إسلام ويب

أهمية الإيمانللشيخ : سعيد بن مسفر

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن للإيمان أهمية عظيمة، فهو بلسم الحياة، ومفتاح دار السعادة، والإنسان بدون إيمان، شأنه شأن البهائم، بل أدنى منها. إن الحياة الحقيقية لا تكون إلا بالإيمان، فبالإيمان يكون الأمن، والاستقرار، والطمأنينة، والعفة، والكرامة، وبدون الإيمان يصير الخوف، والقلق، والضنك، والرذيلة. فيا أيها القارئ الكريم! عليك بالإيمان، عض عليه بالنواجذ، واسأل الله الثبات عليه، والله الهادي إلى سواء السبيل.
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسعد الله هذه الوجوه الطيبة، وجمعنا الله وإياكم في الدنيا على طاعته، وفي الآخرة في دار كرامته، ومستقر رحمته.

    بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    وبعد:

    أشكر نادي الشباب الرياضي في مدينة الرياض ، ممثلاً في مجلس إدارته وهو سمو الأمير خالد بن سعد بن فهد، وبقية أعضاء المجلس وهيئة الإدارة، والرياضيين، وأشكر هذه الوجوه الطيبة التي جاءت لا تريد شيئاً إلا الله، طابت فطاب مسعاها وممشاها، وأسأل الله عز وجل أن يجعل مصيرها طيباً، وأن يجعلنا جميعاً ممن يقال لهم يوم القيامة: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر:73].

    أشكر النادي على ترتيب هذه المحاضرة، التي تلبي الحاجة الماسة في قلوب الشباب، وتقدم البناء المتكامل لهم، والرعاية الشاملة لأرواحهم، كما تقدمها لأجسادهم، فإن المسئولية الملقاة على عاتق مسئولي رعاية الشباب، تقتضي منهم توجيه الاهتمام للإنسان بشقيه: المادي والروحي، وأما التركيز على الجانب الجسدي، وإهمال الجانب الروحي، فلا يمكن القول به؛ لأن الإنسان بروحه لا بجسده.

    يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته     أتطلب الربح مما فيه خسران

    أقبل على الروح واستكمل فضائلها     فأنت بالروح لا بالجسم إنسان

    إن توجه الأندية الرياضية إلى هذا الأمر هو مقتضى الواجب، ونرجو الله عز وجل أن يبارك في هذا التوجه، وفي جهود المخلصين، الذين يرعون شباب هذه الأمة؛ هذه الأمة التي شرفها الله بهذا الإيمان وهذا الدين، والتي أكرمها الله بهذه الرسالة السماوية الخالدة، التي ينبغي أن تعتز بها كمظهر حضاري تتميز به على سائر أمم الأرض وشعوبها.

    نحن أمة القرآن.. أمة الإسلام.. أمة الإيمان.. ولنا الشرف والفخر أن نقف على أرض صلبة، من العلم الراسخ في الأعماق، الذي يقدم لنا التفسير الحقيقي لغوامض هذه الحياة، يوم أن ضلت البشرية، وتاهت في متاهاتها، وضاعت في دياجيرها وظلماتها، ولم تعرف إلا العلم الظاهر المتمثل في المادة: يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7].

    هذا التوجه توجه مبارك، ينبغي زيادته وتشجيعه؛ لأنه الوضع الصحيح، فالأندية الرياضية مراكز تربوية، إنما وضعت في الأصل لرعاية الشباب في جميع نواحي الحياة: روحياً، وجسدياً، وثقافياً، واجتماعياً، وفي جميع دور الحياة، حتى نُخرج للمجتمع شاباً متكاملاً مرعياً من كل جانب، دون تغليب جانب على آخر، بل في توازن وتكامل واتساق، فلقد ارتضى الله لنا دين الإسلام حيث قال: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110] وقال: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة:143] فأسأل الله عز وجل أن يبارك في هذه الجهود، وأن يزيد منها.

    أيها الإخوة في الله: إن قضية الإيمان قضية رئيسية من قضايا الإنسان، بل هي لب حياته، فالإنسان بغير إيمان لا معنى لوجوده.. ما الذي يشعرك من أنت؟ ما الذي يجيبك على التساؤلات التي تتردد في صدرك؟ هل تستطيع المادة أن تفك مغاليق قلبك؟ أو أن تحل أسرار هذا الكون؟ لا.

    إن الإيمان هو الذي يقدم لك هذا، ليست قضية الإيمان قضية هامشية يمكن للإنسان أن يناقشها، أو أن يتجاهلها، لا. إنها قضية الوجود الإنساني المكرم، أو الوجود الحيواني الهابط، إنها قضية سعادة أبدية، أو شقاء أبدي، إنها قضية الجنة أو النار.

    إن الإنسان بغير إيمان سعفة في مهب الريح، انظروا إلى الدول الكافرة يوم أن غاب عنها الإيمان، وعاشت في ظل المادة، التي طورتها وطوعتها، واستغلتها أعظم استغلال، ما قيمة الإنسان في ظل المادة بعيداً عن الإيمان؟ لا قيمة له، قيمته أقل من قيمة حذائه الذي في قدمه، فلو أنك سألت الرجل صاحب المنصب الكبير: ما الحكمة من حذائك الذي في قدمك؟ لقال: الانتعال، ووقاية القدم، وما الحكمة من قلمك الذي في جيبك؟ لقال: الكتابة، وما الحكمة من معطفك الذي على كتفك؟ فيقول: الدفء، وتقول له: ما الحكمة من عينك التي في رأسك؟ فيقول: النظر، وما الحكمة من يديك التي في أعلى جسدك؟ فيقول: الحماية، فتقول له: إذاً وما الحكمة منك أنت؟ يقول: لا شيء. فحذاؤه في قدمه لها حكمة، أما هو بكامله لا حكمة له، والذي لا حكمة له لا معنى له ولا قيمة له.

    إن الإنسان بغير إيمان يبقى سعفة في مهب الريح، وحشرة من الحشرات في هذا الكون، بل بهيمة من بهائمه، لا هم له إلا الاستغراق في شهوات البطن والفرج، والتنافس والتكالب على المادة والرغيف، يعيش بعقلية الحيوانات، يقول الله عز وجل: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ [محمد:12] ويقول: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44]، ويقول: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179].

    زودهم الله بإمكانيات وقدرات يستطيعون بها أن يتعرفوا على سر وجودهم، والحكمة من خلقهم، فعطلوا هذه الوسائل كلها، واستعملوها فقط فيما يستعملها الحيوان، ولذا إذا أتينا بحيوان، ووضعنا أمامه العلف، انطلق إليه بفكره، وإذا عطش انطلق وراء الماء، وإذا رأى أنثاه انطلق إليها ونزا عليها، فهو يفكر في كل ما يفكر فيه الإنسان الذي يعيش بغير دين، وما تفكير الكافر والإنسان الذي بغير دين إلا في الطعام، والشراب، والزوجة، والعمارة، والسيارة، والوظيفة، أما ما عدا هذا فلا يفكر فيه، فهذه عقلية الحيوانات، وقضية التطور والتحسين في مستوى المعيشة ليست هي سر الوجود.

    في أمريكا قمة التطور الإنساني، هناك كلاب تعيش في ناطحات السحاب، وقد رأيت صوراً لكلاب تلبس بدلات، الكلب يلبس بدلة (وكرفتة)، وقال لي أحد الإخوة: إنه رأى كلباً يأكل في المطعم، وهو جالس على كرسي، وأمامه شوكة وملعقة، هذا كلب متحضر! لكن هل بين الكلب المتحضر الذي يعيش في ناطحات السحاب، وبين الكلب الذي يعيش في المزبلة فرق؟ لا. فهذا كلب متحضر، وهذا كلب بدوي، والجميع كلاب.

    إن الحضارة ليست عمارة، أو لباساً، أو مركباً، أو منصباً، الحضارة هي: مبادئ.. مفاهيم.. عقائد.. أخلاق.. فإذا تجرد الإنسان من المبدأ والعقيدة والخلق الإنساني فماذا بقي له؟ ولهذا تجدون أناساً في الدول الغربية الكافرة لا يألفون أمهاتهم، ولا آباءهم، ولا إخوانهم، ولا أبناءهم، ولا بناتهم، وإنما يألفون كلابهم، فتراه يمشي والكلب معه، ويأكل وهو بجواره، لقمة له ولقمة لكلبه، والطيور على أشباهها تقع.

    إن الإنسان بغير الإيمان حيوان، وليته حيوان لكنه أضل، كما قال الله عز وجل: بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179].

    بل إنهم يقرون بهذا يوم القيامة، يوم يحشرون إلى النار، وتصبح الحيوانات تراباً، فيتمنون لو أنهم كانوا حيوانات في الدنيا، ليصبحوا تراباً في الآخرة، يقول عز وجل: يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً [النبأ:40] أي: عندما يرى الحيوانات وقد تحولت إلى تراب، يقول: يا ليتني كنت واحداً منها، شاركها في الحياة، ولم يشاركها في المصير، بل وينفون عن أنفسهم العقول يوم القيامة، ويقولون: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:10-11].فالإيمان ليس شيئاً هامشياً حتى تأخذ به، أو تُخيّر فيه، بل إنه قضية وجود. هل تريد أن تعيش الوجود الإنساني المكرم، الذي كرمك الله به؟ إذا كان الجواب: نعم، فعليك أن تأخذ بالإيمان، وبغير الإيمان تهبط إلى الوجود الحيواني، وتشارك سائر الحيوانات فيما هي فيه، مع الفارق، والفارق في ماذا؟ في الظاهر فقط، فالحيوان ينام في الحضيرة، وأنت تنام في العمارة، لكن العقلية والتفكير والآمال واحدة، فأنت عقليتك محصورة في بطنك كيف تملؤها، وفي شهوتك كيف تقضيها، وفي آمالك وأطماعك كيف تحققها!

    سر تكريم الله للإنسان

    الإيمان -أيها الإخوة- ضروري؛ لأنه يرفع الإنسان إلى الدرجة التي كرمه الله بها، لقوله عز وجل: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70] بم كَرّم الله الإنسان؟ فكر، وانظر إلى سائر المخلوقات، ثم قم بإجراء موازنة ومقارنة، لتعرف سر التكريم، هل التكريم بالقوة؟ لا. فالحيوانات فيها من هو أقوى من الإنسان وأشجع، الأسد ملك الغاب، أشجع من أي حيوان، ولو أن التكريم بالشجاعة لكان الأسد أفضل مخلوق، لكن ليس التكريم بهذا.

    يقال: إن أسداً وضبعاً وثعلباً خرجوا إلى الغابة للصيد، فاصطادوا كبشاً وغزالاً وأرنباً، فقال الأسد للضبع: قسّم العشاء، فقال: الأمر سهل! الكبش لي، والغزال لك، والأرنب للثعلب، فغضب الأسد غضبة قوية، وضربه على رأسه فقتله، ثم قال للثعلب: قسّم أنت. قال: الأمر سهل! الكبش غداؤك، والغزال عشاؤك، والأرنب فطورك يا سيدي، فقال الأسد: ما أعظم هذه القسمة! من علمك هذا يا ذكي؟ قال: علمني هذا الغبي وهو ميت.

    فحياة الحيوانات قائمة على شريعة الغاب، والبشرية الآن في ظل غياب الدين قائمة على شريعة الغاب.

    لمن الحياة في العالم؟ للأقوى. ليس للأفضل، ولا للأكمل، بل الفاضل الكامل إذا كان ضعيفاً فليس هناك من يقدره، والخبيث الفاشل إذا كان قوياً فالكل يخاف منه، في ظل غياب الإيمان والدين، ولو كان الإيمان موجوداً لكانت الحياة للأتقى لا للأقوى، وللأعلم لا للأجهل.

    فَسِرُّ التكريم الذي كرم الله به الإنسان، ليست الشجاعة، ولا القوة، ولا ضخامة البدن، إن سر التكريم: الدين، والإيمان، والإسلام، وقد يقول شخص: لا. بل سر التكريم العقل، فنقول له: لا. إن العقل مع كل مخلوق، حتى مع أبلد الحيوانات، فأبلد حيوان يضرب به المثل في البلادة وهو الحمار، ضرب الله به مثلاً لليهود، وقال فيهم: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الجمعة:5] يقول العلماء: وهذا مثلٌ ينطبق على كل من تشبه بأخلاق اليهود، حينما يحمل القرآن ولا يستفيد منه شيئاً، فمثله كمثل الحمار يحمل أسفاراً.

    فبالرغم من أنه بليد، ولكن مع بلادته معه عقل، يستطيع أن يستعمله في الوظيفة التي خلقه الله لها، فما هي وظيفة الحمار؟ بينها الله في القرآن حيث قال عز وجل: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8] الوظيفة: أنه وسيلة للركوب، ولذا يعرف كيف يقف، وينتظر حتى تحمل عليه، فإذا نزلت مشى، وإذا سافرت به في طريق يعرفها أو يحفظها فإنك تراه يمشي فيها لوحده، وإذا سافرت به بعد سنة في تلك الطريق الأولى فإنه لا يجهلها أو ينكرها، هذه وظيفته، وإذا دفعته إلى النار فإنه يرفض، إذا أوقدت ناراً، أو حفرت حفرة، وأتيت بحمار وأنت تجره بخطامه إلى طرفها، هل ينقاد لك ويلقي بنفسه في النار؟ لا.

    ودائماً أذكر قصة قالها لي أحد العلماء من اليمن، قصة فيها عبرة لمن له قلب، وأنا لا أكررها عبثاً، بل أريد من أصحاب العقول أن ينتبهوا لها، يقول هذا الشيخ: إن هناك أناساً يزرعون التبغ (الدخان) ويحصل عندهم قحط شديد، وينحبس المطر، ويوفرون الماء في الآبار لسقيا أشجار التبغ (الدخان) وتضعف الحيوانات، ويبدو عليها الهزال، حتى تظهر أضلاعها على ظهورها، ولا تجد من الأكل إلا الطين من الأرض، يقول: فيؤتى بمجموعة من التبغ الأخضر كالبرسيم، فيقدم إلى الحمار، فإذا اقترب منه وشمه رفضه وهز رأسه، الحمار يترك هذا التبغ وهو أخضر، وبعض البشر يشربونه وهو محروق يابس، لماذا لم يأكله الحمار؟ لأن عنده عقلاً، يعرف أن هذا حار ومزعج وأنه يضره.

    لكن بعض البشر يشتري علبة الدخان وقد كُتب عليها: تحذير رسمي: (التدخين يضر بصحتك فلا تدخن!) فلا يقرأ، ولو اشترى علبة مانجو أو بسكويت، ووجد تاريخ الصلاحية قد انتهى لأقام الدنيا وأقعدها، وذهب إلى البلدية وخاصم صاحب البقالة، وقال له: كيف تبيع طعاماً قد انتهت صلاحيته؟ وفعلاً لا يجوز غش المسلمين، ولكن الشاهد كيف أنه يشتري علبة الدخان ولا يفكر؟

    وكل طعام معلب في الدنيا عليه تاريخ صلاحية، إلا الدخان ليس عليه تاريخ صلاحية؛ لأنه فاسد من يوم أن صنعوه، بل كتبوا عليه: (التدخين مضر بصحتك فلا تدخن!) وعلبة الدخان بأربعة ريالات، وعلبة البسكويت بريال، أين عقول بعض البشر؟ إنهم يلغونها، وإلا لو حكموا عقولهم وفكروا لوجدوا أن ممارسة التدخين عادة سيئة، ينبغي التمرد عليها، والانتصار عليها، وإعلان رفضها، والابتعاد منها.

    صحيح أن العادة تأسر الإنسان، لكنها تأسر الإنسان الضعيف، ضعيف الشخصية، الذي أصبح تافهاً ولا يستطيع أن يتحكم بنفسه، أما القوي فتجده ينتصر على إرادته، ويعلن رجولته.

    فليس سر التكريم -أيها الإخوة- عند الإنسان هو العقل، ولكنه الإيمان والدين، وسآتي لكم بدليل من القرآن الكريم، نبي الله سليمان أوتي ملكاً لم يكن لأحد من بعده، قال تعالى حاكياً عن سليمان: وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ص:35] فسخر الله له الجبال والطير والوحوش والجن والإنس، وكانت مملكته مملكة عظيمة، وكان مجلس الحكم عنده يمثل فيه جميع فئات المخلوقات؛ أمة الطير، وأمة السباع، وأمة الوحوش، وأمة الحشرات، وكل الأمم موجودة، وكان يعرف أفراد المملكة كلها ويتفقدهم، وفي يوم من الأيام تفقد المملكة، وكانت أمة الطير من بينها، وكم أنواع الطيور؟ آلاف الأنواع في الأرض، ولكن لم يغب عن ذهن سليمان واحد منها اسمه الهدهد: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ [النمل:20-21] قال الله عز وجل: فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ [النمل:22] أي: تأخر فترة غير طويلة، ثم جاء بمنطق الثقة والقوة، ورغم أنه طائر يخاطب ملكاً ونبياً من الأنبياء، إلا أنه يقول له: أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ [النمل:22] أي: علمت أمراً لم تعلمه أنت، واكتشفت خبراً لا تدري عنه أنت، إنه خبر مهم، إنهم قوم يشركون بالله، يعبدون غير الله: أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّه [النمل:22-24].

    انظروا إلى العقلية! والله إن عقلية هذا الطائر أعظم من عقلية ملايين البشر في هذا الزمان، هدهد يغضب لله، لا يرضى أن يُعبد غير الله، لا يرضى أن يُشرك بالله، ويقول بعد ذلك: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّه [النمل:25] أي: كيف يسجدون للشمس؟ من خلقهم؟ من أوجدهم؟ من فطرهم؟ من يميتهم؟ من يبعثهم؟ من يحاسبهم؟ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّه [النمل:25] يستغرب هذا الطائر أن تنصرف العقول عن عبادة خالقها وفاطرها وموجدها، إلى عبادة مخلوق وهي الشمس! وهذه عقلية أخرى.

    أيمكن بعد هذا أن نقول: إن الإنسان أكرمه الله بالعقل؟ لا. فعقلية الطائر أفضل!

    البعوضة الصغيرة (النامس) يقول ابن القيم في كتاب له اسمه: مفتاح دار السعادة ، يتكلم فيه عن أسرار خلق الله بما يدهش العقول: حشرة صغيرة تقف على ست قوائم، وهذه القوائم ذات مفاصل، وهذه المفاصل داخلها عظام رقيقة دقيقة، يجري فيها المخ والدم.. يقول الناظم:

    يا من يرى مد البعوض جناحها     في ظلمة الليل البهيم الأليلِ

    ويرى نياط عروقها في نحرها     والمخ في تلك العظام النّحلِ

    ويرى ويسمع كل مـا هو دونه     في قاع بحر مظلم متجلجلِ

    امنن عليّ بتوبة أمحو بها     ما كان مني بالزمان الأولِ

    هذه البعوضة الصغيرة فيها أسرار من الخلق لا يعلمها إلا الله، علماء التشريح عندما يشرحونها يقفون مذهولين، مبهورين، إن تشريح وظائف أعضائها الآن شيء معجز، فمعها في رأسها قرنا استشعار، بمنزلة (الرادار)، ولها خرطوم مثقوب يمص به الدم، أدق من الشعر، ولها رأس، وبطن، وذيل، وأجنحة، وست قوائم بمفاصل وعظام .. إنها تركيبية عجيبة، وبعد ذلك في رأسها مخ أعظم من مخ الإنسان. إذا أرادت أن تعيش، فإنها تسلب دمك أيها الإنسان؛ لأن قوت البعوض هو دم الإنسان، فهي تعيش على أعلى وأعز شيء في حياتك، وهو الدم، فعدوك إذا أراد أن يتهددك يقول لك: والله لأشربن من دمك، والبعوضة تقول كذلك: والله لأشربن من دمك، ومع هذا كله فهي لا تشرب من دمك في خفية أو ذلة، بل بعد المواجهة، فأنت تنام على سريرك، فتدخل البعوضة التي بإمكانها أن تلدغك في قدمك أو ساقك أو في يدك، لكن تقول: لا يصلح أن ألدغه قبل أن أعلمه، فتأتي إلى أذنيك وتحدث صوتاً: (طنين)، فإذا سمت صوت طنين البعوضة ذهب النوم عنك، لا يأتيك النوم أبداً، وبعد ذلك ماذا تفعل؟ من الناس من يكون متعباً، لا يستطيع أن يقوم ويحاربها، فيتنغص نومه، ثم يأتي ببطانيته ويدخل رأسه تحتها، وكذلك أقدامه وجوانبه، ويبقى محاصراً لنفسه داخل البطانية، خوفاً من البعوضة، ويصبر على الأذى، ولكن مع شدة الأمر فإنه يرفع البطانية قليلاً من عند رأسه، لعله يأتيه الهواء .. لماذا كل هذا؟ إنها بعوضة يا مسكين! لا إله إلا الله ما أضعفك! بالله هل من حقك أيها الإنسان الضعيف -يا من تخاف من البعوضة- أن تعصي الله؟!!

    إذا كانت الملائكة الغلاظ الشداد لا تعصي الله ما أمرها، وهي الملائكة العظيمة الخلقة، ذكر الإمام السيوطي في صحيح الجامع الصغير حديثاً صحيحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: (أُذن لي أن أتحدث عن ملك من حملة العرش ما بين شحمة أذنه وعاتقه مسيرة سبعمائة عام) هذه فقط الرقبة يا صاحب الأصابع الأربع، أنت الآن رقبتك أربع أصابع ومع ذلك تتكبر على الله، لكن تذكر يوم أن تموت كيف سيكون وضعك، فأنت الآن قوي بالعضلات، وقوي بالمال، وقوي بالمنصب والجاه، وقوي بكل شيء، لكن تذكر يوم أن تقف في يوم من الأيام، وأنت بين أهلك مصروع على جنبك، لا تملك -والله- من القوة مثقال ذرة، أقدامك ملفوفة، وأطرافك باردة، ومفاصلك متفككة، وأنت في وضع ضعيف، والله هو الذي يتولاك في تلك اللحظات، وقد تحدى الناس وقال: فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا [الواقعة:83-87] هل تستطيعون ردها؟ لا والله إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الواقعة:87]؟ لا والله.

    أنت ضعيف أمام بعوضة، تخنق نفسك وتكتمها من أجل ألا تلدغك، وبعض الناس يقول: كيف تلدغني بعوضة وأنا رجل؟ لا بد أن أقاومها، فيقوم برجمها بالبطانية، ويشعل المصباح، ويتفحص الجدران، والسطوح، والأسقف .. أين ذهبت البعوضة؟ لعلها خلف الدولاب.. فوق العمامة أو الثوب.. على عباءة المرأة.. في أي مكان.. وبعض الناس يلوي رقبته وعينه في السقف، فإذا لم يجدها رجع، فإذا رجع ونام جاءت وقالت: هأنذا موجودة لست بغائبة، وبعضهم لا يأتيه النوم إلى أن يقتلها، وكيف يقتلها؟ بمحاولات معظمها فاشلة، تقف البعوضة على الجدار، وأثناء وقوفها ترسل حركة من قرني الاستشعار، هذه الحركة تقوم بدور (الرادار) في التقاط الأجسام الغريبة المتجهة إليها، فإذا جاء الإنسان يضربها طارت، لكن بعض الناس ذكي، يعرف الطيران المنخفض، فيأتي لها من تحت، حتى لا تكتشفه أجهزة الرصد التي عندها، ثم يضربها، فإذا ضربها فإنه مرة يصيبها وعشراً يخطئها.

    هذه البعوضة يا إخوان! عندها مخ أم لا؟ نعم عندها مخ، وكذلك كل الحيوانات، إذاً ليس العقل هو سر التكريم، إنما سر التكريم هو الدين والإيمان، فمن أين جاء هذا الكلام؟ جاء من قول الله عز وجل: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [الحج:18].

    يا أخي! لست الذي تطيع الله وحدك، وإذا عصيته فهو غني عنك، قد أطاعه من في السماوات والأرض: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً [مريم:93-94] .. يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [الجمعة:1] .. سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الحديد:1] .. أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً [آل عمران:83] وأنت تعي يا صاحب الرقبة ذات الأصابع الأربع؛ تعي أنك إذا لم تطع ربك فمن يمنعك منه؟ لا إله إلا الله! إنك إذا عصيت الله فإنك تفقد تكريم نفسك، يقول الله عز وجل في سورة الحج، والخطاب موجه للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو أيضاً موجه إلى كل الأمة: أَلَمْ تَرَ [الحج:18] أي: يا محمد! وهذه الآية كأنها تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم، وتسلية لقلبه وهو يرى الكفر، والتكذيب، والرد، والرفض لدعوة الإسلام من قبل الكفار والمشركين، الذين قست قلوبهم على الكفر ولم تلن لدين الله، فيقول الله له: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [الحج:18].

    أي: إذا لم يسجد لله هؤلاء، فقد سجد لله كل شيء، وإذا لم يطع الله هؤلاء، فقد أطاع الله كل شيء: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ [الحج:18] فمن أهانه الله بترك دينه فمن يكرمه بعد الله؟! إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [الحج:18].

    أجل أيها الإخوة! نخلص من هذا إلى أن الإيمان ضروري، من أجل أن نعيش عيشة الكرامة، حتى نعيش عيشة الإنسانية الفاضلة المكرمة، إذ بغير الإيمان ليس بين الإنسان وبين الحيوان فرق، بل إن الحيوان أفضل منه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088557948

    عدد مرات الحفظ

    777315499