إسلام ويب

مفهوم العبادةللشيخ : سعيد بن مسفر

  •  التفريغ النصي الكامل
  • العبادة ليست شعاراً يرفع، بل هي هدف سام مرتبط بالعلم والعمل، وبدون العمل بالعلم، يصير العلم وبالاً على صاحبه، وكذلك العبادة بدون علم. والأمة تعيش في جاهلية جهلاء، ولن يخرجها من جاهليتها إلا الاهتمام بالعلم الشرعي، ونشره في جميع الأماكن، وعلى مختلف الفئات الموجودة في المجتمع، حتى يتسنى لها عبادة الله العبادة الصحيحة كما يريدها ربها.
    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    وبعد:

    أيها الإخوة في الله! إن حاجة الإنسان إلى سماع العلم والذكر أعظم من حاجة الأرض إلى نزول الغيث، فإن ذكر الله والعلم الشرعي هو غيث القلوب، وكما أن المطر هو غيث الأرض، فإذا انحبس المطر عن الأرض اغبرت، وأُجدبت وانقطع خيرها، وتغير لونها، وانعدمت فيها الحياة، وإذا نزل فيها المطر اخضرت وربت وأنبتت من كل زوجٍ بهيج، وتغير لونها، وطابت الحياة فيها.

    كذلك قلوب الناس، إذا نزل عليها الذكر، والعلم الشرعي، لانت وانقادت وصلحت واستقامت، وطابت حياتها، بل الحياة الحقيقية في قلوب الناس إنما تنبع من مقدار استجابة الناس لهذا الدين، ليست حياة الناس كحياة البهائم، إن الحياة المماثلة لحياة الحشرات والبهائم حياة مشتركة، لكن للإنسان حياة أخرى غير تلك الحياة، يقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24].

    الإيمان والعمل الصالح

    ما الذي يحيينا؟

    الإيمان بالله، والاستقامة، والعمل الصالح وفق هذا الدين، هذا الذي يحيينا، بمعنى: أن الذي لم يستجب ليس بحي، هو حي لكن حياة البهائم، ويقول عز وجل: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97].

    قال العلماء: كيف يكون من عمل صالحاً وهو مؤمن؟ يقول الله أنه سوف يحييه حياةً طيبة، وهو حي أولاً، فكيف يحييه ربي؟ قالوا: كان حياً، لكن كان في حياة خبيثة، بهيمية، يشاطره فيها الحيوان، إنما بالإيمان يحيا حياة سماها الله طيبة.

    ما هي الحياة الطيبة؟

    هي حياة الجسد؟ لا. حياة الأكل.. الشرب.. الملابس.. المساكن.. المراكب.. المناصب.. الرتب.. الوظائف؟ لا. حياة الزوجات.. الأولاد.. إنها حياة القلوب.

    ولهذا قال الله عز وجل بعد هذه الآية التي قرأتها أولاً: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال:24] إذا لم تستجب حال الله بينك وبين قلبك، وإذا حال الله بينك وبين قلبك فماذا تفعل له؟

    يصبح كل عملك ضد نفسك، ولهذا يقول عز وجل: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر:19] يصبح الإنسان عدوَّ نفسه، ينظر بعينه إلى ما يضره، ويسمع بأذنه ما يضره، ويمشي بقدمه إلى ما يضره، يمد يده إلى ما يضره، ويأكل ويطأ ما يضره، وكل ضرر يترتب على نفسه يحرص عليه.

    وبعد ذلك! الأشياء المفيدة له يرفضها .. الصلاة تنفعه لا يريدها، لماذا؟ لأنها تنفع، هل هناك شخص في الدنيا يستطيع أن يقول: إن الصلاة تضر؟ لا يوجد.

    هل هناك شخص في الدنيا يقول: إن قراءة القرآن تضر؟! لا يوجد، لكن لا يريدها لأنه عدو نفسه، لكن قراءة المجلات يريدها، هل هناك شخص يستطيع أن يقول: إن دخول المساجد يضر؟! وهل رأيتم شخصاً دخل المسجد يوماً من الأيام، وقيل له وهو على باب المسجد: ادفع أجرة الدخول؟! لا. إن طاعة الله ليس فيها خسارة، بينما معصية الله تلحق ضرراً بالنفس والمال.

    هل هناك شخص يدخل دور السينما أو ملاعب الكرة أو يشتري مجلة بدون مقابل؟ إن الواحد ليدخل النار بماله، يدفع المال على نفسه حتى يصل بها إلى النار -والعياذ بالله-.

    العلم الشرعي وذكر الله

    يقول الله عز وجل: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال:24] فلا تحيا القلوب حياة حقيقية إلا بالعلم والذكر، وما يعانيه الناس اليوم من جفاف في الروح، وقسوة في القلب، وتحجر في العين، وكسل في الجوارح عن العبادة، ورغبة في الشر، وتوازن وكسل في الخير، سببه الأول والأخير نقص العلم.

    بعضهم يمر عليه شهر لم يقرأ القرآن، وبعضهم تمر عليه سنة لم يحمل المصحف، ولا سمع كلمة الله، ولهذا أكد الله عز وجل على هذه الأمور تأكيداً عظيماً، حتى تستمر حياة القلب، ويضمن استمرارية حياة القلب، أَما أمرنا الله بالذكر، وشرع لنا أذكاراً في الصباح والمساء، وخطبة يوم الجمعة كوجبة أسبوعية للقلب، وأكد على ضرورة الإنصات فيها، لدرجة المنع من مس الحصى، تجلس والحصى بجانبك فلا تمد يدك عليه، والرجل بجانبك يتكلم لا تقول له: اسكت، وهذا أمر بالمعروف، لكن إذا قلت: اسكت فقد لغوت، ومن لغى فلا جمعة له، لماذا؟ لكي تستمر في التركيز الذهني على سماع الخطيب.

    لكن ما الذي يحصل اليوم عند المسلمين، إلا من رحم الله؟ لا يخرجون إلى الجمعة إلا بعد أن يخرج الخطيب، فإذا بدأ الخطيب يخطب قام صاحبنا من النوم، واغتسل ولبس، وركب السيارة، وذهب إلى المسجد مع انتهاء الخطبة، ثم صلى ركعتين في الخانة، ثم رجع فتراه يقول: صليت الجمعة، إنه مسكين!! لم يعرف قدر الجمعة، أخي! لماذا لا تأتي من الصباح؟ كان السلف يخرجون في الساعة الأولى، ففي الحديث الصحيح: (من جاء في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن جاء في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن جاء في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً ومن جاء في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن جاء في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة) بعد خمس ساعات، الساعة الأولى من أول النهار، إن الذي يأتي بعد ذلك الوقت لم يقرب شيئاً؛ تطوى الصحف بما سجل.

    لأنه إذا دخل الإمام طويت الصحف، والذي يأتي بعد دخول الإمام، لا يسجل من السابقين، يعني: أجزأته الجمعة؛ لكن هل هو من أهل الفضل والسبق، والعمل الصالح؟! إن الذي يأتي من أجل أن يباشر هذه العبادة، فإنه يقرأ القرآن، ويصلي ما شاء الله، ثم يهيء نفسه للاستماع للخطبة، وتلقي هذه البيانات الربانية.

    ماذا يقول الخطيب؟ يبلغ عن الله أمره، ويقول للناس: اتقوا الله، ويبدأ بالحمد لله، ويشهد أن لا إله إلا الله، ويبين أوامر الدين، وأنت معني بهذه الأوامر، أجل هذه وجبة لك ولروحك، لكن وجبة الروح الآن ضائعة عند كثيرٍ من المسلمين، وترتب على هذا الضياع فراغ في حياة الناس، مُلئ هذا الفراغ بالأشياء الأخرى الضارة، مُلئ بالسهرات.. وبالأفلام والمسلسلات.. وبمتابعة للكرة والمباريات.. وبالجرائد والمجلات.. وبالنزهات والخروجات ... و... و... .

    كأن الأمة لم تخلق للدين، إن حياة الأمة فراغ لكل شيء إلا الله! وإن في ترتيبات المسلم كل شيء إلا الله! وماذا يحصل بعد ذلك؟ يموت القلب، وإذا مات القلب -والعياذ بالله- انعدمت الحياة الحقيقية عند الإنسان، يقول الله تبارك وتعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ [الأنعام:122] بالدين، ويقول عز وجل: وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ [فاطر:19-21] ثم قال: وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [فاطر:22].

    الذي في قبره وهو ميت جسده لا يسمع، الآن تعال إلى صاحب قبر واقعد بجانبه، هل يسمعك؟ كذلك هناك ناس الآن مدفونون؛ لكن ليسو مدفونين في الأرض، إنهم مدفونون في أجسامهم يقول الشاعر:

    وأرواحهم في وحشة من جسومهم     وأجسادهم قبل القبور قبور

    إنه مقبور، إنه قبر يمشي على رجلين، قلبه ميت لا يذكر الله، لا يحب الله.. لا يحب رسول الله.. لا يذكر الجنة.. ولا النار.. ولا القبر.. ولا العذاب، كل شيء في ذهنه إلا هذه الأمور، وهو يعلم أنه سوف يموت، ولكن إذا مات ورأى الأمور على حقائقها حضر عقله، فيقول كما قال الله: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون:99] فتسأله الملائكة: لماذا تريد أن ترجع؟ فيبين لماذا يريد أن يرجع، فلا يقول: لأرى أولادي، أو وظيفتي، أو عمارتي، أو المزرعة أسقيها، أو السيارة أسير بها، لا. لا. هذا كلام لا يريده كله، عرف أنه كان مشغولاً بما لا فائدة فيه، وإنما يقول: لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً [المؤمنون:100].

    حسناً اعمل الآن، ما الذي يضرك لِمَ لا تعمل، تضيع العمل الصالح، وتستمر في المعاصي والذنوب والغفلة عن الله، وتترك الطاعة، إلى أن يضرب رأسك في القبر، ثم تقول: ردوني أعمل صالحاً، من يجيبه؟ أتدرون ما مثل هذا أيها الإخوان، مثله مثل طالب مهمل من أول العام إلى آخره لم يحضر ولا حصة، ولا فتح كتاباً ولا يعرف حرفاً، ويوم جاء الامتحان دخل مع الطلاب لكي يمتحن معهم في القاعة، وأعطي ورقة الإجابة، فلما قرأها لم يعرف شيئاً، لأنه لم يدرس شيئاً أصلاً، لو أنه ذهب إلى مدير اللجنة وقال: يا أستاذ، قال: نعم، قال: من فضلك نصف ساعة، أذهب لأرى الإجابة ثم أرجع فأكتبها، ما رأيكم هل يوافقونه على طلبه؟

    لا. لا يوافقونه. لو وافقوه هل يسمى هذا امتحان؟ سيقول له رئيس اللجنة: اقعد على رأسك، إن كان عندك شيء فاكتبه وإذا لم يكن عندك شيء فهذا نتيجة إهمالك، وهذا هو نفس الوضع، لو أن شخصاً يعيش طوال حياته على المعاصي، وإذا مات دخل القبر فقال: رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً، قال الله: كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088523310

    عدد مرات الحفظ

    777118424