إسلام ويب

من المشاريع الإسلاميةللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • غدت السياسة اليوم هي المسرح العالمي الذي يتابعه أغلب الناس، والسياسة ليست مذمومة كلها، فمنها السياسة الشرعية الإسلامية التي حكمت لعدة قرون، فهي ربانية المصدر، بدأ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم من بداية دعوته سراً إلى أن توفاه الله، ثم قام بها الخلفاء والأمراء من بعده، وقد اعتنى بها العلماء والفقهاء والمفكرون

    1.   

    السياسة العالمية وأثرها على المجتمعات

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد:

    لا شك أن الموضوع الذي طرح الإخوة نقاشه هو موضوع مهم يفكر فيه أكثر المسلمين اليوم، سواءً منهم من كان من أهل هذا الشأن ومن ليس من أهله؛ وذلك لما للسياسة من خطر؛ فإن جرة قلم من السياسة يمكن أن تعطل الدعوة ويمكن أن تغير الفقه، ويمكن أن تغير الأخلاق ويمكن أن تغير معاش الناس، والسياسة مؤثرة في كل مجالات الحياة؛ فيمكن أن توقف عجلة النمو ويمكن أن تغير أخلاقيات الشعوب، وبالأخص في هذا الزمان الذي انفرد فيه في السياسة العالمية من يريد أن يسير الناس والعالم على مشتهاه ومراده، ونشأت ما يسمى بالنظام العالمي الجديد، مع تحفظنا على الكلمات الثلاث، فكونه نظاماً نتحفظ عليها؛ لأن الذي نراه هو الفوضى، وكونه عالمياً نتحفظ عليها؛ لأن الذي نراه أنه أمريكي، وكونه جديداً نتحفظ عليها؛ لأن الاستعمار قديم ولكن جاء بثوب جديد، وتوقف الدفع أو التدافع الذي كان حاصلاً في أيام الحرب الباردة وما سبقها؛ فلذلك يراد أن يكون العالم الآن قرية صغيرة تمشي عليه سياسة واحدة فتؤثر تلك السياسة في الدين والأخلاق والمعاش والقيم وكل شيء، فيمكن أن تفرض القيم الأمريكية مثلاً على المغاربة أو السودانيين أو غيرهم فرضاً عن طريق السياسة، ويمكن أن يفرض التعليم بالمنظور الأمريكي كذلك على الموريتانيين وعلى السعوديين أو غيرهم فتغير المناهج بمقتضى السياسة الأمريكية، وهكذا في كل مجالات الحياة.

    1.   

    السياسة الإسلامية وتشريع الله لها

    من المعلوم شرعاً أن المسلمين قد اختط الله لهم طريقهم، واختار لهم هذا الشرع الحنيف المصدق لما بين يديه من الحق، والمنكر للأباطيل كلها والمهيمن على الدين كله، وهذا الدين الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الدين عند الله؛ فكل الديانات السابقة واللاحقة لا يمكن أن تصلح للشأن البشري إلا لمدة محصورة وفي ظروف محصورة، فالديانات تنقسم إلى قسمين: ديانات منزلة من السماء، من عند الله عز وجل، وديانات أرضية اخترعها أهل الأرض من عند أنفسهم، والقوانين الوضعية هي من هذا القبيل الأخير؛ فما هي إلا ديانات أرضية مخترعة، وقد سمى الله القانون في القرآن ديناً؛ فقال: كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ المَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ[يوسف:76] (في دين الملك) أي: في قانونه الذي يحكم به.

    التشريع الإسلامي ومصدره

    ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى جعل التشريع من خصائص الألوهية فنفى كل الديانات الأهلية، وجعل كل تشريع وتقنين يفعله البشر من عند أنفسهم شركاً بالله، قال الله تعالى: أَمْ لَهمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ[الشورى:21]، وقال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ[يونس:59]، فلذلك المشرع هو الله جل جلاله؛ لأنه العليم الخبير بمآلات الأمور، وكل من سواه إذا شرع فسيكون تشريعه قاصراً ناقصاً؛ لأن علمه قاصر ناقص؛ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا[الإسراء:85]، والله تعالى يقول عن نفسه: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ[الملك:14]؛ فلذلك نجد المشرع الأرضي إذا أراد أن يشرع قانوناً بقي فيه كثير من الثغرات، فيحتاج إلى التعديل في نطاق أشهر قليلة، ثم يحتاج إلى التعديل بعد ذلك.. وهكذا، تجدون القانون صادر بتاريخ كذا برقم كذا المعدل بتاريخ كذا برقم كذا، وهكذا، بل تجدون الحاجة إلى إلغاء الدساتير وتغييرها، وتكرر ذلك في العالم كله، وأرقى بلاد العالم بمنظور أهل الدنيا في كل يوم تتغير فيها القوانين ويجدون الثغرات في الدساتير وغيرها، ويجدون التناقضات الكبيرة فيما يشرعونه، وقد قال الله تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا[النساء:82]، فالاختلاف الكثير يقع في تشريعات البشر بالضرورة.

    ومن هنا فمن المعلوم في الشرع الذي أنزله الله سبحانه وتعالى أن الله جعل هذا الشرع حكماً فيما بين البشر؛ فهو ينظم علاقاتهم مع الله وعلاقاتهم فيما بينهم، ولم يهمل صغيرة ولا كبيرة من شئون حياتهم، فغطى كل ذلك، إما بالتصريح وإما بالتلميح، فحياة الناس منها ما هو مغطىً بنصوص شرعية قطعية الدلالة قطعية الورود، وهذا ما لا يختلف فيه المسلمون، ومنها ما يكون مغطىً بنصوص شرعية قطعية الورود، ظنية الدلالة، وهذا يختلف فيه المسلمون اختلافاً لا ضير فيه، ومنها ما يكون مغطىً بفهم أهل العلم الراسخين الذين أحال الله إلى فهمهم واستنباطهم؛ فقد قال الله تعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ[النساء:83]، وإذا رجعنا إلى دلالات هذه الآية نجد أن الأمر لا يعدو أمرين: أمر السلم، وأمر الحرب.

    أمر السلم معناه: الحالات الاعتيادية، وأمر الحرب معناه: الحالات الاستثنائية، وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ[النساء:83] الأمن: الحالات الاعتيادية، الخوف: الحالات الاستثنائية، وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ[النساء:83] بالفوضى بين الناس، يتكلم فيه كل من هب ودب ممن لا يستطيع سبر أغوار الأمور ولا يستطيع فهم نتائجها وما يترتب عليها، وَلَوْ رَدُّوهُ[النساء:83] هذا الحل، إِلَى الرَّسُولِ[النساء:83] والرد إليه بعد موته بالرد إلى سنته كما قال الإمام الشافعي في الرسالة: (الرد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرد إلى سنته، والرد إلى الله بالرد إلى كتابه) وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ[النساء:83] وعرف أولي الأمر فقال: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ[النساء:83]، فأولو الأمر هم أهل الاستنباط؛ فهم الذين يأمرون؛ ويجب طاعتهم في أمرهم؛ لأنهم موقعون عن رب العالمين، وورثة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، والمبينون لما أنزله الله على رسوله فتجب طاعتهم ويجب الأخذ بفتواهم في أمور الشرع، لكن لا يحل لهم أن يصدروا في أمر الشرع عن الهوى، أو أن يصدروا مما سولته لهم نفوسهم؛ لأنهم نائبون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في التبليغ؛ فلذلك يقولون الحق ولو كان مراً، ويقولون الحق ولو خالف أهواءهم، ولو كان عليهم لا لهم، وقد بين الله أن هذا هو علامة الإيمان فقال في سورة النور: إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[النور:62-63]، وقال قبلها: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ[النور:48-52].

    وهذا الشرع الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم لم يترك أي مجال من مجالات حياة الناس إلا غطاه بهذه التغطية، منها ما هو بين كما ذكرنا لا يقع فيه الاختلاف، ومنها ما يكون المرجع فيه إلى اجتهادات أولي الأمر وهم أهل العلم القادرون على الاستنباط فيغطونه من النصوص الشرعية.

    النصوص الشرعية في تنظيم السياسة

    وإذا عرفنا ذلك فإن مجال السياسة كغيره جاءت فيه نصوص تنظمه، وهذه النصوص منها ما هو قولي، ومنها ما هو عملي من عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته وسنة خلفائه الراشدين المهديين؛ فقد أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم دولة كانت سياستها مبنية على أركان واضحة مرنة، قابلة للتطبيق في كل زمان ومكان؛ فقد بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بمكة على فترة من الرسل واقتراب من الساعة وجهالة من الناس، فجاء والناس إذ ذاك في جاهلية جهلاء وشرك بالله، وهم يعبدون الأصنام ويقطعون الأرحام، ويقتتلون فيما بينهم لأتفه الأسباب، بسبب أن فرساً غلبت أخرى كانت حرب داحس والغبراء، وبسبب أن ناقة كسرة بيضاء كانت حرب البسوس التي دامت ثلاثين سنة.

    1.   

    سياسة رسول الله في تنظيم أتباعه وتقسيمهم

    وجاء الرسول صلى الله عليه وسلم لتغيير كل ذلك، وللإتيان بالدين الحق الذي كانت الأديان كلها بمثابة الإعداد له كما قال الله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلامُ[آل عمران:19]، فدعا إلى الله سبحانه وتعالى ومكث ثلاث سنين لا يدعو إلا من يثق به، وبعد ذلك قسم الذين التحقوا به إلى ثلاثة أقسام:

    من يصلح لتحمل المسئولية دون عوائق

    القسم الأول: الذين يصلحون لتحمل المسئوليات والأعباء، ويمكن أن يكتموا الأسرار وينفردوا عن المجتمع، ويتلقوا التربية الخاصة جعل لهم محضناً خاصاً هو دار الأرقم ، وأقام لهم تنظيماً سيقيم هذه الدولة فيما بعد.

    من يصلح لتحمل المسئولية مع عوائق تتعلق بالمجتمع

    والقسم الثاني: الذين ليس لديهم عوائق في أنفسهم، وهم مثل سابقيهم في الاستعداد لهذا المشروع والقيام بهذه الأعباء، ولكن لديهم عوائق تتعلق بالمجتمع من حولهم لحاجته إليهم، وهؤلاء جعل لهم محضناً آخر وهو دار سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وزوجته فاطمة بنت الخطاب بن عمرو بن نفيل .

    ونرى في اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم لهذين المحضنين أمراً عجيباً؛ فـالأرقم بن أبي الأرقم شاب من بني مخزوم، وهم من حلف لعقة الدم، الذي كان مغايراً لبني هاشم؛ فبنو هاشم يرأسون حلفاً من قريش هو حلف المطيبين، ومخزوم وبنو عدي في الحلف الآخر، الذي هو حلف لعقة الدم، وقد كانت النفرة حاصلة بينهم وبين بني هاشم في الجاهلية، فجاء الإسلام فزادها فكان أبو جهل عمرو بن هشام من ألد أعداء هذه الدعوة منذ بدايتها؛ فلم يختر النبي صلى الله عليه وسلم هذين المحضنين في ديار بني هاشم ولا في ديار بني المطلب ولا في ديار أحد من حلف الفضول، وإنما اختار رجلين من الحلف الآخر.

    ثم إن دار الأرقم كانت على الصفا؛ فلذلك هي مؤمنة تأميناً كاملاً؛ لأن الإنسان إذا رأى من يتابعه وهو يريد الدخول أو الخروج من دار الأرقم يجعل ذلك سعياً بين الصفا والمروة، ولا يستغرب السعي بينهما في أية ساعة من ليل أو نهار؛ لأن هذا من شأن الناس وعبادتهم، وأما سعيد بن زيد فقد كانت داره قريبة من عمر بن الخطاب وهو إذ ذاك من أشد أعداء هذه الدعوة وألدهم، ففيها أخته وابن عمه وهو يزورها في كل وقت؛ فكانت مؤمنة تأميناً صحيحاً.

    والقسم الأول له أمثلة؛ فمن أمثلته أبو بكر الصديق و علي بن أبي طالب و الزبير و طلحة و أبو عبيدة بن الجراح وغيرهم.

    والقسم الثاني من أمثلته: عمار بن ياسر ، وكان تاجراً يبيع للناس بالسقط؛ فالناس بحاجة إليه في كل وقت، ولو طلبوه فوجدوه في دار الأرقم لاكتشف التنظيم والعمل.

    ومنهم عبد الله بن مسعود وكان راعياً يرعى الغنم على الناس، فلو أضل قوم شاة من الليل وجاءوا يطلبون ابن مسعود فوجدوه في دار الأرقم لاكتشف التنظيم والعمل، ومنهم خباب بن الأرت ، وكان حداداً يصلح للناس الأبواب والنوافذ؛ فلو جاء قوم يطلبونه لإصلاح باب أو نافذة من الليل ووجدوه في دار الأرقم لاكتشف التنظيم والعمل، فجعل لهم محضناً مستقلاً.

    من لا يصلح لتحمل المسئولية لوجود العوائق

    القسم الثالث: الذين لا يصلحون لتحمل هذه الأعباء، وليس ذك نقصاً في إيمانهم ولا في مستواهم في الشرع، ولكنه راجع إلى أصل خلقتهم وفطرتهم، وهؤلاء لم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم انتظامهم في إطاره الذي أقامه، بل قال لكل واحد منهم: ( ارجع إلى قومك فكن فيهم، فإذا علمت أن الله أظفرني فالحق بي )، ومن هؤلاء أبو ذر وحديث إسلامه في الصحيحين، فإنه قال: ( كنت في قومي فلم أزل أسمع بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كثر علي ذلك أرسلت أخي فقلت: اذهب إلى مكة فأتني بجلية أمر هذا الرجل؛ فعاد فقال: وجدته والناس فيه مختلفون، بين مصدق له ومكذب، وقومه عليه جرآء، فقلت: لم تشف لي غليلاً، فقعدت على راحلتي فأتيت مكة، فاستقبلني الملأ من قريش عند الكعبة فقالوا: لعلك غريب بهذا الوادي فإن به رجلاً ساحراً هو أسحر خلق الله؛ فحذاري أن يفتنك، فجعلت قطناً في أذني؛ لئلا أسمع شيئاً من كلامه.. ) انظروا إلى الاستعجال! مجرد سماع كلام الخصم أثر فيه هذا التأثير، قال: ( فجلست عند الكعبة فأتاني علي بن أبي طالب وهو شاب حدث، فقال: لعلك غريب بهذا الوادي؟ قلت: أجل، قال: هل لك في ضيافة؟ قلت: وددت ذلك؛ فقال: اتبعني، فكان إذا رأى من ينظر إليه تشاغل بإصلاح نعله.. ) فهو يؤمن الخروج بهذا الضيف حتى يوصله إلى النبي صلى الله عليه وسلم ( حتى أدخلني على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأيت وجهه عرفت أنه ليس وجه كذاب، فعرض علي الإسلام فأسلمت ) وضيفوه وأكرموه، ثم لما أراد الخروج قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ارجع إلى قومك فكن فيهم، فإذا علمت أن الله أظهرني فالحق بي، واكتم إيمانك عن قريش فإني أخافهم عليك، قلت: والذي بعثك بالحق لأرمين بها بين أظهرهم.. )، انظروا إلى السبب الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم لا يلحق أبا ذر رضي الله عنه بهذا العمل، رجل علانية لا يستطيع الكتمان، وليس ذلك نقصاً في إيمانه ولا في مستواه، بل هو من أفاضل الصحابة الكرام ومن أعالي أهل الجنة المشهود لهم بها، لكن أصل خلقته لا تتحمل.

    والثاني من هذا النوع: الطفيل بن عمرو الدوسي ، وحديث إسلامه في صحيح البخاري وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( ارجع إلى قومك فكن فيهم، فإذا علمت أن الله أظهرني فالحق بي. قال: فأتيت قومي من الليل فاستقبلني أبي فقلت: إليك عني فلست منك ولست مني! قال: ولم يا بني؟! قلت: تابعت محمداً ودخلت في دينه، قال: ديني دينك، فاستقبلتني أمي فقلت: إليك عني فلست منك ولست مني! قالت: ولم يا بني؟! قلت: تابعت محمداً ودخلت في دينه، قالت: ديني دينك، فاستقبلتني صاحبتي فقلت: إليك عني فلست منك ولست مني؟! قالت: ولم؟! قلت: تابعت محمداً ودخلت في دينه، قالت: ديني دينك )، فهو رجل ناجح في العمل الدعوي العلني، ولكنه لا يستطيع تحمل الكتمان وتحمل الأعباء الشديدة؛ فلذلك لم يجعله النبي صلى الله عليه وسلم منتظماً في هذا العمل.

    1.   

    أركان إقامة رسول الله للدولة والتمكين للدين

    فالنبي صلى الله عليه وسلم أراد بهذا العمل الذي وهو عمل سياسي، يراد به إقامة الدولة والتمكين للدين على خمسة أركان:

    الربانية والاتصال بالله تعالى

    الركن الأول: الربانية والاتصال بالله جل جلاله وقصد وجهه الكريم بالأمر كله؛ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ[الأنعام:162-163]، فالحكم يقصد به التقرب إلى الله وإعلاء كلمته وإعزاز دينه والقيام بالقسط والعدل في الأرض كما أمر الله بذلك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ[النساء:135]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ[المائدة:8].

    وهذه الربانية تقتضي توكلاً كاملاً على الله؛ فالذي يتصدى لهذا الأمر سيخالفه أهل الأرض وسيجد تعصباً وتصلباً ضده، وربما تكالب عليه الأعداء جميعاً، ونحن نرى التجربة في السودان الآن، وكيف يتكالب عليها العالم بأسره، وما ذلك ببدع ولا مستنكر، بل هو أمر مألوف، فقد قال ورقة بن نوفل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنه لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك لأنصرك نصراً مؤزراً )، والله تعالى بين أن ذلك من سنته الكونية الماضية، فقال: الــم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ[العنكبوت:1-3].

    التربية المخالفة لما كان عليه أهل الجاهلية

    الركن الثاني الذي بنى عليه هذا العمل: هو التربية؛ فقد ربى الأفراد تربية مخالفة لما كان عليه أهل الجاهلية، انظروا إلى حال عمر بن الخطاب الذي كان في جاهليته يصنع إلهاً من التمر ويسجد له ويعبده؛ فإذا جاع أكله، لكنه بعد هذه التربية أصبح يقول للحجر الأسود: ( والله إني لأعلم إنك لحجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك ).

    وأثر هذه التربية كذلك على علي بن أبي طالب الذي هو شاب من هذه الأمة الأمية التي لا تحسب ولا تكتب، بعد هذه التربية يقف على المنبر خطيباً فيقول: (الحمد لله الذي يجزي كل نفس بما تسعى، وإليه المآب والرجعى، فيقول رجل: هالك عن زوجة وأبوين وابنتين، فيقول علي : صار ثمنها تسعاً)، ويستمر في خطبته على نفس الروي والقافية، ومعنى قوله: (صار ثمنها تسعاً) أن المسألة من أربعة وعشرين؛ لأن فيها اجتماع الثمن والسدس، ولا يخرجان من أصل من الأصول إلا أربعة وعشرين، إذاً أصل المسألة أربعة وعشرون، للبنتين الثلثان بنص كتاب الله، والثلثان ستة عشر من أربعة وعشرين، وللزوجة الثمن بنص كتاب الله، والثمن ثلاثة من أربعة وعشرين، وللأبوين لكل واحد منهما السدس بنص كتاب الله، والسدس أربعة؛ فلهما ثمانية، فستة عشر إذا جعل عليها ثمانية استغرقت أربعة وعشرين، وبقي نصيب الزوجة ثلاثة فتعول به المسألة، فأصبحت سبعة وعشرين بدل أن كانت أربعة وعشرين، للزوجة منها ثلاثة وهي نسبة التسع من سبعة وعشرين، لكن كانت نسبة الثمن من أربعة وعشرين، فإذاً صار ثمنها -وهو ثلاثة- تسعاً؛ لأنه كان نسبة ثلاثة من أربعة وعشرين هي الثمن، لكن نسبة ثلاثة من سبعة وعشرين التسع؛ لأن سبعة وعشرين فيها تسعة ثلاث مرات، وأربعة وعشرين فيها ثمانية ثلاث مرات أيضاً، فلذلك قال: (صار ثمنها تسعاً) بكل هذه السرعة، وهذا لا يستطيع الكمبيوتر تحليله وحله في هذه المدة، وهو على المنبر منطلق.

    هذه التربية جعلت ذلك الجيل في البداية يصبر صبراً شديداً لا تتحمله الجبال؛ قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[الجاثية:14]، فصبروا على الأذى لمدة ثلاث عشرة سنة، فيها تهذيب كامل لأخلاقهم وبصائرهم ونفوسهم، وتعطير لهم بأخلاق أهل الجنة، ونبذ لكل قيم الشرك والنفاق والجاهلية، تغير هذا الجيل تغيراً كاملاً خلال ثلاث عشرة سنة وهي سنوات تربية في العهد المكي، وهذه السنوات الثلاث عشرة جاءت بثلاثة عشر قرناً من العمر السياسي لدولة الإسلام، فدولة الإسلام التي أقامها النبي صلى الله عليه وسلم بقيت محافظة على الكيان مدة ثلاثة عشر قرناً، معناه: كل سنة من العهد المكي جاءت بقرن كامل من عمر الدولة، وعمر السياسة في الإسلام.

    المؤاخاة بين المنتظمين لهذه الدولة

    فإذا عرفنا ذلك نذهب إلى الركن الثالث من أركان عمل النبي صلى الله عليه وسلم. وهو الإخاء؛ فقد آخى بين المنتظمين في هذه الدعوة إخاءً كاملاً.

    والإخاء يقوم على ركنين: هما تحقيق الألفة، وإزالة الكلفة، فإذا حصلت الألفة بيننا ولم يستشعر أحدنا أي نشاز من أخيه ولا من أخته، وكذلك زالت الكلفة فلم يتكلف أحد أي تكلف، لا تدعوه معاملته لإخوانه إلى كذب ولا تزين بما ليس فيه ولا كتمان لأي شيء من حقائقه؛ فالإخاء قد حصل.

    إذاً الإخاء يقوم على هذين الركنين: إزالة الكلفة وتحقيق الألفة.

    هذا الإخاء تقوى حتى كانوا يتوارثون به كما في صحيح البخاري من حديث أم العلاء رضي الله عنها قالت: ( كان المهاجري يرث الأنصاري والأنصاري يرث المهاجري بأخوة الإسلام حتى نزل قول الله تعالى: وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا[الأحزاب:6]) قالت: فكانوا يوصون لهم ) المعروف الذي أذن الله به: إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا[الأحزاب:6] ما هو؟ هو الوصية، فكانوا يوصون لهم.

    هذا الإخاء الكامل بين المهاجرين والأنصار أنفسهم، وبين المهاجرين من أنفسهم جعل الفرد يتدخل لأخيه في شئونه الخاصة؛ فهذا سلمان الفارسي يذهب إلى أبي الدرداء في بيته، فيقوم أبو الدرداء بعد رجوعه من صلاة العشاء يريد قيام الليل من هذا الوقت يمسك بثوبه ويقول: اجلس، نم الآن! فلما كان نصف الليل أيقظه فقال: قم الآن، هذا تدخل في الشئون الداخلية، لكنه ناشئ عن هذه الأخوة.

    الأخذ بالأسباب المعينة على قيام الدولة

    الركن الرابع من أركان عمل النبي صلى الله عليه وسلم السياسية أو الذي بنى عليه تنظيمه: هو الأخذ بالأسباب، فلم يترك النبي صلى الله عليه وسلم أي سبب يؤدي إلى النصر إلا فعله، كتب الكتب إلى كل جبار يدعوهم إلى الإسلام كما في حديث أنس في صحيح مسلم ، وأرسل السرايا والبعوث والكوماندوزات السرية، كوماندوز كعب بن الأشرف ، كوماندوز أبي رافع بن أبي الحقيق ، كوماندوز أبي عفك ،كوماندوز أم قرفة ،كلها كوماندوزات سرية لتنفيذ أعمال لا بد منها.

    أما البعوث الكبرى والغزوات فقد كانت غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم كلها سبعاً وثلاثين غزوة، أما السرايا فهي سبع وخمسون سرية، وهذه كلها أرسلها الرسول صلى الله عليه وسلم للتمكين لهذا الدين وإقامة دولته، ولم يترك أي سبب حتى لو كان غير معروف ولا معهود لدى العرب، فليس لدى الإسلام حرج من الاستيراد من أية حضارة مما هو نافع؛ فهذه الأجهزة ليست من تصنيعنا، والكهرباء ليست من اكتشافنا؛ فليس لدينا غضاضة في استيرادها من الغرب، ولا تحملنا عداوتنا لأي جهة من الجهات أن ننكر ما لديها من الخير وما لديها من النفع، بل ننتفع بما لديها مما هو نافع ونرد باطلها، كما قال لبيد بن ربيعة العامري رضي الله عنه في معلقته:

    أنكرت باطلها وبؤت بحقها عدلاً ولم يفخر علي كرامها

    فهذا تعاملنا مع الغرب ومع العالم كله.

    أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بالأسباب حتى ما كان مستورداً منها؛ فاستورد فكرة الخندق من حضارة فارس، وفكرة المنبر من حضارة الحبشة، والحبشة إذ ذاك كانت تطلق على القرن الإفريقي، وكانت عاصمتها في شرق السودان في بورت سودان، واستورد فكرة الخاتم من حضارة الروم كما في الصحيح أنه ( قيل له: إنهم لا يقرءون كتاباً إلا مختوماً فاتخذ خاتماً نقشه: محمد رسول الله، كأني أنظر إلى بياضه في إصبعه ). كما قال أنس رضي الله عنه.

    فالأخذ بالأسباب إذاً واضح جداً في تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أتاه ملك الجبال وعرض عليه أن يصدم الأخشبين على أهل مكة فامتنع، ويريد مقاتلتهم، قاتلهم يوم بدر بوسائل ضعيفة جداً، ثمانية سيوف وثلاثة من الخيل ومائة من الإبل وثلاثمائة مقاتل، هذه العدة، ولو شاء لصدم ملك الجبال الأخشبين عليهم، لكن أراد الأسلوب العادي المعهود لدى أهل الأرض؛ لأن هذا الذي به التكليف؛ فنحن متعبدون شرعاً بالجهاد في سبيل الله ولو كانت العدة متباينة، والفرق بين السودان والأمريكان غير معتبر في الشرع، أن هؤلاء يملكون ثمانية وثمانين مفاعلاً نووياً، وهؤلاء لا يملكون أي مفاعل نووي، فهذا ليس معتبراً شرعاً، وهؤلاء يملكون منظومة فيها تسعة وأربعون قمراً صناعياً تجسسياً، وهؤلاء لا يملكون قمراً صناعياً واحداً، وهذا ليس له اعتبار شرعاً، وهؤلاء يملكون إحدى عشرة حاملة طائرات، وهؤلاء لا يملكون حاملة طائرات واحدة، وهذا ليس له أي اعتبار شرعاً، فنحن مخاطبون على أساس التكليف لنري الله من أنفسنا خيراً، والله هو المتصرف والأمر كله بيده.

    التدرج والمرحلية وعدم المغامرة والمخاطرة

    الركن الخامس من أركان عمل النبي صلى الله عليه وسلم السياسي الذي بنى عليه هذه الدولة: هو التدرج والمرحلية. لم يقدم النبي صلى الله عليه وسلم على أية مغامرة ولا مخاطرة، فما سمعنا في العهد المكي أنه كسر أي صنم أو قتل أي رمز من رموز الشرك، لم يكن عاجزاً عن ذلك، كان في دار الأرقم ومعه أربعون من خيرة الرجال ومن أشدائهم وأقويائهم، وهم من الشجعان جميعاً، ودار الأرقم على الصفا، وعلى الصفا صنم اسمه نائلة وعلى المروة صنم اسمه إساف، بل كان أهل الجاهلية يسمون المشعرين بالصنمين، ولذلك تحرج الصحابة من الطواف بينهما؛ لأنهم ظنوا أن تعظيم المشعرين بسبب الصنمين، حتى أنزل الله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا[البقرة:158]، ونجد في قصيدة أبي طالب في الحصار في الشعب تسمية هذين المشعرين باسم الصنمين، يقول:

    وثور ومن أرسى ثبيراً مكانه وساع ليرقى في حراء ونازل

    وحيث ينيخ الأشعرون رحالهم بمفضى السيول من إساف ونائل

    كذبتم وبيت الله نبزى محمداً ولما نقاتل دونه ونناضل

    ونسلمه حتى نصرع حوله ونذهل عن أبنائنا والحلائل

    فهنا يقول: (بمفضى السيول من إساف ونائل)، (بمفضى السيول) مجتمع السيول، (من إساف) يقصد الصفا، (ونائل) يقصد المروة.

    لم يكسر النبي صلى الله عليه وسلم أي صنم من هذه الأصنام، ولم يقتل أحداً من رموز الشرك بمكة، بل إنه في عمرة القضاء حين صالح قريشاً في الحديبية على أن يخرجوا له من العام القابل عن مكة ثلاثة أيام، لا يبقى فيها مشرك، ويدخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بجيشه ويمكث فيها ثلاثة أيام دون مضايقة، جاء إلى مكة هو وجيشه ومكثوا ثلاثة أيام وهم يطوفون بالبيت وعلى البيت ثلاثمائة وستون صنماً، لم يكسر منها أي صنم.

    لكن لما جاء فاتحاً فحينئذ جاء وقت التمكين وليس وقت الزيارة؛ فطبق أفعال التمكين، كسر الأصنام جميعاً بأيدي أهلها وعبدتها، أرسل خالد بن الوليد الذي كان يسجد للعزى لقطعها، وأرسل أبا سفيان بن حرب الذي كان يسجد لمناة لهدمه، وهكذا، فلو أنه هدم تلك الأصنام وهي من الحجارة لم يكن ذلك مؤثراً؛ ولأعادها أهل قريش من الذهب ولازداد تعصبهم لها، لكنه ترك ذلك حتى جاء الوقت المناسب فكسرها بأيدي أهلها وعبادها؛ إذاً هذا هو الركن الخامس.

    هذه الأركان أقام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم الدولة، وقد ولاه الله أمر المسلمين بتولية شمولية عامة، قال الله فيها: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ[الأحزاب:6]؛ مما يقتضي أن له الحق في مصادرة الأملاك الخصوصية، ويقتضي أن له الحق في الاستغلال الكامل لأمر الدولة ووسائلها من عند الله جل جلاله، تفويض كامل من عند الله له في شأن المؤمنين، النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ[الأحزاب:6].

    1.   

    الدولة الإسلامية بعد موت رسول الله

    تصرف النبي صلى الله عليه وسلم فأقام الدولة بكل عدل وإنصاف لمدة عشر سنوات ثم توفاه الله جل جلاله، امتحاناً وابتلاءً للمؤمنين، وحينئذ كان التثبيت لنا قد جاء في القرآن فقد قال الله فيه: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا[آل عمران:144-145].

    بيعة أبي بكر وقيادته للأمة

    فقام أصحابه الكرام وبايعوا أبا بكر الصديق ، بايعه في البداية رجلان من المهاجرين وملأ قليل من الأنصار في سقيفة بني ساعدة، ثم اجتمع الناس على بيعته في المسجد فكانت بيعة شمولية، وكانت فلتة لم يرتب لها من قبل وليست محل مشورة عامة بين المسلمين، لكن وقى الله المؤمنين شرها فلم يختلفوا، فقادهم أحسن قيادة على منهج النبي صلى الله عليه وسلم، ورد الذين ارتدوا عن الدين إليه وحرر الجزيرة من الشرك مرة أخرى وغزا بلاد الفرس وبلاد الروم، وأعاد الأمر كما كان في العهد النبوي، ثم توفاه الله بعد سنتين وستة أشهر.

    بيعة عمر وقيادته للأمة

    ولما مرض اقترح للناس عمر بن الخطاب أن يكون خليفة من بعده، وهذا الاقتراح ليس ملزماً للمسلمين؛ لأنهم بايعوه بيعة عامة في المسجد، ولو كان مجرد اقتراح من الخليفة السابق كاف في إمامته لما احتيج إلى بيعة لـعمر ، و عمر أخذ شرعيته من بيعة الناس له؛ فقد بايعوه طواعية غير إكراه، بيعة جماعية في المسجد وهو على المنبر، فقادنا عمر عشر سنوات وأشهراً ثم طعن، فرشح للمسلمين ستة توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض.

    وهؤلاء الستة مجرد ترشيح واقتراح من الأمير؛ لأنه ليس لدينا إذ ذاك نظام دستوري يحدد منه اقتراح أو ترشيح؛ فكان الخليفة إذاً محل اتفاق بين المسلمين جميعاً، فإذا رشح أحد كان ذلك قطعاً له من حقه، الدستور الذي لا يختلف فيه اثنان، رشح إذاً ستة فتنازل ثلاثة لثلاثة، وتنازل واحد للاثنين بشرط أن يختار السابق منهما، فذهب يشاور الناس ومكث ثلاث ليال لا ينام ولا يصلي النوافل، حتى ذكر أنه لم يكن يصلي الوتر ثلاث ليال، وكان يدخل على العذراء في خدرها، أي: الفتاة الصغيرة، يدخل عليها في خدرها يسألها: من الأولى بالخلافة ومن الأفضل لها، هل عثمان أو علي ؟ وشاور أمراء الأجناد ولم يترك أحداً إلا شاوره مدة ثلاث ليال، من أهل المدينة، لكن ليس لديه دفاتر إحصاء، وليس لديه وسائل اتصال ليتصل بأهل مكة وأهل الطائف وأهل اليمن وأهل مصر وأهل الشام وأهل العراق، وهم إذ ذاك مسلمون جميعاً وفيهم الصحابة، لكن ليس لديه وسائل اتصال وليس لديه دفاتر ولا إحصاءات لمن وافق على عثمان ومن وافق على علي ، لكن كان عبد الرحمن محل ثقة لدى المسلمين؛ لأنه مشهود له بالجنة بالتعيين على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أنزل الله فيه القرآن؛ فلم ينكر أحد عليه عمله، ولم يقل: كانت نسبة هؤلاء أكثر من هؤلاء، بل صدقه المسلمون فيما ذكر.

    بيعة عثمان وعلي وقيادتهما للأمة

    فاستمرت إذاً الخلافة الراشدة ببيعة عثمان ثم من بعده ببيعة علي وبايعهما الناس؛ فأول من بايع عثمان عبد الرحمن بن عوف وبعده علي بن أبي طالب .

    ثم بويع علي وأول من بايعه طلحة بن عبيد الله ، وهكذا انتهى العهد الأول بثلاثين سنة بعد النبي صلى الله عليه وسلم هي الخلافة الراشدة، ( الخلافة بعدي ثلاثون ).

    انفراط العقد بعد الخلافة الراشدة

    وبعد ذلك انفرط العقد؛ لأنه ليس لدينا نبي معصوم مفوض من عند الله أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وليس لدينا خليفة مرشح بايعه الناس طواعية دون إكراه، وليس لدينا وسيلة لمعرفة رأي الأكثر من الناس كما كان لدينا عبد الرحمن بن عوف ، فحصل خبط وخلط كبير في الدولة الإسلامية منذ ذلك الوقت إلى وقتنا هذا، وهذا الوقت الطويل لم يكن المسلمون فيه ليعملوا إلا بموروث الحضارات الأخرى، ونظروا إلى الدول المنتظمة فوجدوا فيها الكسروية والقيصرية، وكان الملك يورث ولده أو أحد أقاربه الخلافة، فيرشحه الناس فأخذ المسلمون بهذه التجربة مع أنها خارجة عن نطاقهم، أعني تجربة لم يتركها النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ، لكنها جاءت وافدة من الخارج، نظروا إلى الدول التي فتحوها والحضارات التي انفتحوا عليها فوجدوا طريقتهم في الحكم هي هكذا، فأخذ بها الأمويون ثم بعدهم العباسيون ثم بعدهم بنو عثمان، فاستمرت الدولة على هذا النطاق حتى ضعفت، وجاء المستعمر وقطع المسلمين إرباً إرباً، وجاء مؤتمر (يالتا) الذي وزع بلاد المسلمين وتركة الرجل المريض إلى دويلات، وحينئذ بدأ هذا البعث الإسلامي والرجوع إلى الإسلام من منابعه الأصلية.

    1.   

    أثر المفكرين على السياسة

    بدأ هذا البعث الإسلامي وكانت أفكاره مشوشة بين الميراث الطويل الذي بدأ منذ سنة (40ه) إلى سقوط الخلافة العثمانية أو ما قبل ذلك وهي الأربعين الأولى من عمر هذه الدولة، عشر سنوات من عمر النبي صلى الله عليه وسلم وثلاثين سنة للخفاء الراشدين، فجاء المفكرون فوجدوا أنهم لا يستطيعون الانفصال عن تاريخ الأمة ولا نبذ تراثها، ووجدوا أن الفقهاء الذين كانوا يدونون الأحكام فصلوا كل شيء فيما يتعلق بالحيض والنفاس وما يتعلق بالبيوع وما يتعلق بالأنكحة وما يتعلق بالعبادات وغيرها، فصلوا الأحكام تفصيلاً كاملاً.

    أما في المجال الدستوري وقيام الدولة فلم يكن تفصيلهم إلى هذا المستوى، ليس معنى ذلك أنهم أهملوا ولكنهم تأثروا بالدولة التي هم تحت نطاقها وسيادتها؛ فلم يستطيعوا التجرد الكامل إلا في حالات نادرة، ونحن لا ننكر أن لنا عدداً من المؤلفين الذين ألفوا في السياسة الشرعية في مختلف المذاهب الإسلامية؛ فمثلاً: ألف الإمام عبد الملك الجويني إمام الحرمين كتاب الغياث وهو "غياث الأمم عند التياث الظلم"، وألف الإمام سيف الدين الآمدي كتاب "الإمامة" وألف الإمام أبو يعلى كتاب "الأحكام السلطانية" وألف الإمام الماوردي كتاب "الأحكام السلطانية"، وألف الإمام الحضرمي المرادي كتاب: الإشارة في تدبير الإمارة، وألف الإمام أبو يوسف صاحب أبي حنيفة قاضي القضاة كتاب "الخراج"، وألف الإمام يحيى بن آدم كتاب "الخراج"، وألف الإمام ابن رجب كتاب "الاستخراج لأحكام الخراج"، وألف عدد من الأندلسيين كـابن المناصف وغيره ما يتعلق بأحكام الإمامة في كتب مستقلة، فهذه كتب كثيرة في تراثنا وتاريخنا، ولم يزل المؤلفون فما بعدهم يؤلفون كتباً تتعلق بذلك؛ فمن أجمعها كتاب "إكليل الكرامة في أحكام الإمامة" للغنوشي وهو متأخر، وغير ذلك من الكتب التي تناولت هذه المجالات، لكن أغلب ما تركز عليه هذه الكتب ما يتعلق بتفاصيل شئون الدولة بعد قيام الخليفة، وقليلاً ما تعرج على نصب الخليفة؛ لأن هذا المجال كان يدرس في العقائد، وأول من أدخله إلى العقائد هم الشيعة؛ لأنهم يرون أن الإمام معصوم وأنه ظل الله في الأرض، وأن لديهم اثنا عشر إماماً معصوماً؛ فهذا اعتقاد الإمامية من الشيعة، وعدد من فرقهم الأخرى المندثرة.

    أما أهل السنة فقد اضطروا لمجاراتهم في ذلك، فكانوا يذكرون في عقائدهم ما يتعلق بنصب الإمام والخروج عليه، فنجد في كل العقائد: "ولا نخرج على الأئمة بالسيف"، مثلاً يقول المقري في "إضاءة الدجنة في اعتقاد أهل السنة" وهو على المذهب الأشعري، يقول:

    النصب للإمام بالشروط حتم بشرع بالهدى منوط

    ولا يجوز عزله إن طرأ عليه فسق أو بغى واجترأ

    ولا الخروج عنه إلا إن كفر

    ويقول السيوطي في الكوكب الساطع:

    ولا نرى تكفير أهل القبلة ولا الخروج أي عن الأئمة

    وهكذا، فيتكلمون عن هذه المسألة في العقائد، وكذلك يتكلمون عنها قليلاً في الفقه في أبواب القضاء عن نصب الإمام، فيعدون شروط القاضي ثم يذكرون أنها هي نفسها شروط الإمام بزيادة شرط واحد وهو القرشي، حيث قال خليل رحمه الله في مختصره الذي هو عمدة المذهب المالكي: أهل القضاء: حر، ذكر، عدل.. إلى أن ذكر الشروط، ثم قال: وزيد للإمام الأعظم: قرشي.

    هذا الشرط الذي يزاد (زيد للإمام الأعظم قرشي) مجتهد إن وجد وإلا فأمثل مقلد، ولم يذكر خليل شيئاً عن الإمامة إلا هذه الكلمة: وزيد للإمام الأعظم قرشي.

    1.   

    ما ينبغي الاهتمام به في جانب السياسة في العصر الحالي

    هذا النقص فيما يتعلق بتفصيل الأحكام المتعلقة بنصب الخليفة أو بشكل الدولة أدى إلى أن يكون البعث الإسلامي الجديد محلاً لاجتهادات جديدة، وهذه الاجتهادات بالضرورة لن تكون متفقة؛ ولذلك تجدون مرجعيات كثيرة وجماعات كثيرة منها ما يتقيد بما كان لدى الشيعة وما يذكر في مراجع العقيدة؛ فيرى أن مشكلة المسلمين الوحيدة هي قضية الخليفة، وأن المشكلة كلها تنحل بمجرد بيعتنا لخليفة واحد، وهذه الفكرة عند جماعة الخلافة وعند حزب التحرير وعند عدد من الجماعات الإسلامية العاملة.

    ونجد آخرين يذهبون إلى شطط فيقولون: لا يحتاج المسلمون إلى خليفة أصلاً، ولا يحتاج لمثل هذا، وإنما يعمل في كل دولة بحسب الأعراف وما يتيسر، ونجد آخرين يتوسطون فيقولون: دولة الإسلام لابد أن تكون متميزة الشكل ومتميزة الأصل، فأصلها تشريع الوحي وشكلها على وجه مقبول شرعاً، لا بد فيه من تحقق الشروط في الإمام.

    لكن كان هذا البحث في رأيي كله سابقاً لأوانه؛ فنحن الآن لا ينبغي أن نشغل أنفسنا بالبحث في الخلافة؛ لأنه لم تتوفر لنا وسائل الوصول إليها في وقتنا الراهن؛ فالمتوفر الآن هو إقامة الدولة في الدول الموجودة وعبر الحدود الموجودة؛ فلذلك نرجئ أمر الخلافة ولا نتكلم فيه الآن، ونتكلم فقط في إقامة دولة إسلامية في السودان ودولة إسلامية في موريتانيا، وهكذا، فنبحث عن هذه الدولة ما شكلها؟ كيف تكون؟

    الذي ينبغي أن نبحثه أن شرط الرئيس -رئيس الدولة- أو الملك أو غيرها من الألقاب ليس شرط الخليفة؛ لأنه بمثابة أمير قطر، وأمراء الأمصار لم تكن تشترط لهم شروط الخلافة، وأيضاً لا يمكن أن يبايع أحد منهم لمدة العمر، هذا يمكن أن يقع على الخليفة، لكن من دونه لا يمكن أن يقع ذلك، بل كان في تنظيم عمر رضي الله عنه للأمراء: ألا يولى أمير على بلد أكثر من أربع سنوات حتى لو كان أعدل الناس؛ لئلا تمله الرعية، والدساتير العالمية الآن متطورة تجعل المدة مثلاً خمس سنوات أو ست سنوات؛ فـعمر رضي الله عنه رأى أنه يكفي أربع سنوات من حكم أي أمير؛ لئلا تمله الرعية وتختل الأمور؛ فعزل سعد بن أبي وقاص الذي هو من العشرة المبشرين بالجنة عن أهل الكوفة لما ملوه واشتكاه بنو أسد إلى عمر وقالوا: إن سعداً لا يحكم بالسوية، ولا يصلح بين الرعية، ولا يحسن أداء الصلاة؛ فقام سعد فيهم خطيباً كما في صحيح البخاري فقال: ( والله إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله، ولقد رأيتنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم وما لنا زاد إلا ورق السمر وهذه الحبلة، ثم إن أحدنا ليضع كما تضع الشاة، ما له خلط، ثم أصبحت بنو أسد تعزرني على الإسلام، خبت إذاً وضل سعيي، وسأله عمر : كيف تصلي بهم؟ قال: أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أركد في الأوليين وأخف في الأخريين؛ فقال: ذلك الظن بك ).

    وعزل عمر المغيرة بن شعبة الصحابي الفاضل، وعزل سلمان الفارسي الصحابي الفاضل، عزل كثيراً من الأمراء، وينقل بعضهم من مكان إلى مكان؛ لئلا تمله الرعية، ليس ذلك عن ضعف ولا عجز ولا عن خيانة، ولكن لئلا يختل أمر الرعية، فالتبديل للولاة والقادة مما تطلبه الرعية ومما يؤلف القلوب؛ ولذلك فإن أهل البصرة قديماً ولي عليهم وال في أيام المنصور وجاءوا يشتكونه إلى المنصور ، وقد عرف الخبر قبل أن يصلوا إليه، أي: عرف أن الوفد سيطلب منه تنحية هذا الوالي؛ فأراد أن يبادر ليقطع عليهم الطريق فقال: يا أهل البصرة! لقد أكرمكم الله فما أعرف في ولاتي والياً أعدل من واليكم؛ فسكت كبار السن، وقطع الطريق أمامهم ولا يستطيعون الكلام؛ فتكلم شاب صغير، فقال: يا أمير المؤمنين! إن من تمام عدلك أن تصرفه إلى غيرنا حتى يعم عدلك كل الأمصار. فصرفه عنهم الخليفة.

    لذلك لا شك أن الاستبداد بالحكم ومصادرة آراء الناس وأملاكهم مذموم شرعاً وغير مقبول، ولا شك أن الملك العام والمال العام والتصرف في الشأن العام ملك لجميع سكان البلد، مسلمهم وكافرهم، برهم وفاجرهم، ولا يستطيع أحد منهم أن يصادر ملك آخر، فهو مثل الملك الشخصي، أنت تملك ما في جيبك وتملك ما في بيتك، وأنا أملك ما في جيبي وما في بيتي، إذا كان هذا مسلم وهذا كافر كلاهما يملك، إذا كان هذا بر وهذا فاجر كلاهما يملك، ولا يتدخل الآخر في مملوكاته وشئونه، فإذا عرفنا ذلك عرفنا أن الاستبداد محظور في الشرع، وأن الشرع أتى بالعدل والسوية فقد قال الله تعالى: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل:90]، ويقول تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ[المائدة:8]، والعدل به قامت السموات والأرض، فلا بد من العدل مع المسلم ومع الكافر ومع البر ومع الفاجر، وهم جميعاً خلقهم الله على هذه الأرض وملكهم ما فيها، قال الله تعالى: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا[البقرة:29]، وهذا ليس خطاباً للمسلمين، بل هو خطاب للبشر، سكان الأرض.

    1.   

    استيراد الديمقراطية والعمل بها في السياسة الإسلامية

    فلذلك لا نصادر أملاك الناس، لا نستطيع ذلك بل أمرنا شورى كما قال الله تعالى: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ[الشورى:38]، وكما قال تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ[آل عمران:159]؛ فهذه الشورى ينظر فيها إلى رأي الأكثر فهو الذي نميل إليه بعد النظر في الشرع، فما حظره الشارع وأغلقه فهو مسدود، وما فتحه الشارع فالنظر فيه، لأهل العقول والسداد، وهم الأكثر.

    يخرج عن هذا الأكثر: الغوغائية والسفهاء وضعفة الأحلام؛ فهؤلاء محجور عليهم حتى في أملاكهم الخاصة، لكن من كان من أولي الأحلام والنهى ومن أصحاب العقول ومن المتصرفين تصرفاً رشيداً في أموالهم لا حجر عليهم شرعاً، والإنسان الأصل فيه الأهلية، ولا يفقد هذه الأهلية إلا بنص شرعي؛ فلذلك لا تصادر أموال الناس ولا آراؤهم حتى في اختيار من يحكمهم وفي أسلوب حكمهم.

    وليس لدينا الآن وسيلة لمعرفة رأي أكثرهم فاضطررنا لاستيرادها من الخارج، كما نضطر لاستيراد القطارات والسيارات والطائرات من الخارج، ووجدنا الوسيلة التي استغلها الغربيون وهي الديمقراطية بمعنى التحاكم إلى اقتراع يعبر فيها الإنسان عن رأيه في من يحكمه وفي أسلوب حكمه، ويضمن ذلك التداول السلمي على السلطة، ويضمن رقابة الحاكم في تصرفاته، ويضمن الحريات؛ حرية التعبير وحرية التنقل وحرية التملك وغيرها من الحريات، ويضمن استغلال خيرات البلد وإتاحة الفرص للجميع بعدالة وسوية، وهذه أمور قطعاً دعا إليها الشرع، ونحن محتاجون إليها حاجة كبيرة.

    فإذاً لا مانع أن نأخذ بهذه النظرية، وأن آخذ بها على أنها آلة، لكن لكل قوم في الآلات استغلالهم الخاص لها، فجهاز تكبير الصوت يستغله المطربون والفنانون للطرب، ونستغله نحن للتدريس، لكن هي آلة واحدة تستغل، كل شيء كالمكيال يكال به اللبن ويكال به الخمر، فكذلك هذه الآلة آلة لفض النزاع ولاختيار الحاكم ولاختيار أسلوب الحكم، ولا مانع شرعاً من استغلالها فيما بيننا؛ فلذلك إذا اخترناها فهذا حاسم للنزاع وقاطع لمسلسل الانقلابات العسكرية، وقاطع لمصادرة آراء الناس بسيطرة العسكر بصفة دائمة على الحكم عن طريق القوة، وهذه أمور محمودة وتؤدي إلى الرقي والازدهار وإلى الأمن والأمان، وكل ذلك مطلوب شرعاً وعقلاً، فاحتجنا إليها.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718711

    عدد مرات الحفظ

    765224045