، ولابد من أخذها بحقها كذلك، فإن كثيراً من الناس قد منعوا هذه النعمة في مشارق الأرض ومغاربها، وهم يتمنون لحظةً يصلون فيها إلى هذه المدينة، وقد منعوا من ذلك، وقد أتى الله بكم بما سخر لكم إلى هذا المكان المشرف، فهي نعمة جسيمة عظيمة لابد من استحضارها.
ثم كذلك علينا أن نستحضر أن هذا الهواء -كما ذكرت من قبل- الذي كان ينزل فيه جبريل، وتتنزل فيه الملائكة، ولا يزالون في هذه المدينة فهم حراسها، لقد بين النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن الملائكة على أنقابها، لا يدخلها الطاعون، ولا الدجال )، فلا يدخلها الطاعون ولا الدجال إلى يوم القيامة.
كذلك فإن من الأماكن المقدسة في هذه المدينة مسجداً آخر وهو مسجد قباء، الذي نزل به رسول الله صلى الله عليه وسلم أول يوم نزل بالمدينة، فإنه صلى الله عليه وسلم جاء في هجرته وكان أبو بكر رديفه، وكان أهل المدينة يتوقعون قدومه، فكل يوم يصعدون على النخل وهم ينظرون، حتى إذا اشتد حر الشمس نزلوا، فبينما هم على انتظارهم إذ طلع رجل من اليهود على نخلة فرأى بياضاً فصاح فيهم: يا أهل يثرب! هذا جدكم الذي تنتظرونه. و(جدكم) أي: سعدكم وحظكم الذي تنتظرونه، فأقبل الناس يجرون إليه، وكثير منهم لم يروا رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل، فلما رآهم عدل إلى نخلة عند قباء، فنزل تحتها بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، فاجتمع الناس عليه وعلى أبي بكر يسلمون عليهما ولا يعرفون أيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى زال ظل النخلة فقام أبو بكر يظلل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوبه فعرفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما نزل بقباء كان أول عمل افتتح به بعد نزوله أن بنى مسجد قباء، وكان ذلك يوم الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول، فلما بنى مسجد قباء صلى فيه يوم الإثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس أربعة أيام، ثم أمره الله بالانتقال إلى المدينة، فخرج في وقت الضحى يوم الجمعة، فلم يمر ببطن من الأنصار إلا أمسكوا بزمامها وهم يقولون: ( يا رسول الله! انزل عندنا؛ ففينا القوة والمنعة، وهو يقول: دعوها فإنها مأمورة )، فالناقة مأمورة، فحان وقت الجمعة في الطريق بين قباء والمدينة فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني سالم الحبلى، ومسجدهم إلى الآن في طريق قباء، وفي طريق قباء كذلك أول مكان صليت فيه الجمعة في الإسلام، فأول جمعة جمعت في الإسلام جمعة صلاها أبو أمامة أسعد بن زرارة بنقيع الخضمات في حرة بني بياضة بهزم النبيت، صلاها تحت ظلال النخل بالمؤمنين في المدينة، فكانوا يصلون الجمعة في ذلك المكان، وعرف المكان إلى اليوم بمسجد الجمعة.
ومسجد قباء جاء فيه كثير من الفضل، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من تطهر في بيته فذهب إلى مسجد قباء فصلى فيه ركعتين كانتا له كأجر عمرة ).
وفي الصحيحين: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور قباء كل سبت راكباً وماشياً )، فتارةً يركب, وتارةً يمشي كل سبت.
وكذلك أخرج عبد الرزاق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من صلى في مسجد قباء أربعاً عدلن له عتق ست رقاب من ذرية إسماعيل ).
وعلى هذا فيمكن إذا أتاه الإنسان متطهراً في غيره أن يصلي فيه ست ركعات: فركعتان بعدل عمرة، وأربع ركعات بعدل ست رقاب من ذرية إسماعيل، وهذا المسجد قد زيد فيه كما ترون الزيادات في المسجد النبوي أيضاً، ولكن تلك الزيادات كلها ملحقة في الحكم، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما زادوا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جهة القبلة صلوا فيه وانتقلوا للصلاة في الصفوف الأولى، فدل ذلك على أن الزيادة تابعة للأصل، وقد ورد عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لو امتد هذا المسجد إلى صنعاء لكان كله مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لكن مع هذا لا شك أن المكان الذي كان مسجداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من غيره، ومسجد قباء الزيادة فيه بعضها إلى الأمام، فمكان المسجد فيه تحت القبة التي في وسطه, ومكان محراب النبي صلى الله عليه وسلم فيه تحت القبة التي في وسطه إلى جانبها الأيمن قليلاً.
كذلك فقد فسر قول الله تعالى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [التوبة:108] بأن المقصود به مسجد قباء، فهو الذي أسس من أول يوم من الهجرة، وقد قال ابن عباس: إن ذلك نزل في هذا المسجد النبوي؛ لأن الله تعالى يقول: أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [التوبة:108] وهي صيغة أفعل التفضيل، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما قام هنا, ولو كان ذلك أحق لقام فيه وانتقل إليه.
ثم إن في المدينة كذلك مواضع أخرى هي من مشاهد الإسلام العظيمة، وفيها مقبرتان عظيمتان حوتا كثيراً من الفضل وأهله، فأولى المقبرتين مقبرة البقيع، فهذا البقيع الذي ترونه قريباً من المسجد فيه عشرة آلاف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه تسعون ألفاً من التابعين لهم بإحسان، وفيه من العشرة المبشرين بالجنة أربعة: عثمان بن عفان، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وسعيد بن زيد، وفيه تسع من أمهات المؤمنين رضي الله عنهن.
وفيه بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم الأربع، وفيه إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه سعد بن معاذ الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما اهتز عرش الله إلا لـسعد بن معاذ )، وقال فيه حسان:
فما اهتز عرش الله من أجل هالك سمعنا به إلا لسعد أبي عمرو
وفيه فاطمة بنت أسد أم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وإخوته، قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( هي أمي بعد أمي ).
وفيه صفية بنت عبد المطلب أم الزبير بن العوام عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفيه أم أيمن بركة حاضنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفيه أئمة الهدى من بعد ذلك، ففيه أئمة التابعين من أهل المدينة، وأئمة أتباعهم أيضاً، ففيه مالك، وفيه نافع مولى ابن عمر، وفيه نافع قارئ المدينة وإمام الحرم الذي كان إماماً لهذا المسجد ستين سنة متوالية، وقد كانت تشم من فيه رائحة العطر؛ لأنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومه بصق في فيه، فلم يزل بعد تشم من فمه رائحة العطر.
وهذا البقيع أهله جميعاً داخلون في دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان يزورهم ويقول: ( اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد )، فكل من دفن فيه فإنه يدخل في هذه الدعوة المباركة الطيبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشمل ذلك توسيعاته وزياداته، فإن البقيع كان ينتهي إلى المرتفع الذي في وسطه عند مدفن شهداء الحرة، ولكن عثمان بن عفان رضي الله عنه مر على خربة كانت تسمى حش كوكب، فقال: يوشك أن يدفن هنا رجل صالح، فيسارع الناس إلى دفن موتاهم إليه، فكان ذلك الرجل عثمان، فلما قتل عثمان حمله أربعة رجال في الليل فدفنوه في تلك الخربة ولم يعلنوا مكان دفنه إلا بعد أن خرج الخوارج عن المدينة، فسارع المسلمون إلى دفن موتاهم إلى عثمان، فامتد البقيع بذلك إلى جهة المشرق.
كذلك فإن المقبرة الثانية هي شهداء أحد، وهؤلاء الشهداء نوه الله بشأنهم في كتابه, فإن الله تعالى يقول: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ [آل عمران:169-174].
وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنه خرج إلى أهل أحد قبل موته بثمانية أيام، فوقف عليهم فقال: إني شهيد على هؤلاء بأنهم صدقوا الله ما عاهدوه عليه )، وقد ترحم على أصحاب أحد، وكان كثيراً ما يترحم عليهم ويصلي عليهم، وصلاته مقبولة عند الله سبحانه وتعالى قطعاً، وهؤلاء الشهداء قد باعوا أنفسهم لله سبحانه وتعالى بيعةً مربحة، ولذلك يقول العلامة غالي البصادي رحمه الله في قصيدته في المدينة المشهورة:
وقامت بنصر الله أنصار دينه وبيعت من الله النفوس النفائس
فقد باعوا أنفسهم لله سبحانه وتعالى، فأغلى وأربح، وفيهم سيد الشهداء في العالم وهو أبو عمارة حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم أول أمير للمؤمنين وهو عبد الله بن جحش بن رئاب ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم كذلك مصعب بن عمير أول سفير للإسلام، وهو سفير رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى المدينة، وكان سبب إسلام كثير من أهل المدينة، وكان يشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم في خلقته وصورته، وفيهم كذلك الشماس بن عثمان وهو رابع القتلى من المهاجرين من الشهداء يوم أحد، وهؤلاء الأربعة في قبرين، وقد خرج هؤلاء القتلى في الزمان القريب عندما جاء سيل جارف فأخرج هؤلاء، وقد لقيت بعض من حضر دفنهم في ذلك الوقت وهو الشيخ محمود الصواف رحمة الله عليه، وبين أنهم لما أخرجوا من قبورهم كانت أعضاؤهم إذا رفعوا تنثني للينها، فأيديهم تنثني للينها، وكذلك بين أن دماءهم تقطر برشحان يسير، وعرفوا حمزة رضي الله عنه ببقر بطنه وبجسامته وطوله وضخامة أعضائه، وعرفوا مصعباً بحسن صورته، فقد كان يشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفوا ابن جحش بأنه المجدع؛ فقد قطعت أذناه وأنفه في سبيل الله، فعرفوا هؤلاء في هذا الزمان القريب الذي نحن فيه، ولذلك لا يتبين من قبور الشهداء إلا هؤلاء أو المجموعة الثانية التي في السور الذي على المرتفع حول جبل عينين، وهو الجبل المرتفع في غربي أحد، فإن معاوية رضي الله عنه أراد إجراء عين من الماء من مكان تجمع المياه في وسط أحد إلى المدينة، فحفر حفيراً فمر بمكان الشهداء فأخرج منهم ستة عشر رجلاً من الأنصار، وذلك بعد ستة وأربعين سنة من دفنهم هنالك، قال جابر بن عبد الله: بينما أنا في المسجد إذ قيل لي: قد أخرج أبوك فخرجت أشتد عدوىً فأتيت الشهداء فإذا أبي لم يتغير بعد شيء من خلقته إلا شعرات كنا على شامة في لحيته فكنَّ أطول منها فصرنا على قدر لحيته.
وإذا خيثمة ويده على خصره، فإذا رفعت عن خصره جرى الدم، فإذا أعيدت سكن دمه، وقد دفن هؤلاء في هذا المدفن المعروف, وقد وضع عليهم سور آخر غير السور الذي في الوسط، وعموماً فلم يتحدد مكان الشهداء إلا الذين استخرجوا فيما بعد، أما في وقت الدفن فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفنوا حيث ماتوا، فهم شهداء في سبيل الله في المكان الذي وقعوا فيه، منه يبعثون إلى الجنة فدفنوا فيه، وهذا المكان العظيم الذي يحوي هؤلاء الشهداء يذكرنا بالتضحيات في سبيل الله، والبذل لإعلاء كلمة الله، ونحن في زمان يحتاج فيه المسلمون إلى النصرة، ويحتاجون فيه إلى تذكر الهدي الأول والعهد السابق، فتكليفنا وتكليف أولئك واحد، وخطابنا بين يدي الله واحد، ونعمة الله علينا سابغة، فقد أنعم الله علينا بعدهم بأنواع النعم، ولذلك فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تذكروا ما هم فيه من النعم، وتذكروا حال شهداء أحد يبكون لذلك، فقد صح عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه كان صائماً يوماً في المدينة فقرب إليه إفطاره فبكى, قالوا: ما يبكيك يا عبد الرحمن؟ قال: تذكرت أخي مصعب, فإنه حين قتل في أحد لم نجد ما نكفنه به, فكنا إذا غطينا رأسه بدت رجلاه، وإن نحن غطينا رجليه بدا رأسه، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه، وأن نجعل على رجليه من الإذخر، فمات ولم يتعجل شيئاً من أجره، وبقينا بعدهم ففتحت علينا الدنيا أبوابها، فنحن نهدبها فخشينا أن يقال لنا يوم القيامة: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا [الأحقاف:20].
أين واقعنا من واقع أولئك؟ فنحن اليوم لا نزال نزداد في أمور هذه الدنيا, كلما ازداد حطبها ازداد لهبها، وهي تدعونا إلى الجمع، وتغرنا بطول الأمل، وكل إنسان منا لا يريد إلا منافسة الأغنياء فيها، ولا ينظر إلى الذين اجتباهم الله بالتقوى والعبادة، فلا ينظر إلى ما هم فيه من السعادة، ومع ذلك فإن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين شهد لهم بالتعيين بالجنة، ورضي الله عنهم وأرضاهم لا يقع منهم ذنب إلا وهو مغفور، سبقت المغفرة ذنوبهم، كـعبد الرحمن بن عوف فإن المغفرة سبقت ذنوبه، إذا وقع منه ذنب وهو غير معصوم قد سبقته مغفرة الله ( اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم )، وهو يعلم أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، لكنه مع ذلك يبكي بكاءً شديداً حين رأى الحال اختلف عما كان في أيام النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك فإن زيارتنا لهؤلاء الشهداء تذكرنا أيضاً بأن بيعتنا مع الله سبحانه وتعالى هي بيعة لنا ولهم، فالله تعالى يقول: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111]، وهذه البيعة ماضية في أعناقنا جميعاً، لا يستطيع أحد منا أن يقول: أنا مستثنىً منها, ولست من المبايعين لله على نصرة دينه، لا يستطيع أحد منا أن يقول ذلك، فإذاً هي بيعة لازمة ثابتة في أعناقنا، ولا يغني منها أن نقول كما قال الأولون الذين حين فرضت عليهم الصلاة والزكاة وقيل لهم: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ [النساء:77] رضوا بذلك، فلما فرض عليهم القتال إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً [النساء:77].
كذلك فإن في المدينة مشاهد الخير الأخرى الكثيرة, ومنها: المساجد التي صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان عدد من أصحابه يصلون حيث صلى، ويدعون حيث دعا محبةً له صلى الله عليه وسلم، ومنها: مسجد قريب من موضعنا هذا الذي نحن فيه؛ وهو مسجد بني أمية بن جشم بن الحارث، وهو هنا على هذا الشارع في المكان القريب، وهذا المسجد دعا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ابن عمر يأتيهم فيقول: يا بني أمية! أين المكان الذي دعا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجدكم؟ فيرونه ذلك المكان فيصلي فيه ويدعو.
ومنها كذلك: المسجد الذي فوق الجبل في مكان حفر الخندق, وهو المكان الذي يسمى اليوم بالمساجد السبعة عند أهل المدينة، فالمسجد المرتفع أخرج أحمد في المسند من حديث جابر: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه بين الظهرين يوم الإثنين فدعا فلم يجب، فأتاه يوم الثلاثاء فدعا فلم يجب، فأتاه يوم الأربعاء فصلى فيه بين الظهرين ودعا فأجيب ) فكان جابر يذهب إليه بين الظهرين يوم الأربعاء فيدعو فيه.
وكذلك فالعقيق وادي المدينة قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( آتاني الليلة آت من ربي فقال: إنك في بطحاء مباركة فصل )، فهو مكان مبارك، أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببركته.
ثم بعد هذا حدود الحرم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حددها فقال: ( المدينة حرم ما بين جبليها )، وكذلك قال: ( ما بين عائر إلى كذا )، وفي رواية: ( ما بين عير وثور، من أحدث فيها حدثاً، أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً )، صح هذا من حديث أبي هريرة، وفي حديث علي رضي الله عنه كما في حديث أبي جحيفة السوائي في الصحيحين قال: ( قام فينا علي خطيباً فسألناه فقلنا: هل عندكم شيء تقرءونه غير كتاب الله؟ فقال: والذي فطر النسمة وبرأ الحبة ما عندنا شيء نقرأه غير كتاب الله، أو فهم آتاه الله لرجل بكتابه، أو ما في هذه الصحيفة، فأخرج صحيفةً من جراب سيفه فإذا فيها العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر، والمدينة حرم ما بين عائر إلى ثور، من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، ومن انتسب إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، ومن ذبح لغير الله فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ).
وكذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم حد الحرم في العرض، فقال: ( إني أحرم ما بين لابتيها )، واللابتان هما الحرتان: وهما حرة الوبرة, وحرة واقم، فحرة الوبرة هي الحرة الغربية، وحرة واقم هي الحرة الشرقية، فما بين هاتين الحرتين هو الحرم، والمدينة اليوم قد زادت على الحرم فأصبح كثير من بيوتها خارجة حدود الحرم في العرض، أما في الطول فلم يخرج منها من حدود الحرم إلا ما كان وراء الميقات, فوراء عير ذلك وراء الحرم، أما الحرم في الطول فمن ثور وهو الجبل المرتفع الذي في غرب المطار في أرجح الأقوال، وعير هذا الجبل الذي يحد المدينة من الجنوب وهو الذي حول الميقات ترونه عند الميقات إلى اليسار، وهذا يقتضي أن جبل أحد كله في داخل الحرم، وهذا مفسر لقوله صلى الله عليه وسلم: ( المدينة حرم ما بين جبليها )، فلا يقصد بجبليها عير وأحد كما يتوهمه بعض الناس؛ لأن أحداً يحدها من الشمال، كما يحدها عير من الجنوب؛ لأنه فسر في الحديث الآخر: ( ما بين عير إلى ثور )، فدل ذلك على أن أحداً بكل ما يتبعه داخل الحرم، وأحد موضع آخر من المواضع الشريفة في المدينة، فهو الصحابي الوحيد الذي نعرفه اليوم على وجه الأرض، لم يبق على وجه الأرض ممن صحب محمداً صلى الله عليه وسلم وأحبه وكلمه النبي صلى الله عليه وسلم لم نعرفه إلا أحداً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال له عندما تحرك: ( اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيد )، وكذلك فإنه قال فيه: ( أحد جبل يحبنا ونحن نحبه )، وكذلك قال فيه: ( أحد ركن من أركان الجنة يوم القيامة )، وكل هذا يقتضي محبة هذه البقاع الطاهرة, ومنها أحد هذا الذي ترونه، وتكحلون أبصاركم برؤيته, والنظر إلى مكان رأته عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورآه أصحابه، وأنتم تعرفون ما قال الشاعر:
يا حبذا بلد يلي بلداً يلي بلد الحبيب وعامره
ومثل ذلك هذا الجبل الذي ترونه في داخل البيوت وهو جبل سلع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم صعده أكثر من مرة، فقد صعده عندما سمع النداء كما في حديث المندوب، وصعده كذلك في حفر الخندق، وهو جبل في وسط المدينة، ودونه جبل صغير يسمى سليعاً كانت عليه دار أبي طلحة الأنصاري؛ دار أم سليم بنت ملحان، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورهم فيها في هذه الدار، وهو الذي يقع في جنوب محطة النقل الجماعي، ومحطة النقل الجماعي في مكانها مسجد مشهور وهو مسجد السبق، وهو مسجد بني زريق الذي في حديث ابن عمر في الصحيحين: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق الخيل المضمرة من الثنية إلى مسجد بني زريق، وكنت فيمن ركبها )، وعن جهة القبلة منه بئر بضاعة التي توضأ منها رسول الله صلى الله عليه وسلم في إناء، فأمر بصبه فيها، فكان أصحابه بعد ذلك يتطهرون منها، وهذه البئر بقيت زماناً طويلاً على هيئتها، فقد أتاها قتيبة بن سعيد وهو تلميذ مالك فبسط عليها رداءه فإذا عرضها أربعة أذرع، ودخل فيها فإذا ماؤها عندما ينزح يسيل إلى الركبة، وإذا ارتفع وصل تحت السرة، وأتاها بعد ذلك أبو داود سليمان بن الأشعث صاحب السنن، فوجدها على هذه الهيئة، وسأل أمينها وخازنها: هل غيرت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا, لم تغير.
ومن الآبار التي في المدينة كذلك بئر أريس؛ وهو بئر الخاتم، وهو البئر التي وقع فيها خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم من يد عثمان بن عفان، وهذه البئر في غرب مسجد قباء في النخل الذي في غربه، وقد مر عليها اليوم الخط السريع، وقد وقع فيها خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يتخذ خاتماً من قبل حتى أخبر أن الروم لا يقرءون كتاباً إلا مختوماً، وأراد أن يكتب إليهم، فاتخذ في البداية خاتماً من ذهب فاتخذ الناس خواتيم من ذهب، فنزعه ورماه وقال: لا أعود إليه أبداً، فنزع الناس خواتمهم، ثم اتخذ خاتماً من فضة نقشها: محمد رسول الله، كأني أنظر إلى بياضه في إصبعه كما في حديث أنس، وهذا الخاتم كان في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته، ثم كان في يد أبي بكر، ثم كان في يد عمر، ثم كان في يد عثمان حتى وقع من يد عثمان وذلك بعدما كبر عثمان ورقت أصابعه، وقد عاش عثمان إحدى وثمانين سنة رضي الله عنه وأرضاه، فكان يتوضأ فوقع الخاتم من يده في البئر.
وكذلك من آبار المدينة المفضلة بَيرحاء أو بِيرحاء, وهي بئر دخلت الآن في المسجد النبوي في التوسعة الأخيرة عند باب المجيدي الباب الذين يلينا هنا، وكانت بئراً لـأبي طلحة الأنصاري، وكانت أحب ماله إليه، فلما نزل قول الله تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92]، قال أبو طلحة: بَيرحاء أو بِيرحاء هي أحب مالي إلي، فجاء فتصدق بها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( بخ بخ، ذلك مال رابح )، وهذا أيضاً درس آخر من دروس المدينة، وهو درس الإنفاق في سبيل الله، فـأبو طلحة رضي الله عنه لم يكن يملك مالاً أحب إليه من بيرحاء، فلما نزل قول الله تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92]، جاء فتصدق في هذه البئر وبنخلها، وكذلك فإن في المدينة آباراً أخرى مثل: بئر في غربها تسمى بئر بيسان, قد بصق فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان الناس يتبركون بماء هذه البئر إذ بصق فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما زالت إلى الآن معروفة, ومكانها معروف في جهة البيضاء في الشمال الغربي من المدينة على طريق العيون، وكذلك بئر سلمان الفارسي، وما زالت معروفةً أيضاً إلى الآن, وهي قائمة على ما تركها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن سلمان حين كاتبه أهله من اليهود كاتبوه على نخل, فشارك رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرون والأنصار في غرس هذا النخل، وغرس منه رسول الله صلى الله عليه وسلم على بئر, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلب منها الماء، وما زالت قائمةً إلى الآن، وهي دون العوالي, في جهة العوالي في الجنوب الشرقي من المدينة، وقد وضع عليها اليوم شبك كتب عليه: منطقة آثار، وهي منطقة فيها الآثار فعلاً؛ لأن فيها البئر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجذب منها، وفيها نخل سلمان الذي غرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضها، وذلك درس آخر من دروس المدينة يدل على الإخاء والمواساة، وعلى أن المؤمنين جميعاً يد واحدة، فـسلمان رجل واحد من المسلمين، وكان رقيقاً لدى اليهود، فهب المسلمون جميعاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقية أصحابه من المهاجرين والأنصار لمساعدته، فهذا يدلنا على أننا يشرع لنا أن نتعاون جميعاً على البر والتقوى، وأن يساعد بعضنا بعضاً، وأن يكون حق الإسلام مقدماً على غيره من الحقوق، فـسلمان ما يجمعه مع المهاجرين والأنصار من العرب نسب قريب؛ لأنه رجل من فارس، ولكن يجمعه معهم ما هو أولى من ذلك وأقوى؛ ألا وهو رابطة الإسلام والإخاء في ذات الله عز وجل، فلذلك خدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أشرف خلق الله بيده، وقام بغرس النخل بيده بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم إكراماً لـسلمان الفارسي، وكذلك كان سلمان بعد يفهم هذا الأمر، فقد كان يقول عندما خرج من المدينة إلى العراق، وقد ولاه عمر على مدائن كسرى قيل له: ما لك خرجت من المدينة؟ فقال: إن الأرض لا تقدس أحداً، وهذا درس عظيم يدل على أن الإسلام ينبغي أن يهتم بإصلاح علاقته بالله، بتقواه، فهذا الذي يتفاضل الناس به، فلا يكفي أن يكون من سكان المدينة، ويكون مع ذلك مخالفاً للسنة أو عاصياً لله، فهذا تكون المدينة حجةً عليه لا له، ولهذا قال سلمان: إن الأرض لا تقدس أحداً، فكثير هم الذين يسكنون في البقاع المقدسة وهم غير مقدسين ولا مشرفين، لكن إذا جمع الإنسان بين التقوى والورع ولزوم السنة وبين محبة البقاع المقدسة فهذا وصف الكمال المحمود.
إذاً: هذه بعض مشاهد هذه المدينة المشرفة المقدسة، ولا نستطيع إحصاءها ولا الإحاطة بها أبداً، ولكننا لابد أن نتذكر نعمة الله علينا حين أوصلنا إلى هذه البقاع، وأرنا أماكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولابد أن نخرج منها بدروس عظيمة كبيرة، فنحن نستقبل أقدس رحلة نخرج فيها في حياتنا, وهي رحلة الحج, فهي أقدس مشهد وموكب يخرج فيه المسلمون، ونخرج فيها كأنها رحلة إلى الدار الآخرة، فكما تعلمون الذي يقدم على الحج يغتسل كما تغسل الجنازة، ويتعطر ويتطيب كما تحنط الجنازة، ويلبس ثياب إحرامه كما تكفن الجنازة، ويكف عن شعره وأظافره ووسخه وقمله وتفثه كالميت، وينتقل ملبياً نداء الله سبحانه وتعالى إلى الدار الآخرة، فكذلك لابد أن نأخذ عبراً ودروساً لزيارتنا لهذه المدينة المقدسة.
ومن هذه العبر والدروس: أن نلتزم كذلك بالأدب النبوي فيها، وأن نرجع وقد تغير حالنا، فمن جاء إلى المدينة ثم رجع كما هو, وعلى الحال الذي جاء به إلى المدينة فلم يربح شيئاً لزيارته للمدينة، أما من كانت نفسه لا تطيعه إذا أراد طاعةً لله سبحانه وتعالى، أو كانت نفسه كذلك لا تطيعه إذا أراد كفها عن معصية الله، فرجع ونفسه منقادة للطاعات، نافرة من المعاصي، فهذا قد استفاد من زيارته للمدينة، ولا شك أن الذين يزورون هذه المدينة المقدسة سيرجعون وأحوالهم أحوال شتى، وهم متفاوتون، فالوفد متفاوت الدرجة، ولذلك جاء في الحديث الذي أخرجه الطبراني في معجمه الكبير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن العبد إذا كان زاده من حلال وراحلته من حلال فوضع رجله في الغرز فنادى: لبيك اللهم لبيك, ناداه مناد من السماء: لبيك وسعديك، حجك مبرور، وسعيك مشكور، وذنبك مغفور، راحلتك حلال، وزادك من حلال. وإذا كان زاده حراماً وراحلته حراماً فوضع رجله في الغرز فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء: لا لبيك ولا سعديك، حجك غير مبرور، وسعيك غير مشكور، وذنبك غير مغفور، زادك حرام, وراحلتك حرام ).
فلابد أن نعلم أن الناس هنا على مراتب شتى، وعلينا أن نسعى لأعلى هذه المراتب وأسماها، فمن كان مصراً على ذنب من الذنوب، مثل: عقوق الآباء والأمهات، أو أكل الربا، أو التفريط في الصلاة، أو التفريط في الطهارة المائية الواجية، أو قطيعة الأرحام، أو الشحناء والبغضاء، أو المشي بالنميمة، أو غير ذلك مما حرمه الله سبحانه وتعالى فجاء هنا تائباً منيباً إلى المدينة، وتذكر قول الله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ [النساء:64]، فجاء مستغفراً منيباً تائباً فتغير حاله, وتحسر وعاد إلى الوصف الأكمل, فقد استفاد من رحلته حين جاء تائباً، ورجع وقد عاهد الله على إصلاح حاله.
وكذلك إذا كان الإنسان مقصراً في بعض السنن والمندوبات، فكان مثلاً: لا يقوم الليل، أو لا يصوم بعض النفل، أو كان يخالف الهدي النبوي في بعض السنن، مثل: عدم الإسراف في الملابس، أو بعض سنن النبي صلى الله عليه وسلم الأخرى كتوفير اللحية مثلاً أو غير ذلك، فلما جاء هنا زادت محبته لله ورسوله، ورأى آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعجب بذلك فرجع تائباً منيباً فانقادت نفسه لقيام الليل وصيام النفل ولغير ذلك من الطاعات، والتزم السنن محبةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد استفاد من رحلته وزيارته للمدينة.
وهنا لابد من التفكير ببعض المخالفات التي يقع فيها بعض الناس في المدينة، فمنها ما يقع هنا من المذموم شرعاً وعرفاً, والذي هو مشوه للصورة، والذي لا يمكن أن يقبل بوجه من الوجوه، فهذا ليس مكان المعصية، فمن أراد أن يعصي الله فليذهب إلى مكان لا يزيد فيه حرمة الزمان والمكان، ولا يأتي في الشهر الحرام، وفي البلد الحرام, ويجاهر في المعصية، والملائكة هم حراس المدينة.
ومثل ذلك ما نراه أيضاً في كثير من الأحيان من إضاعة الوقت في الكلام القبيح الذي لا يرضاه الله سبحانه وتعالى من أكل الغيبة، والطعن في أعراض المسلمين، فكثير من الناس يتعود على ذلك حتى في المدينة المقدسة المشرفة، وبذلك يشهد عليهم الملائكة الذين هم حرس المدينة بهذا الاقتراف العظيم، وهكذا في غير هذا من المخالفات العظيمة الجسيمة التي يقع فيها كثير من الناس، ودون هذه أيضاً بعض التقصير الذي يقع في بعض الأمور التي ترفع الدرجة وتزيد القدر، فأنتم تعلمون أن الناس هنا جميعاً ضيوف لله سبحانه وتعالى، ناداهم فلبوا وأجابوا، وهم هنا ضيوف رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً, فعلينا أن نحسن إليهم، فأنتم تعرفون أن صاحب الدار يسيئه ما يسيء إلى ضيوفه وأهله، ولا شك أن كل واحد منكم إذا كان يستضيف ضيفاً كريماً عليه وهو يكرمه غاية الإكرام فأتاه شخص فآذاه وسبه وشتمه في منزله وبيته فلا شك أنه سيتعرض لأذىً مبين.
إن الناس هنا أتوا ضيوفاً على الله سبحانه وتعالى، وضيوفاً على رسوله صلى الله عليه وسلم، فأكرموا ضيوف ربكم وضيوف نبيكم صلى الله عليه وسلم، واسعوا لمساعدتهم على أداء نسكهم وأداء عباداتهم, وعلى إكرامهم جميعاً، وتدربوا قبل الحج على كف اللسان، وكف الجوارح عما لا يرضي الله، فقد قال الله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197]، وهي: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، وأنتم فيها الآن، الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:197].
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ).
فلذلك علينا أن نتعود الآن على كبح جوارحنا عما لا يرضي الله، فمن كان يتكلم كثيراً من الكلام في القصص الماضية، ويفسد وقته بالحكايات والأمور التي لا يوثق من أسانيدها، أو حتى لو كان إسنادها صحيحاً لكنها مضيعة للوقت، فعليه أن يكف الآن عن إضاعة وقته، وعليه أن يكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذكر الله سبحانه وتعالى، وقراءة القرآن في هذا المكان الذي نزل فيه، وعليه أن يعود نفسه ويدربها قبل الحج على الكف عن كل المعاصي، وإذا لم يفعل فجاء إلى الحج على ما هو عليه شق عليه الكف حينئذ، ولم يستفد من زيارته هذه شيئاً، نسأل الله السلامة والعافية.
إن علينا عباد الله! أن تكون زيارتنا ذات معنى وتأثير في نفوسنا، وألا تكون حدثاً عابراً ككل الأحداث، فزيارة المدينة لا يمكن أن تقارن بزيارة باريس، أو زيارة بروكسل أو غيرها، فلابد أن تكون ذات أثر بالغ في نفوسنا، ولابد أن نجد الراجع من المدينة قد تأثر بهذه الزيارة، وجاء يحمل قبسات من نور المدينة، ولابد أن تتهيئوا جميعاً لأن تحملوا أنوار رسول الله صلى الله عليه وسلم من هنا، وأن تؤدوها إلى مكانكم، وأن تبلغوا عن رسولكم صلى الله عليه وسلم إلى من جئتم رسلاً من عندهم، ولابد أن تتذكروا أنكم في البقاع الطاهرة التي يستجاب فيها الدعاء، فتكثروا من الدعاء، وبالأخص لابد أن تتذكروا إخوانكم وأهل بلادكم، فبلادكم محتاجة إلى كثير من الخيرات من الأمن والأمان والاستقرار والأمطار، ورخص الأسعار وغير ذلك، فلابد أن تجتهدوا في الدعاء لبلدكم وغيره من بلاد المسلمين، ولابد أن تتذكروا من أوصاكم بالدعاء من إخوانكم وأهليكم، وتذكروا أن كثيراً منهم يتمنون الوصول إلى هذا المكان ولو خرجوا بكل أموالهم في سبيل ذلك، وقد سبقنا عدد كبير من علماء بلادنا الذين بذلوا الكثير من أجل الوصول إلى هذا المكان، فقد جاء عدد من الكبار من العلماء وهم يمشون على أرجلهم إلى هذه البقاع، ومنهم من تمنى الوصول فلم يصل، فمثلاً: تتذكرون قول محمد ولد محمدي رحمه الله:
تجلد جهد نفسك للفراق وكفكف غرب سافحة المآقي
وواصل من عزيمك ما يوازي مترات المهندة الرقاق
ونكب عن مقال أخي الهوينى وعنها فهي كاسدة الصفاق
وعن باك وباكية أراقا دموعاً ليس واكفها براقي
إلى البيت العتيق بنص إحدى عتاق الكوم أو أحد العتاق
أجادت خلف غاربها بناءً يدا صفو المراتع والمساق
صفا نفسي الصفا ومنىً مناها وبالجمرات قلبي ذو احتراق
وتتذكرون كذلك قول العلامة أحمد بن محمد بن محمد سالم المجلسي رحمهم الله:
أتذري عينه فضض الجمان غراماً من تذكره المغاني
مغان بالعقيق إلى المنقى إلى أحد تذكرها شجاني
ومن تذكار منزلة بسلع إلى الجما تعاني ما تعاني
فهل عزم يصول على التواني وهل بعد التباعد من تداني
وهل أغدو بكور الطير رحلي على وجناء دوسرة هجان
تبذ العيس لاحقة كلاها وتطوي البيد مسنفة اللماني
ترى بعد الدؤوب كأخدري بيمؤود أرن على أتاني
حداها شوق دار الفتح مأوى إمام الرسل مأمن كل جاني
بعيشك صف شمائله فإني أحن إلى شمائله الحسان
فما شمس الظهيرة يوم دجن تحاكي وجنتيه ولا تدان
ولا بدر التمام إذا تبدى يحاكي الوجه ليلة إضحيان
ويشفي بالمسيس عضال داء دوٍ ما للأساة به يدان
إلى آخر القصيدة، وتتذكرون كذلك قول العلامة محمد سالم بن عدود حفظه الله:
يا حبذا المدينة المنورة وحبذا قبتها المدورة
وحبذا روضتها المرجبة وحبذا حجرتها المحجبة
يا رب إما أقضي من عمر وطر ولم أحس في خلجي أي خطر
وأيقنت أن حمامي إن نزل ...... الأصاغر الخلل
فاجعل منيتي بدار السنة شهادة موجبة للجنة
فذلك لا بد أن نتأثر كثيراً بزيارتنا لهذه المدينة المشرفة العظيمة، وأن نستشعر حرمتها.
نسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل ما نقوله ونسمعه حجةً لنا لا علينا، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا، وأن يجعلنا في قرة عين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يرزقنا التمسك بسنته عند فساد أمته، وأن ينفعنا بزيارة هذه المدينة المشرفة، وبزيارة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وأن يجعلنا من المقتفين لسنته، المتبعين لآثاره، وأن يحشرنا تحت لوائه، وأن يسقينا من حوضه بيده الشريفة شربةً هنيئةً لا نظمأ بعدها أبداً، وأن يغفر لنا ذنوبنا وخطايانا وإسرافنا في أمرنا، وأن يغفر لوالدينا وأشياخنا وسائر المسلمين والمسلمات.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر