إسلام ويب

شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [2]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • غسل الجنابة ليس على الفور، ولذلك يجوز للجنب أن يرقد دون أن يغتسل، وكذلك الوضوء من الحدث أيضاً، إذا أحدث الإنسان لا يجب عليه الوضوء على الفور، بل هو على التراخي، إنما يجب عليه عند قصد الصلاة أو الطواف أو ما يشترط له الوضوء، وكذلك الغسل لا يجب على الإنسان إلا عند قصد ما يجب له الغسل؛ كالصلاة والطواف وقراءة القرآن.

    1.   

    شرح باب مبيت الجنب إذا توضأ

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    الترجمة التي بين أيديكم كتب فيها: (باب: مبيت الجنب إذا توضأ)، وليست هذه الترجمة من تراجم البخاري في الصحيح، ولعل الإخوة وجدوها في بعض الطبعات وليست هي من تراجم الصحيح، فالترجمة هي: (باب: نوم الجنب)، أورد فيها البخاري هذا الحديث الذي بين أيديكم، وهو من حديث ابن عمر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقد جاء ما يدل على أنه من رواية ابن عمر، عن عمر، فيكون من مسند عمر، وجاء في بعض الروايات: (عن ابن عمر، أن عمر سأل) وهي التي بين أيديكم، فيكون من مسند ابن عمر لا من مسند عمر.

    عن ابن عمر: (أن عمر بن الخطاب سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيرقد أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم، إذا توضأ أحدكم فليرقد وهو جنب)، هذا الحديث- كما ذكرنا- جاء من رواية ابن عمر، عن عمر، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون من مسند عمر بن الخطاب، وجاء في هذه الرواية التي بين أيدينا: عن ابن عمر، أن عمر سأل... وظاهرها في السياق أن ابن عمر شهد عمر حين سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فيكون في مسند عبد الله بن عمر، ولا فرق من ناحية الصناعة أو من ناحية الصحة بين ما لو كان من مسند عمر أو كان من مسند ابنه عبد الله.

    ترجمة عمر بن الخطاب

    وعمر بن الخطاب رضي الله عنه هو: أبو حفص عمر بن الخطاب بن عمرو بن نفيل بن عبد الله بن رياح بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أد بن أدد بن الهميسع بن قيدار بن نبت بن حمل بن إسماعيل بن إبراهيم بن آزر بن فالغ بن عابر بن أرفخشذ بن متوشلخ بن سام بن نوح بن لامك بن إزلائيل بن يارد بن أخنوخ بن أنوش بن شيث بن آدم عليه السلام، وأمه حنتمة بنت هاشم بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن عامر بن فهر بن مالك... إلى آخر النسب.

    وقد كان من سادة بني عدي في الجاهلية، وهم قادة قريش وسفراؤها الذين يكلمون الملوك، وكان من الذين ناصبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العداء عند أول بعثته، وكان شديداً على المسلمين، فهداه الله للإسلام فأسلم، وقد أسلم قبله من رجال مكة أربعون رجلاً، فأسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك في دار الأرقم، وكان إسلامه على يد أخته فاطمة بنت الخطاب، وهي زوجة ابن عمه سعيد بن زيد رضي الله عنهم أجمعين، ومنذ ذلك الوقت أعز الله الإسلام بـعمر بن الخطاب، وكان من أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أصدقهم إيماناً، وقد جاء وصفه في القرآن بصالح المؤمنين، كما قال الله تعالى: إِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ المُؤْمِنِينَ وَالمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ[التحريم:4]، وهذه تزكية من الله سبحانه وتعالى لـعمر بن الخطاب، وهو من السابقين الأولين من المهاجرين، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكره مع نفسه وأبي بكر دائماً، كما في حديث ابن عباس في صحيح البخاري: (أنه كان ممن حمل جنازة عمر، فإذا رجل وضع يده على منكبي وقال: رحمك الله، لطالما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خرجت أنا وأبو بكر وعمر، وأتيت أنا وأبو بكر وعمر)، وكذلك شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالإيمان في غيبته، فقد حدث أصحابه: (أن رجلًا كان يحرث على بقرة فقالت: ما خلقت لهذا، فقال الناس: سبحان الله! بقرة تكلمت! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكني أومن بذلك أنا وأبو بكر وعمر)، وشهد له بالجنة بالتعيين في كثير من المشاهد، شهد له فيها بها- أي: بالجنة- في جملة أهل بدر، وفيمن بايع تحت الشجرة، وفي العشرة المبشرين، وهو أفضل هذه الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وهذا محل اتفاق بين أهل السنة لا يختلفون فيه، وقد تولى الخلافة بعد أبي بكر بترشيح منه وبيعة من المسلمين، ومكث في الخلافة عشر سنين وأشهراً، وحمدت سيرته وضاعف الرقعة ونصر الملة، وتحقق به ما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه، فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام ثلاث مرائي مبشرات لـعمر بن الخطاب:

    الرؤيا الأولى: قال: (رأيت أني واقف على فم بئر وبيدي دلو بكرة، فنزعت بها ما شاء الله أن أنزع، ثم تناولها ابن أبي قحافة فنزع بها ذنوبًا أو ذنوبين وفي نزعه ضعف والله يرحمه، ثم تناولها ابن الخطاب فاستحالت غربًا، فلم أر عبقريًّا يفري فريه حتى ضرب الناس بعطن).

    والرؤيا الثانية: هي قوله صلى الله عليه وسلم: (رأيت أني أعطيت قدحًا من لبن، فشربت منه حتى رأيت الري يخرج من تحت أظافري، ثم ناولت فضلي عمر بن الخطاب، قيل: فما أولته يا رسول الله؟ قال: العلم).

    والرؤيا الثالثة: هي قوله صلى الله عليه وسلم: (رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثدي، ومنها دون ذلك، وعرض علي عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره، قيل: فما أولته يا رسول الله؟ قال: الدين)، فتحققت رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمر حين أخذ الدلو فاستحالت غرباً فلم أر عبقريّاً يفري فريه حتى ضرب الناس بعطن.

    وهو من أعلم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر أهل العلم ستة من الصحابة اجتمع فيهم علم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: رووا عنه علمه، ومنهم عمر بن الخطاب، وهو من الذين بلغوا رتبة الاجتهاد من الصحابة، وهم ثمانية عشر ما بين رجل وامرأة عند ابن حزم، وقد أوصلهم النسائي إلى اثنين وعشرين، قال: (كل من روي عنه الإفتاء أو الاجتهاد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتعدون اثنين وعشرين)، وقد عدهم النسائي في رسالته، وعدهم ابن حزم ثمانية عشر ما بين رجل وامرأة.

    وابن عمر سبقت ترجمته، وهو أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وأمه زينب بنت مظعون، وسبق أنه أسلم بمكة قبل الهجرة وهو صغير، وهاجر به أبواه إلى المدينة، وكان من أشد الناس اتصالاً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكان يحبه حبّاً شديداً، وقد شهد له بالجنة، وزكاه فقال: (نعم العبد عبد الله، لو كان يقوم من الليل)، فلم يترك عبد الله بعد قيام الليل، وكان من أشد الصحابة تمسكاً بالسنة، ومن أشدهم حرصاً على كل فعل فعله النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يثق به، ويكل إليه الأمور، وهو قد عمر حتى لم يبق على وجه الأرض أفضل منه، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأن الصحابة الكبار الذين شهدوا بدراً قد ماتوا جميعاً في حياته، فعاش هو بعدهم، وهو بايع تحت الشجرة، ولكنه لم يشهد بدراً، وترتيب الفضل في هذه الأمة هو الذي نظمه السيوطي رحمه الله في الكوكب الساطع إذ قال:

    وأفضل الأمة صديق يلي

    أي: يلي النبي صلى الله عليه وسلم.

    فعمر فالأموي

    وهو عثمان.

    فعلي

    فسائر العشرة

    أي: بقية العشرة المبشرين.

    فالبدرية

    أي: الذين شهدوا بدراً.

    فأحد

    أي: الذين شهدوا أحداً.

    فالبيعة الزكية

    أي: أهل بيعة الرضوان.

    وابن عمر استصغر يوم بدر، وكان عمره إذ ذاك أربع عشرة سنة، ورد النبي صلى الله عليه وسلم كل من كان دون الخامسة عشرة من عمره، وشهد ابن عمر ما بعد أحد من المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتخلف عنه في غزوة غزاها بعد ذلك.

    نوم الجنب بدون اغتسال

    وعمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أيرقد أحدنا)؛ أي: ينام، (وهو جنب...)؛ أي: لم يغتسل من جنابته، قال: (نعم)؛ أي: قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم)، فأقره على ذلك؛ أي: يجوز للجنب أن يرقد دون أن يغتسل، وهذا يدل على أن الغسل من الجنابة ليس على سبيل الفور، بل يجوز تأخيره، ومثل ذلك: الوضوء من الحدث أيضاً، إذا أحدث الإنسان لا يجب عليه الوضوء على الفور، بل هو على التراخي، إنما يجب عليه عند قصد الصلاة أو الطواف أو ما يشترط له الوضوء، وكذلك الغسل لا يجب على الإنسان إلا عند قصد ما يجب له الغسل؛ كالصلاة والطواف وقراءة القرآن.

    و(نعم) جواب للذي قبلها، وهو هنا إثبات، ومعنى ذلك أنه يحل للجنب أن ينام، ثم قال: (إذا توضأ أحدكم فليرقد وهو جنب)، هذا استئناف وهو جملة مستقلة، ليست تابعة لسابقتها، والفرق في المعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم لو قال: (نعم إذا توضأ) كان هذا شرطاً في نومه؛ أي: لا يحل له أن ينام إلا إذا توضأ، لكنه عندما فصل تلك الجملة فقال: نعم، ثم استأنف جملة أخرى، فقال: (إذا توضأ أحدكم فليرقد وهو جنب)، وهذه جملة مستأنفة دلت على أنه يُندب له الوضوء لأجل النوم، ولأجل الأكل، ولكن لا يجب عليه، فليست مرتبة ترتيب الجواب على الشرط، بل هي جملة مستقلة قال فيها: (إذا توضأ أحدكم..)، وهو الوضوء كالوضوء للصلاة، ولكنه لا يرفع حدثاً، ولا يستباح به شيء مما يستباح بالغسل أو نحوه، وهذا الوضوء هو لتخفيف الجنابة، وقد اختلف أهل العلم هل الحدث يتجزأ أم لا؟ كمن غسل وجهه فقط بنية رفع الحدث عن وجهه، ثم انقطع عن وضوئه، فهل ارتفع الحدث عن وجهه فقط؟ وهكذا في كل أجزائه، هذا محل خلاف بين الفقهاء، ومعتمد الذين يرون تجزئة الحدث هذا الحديث؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الجنب أن يتوضأ، ومن المعلوم أن الوضوء لا يرفع الجنابة، لكنه يخففها ويقللها.

    ومع ذلك فهذا الوضوء له خصائص عن غيره من الوضوء، من أعظم خصائصه: أنه لا ينقضه شيء من النواقض إلا الجماع؛ لأنه وضوء لتخفيف الجنابة فقط؛ فلذلك لا ينقضه البول ولا النوم ولا أي ناقض آخر إلا الجماع، كذلك منها: أنه إذا توضأ ثم غسل فرجه لم ينتقض وضوءه بالاتفاق بين الذين يرون أن مس الفرج ناقض للوضوء والذين لا يرون ذلك، وقد سبق ذكر الخلاف في هذه المسألة، (إذا توضأ أحدكم فليرقد)؛ أي: فلينم إن شاء، (وهو جنب)؛ أي: جنابته باقية عليه لا يرفعها هذا الوضوء.

    وإن كان عاجزاً عن الوضوء، فهل يتيمم للنوم؟ جمهور أهل العلم يرون أنه يتيمم للنوم؛ لأن الله جعل التيمم بدلاً عن الوضوء في حق فاقد الماء والعاجز عن استعماله، فقد قال الله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ[المائدة:6]، فقد جعل الله التيمم بدلاً عن الوضوء في حق فاقد الماء والعاجز عن استعماله.

    1.   

    شرح باب التقاء الختانين

    ثم قال: (باب: إذا التقى الختانان) وعادة البخاري رحمه الله إذا كان في الحديث رواية لا يأتي بها في الباب أن يبوب بها، إذا كان الحديث له روايات في متنه، وهو سيأتي بإحداها يبوب بالأخرى التي لا يأتي بها؛ لتكمل الفائدة، فهذا الحديث الذي جلبه هنا- وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه- في بعض طرقه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل)، وهذه الرواية لم يجلبها البخاري في هذا الباب، لكنه بوب بها فقال: (إذا التقى الختانان)، وأشار بذلك إلى حديث آخر وهو: (إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل)، و(الختانان) تثنية (ختان)، والختان في الأصل مصدر (ختن الطفل) إذا قطع الجلدة التي تغطي كمرته؛ أي: رأس ذكره، وهو مختص بالذكور، ولكنه هنا من باب التغليب، فتثنيته من باب التغليب، فالمقصود الختان والخفاض، والخفاض هو ما يقطع من بور البنت، وبورها مضغة من اللحم تشبه عرف الديك، فيقطع بعضها، فإذا التقى ما قطع من الرجل وما قطع من المرأة؛ أي: دخل رأس الذكر في مكانه من الفرج، فإن ذلك موجب للغسل ولو لم يقع إنزال، وهذا هو الراجح، وهو مذهب جمهور أهل العلم، وقد خالف في ذلك عدد من الصحابة، منهم عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين، فرأوا أنه لا غسل إلا بالإنزال، وهو خروج المني، واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الماء من الماء)، وبأنه: (سئل عن الرجل إذا وطئ امرأته فلم ينزل أو فأكسل أو فأقحط)، والقحط هو: عدم نزول الماء من السماء، وأطلق على عدم نزول الماء من الرجل، إذا أقحط أو إذا أكسل؛ أي: أصيب بالكسل فلم ينزل، فقال: (يغسل ما مس المرأة منه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة)، وهذا يقتضي أن الإنزال هو سبب الغسل، وأن الوطء إذا لم يكن فيه إنزال لا يلزم منه غسل، ولكن الراجح أن ذلك نسخ، فقد نسخ بقول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله، فقوله هو: (إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل)، وبحديث أبي هريرة هذا، وأبو هريرة متأخر الإسلام عن الذين ذكرناهم؛ فروايته متأخرة عن روايتهم، وهذا ما جزم به البخاري وغيره، وكذلك جزم عدد من أمهات المؤمنين، منهن عائشة وأم سلمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يكسل)؛ أي: يطأ فلا ينزل (فيغتسل هو ونساؤه).

    قال: عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جلس بين شعبها الأربع، ثم جهدها فقد وجب عليه الغسل)، هذا الحديث رواه أبو هريرة، وقد سبقت ترجمته عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال- أي: قال النبي صلى الله عليه وسلم-: (إذا جلس...)؛ أي: جلس الرجل، وفاعل (جلس) ضمير مستتر يعود على الرجل، وهو غير مذكور، ولكنه مفهوم من الكلام، وهذا من أدب النبي صلى الله عليه وسلم، فلما ذكر الجماع لم يذكر الرجل ولا المرأة، قال: (إذا جلس بين شعبها...)، فالضمير الأول يعود على الرجل وهو غير مذكور، والضمير الثاني يعود على المرأة وهي غير مذكورة، هذا من تمام الأدب، قال: (إذا جلس بين شعبها)، وقيل: الضمير هنا لا يعود على الرجل؛ لأن هذا ليس مجلساً له، بل يعود إلى ذكره فقط؛ لأن هذا هو مكانه، ومعنى الجلوس حينئذ الإيلاج والاستقرار، قال: (إذا جلس بين شعبها)، والشعب: جمع شعبة، والشعبة في الأصل: هي الطرف من الشيء، وشعب الوادي معناه: التواءاته وأطرافه، وشعب المرأة اختلف في تفسيرها على أربعة أقوال:

    فقيل: يداها ورجلاها؛ أي: تبطنها، وقيل: فخذاها وساقاها، وقيل: فخذاها وشفرتاها؛ أي: طرفا فرجها، وقيل: بل الشفران الداخليان، والشفران الخارجيان، فلفرجها أربعة أشفار فهي الشعب، وهذا القول الذي اختاره عدد من الأئمة في شرح هذا الحديث، فيكون المعنى أنه: إذا أولج رأس ذكره في أول فرجها، فالتقى الختانان؛ أي: غابت الكمرة، فقد وجب الغسل.

    ومعنى قوله: (جهدها)؛ أي: شق عليها، والمقصود بذلك أن معالجة الجماع فيها مشقة على المرأة، والمقصود أنها يجب عليها الغسل بمجرد تلك المعالجة، ولو لم يقع إنزال، وهنا التنبيه إلى الفرق بين (جَهَد) و(جَهِد)، وبين (الجُهد) و(الجَهد)، فإن كثيراً من الناس يلتبس عليه ذلك، فـ(الجُهد) بالضم هو: الطاقة، فيقال: بلغ فلان جُهده.

    وماذا عسى الحجاج يبلغ جهده إذا نحن جاوزنا حسير زياد

    فالجُهد معناه: الطاقة، أما (الجَهد) فهو المشقة، ففي الحديث: (اللهم اسق عبادك وبلادك وبهيمتك، وانشر رحمتك على عبادك، وأحي بلدك الميت، اللهم إن بالعباد والبلاد والخلائق والبهائم من اللأواء والجَهد والضنك ما لا نشكوه إلا إليك)، (والجَهد) ولا يمكن أن تقال: (والجُهد)؛ لأن (الجُهد) معناه: الطاقة، وهذه غير مقصودة، بل المقصود الجهد الذي هو الشدة؛ ولذلك يقال: (جَهِد فلان)، معناه: بذل وسعه في الأمر، أما (جَهَده) فمعناه: أتعبه، وأبلغه الجَهد.

    والمقصود بـ(جَهد) هاهنا؛ أي: عالج وطأها، (فقد وجب الغسل)؛ أي: وجب عليهما معاً، وفي رواية: (وجب عليه الغسل)؛ أي: وجب على الرجل، ولا يقتضي ذلك عدم وجوبه على المرأة، بل إذا وجب على الرجل، فإنه يجب على المرأة أيضاً في مقابل ذلك، وقد ذكر أهل العلم الذين يتوسعون في الأحكام خمسين حكماً تتعلق بالتقاء الختانين، إذا التقى الختانان تعلق بذلك خمسون حكماً في الشريعة الإسلامية، وبالإمكان أن ترجعوا إليها في كتاب القوانين الفقهية لـابن جزي المالكي رحمه الله، عقد باباً لخمسين حكماً تتعلق بغياب الحشفة في الفرج؛ أي: التقاء الختانين.

    1.   

    شرح كتاب الحيض

    كتاب الحيض:

    عقد هذا الكتاب للحيض، والحيض في الأصل: مصدر حاض الوادي إذا سال، وهو في الاصطلاح: دم جرى بنفسه من قُبُلِ من تحمل عادة، (دم) فخرج بذلك غير الدم من سائر الرطوبات التي تخرج من الفرج، فلا يعتبر ذلك حيضاً، ولا تتعلق به أحكامه، (جرى بنفسه) بخلاف ما جرى بسبب الوطء، أو بسبب المرض، أو لعلة، أو لنفاس وخروج ولد، فكل ذلك لا يسمى حيضاً، فالحيض لا بد أن يكون جارياً بنفسه، وذلك أن الرحم له عنقان، ينتج كل واحد منهما بيضة، فينتج هذا بيضة في هذا الشهر، وينتج الآخر بيضة في الشهر الذي يليه، فتنزل البيضة إلى المبيض، فإن لقحت حصل الحمل بإذن الله، وإن لم تلقح عادت دماً يجري ويخرج، وهذا الدم يختلف عن غيره من الدماء؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن دم الحيض أسود يُعرِف)، وفي رواية: (يُعرَف)، فمعنى (يُعرِف)؛ أي: تتغير رائحته، فله رائحة كريهة، وفي الرواية الأخرى (يُعرَف)؛ أي: يعرفه النساء ويميزنه عن غيره، وتمييزه يقع باللون، فهو أسود أشد سواداً من الدم المعتاد، وبالريح فرائحته تختلف عن رائحة غيره من الدماء، والتألم، فإن المرأة تتألم عند نزوله، بخلاف دم الاستحاضة فلا ألم فيه، وكذلك بالقلة والكثرة بحسب عادة النساء، فهذه الأمور الأربعة هي التي يميز بها دم الحيض.

    أما الرقة والغلظ، والسخونة والبرودة، فهذه أمور تقع في دم الحيض وفي دم الاستحاضة، فلا تمييز بها؛ ولذلك يقول أحد الفقهاء:

    باللون والريح وبالتألم وقلة وكثرة ميز الدم

    لا رقة وغلظة حرارة برودة وصفرة وكدرة

    هذه لا يميز بها دم الحيض؛ لأنها تقع في دم الحيض وفي دم الاستحاضة، (دم جرى بنفسه من قُبل من تحمل عادة)؛ أي: من فرج المرأة التي تحمل عادة، فإن جرى من أي مكان آخر من جسمها لم يعتبر حيضاً، حتى لو أجريت لها عملية جراحية فاستخرج الدم من رحمها؛ لم يأخذ حكم الحيض، فلا تخرج به من العدة، ولا يجب عليها الاغتسال به، ولا يكون استبراءً لرحمها، لا بد أن يكون جارياً بنفسه (من قبل من تحمل عادة) بخلاف الصغيرة التي لم تبلغ تسع سنين، فما يجري من قُبلها لا يعتبر حيضاً، وكذلك الكبيرة الآيسة التي تجاوزت سن الحمل، وسن الحمل هي الستون، فإذا تجاوزت ستين لم تحمل عادة، فما ينزل منها لا يعتبر حيضاً، وقيل: بل يعتبر لها خمس سنين فوق الستين، فما فوق خمس وستين سنة فهي سن اليأس، فإذا حاضت المرأة فيه لا يعتبر ذلك حيضاً، ولا يأخذ أحكام الحيض.

    قال: (باب: الأمر بالنفساء إذا نُفسن).

    1.   

    شرح باب الأمر بالنفساء

    (باب: الأمر بالنفساء)؛ أي: ما يؤمرن به، والنفساء هنا (ال) التي فيها جنسية، فهي تشمل كل امرأة خرج منها دم، والنفاس: يطلق على الحيض كما سيأتينا في باب مستقل، (إذا نُفسن)؛ أي: إذا خرج منهن الدم، والنفاس هو تنفس الرحم بالدم أو بالولد، فتنفسه بالدم هو الذي يسمى حيضاً، وتنفسه بالولد هو الذي يسمى نفاساً، فيطلق النفاس إذاً على الحيض وعلى النفاس المعروف، وقول البخاري رحمه الله: (إذا نُفسن) فيه استعمال ضمير الجمع المؤنث مع أن الذي سبق مفرد هو بالنفساء، لكن لما كانت النفساء بمعنى الجمع لأن (ال) التي فيها جنسية ساغ بعدها إرجاع ضمير الجمع عليها؛ فلذلك قال: (إذا نُفسن)، وهنا يلزم الفرق بين (نَفِست)، و(نُفست)، فـ(نَفست) معناه: حسدت، و(نُفست) معناه: خرج منها النفاس، نَفِس الرجلُ الرجلَ؛ أي: حسده، يقال: تنفس علي كذا؛ أي: تحسدني على كذا، أما نُفست المرأة بالمبني للمجهول فمعناه: حاضت أو خرج ولدها.

    عن عائشة رضي الله عنها قالت: (خرجنا لا نرى إلا الحج، فلما كنا بسرف حضت، فدخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال: ما لك؟ أنفستِ؟ قلت: نعم. قال: إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فاقضي ما يقضي الحاج غير ألا تطوفي بالبيت، قالت: وضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه بالبقر)، هذا الحديث ترويه أم عبد الله أم المؤمنين عائشة الصديقة ابنة الصديق رضي الله عنهما، وقد سبقت ترجمتها، وهي تُحدِّث فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم بأقوال وتقريرات؛ لأن القصة حصلت لها هي ولبعض الصحابة، فحدَّثت عن قول النبي صلى الله عليه وسلم فيها وعن تقريره، فقالت: (خرجنا)؛ أي: مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، (لا نرى إلا الحج)؛ أي: عند خروجنا من المدينة لم نكن نعلم أنه يجوز في أشهر الحج إلا الحج، وكان أهل الجاهلية يعدون العمرة في أشهر الحج من أعظم الذنوب، وكانوا يقولون: (إذا دخل صفر، وعفا الأثر، وبرئ الدبر، فقد حلت العمرة لمن اعتمر)، يرون أن العمرة لا تحل إلا إذا دخل صفر وخرجت أشهر الحج، والصحابة خرجوا من المدينة وهم لا يعرفون إلا الحج، فلما نزلوا بذي الحليفة خيَّرهم النبي صلى الله عليه وسلم بين الإحرام بالحج والإحرام بالعمرة، فمن ساق الهدي ألزمه النبي صلى الله عليه وسلم أن يحج مفرداً، ومن لم يسق الهدي خيره بين الإحرام بالحج والإحرام بالعمرة، فمنهم من أحرم بالحج، فلما طاف وسعى أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلها عمرة، ومنهم من أحرم بالعمرة فتمتع بها إلى الحج، وكانت عائشة رضي الله عنها فيمن أحرم بالعمرة، ولا يدل على ذلك ظاهر هذا السياق، لكن هذا الحديث سيأتي في أبواب كثيرة من الصحيح، وسيأتي فيه التصريح بأنها أحرمت بالعمرة، وستقلبها إلى حجة أو تدخل عليها الحج فتكون قارنة وعبرت هي عن ذلك بالتمتع.

    (لا نرى إلا الحج، فلما كنا بسرف)؛ أي: لما وصلوا في السير إلى سرف، وهو واد بين التنعيم وبين المدينة على طريق المدينة، وبه توفيت ميمونة بنت الحارث- كما سبق- ودفنت به، وهو مدفنها إلى الآن، وهو منزل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل فيه في منصرفه من مكة؛ لأنه مكان متسع وفيه الحطب، قالت: (فلما كنت بسرف حضت)؛ أي: أتاها الحيض، (فدخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي)، والنبي صلى الله عليه وسلم إذ ذاك محرم بحجته، (وأنا أبكي)؛ فقد بكت عائشة رضي الله عنها؛ لأنها عرض لها أمر لا تعرف حكم الله فيه، وتخاف أن يعطلها ذلك عن بعض واجبات الحج، فهذا سبب بكائها وحزنها، (فقال)؛ أي: قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (ما لك؟)؛ أي: ما الذي حملكِ على البكاء؟ (أنُفست؟)؛ أي: أحضتِ؟ وهذا من إطلاق النفاس على الحيض، (قلت: نعم)، وهنا من خلق النبي صلى الله عليه وسلم وحسن عشرته تعزيته لكل مصاب من أصحابه ومواساته له؛ فلذلك واسى عائشة رضي الله عنها وعزاها، فقال لها: (إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم)؛ أي: ليس هذا مصيبة تختص بكِ، والمصيبة إذا عمت خفت، فهذه مصيبة عامة على بنات آدم جميعاً، (كتبه الله عليهن)؛ أي: فرضه عليهن لأصل الخلقة، فليس عيباً في عائشة، ولا عيباً في النساء أيضاً؛ لأنه أمر من الخلقة كتبه الله على بنات آدم.

    (فاقضي ما يقضي الحاج)؛ أي: فاعملي كل ما يعمله الحاج من التلبية، والبقاء على الإحرام، والذهاب إلى منى، والوقوف بعرفة، ورمي جمر العقبة، والمبيت بمنى، ورمي الجمار كلها، ونحر الهدي، فافعلي كل ما يفعله الحاج، هذا معنى قوله: (فاقضي ما يقضي الحاج غير ألا تطوفي بالبيت)، فلم يستثنِ لها إلا أمراً واحداً وهو الطواف بالبيت، وذلك أن الطواف بالبيت مثل الصلاة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الطواف كالصلاة، إلا أن ربكم أذن لكم بالكلام فيه)، وقد اختلف أهل العلم: هل يشترط للطواف الوضوء، أم لا؟ فذهب جمهور أهل العلم إلى أنه يشترط له الوضوء وأن الإنسان إذا طاف فانتقض وضوءه في الأثناء كان كمن انتقض وضوءه في أثناء الصلاة، وذهب الحنفية إلى أن الطواف لا يشترط له الوضوء، وجعلوه مثل السعي، فالسعي يندب له الوضوء ولكن لا يجب، فكذلك الطواف عند الحنفية، وأيضاً فإن الطواف لا يكون إلا في داخل المسجد، والحائض لا يحل لها دخول المسجد، واليوم أصبح السعي مثل الطواف؛ لأن المسعى أيضاً أدخل في بناء المسجد، فلا تدخله حائض؛ لأن المسجد لا يحل للحيّض دخوله، (فاقضي ما يقضي الحاج غير ألا تطوفي بالبيت)، قالت: (وضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه بالبقر)، وهذه الجملة مترتبة على أمر سيأتي، وهو أن عائشة أردفت الحج على العمرة، فأصبحت قارنة، والقارن يجب عليه الهدي، وأهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه البقر، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يترك نوعاً من أنواع النعم إلا هداه، فأهدى مائة ناقة، نحر منها ثلاثاً وستين بيده، ووكل علياً على نحر باقيها، فعاش النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وستين سنة على قدر ما نحر من الهدي بيده صلى الله عليه وسلم، وأهدى الغنم، وفتلت عائشة بيدها قلائدها، وأهدى البقر عن نسائه كما ثبت هنا في هذا الحديث، فلم يترك نوعاً من أنواع الأنعام إلا أهداه تقرباً إلى الله سبحانه وتعالى.

    ومعنى قولها: (ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: أهدى، وذلك أن الهدي يذبح يوم الأضاحي، وهو يوم الحج الأكبر يوم العيد، فكل نسك يذبح يوم العيد يسمى إذا كان في الحرم (هدياً)، ويسمى إذا كان في غيره (أضحية)، وعائشة هنا سمت ذلك (أضحية) من باب التوسع في العبارة، فالحاج ليس عليه أضحية، وما يقدمه هو الهدي، والفرق بين الهدي والأضحية: أن الأضحية الأفضل فيها الغنم، فأضحية النبي صلى الله عليه وسلم كبش أقرن أملح، تام الخلقة، وأما الهدي فالأفضل فيه الإبل، ثم يليها البقر، ثم يليه الغنم، فالأضحية الأفضل فيها الغنم ثم الإبل ثم البقر، والهدي الأفضل فيه الإبل ثم البقر ثم الغنم؛ لأن الهدي يقصد به الكثرة لكثرة الحجيج ولكثرة الناس ولكثرة إراقة الدماء، والنبي صلى الله عليه وسلم: (سئل عن أفضل أعمال الحج، فقال: العج والثج)، فالعج: رفع الصوت بالتلبية، والثج: إراقة الدماء.

    وهذا الحديث يؤخذ منه عدد من الأحكام، منها:

    أن الحائض إذا حاضت قبل أداء شيء من المناسك فقد سقط عنها طواف القدوم، ولا يلزم به دم، سواء قلنا: إنه نسك من أنساك الحج يلزم به الدم كما يقول المالكية، أو لا، وكذلك تعجيل السعي بعده فهو نسك آخر عند المالكية، وعند الحنابلة لا يلزم به شيء أصلاً، فلا يجعلونه نسكاً، وإنما يجعلونه سنة وطواف قدوم، وإذا حاضت بعد أن أفاضت فسيأتينا ذلك، سيعقد له البخاري باباً، ويذكر فيه حديث حيضة صفية بنت حيي، وقد سقط به حينئذ طواف الوداع.

    أما إذا حاضت في أثناء الحج فطهرت في الأثناء؛ حاضت بعد أن طافت طواف القدوم وسعت، ثم طهرت قبل نهاية الحج، فلا يسقط عنها شيء بطوافها، لم تستفد منه شيئاً، إذا حاضت قبل بدء الحج استفادت سقوط طواف القدوم، وإذا حاضت في نهاية الحج فقد سقط عنها طواف الوداع، فتستفيد من حيضتها في الحالين، أما إذا حاضت في أثناء الحج بعد أن طافت طواف القدوم، وقبل أن يحين ارتحالها طهرت، فلم يسقط عنها شيء بحيضها، لم تستفد من حيضتها شيئاً، وهذه ثلاث صور للحيض في الحج: إما أن يكون قبل مباشرة العمل، وإما أن يكون في أثنائه، وإما أن يكون بعد نهايته، بعد أن أفاضت.

    كذلك يؤخذ منه إطلاق النفاس على الحيض، ويؤخذ منه تعزية الأهل في كل مصيبة، وحسن عشرتهم، ويؤخذ منه حكم الحائض في الحج أنها لا تطوف بالبيت، وتفعل كل ما يفعله الحاج، ويؤخذ منه الهدي بالبقر.

    1.   

    شرح باب غسل الحائض رأس زوجها وترجيله

    ثم قال: (باب: غسل الحائض رأس زوجها وترجيله).

    عقد هذا الباب لغسل الحائض؛ أي: لأنه يجوز للحائض أن تغسل رأس زوجها وأن ترجله، فلا يضره ذلك، وهذا في الأصل من الأمور الجائزة، ومن المعلوم أن الأصل الجواز في الأمور كلها، ولكن بما أن هذا روي عن عائشة رضي الله عنها، فاختار أن يأتي به في باب مستقل، فقال: وعنها رضي الله عنها؛ أي: عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أرجل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حائض)، (كنت أرجله)؛ أي: أسرحه وأمشطه، (وأنا حائض)؛ أي: في حال حيضها، وهنا لم تذكر أنها كانت تغسله، لكن سيأتينا ذلك قريباً إن شاء الله في حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كنت أغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، كلانا جنب، وكان يأمرني فأتزر، فيباشرني وأنا حائض، وكان يخرج رأسه إلي وهو معتكف، فأغسله وأنا حائض)، وفي الحديث فائدة أخرى لم تذكر في الترجمة، وهي: أن الزوج إذا كان معتكفاً فلا ينقص اعتكافه، ولا يضر انقطاعه إذا خدمته زوجته بغسل رأسه وتمشيطه، فكل ذلك لا ينافي الاعتكاف، وفي رواية: (وهو في المسجد)، والمقصود ببقائه في المسجد أي: في اعتكافه، فإذاً المباشرة المنهي عنها في قول الله تعالى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ[البقرة:187]، إنما المقصود بها مباشرة التمتع، ولا ينفي ذلك المباشرة؛ أي: مس شيء من جسده من غير تمتع، فالمباشرة من غير اللذة غير منهي عنها، والمباشرة باللذة سواء كانت بقبلة أو لمسة أو غير ذلك هي المنهي عنها في حال الاعتكاف، وفي رواية: (وهو في المسجد يدني لها رأسه)؛ أي: يقرب إليها رأسه، وهي في حجرتها، وكانت حجر أمهات المؤمنين في ناحية المسجد، فليس بينها وبين المسجد إلا الباب، فإذا فتح الباب أدخل رأسه من حجرته إلى عائشة لتغسله وترجله، (في حجرتها فترجله وهي حائض).

    1.   

    شرح باب قراءة الرجل في حجر امرأته وهي حائض

    ثم قال: (باب: قراءة الرجل في حجر امرأته وهي حائض).

    عقد باباً أيضاً على معنى آخر مستنبط من حديث عائشة هذا، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن وهو متكئ على حجرها وهي حائض، فقال: وعنها رضي الله عنها؛ أي: عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكئ في حجري)، يتكئ معناه: يرتفق ويعتمد، (في حجري)، وحجر المرأة: ما تحت بطنها، فيدخل فيه فخذاها وأسفل بطنها، وهو المكان الذي تجعل فيه ولدها عند إرضاعه، هذا المكان هو الحجر، وهو حجر الرجل أيضاً، فالحجر هو الذي يجعل فيه الإنسان ما يمسكه قبالة بطنه، (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكئ في حجري وأنا حائض، ثم يقرأ القرآن)، هذا يدل على أن مس الحائض ليس مما ينافي قراءة القرآن، ولا مما ينافي العبادة، فيمكن أن يكون في حال عبادة وهو يمس حائضاً.

    1.   

    شرح باب من سمى النفاس حيضاً

    ثم قال: (باب: من سمى النفاس حيضاً).

    اختلف العلماء في هذه الترجمة، فقالت طائفة منهم: هذه الترجمة مقلوبة على البخاري رحمه الله، فقد أراد أن يقول: (باب: من سمى الحيض نفاساً)، وهذا هو الواضح، وقالت طائفة أخرى: ليست الترجمة مقلوبة، بل هي من تقديم أحد المفعولين على الآخر، فأصل الكلام: (باب: من سمى حيضاً النفاس)، معناه: من سمى الحيض النفاس، وهما مفعولان لـ(سمى)، فقدم المفعول الثاني على المفعول الأول، وهذا من التنوع في العبارة، وعموماً المقصود تسمية الحيض نفاساً؛ فلذلك قد يشكل هذا على المرء أول ما يرى الترجمة أو يسمعها، فيستشكل وجه القلب فيها، باب: من سمى النفاس حيضاً.

    عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (بينا أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم مضطجعة في خميصة..)، وفي رواية: (في خميلة، إذ حضت فانسللت فأخذت ثياب حيضتي، فقال: أنفستِ؟ قلت: نعم، فدعاني فاضطجعت معه في الخميلة)، هذا الحديث ترويه أم سلمة، وقد سبقت ترجمتها وهي: هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي، وهي من أعقل النساء وأحصفهن رأياً، ومن أحب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إليه؛ ولذلك قال لها: (ما بك على أهلك من هوان)؛ أي: ليس بك على أهلك من هوان، وكانت من أحب نسائه إليه، وهي ابنة عمته، أمها أميمة بنت عبد المطلب، وهي تحدث عن نفسها قالت: (بينا أنا)؛ أي: في وسط حال اضطجاعي مع النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا ظرف يقال فيه: (بينا) و(بينما)، يقال: بينما نحن أو بينا نحن، (بينا أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم مضطجعة) معناه: بينا أنا مضطجعة، (مضطجعة) خبر (أنا)، (مع النبي صلى الله عليه وسلم) ظرف، وإذا قلت: (بينا أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم مضطجعة) يكون الظرف مخبراً به، يكون (بينا أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم) هذه جملة: أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، (مضطجعة) حال، معناه: حال كوني مضطجعة معه، (في خميلة) معناه: وهما يلبسان خميلة، وهي الملحفة، وفي رواية: (خميصة)، والخميصة: الكساء الغليظ، (في خميلة إذ حضت) معناه: أحست بنزول الحيض منها، (فانسللت)؛ أي: خرجت من الخميلة لتأخذ ثياب حيضتها، وثياب الحيضة؛ أي: ما تضعه المرأة على فرجها مما يمنع نزول الدم على ملابسها وفراشها، وفي رواية: (فقمت قومة شديدة)؛ أي: قامت بسرعة واندفاع تخاف أن يمس شيء من النجس فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لباسه الذي يلبسه، (فقال)؛ أي: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنفستِ؟)، وهذا محل الاستشهاد من الحديث، فأطلق النفاس على الحيض، قال: (أنفستِ؟)؛ أي: أحضتِ؟ وقد سبق ذلك في حديث عائشة أيضاً، (أنفستِ؟ قلت: نعم)، ويمكن أن يكون إطلاق النبي صلى الله عليه وسلم للفظ النفاس على الحيض من باب التأدب مع نسائه؛ لأن النفاس مرغوب فيه عادة؛ لأن فيه إنجاباً، والحيض سلبي ليس فيه إنتاج، فيكون النبي صلى الله عليه وسلم يعبر بالمحمود والمرغوب، فيقول للمرأة: (أنفستِ؟)، ولا يقول لها: أحضتِ؟ لحسن خلقه ومعاشرته، فقال: (أنفستِ؟ قلت: نعم، فدعاني)؛ أي: بعد أن أخذت ثياب حيضها دعاها، وفي رواية: (فأدخلني معه في الخميلة)؛ أي: كساها معه من الخميلة، وفي رواية: (فاضطجعت معه في الخميلة)؛ أي: اضطجعت في مكانها الذي كانت فيه، وهذا يدل على جواز مباشرة الحائض والاضطجاع معها في الفراش إذا كانت متزرة؛ أي: قد عقدت إزاراً على عورتها، فالحائض يحل للرجل منها كل شيء ما عدا الجماع، وهذه الشريعة الإسلامية قد توسطت في معاملة الحائض بين اليهودية والنصرانية، فاليهودية تحرم مخالطة الحائض مطلقاً، فلا تحل مواكلتها ولا مجالستها ولا الجلوس معها على فراش واحد ولا محادثتها ولا شرب سؤرها ولا التوضؤ من سؤرها مما توضأت أو اغتسلت منه، والنصرانية أحلت كل تعامل مع الحائض حتى أجازت وطء الحائض، والشريعة الإسلامية توسطت بين الأمرين فهي الشريعة الوسطية؛ فحرمت وطء الحائض، وأحلت التمتع بها بما دون ذلك، وأحلت مخالطتها ومضاجعتها في الفراش، واللباس معها والجلوس معها ومؤاكلتها وكل مخالطتها ما عدا الوطء.

    1.   

    شرح باب مباشرة الحائض

    ثم قال: (باب: مباشرة الحائض).

    عقد هذا الباب لما يجوز للرجل من مباشرة امرأته وهي حائض، والمباشرة معناه: مس البشرة لالبشرة؛ فهي مفاعلة من البشرة، والبشرة جلد الإنسان أو ظاهر جلده.

    قال: عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، كلانا جنب، وكان يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض، وكان يخرج رأسه إلي وهو معتكف، فأغسله وأنا حائض)، هذا الحديث سبقت الإشارة إليه، وهو عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: (كنت أغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد)، وقد سبق أن ذلك الإناء يسمى الفرق، وهو يتسع لخمسة عشر صاعاً، إناء كبير يحمل كثيراً من الماء، فيغتسلان منه، كل واحد منهما يغترف بيده، وفي رواية: أنها كانت تقول: (وكان أسرع مني حتى أقول: دع لي، دع لي)؛ أي: تقول له: دع لي شيئاً من الماء؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرع منها اغترافاً، وهذا يدل على جواز اغتسال الرجل بفضل المرأة، واغتسال المرأة بفضل الرجل، وأن الماء لا يجنب حتى لو اغترف منه الجنب ولو اغتسل منه، وقد سبق أن الماء المستعمل للفقهاء فيه خمس وعشرون صورة؛ لأن الماء إما أن يستعمل أولاً في حدث أو في حكم خبث أو في سنة أو في مندوب أو في عادة، وإذا لم يتغير فاستعمل ثانياً إما أن يستعمل في حدث أو في حكم خبث أو في سنة أو في مندوب أو في عادة، فهذه خمس وعشرون صورة حاصلة من ضرب خمس في خمس، فإذا استعمل أولاً في حدث أو حكم خبث، كره استعماله ثانياً في حدث أو في حكم خبث أو في سنة أو في مندوب، وجاز استعماله في عادة، وإذا استعمل أولاً في سنة أو في مندوب، جاز استعماله ثانياً في سنة أو في مندوب، وكره في حدث وحكم خبث، وجاز استعماله كذلك في العادة، وإذا استعمل أولاً في عادة فقد كره بعض أهل العلم استعماله ثانياً في حدث أو حكم خبث أو سنة أو مندوب، وجاز استعماله في العادة مطلقاً، كالسقي والحرث وغسل الملابس وغسل الأواني ونحو ذلك.

    والحديث يدل كذلك على أن المرأة يجوز لها أن ترى عورة زوجها وكل بدنه، وأن الرجل يجوز له أن يرى عورة امرأته وكل بدنها، فكل ذلك من الأمور الجائزة؛ لأن الله أحل له التمتع بها، فكل ما فيه لذة من مخالطتها هو من الأمور الجائزة له، مع أن الأفضل الكف عن ذلك؛ لما فيه من وفرة الحياء وتمامه.

    والأمر الثاني في هذا الحديث: (وكان يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض)؛ أي: كان يأمرها أن تلبس إزارها، وهذا معنى (أترز)؛ أي: أعقد علي الإزار، والإزار هو: الثوب الذي يعقده الإنسان على أسفله من سرته، والعادة أن الإزار من اللباس المشترك، يلبسه الرجال ويلبسه النساء، بخلاف الرداء، فهو من لباس الرجال دائماً، وليس من شأن النساء، فالخمار يختص بالمرأة، والرداء يختص بالرجل، والإزار مشترك بينهما.

    وعقد الإزار هو: ليه، أن يلويه الإنسان، فيسكن بذلك اللي، ومن ذلك قول الفرزدق في يزيد بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي:

    وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم خضع الرقاب نواكس الأبصار

    ما زال مذ عقدت يداه إزاره فسما فأدرك خمسة الأشبار

    يدني خوافق من خوافق تلتقي في ظل معترك العجاج مثار

    (فيباشرني)؛ أي: يمس جلده جلدي، (وأنا حائض)؛ أي: في حال الحيض، وهذا يؤخذ منه جواز مباشرة الحائض والتمتع بها والتلذذ بغير الوطء، فقد حرم الله الوطء والاقتراب منه فقال: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ[البقرة:222]، (وكان يخرج رأسه إلي وهو معتكف فأغسلُه أو فأغسلَه وأنا حائض)، (كان يخرج رأسه)؛ أي: من المسجد، (إليَّ)؛ أي: في حجرتها، (وهو معتكف)؛ أي: في حال اعتكافه صلى الله عليه وسلم في المسجد، فأغسله؛ أي: فبسبب إخراجه إليَّ أغسله، والفاء هنا للجواب، والنصب بعدها بـ(أن) مقدرة على مذهب البصريين؛ أي: فأن أغسله، وعند الكوفيين لا تقدير، وأنا حائض؛ أي: في حال الحيض، وإذا قلت: فأغسلُه على الاستئناف، فالجملة مستأنفة؛ أي: يخرج رأسه إليَّ ثم بعد إخراجه أغسله، فهي عاطفة، وهذا يدل على ما سبق أن عقد له البخاري ترجمة، وهو باب غسل الحائض رأس زوجها وترجيله، قد سبق أن ذكر فيه ترجيله، والآن هذا الحديث يدل على غسله أيضاً.

    وفي رواية عنها- أي: عن عائشة رضي الله عنها- قالت: (كانت إحدانا إذا كانت حائضًا، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباشرها أمرها أن تتزر في فور حيضتها ثم يباشرها...)، قالت: (وأيكم يملك إربه كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يملك إربه؟)، هذه رواية من الحديث السابق، قالت فيها عائشة: (كانت إحدانا)، والمقصود: أمهات المؤمنين، و(إحداهن)؛ أي: كل واحدة منهن يمكن أن يقع منها هذا، وهذا من الأدب، فقد تكون هي تتحدث عن نفسها ولكنها تعمم، قالت: (كانت إحدانا إذا كانت حائضاً)؛ أي: في حال حيضتها، (فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباشرها)؛ أي: أن تمس بشرته بشرتها لأجل التمتع بها، (أمرها أن تتزر)؛ أي: أن تلبس إزاراً وتعقده، (في فور حيضتها)؛ أي: في بداية حيضتها وأولها، فالفور يطلق على الجهة؛ لقول الله تعالى: ((وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا))[آل عمران: 125]؛ أي: من هذا الوجه، وقيل: بالاتصال، يطلق الفور على الاتصال، فتقول: جاء فلان بفور فلان؛ أي: متصلاً بمقدمه، فكذلك (في فور حيضتها)؛ أي: في أول حيضتها، ويطلق الفور كذلك على مصدر: فارت القدر تفور، وذلك أن الحيض إذا كثر كان كأنما يفور، فهذا المقصود، (في فور حيضتها)؛ أي: في شدة نزول الدم منها، (ثم يباشرها)؛ أي: فوق الإزار، (قالت)؛ أي: قالت عائشة، بياناً للحكم ونصيحة للأمة: (وأيكم يملك إربه كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يملك إربه؟)، هذا تحذير للرجال إذا أرادوا أن يباشروا الحيض، فإن الرجل قد تستدعيه لذته للمباشرة، فيستمر ويستمرئ حتى يقع فيما حرم الله عليه من وطء الحائض، فحذرت عائشة من ذلك فقالت: (وأيكم يملك إربه؟)؛ أي: يملك رغبته وشهوته كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك إربه، فالنبي صلى الله عليه وسلم قطعاً معصوم ولا يقع في الحرام، فإذاً لا يخاف أن يقع فيما حرم الله عليه، أما من سواه من الناس فيمكن أن يقع في ذلك؛ فلهذا نصحته بالابتعاد عن ذلك.

    1.   

    شرح باب ترك الحائض الصوم

    ثم قال: (باب: ترك الحائض الصوم).

    عقد هذا الباب لبيان أن الحائض تسقط عنها الصلاة أداءً وقضاء، ويسقط عنها الصوم أداءً فقط، ولكنها تقضيه بعدة من أيام أخر، فقال: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وأبو سعيد هو سعد بن مالك بن سنان الخدري، منسوب إلى بني خدرة بن الأبجر، وهم بطن من الخزرج من الأنصار، وأبوه مالك بن سنان من قدماء الصحابة من الأنصار، وقد استشهد يوم أحد رضي الله عنه، وكان أبو سعيد من أحب الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأقربهم منه، وقد روى عدداً كثيراً من الأحاديث، وكان من المفتين من الصحابة رضي الله عنه.

    عن أبي سعيد الخدري قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو فطر إلى المصلى، فمر على النساء، فقال: يا معشر النساء تصدقن، فإني أُرِيتُكُنَّ أكثر أهل النار. فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال: تكثرن اللعن وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن. قلن: وما نقصان عقلنا وديننا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى. قال: فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ قلن: بلى. قال: فذلك من نقصان دينها)، هذا الحديث حدث به أبو سعيد الخدري عن مشهد من المشاهد النبوية حضره في خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى صلاة العيد في المصلى الصحراوي، وكان يخرج العواتق والحيض وربات الخدور يشهدن الخير ويكثرن سواد المسلمين، فيخرج النساء فيكن وراء صفوف الرجال، فيصلي النبي صلى الله عليه وسلم بالناس، فإذا انصرف من مصلاه مر على النساء في طريقه، وفي حديث ابن عباس أنه ظن أنه لم يسمع النساء؛ أي: أنهن لم يسمعن خطبته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رفيع الصوت، وبالأخص في الخطبة، إذا خطب احمر وجهه واحمرت عيناه وعلا صوته كأنه منذر جيش يقول: (صبحكم، مساكم)، وكان صوت خطبته يسمع من البلاط، والبلاط بينه وبين المنبر خمسمائة متر؛ أي: نصف كيلو، فتحفظ خطبته من هذه المساحة دون أن يكون له مكبر صوت، وظن أنه لم يُسمع النساء، فوقف عليهن ووعظهن، فقال أبو سعيد: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: خرج بنا أو خرج وقد سبق أن خرج أصحابه، فخرج عليهم بعد أن تقدموه، (في أضحى)؛ أي: في يوم أضحى، (أو فطر)؛ أي: في يوم عيد، وهو أحد العيدين، إما الأضحى وإما الفطر، وهما اللذان تصلى فيهما صلاة العيد، (إلى المصلى)؛ أي: المكان الصحراوي الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه صلاة العيد والاستسقاء، (فمر على النساء)؛ أي: وقف عليهن، وهن في طريقه بينه وبين مسجده وبيوته، فالمصلى إلى جهة الجنوب الغربي من المسجد، والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي أمام المصلين، يليه الرجال، ثم النساء بينه وبين مسجده وبيوته؛ فلذلك قال: (فمر على النساء)، فقال: (يا معشر النساء تصدقن)، فحضهن على الصدقة، والصدقة فيها تكفير للسيئات وإطفاء للخطايا؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار)، وهي ظل لصاحبها يوم القيامة، (والناس مستظلون بظل صدقاتهم يوم القيامة فمن مستقل أو مستكثر)؛ فلذلك حضهن على الصدقة، وفي حديث ابن عباس أنه كان توكأ على بلال؛ أي: اعتمد عليه، فلما قال ذلك بكى النساء وجعلن يأخذن من حليهن فيَرْمِينَه في ثوب بلال، يتصدقن به، (يا معشر النساء تصدقن، فإني أُريتكن أكثر أهل النار)، (أُريتكن)؛ أي: أنه صلى الله عليه وسلم رأى ذلك عن طريق الوحي، فرأى أن النساء أكثر أهل النار.

    والنساء فعلاً هن أكثر أهل النار، وهن أكثر أهل الجنة أيضاً، فهن أكثر من الرجال دائماً؛ لما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أقل أهل الجنة نساءً من له امرأتان من نساء أهل الدنيا)، فكل رجل من أهل الجنة له امرأتان على الأقل من نساء أهل الدنيا، فهذا يدل أنهن ضعف الرجال وأكثر من الضعف في الجنة؛ لأن كل رجل واحد من أهل الجنة له امرأتان من نساء الدنيا على الأقل، ومنهم من يكون له عدد كبير جدّاً من نساء الدنيا، وهن أكثر أهل النار كما في هذا الحديث، وسيكثرن في آخر الزمان حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد، وفي رواية: (حتى يرى الرجل ويتبعه خمسون امرأة)، وهذا مناسب للوعظ، وتحذير للنساء من كثرتهن في النار، وهو مناسب لأمرهن بالصدقة، فقلن: (وبم يا رسول الله؟) أراد النساء- وهن صواحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهن الخير- أن يعرفن ما السبب الذي يكثر به النساء في النار؛ ليتجنبنه، قلن: (وبم يا رسول الله؟)، معناه: بم يدخل النساء النار؟ قال: (تكثرن اللعن وتكفرن العشير)، ذكر أمرين يتعلقان بالخلق يكثران في النساء في كل عصر ومصر وفي جميع الأجيال:

    الأمر الأول: يكثرن اللعن، فيجري على ألسنتهن اللعن والسب والشتم، وهذا أمر سيئ وفيه خطر عظيم؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لــمعاذ: (وهل يكب الناس في النار على وجوههم...)، أو قال: (على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم) فقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من تكلم الإنسان بالكلمة الواحدة من سخط الله لا يلقي لها بالاً؛ أي: لا يظن أنها ذات شأن، وليس معنى لا يلقي لها بالاً أنه لا يقصد قولها، فما لا قصد للإنسان فيه لا يعذب به، إنما المقصود أنه لا يلقي لها وزناً؛ أي: لا يعدها شيئاً، يحتقرها، لا يلقي لها بالاً، يهوي بها سبعين خريفاً في قعر جهنم، وقد دخل عمر رضي الله عنه على أبي بكر وهو ممسك بلسانه يجذبه، فقال: ما هذا يا خليفة رسول الله؟ قال: إن هذا أوردني الموارد، هذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يخاف من لسانه؛ ولذلك يقول الحكيم:

    أمسك لسانك أيها الإنسان لا يلدغنك إنه ثعبان

    كم في المقابر من قتيل لسانه كانت تهاب لقاءه الشجعان

    (تكثرن اللعن وتكفرن العشير)، الأمر الثاني من سوء الخلق هو: كفران العشير، معناه: جحد النعمة، أن تجحد المرأة نعمة العشير؛ أي: معاشرها؛ فلذلك فسره فقال: (لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئًا، قالت: ما رأيت منك خيرًا قط)، فتنكر كل إحسان سبق، وهذا من سوء الخلق، الأصل في الإنسان أن يقر بالمعروف، وإنكار المعروف هو من اللؤم وسوء العشرة، (وتكفرن العشير). (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن)، لما قال لهن هذا الكلام الشديد، وفيه شدة على النساء، أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يثني عليهن ويلاطفهن بأمر آخر، وهذا من عدله صلى الله عليه وسلم، فإذا ذكر نقصاً فيهن ذكر أيضاً قوة فيهن في جانب آخر، فقال: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن)، بين أنهن مع كل هذا هن أشد تأثيراً على الرجال وأبلغ تأثيراً على قراراتهم وآرائهم وعقولهم، فهن يذهبن بعقول الرجال، وهذا ثناء على النساء في هذا المقام، وتسلية لهن عما خوطبن به من الكلام الشديد في حال الموعظة، ومع ذلك ربطه أيضاً بأمر حاصل، فقال: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين...)، فبين أن هناك شيئاً من النقص، ولكن في جانبه قوة أخرى، وهي قوة التأثير على الرجال، قال: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب)، و(اللب) هو: خيرة الشيء ووسطه، والمقصود به العقل، (لب الرجل الحازم)، والحازم هو: العاقل الذي يأخذ بالحزم في الأمور، (من إحداكن)؛ أي: من النساء، قلن: (وما نقصان عقلنا وديننا؟) سأل النساء رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نقصان عقلهن ودينهن، والأصل أن الإنسان الكامل العقل والدين إذا قيل له: أنت ناقص عقل ودين، لم يسل عن ذلك، فإن كان صدقاً حمد الله على ستره بالستر الجميل، وإن كان كذباً حمد الله حين لم يطلع الناس على كل أموره وخفاياه، فسؤالهن عن ذلك دليل على حصوله؛ فلذلك سألن فقلن: وما نقصان عقلنا وديننا؟ وقد ذكر ابن عطاء الله الإسكندراني قاعدة عظيمة وهي قوله: (ما من أحد إلا وهو راض عن الله في عقله، وأقلهم عقلاً أرضاهم به) ما من أحد أياً كان إلا وهو راضٍ عن الله في عقله، (وأقلهم عقلاً): أقل الناس عقلاً (أرضاهم به) يظن أنه أعقل الناس؛ فلذلك قلن: (وما نقصان عقلنا وديننا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟)، سألهن وهذا أسلوب بليغ، وهو أن يصدر الجواب في صورة سؤال؛ حتى يجيب عنه السائل فيقتنع به، وهو أسلوب تعليمي مناسب، فهذا الأسلوب الذي ننتهجه نحن اليوم في التدريس ليس أسلوباً مناسباً؛ لأن الشخص يلقي دائماً، والآذان تمل السماع لكثرة ترداد الكلام عليها، لكن لو حصلت المشاركة فكان التعليم عن طريق الحوار كما كان النبي صلى الله عليه وسلم ينتهج لكان ذلك أولى وألصق؛ فلهذا سألهن، بدل أن يجيبهن سألهن، فهن سألن فقلن: (ما نقصان عقلنا وديننا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟)، وهذا أمر معلوم؛ لأنه بنص كتاب الله، وهن يحفظن ذلك، قلن: (بلى)، معناه: أقررن بهذا، والفرق بين (نعم) و(بلى) أن (بلى) لا تكون إلا جواباً للنفي، وتجعله إثباتاً، و(نعم) تكون جواباً للنفي وجواباً للإثبات، فلو قلن هنا: نعم، لكان معنى ذلك أن شهادة المرأة ليست نصف شهادة الرجل، كما قال ابن عباس في قول الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى[الأعراف:172]، قال: لو قالوا: نعم، لكفروا؛ لأن نعم إثبات لما قبلها، وما قبلها نفي: (ألست بربكم؟) هذا نفي، وإثبات النفي إنكار، بينما (بلى) جواب للنفي، لكنها تصيره إثباتاً، كما قال النحوي:

    نعم جواب للذي قبلها نفياً إثباتاً كما حرروا

    بلى جواب النفي لكنه يصير إثباتاً كما قرروا

    فـ(بلى) لا تكون جواباً إلا للنفي، ولكنها تصير النفي إثباتا، فهنا قلن: بلى، قال: (فذلك من نقصان عقلها)؛ أي: من نقصان عقل المرأة، هو الذي جعل شهادتها نصف شهادة الرجل، وقد بين الله ذلك في قوله: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى[البقرة:282]، والمقصود بالضلال: الوهم وعدم التأكد من الأمر، فالنسيان ضرب من نقص العقل.

    ثم قال: (أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان دينها)، (أليس)؛ أي: أليس الأمر والشأن، (إذا حاضت المرأة لم تصل)؛ أي: لم تؤد الصلاة ولم تقضها، (ولم تصم)؛ أي: لم تُؤَدِّ الصوم، لكنها تقضيه بأمر آخر كما سيأتي، قلن: (بلى) أقررن بذلك أيضاً، قال: (فذلك من نقصان دينها)، وهذا النقصان في العقل والدين ليس نقصاناً في المزية ولا في الشرف ولا في المنزلة؛ لأنه أمر خلقي كتب على سائر النساء، حتى المشهود لهن بالجنة ينطبق عليهن ما ذكر، فالمشهود لهن بالجنة؛ كـعائشة- مثلاً- وفاطمة وخديجة، كلهن ينطبق عليهن ما ذكر، فشهادة واحدة منهن نصف شهادة الرجل، وكل واحدة منهن إذا حاضت لم تصل ولم تصم، فإذاً ليس هذا عيباً، بل المقصود به أنه أمر فرضه الله على النساء، كما نقص خلقتهن عن خلقة الرجال، فكذلك نقص تكليفهن عن تكليف الرجال، وبعض الناس يظن أن هذا هو من ازدراء النساء واحتقارهن، أو أنه نقص فيهن، وهذا غير صحيح، بل الأسلوب على خلاف ذلك تماماً، الأسلوب النبوي الذي تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم هنا كان تسلية للنساء عما أخبرهن به من كثرتهن في النار.

    إذاً جاءت الورقة الصفراء، ولا ندري هل تأتي بعدها الحمراء، سنتوقف قبل أن تأتي.

    وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767307303