قبل البدء في الموضوع الذي سنتكلم فيه، أحب أن أشير إلى السنن الرواتب وأهميتها في الإسلام، ففي الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى في يومٍ اثنتي عشرة ركعة بنى الله له بيتاً في الجنة).
وهذه الاثنتي عشرة ركعة أخبر بها أهل العلم نقلاً من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، هي: أربع ركعات قبل صلاة الظهر، واثنتين بعدها، واثنتين بعد صلاة المغرب، واثنتين بعد صلاة العشاء، واثنتين قبل صلاة الفجر، فيصبح المجموع اثنتي عشرة ركعة.
وابن القيم رحمه الله تعالى يقول في كتابه: زاد المعاد في هدي خير العباد : "إن من يطرق باب ربه في كل يوم أربعين مرة لجدير أن يفتح له".
المعروف أن عدد ركعات الفرائض الخمس هي: سبع عشر ركعة، اثنتين في الفجر، وأربع في الظهر، وأربع في العصر، وثلاث في المغرب، وأربع في العشاء: سبعة عشرة ركعة هذه ركعات الفريضة، وعلى فرض أن الإنسان أدى اثنتي عشرة ركعة يكون مجموعها مع الفرائض: تسعاً وعشرين ركعة، وثبت في صحيحي البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في صلاة الليل في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة).
فإحدى عشرة ركعة لقيام الليل مع الوتر، واثنتا عشرة ركعة الرواتب، وسبع عشرة ركعة فرائض، فيكون المجموع: أربعين ركعة، وفي كل ركعة ركن من أركانها، وهي قراءة سورة الفاتحة.
في كل ركعة من ركعات الصلاة وفي كل آية من سور الفاتحة وأنت تناجي ربك، تقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] كما جاء في الحديث: (قال الله عز وجل: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله عز وجل: حمدني عبدي، فإذا قال العبد: الرحمن الرحيم، قال الله عز وجل: مجدني عبدي، فإذا قال العبد: مالك يوم الدين، قال الله عز وجل: عظمني عبدي -هذه ثلاث لله، وبقي أربع من السبع- قال: فإذا قال العبد: إياك نعبد وإياك نستعين، قال الله عز وجل: هذه بيني وبين عبدي) هذه مقسومة، فمنه العبادة ومني الإعانة، وفي قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، تقديم المفعول على الفعل وهو يفيد الاختصاص، ما قال: نستعينك، ولا قال: نعبدك، وإنما قال: إياك؛ أي: نختصك يا رب لوحدك عمن سواك بالعبادة، ونختصك أيضاً بالاستعانة فلا نعبد إلا إياك ولا نستعين إلا بك، فيقول الله عز وجل: (هذه بيني وبين عبدي فمنه العبادة ومني الإعانة) فوالله لولا أن الله أعانك على العبادة ما عبدته.
والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا |
فأنزلن سكينة علينـا وثبت الأقدام إن لاقينا |
والله عز وجل يقول: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60] ومن لوازم العبادة أن تطلب من الله عز وجل كل حوائجك وجميع شئونك، وأعظم حاجة لك وأعظم شأن أن تفوز به في الدنيا والآخرة: أن تطلب منه أن يعينك على العبادة كما تطلب منه أن يعينك على الرزق وأمور الحياة، واطلبه في كل حين ووقت على أن يعينك على عبادته، فتقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] فيقول الله: (هذه بيني وبين عبدي). (فإذا قال العبد: اهدنا الصراط المستقيم) أي: دلنا وأرشدنا وأقمنا على الصراط المستقيم، وكأن سائلاً يقول: وأي صراط تعنون؟ وأي طريق تريدون؟ إنها طرق، وشعاب، وفجاج، ولكن هناك طريقاً واضحاً؛ طريقاً أبلج ليله كنهاره لا يزيغ عنه إلا هالك: عليه الأعلام والمعالم واللوحات الإرشادية، فلا يمكن أن يضل إنسان سار بهذا الطريق، ألا وهو طريق الرسول صلى الله عليه وسلم، كأن سائلاً يقول: أي طريق؟ فيقول الله عز وجل: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] أي صراط؟ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7] من هم الذين أنعم الله عليهم؟ هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحين؛ هؤلاء الذين أنعم الله عليهم: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ [النساء:69] والنبيون لا شك أنهم صفوة أهل الأرض، فقد اختار الله عز وجل هؤلاء الأنبياء والرسل ليكونوا سفراء بينه وبين خلقه؛ فهم صفوة خلق الله، وهم -أيضاً- بينهم درجات في التفاوت، يقول الله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [البقرة:253] حتى الرسل فيهم تفاضل، وأفضلهم على الإطلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، سيد ولد آدم، يقول صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر، وأنا صاحب اللواء يوم العرض ولا فخر، وأن صاحب الشفاعة العظمى يوم القيامة ولا فخر) صلوات الله وسلامه عليه صلاة دائمة متتابعة ما تتابع الليل.
ونحن الآن -ولله المثل الأعلى- إذا كان المدير غضبان وأراد رجل أن يقضي حاجةً من عند المدير، فإنه يختار أولاً لقضاء هذه الحاجة أحب الناس إلى المدير، يقول: يا فلان! أنا أريد حاجة وأريد منك أن تدخل معي إلى المدير، أو تيسرها عن طريقك، فالمدير لا يرد لك طلباً، فهذا الوسيط سواء كان موظفاً أو قريباً لهذا المسئول لا يأتي المدير إلا في أحسن أحواله النفسية، إذا جاء إلى السكرتير قال: لابد أن أدخل إلى المدير، ماذا يقول له السكرتير؟ يقول: لا. أرجوك لا تأتي اليوم اذهب فالمسألة خطيرة .. المدير غضبان إلى أبعد درجة؛ إذا دخلت عليه فإنه سيصرخ في وجهك؛ فلا يمكن أن يدخل الإنسان، لكن إذا جاءه ودخل عليه وقال له: كيف الأجواء؟ قال: -أربعة وعشرون قيراطاً- المدير مبسوط! زار اليوم جميع المكاتب ورأى ما يسره، ورأى العمل يسير في الخط الصحيح، فهو مبسوط! ادخل الآن .. اطلب تجد .. فربنا يوم القيامة وله المثل الأعلى يغضب، ومن غضبه أنه يدمر الكون كله: إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ *وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ [الأنفطار:1-4]. ويقول الله عز وجل: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ [التكوير:1-7].
أحداث هائلة جداً! تهز القلوب! وهذه تكون كلها يوم القيامة، فالقضية ليست قضية عادية، فيوم القيامة تكون الدنيا كلها على غير الوضع الأول: القبور بعثرت، والناس حشرت، والأمور كلها في غير وضعها الطبيعي، والله عز وجل قد أذن بالجزاء -أذن بفصل القضاء- فلا يوجد أحد يستطيع أن يأتي إلى الله ليسأله الشفاعة، وكل إنسان يقول: نفسي نفسي: لا أسألك اليوم إلا نفسي، ففي هذه اللحظات يأتون إلى نوح .. فيقول: إن لي دعوة وقد استنفذتها ودعوت على قومي، وقلت: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً [نوح:26] وانتهت دعوتي، ثم يأتون إلى إبراهيم عليه السلام، فيقولون له: يا إبراهيم: أنت خليل الله عز وجل وأنت أبو الأنبياء .. اشفع لنا إلى ربنا، فيقول: إني قد كذبت ثلاث كذبات، وإن ربي قد غضب اليوم غضباً لا أستطيع على مواجهته. أتدرون ما كذبات إبراهيم عليه السلام؟ يقول المفسرون: إن كذبته التي ظنها كذبة هي في الحقيقة ليست بكذبة، لكن موازين الأنبياء ومقاييسهم حساسة إلى أبعد الدرجات.
قال العلماء: الأولى لما خرجوا في يوم عيدهم ليذبحوا لأصنامهم ولآلهتهم، قالوا له: هيا معنا، هيا يا إبراهيم، ماذا قال؟ قال: إني سقيم؛ يقول: أنا مريض اليوم ولا أستطيع أن أخرج، وحق له أن يكون مريضاً! وقد كان مريضاً، أي: ذو كبدٍ مقروحة على الدين؛ لأنهم كانوا يعبدون غير الله، ففي قلبه لوعة وحرقة، وهذا شأن المؤمن الذي يتألم ويتقطع قلبه حينما يرى حدود الله تنتهك، وشريعة الله لا تحكم، وفرائض الله لا تؤتى، إنه يتقطع ويذوب قلبه في جوفه كما يذوب الملح في الماء، أما صاحب الإحساس البارد، والدم -والعياذ بالله- المتجمد؛ فإنه لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، ولا يتمعر وجهه في الله عز وجل -لا يغار ولا يغضب لله- هذا قلبه متقطع، وقال: إني مريض في قلبي، أنا مقروح في كبدي! أنا لا أستطيع أن أخرج معكم في عيدكم، فظنها كذبة صلوات الله وسلامه عليه.
والثانية: أنه لما قدم إلى مصر وكانت معه زوجته سارة ؛ وكانت امرأة ذات جمال، وقد عُرف ملك مصر بأنه رجل شهوانيٌُ خبيث يحب النساء، فلما أخبر عن زوجة إبراهيم طلبها من أجل -والعياذ بالله- أن يفعل بها الفاحشة، فلما جيء بها سأل إبراهيم، قال: ما هي لك؟ فكان إبراهيم ذكي: أي: لو قال: زوجتي لقتله وأخذها، لكن قال له: أختي؛ وهو يعني أنها أخته في الإسلام، إذ ليس على وجه الأرض مسلم إلا هي وهو، فقال: هاتها. نريد أن نأخذها .. طبعاً يستطيع أن يأخذ أخت الشخص لكن لا يستطيع أن يأخذ زوجته، فأخذها وأُمر بإبراهيم إلى السجن، فبقي في قلب إبراهيم ألم شديد على زوجته وغيرة عظيمة على عرضه، ولكن الله حفظه؛ لأنه نبي، فكشف له الحجب بينه وبينها، فكان في السجن وهو يتابع حركاتها وينظر إليها في كل حركة، فلما أُخذت وأُدخلت إلى غرفة النمرود أراد أن يمد يده عليها، فكلما مد يده صلبه الله وجعله كالحديدة الواقفة، فإذا رجع عنها عادت له الحياة، فإذا مد يده تصلب، وإبراهيم يرصد الموقف وهو في السجن، ينظر العملية ليطمئن قلبه ويعلم أن الله عز وجل حفظه في عرضه، وبعد أن مارس التجربة أكثر من مرة، قال: هذه جنية أخرجوها؛ فجاءوا وأخرجوها من عنده، ورجعت إليه.
هذا إبراهيم، يقول: لا أستطيع إني قد كذبت! اذهبوا إلى غيري. فيأتون إلى موسى ويقولون: أنت كليم الله .. فيقول: إني قد قتلت نفساً بغير حق، وإني لا أستطيع، فيقول: اذهبوا إلى عيسى. فيأتون إلى عيسى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فيقول: اذهبوا إلى محمد. ولا يذكر عيسى ذنباً، هكذا في الحديث: ما ذكر ذنباً، لكن قال: اذهبوا إلى محمد.
قال: (فيأتونني -صلوات الله وسلامه عليه- فأسجد تحت العرش وأثني على الله، ويفتح الله عليَّ من المحامد ما لم أكن أعرف، فيقال لي: ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: أمتي أمتي أمتي) يشفع صلوات الله وسلامه عليه لأمته، فالذي يريد أن يكون من أهل شفاعته هو من الذين أنعم الله عليهم، قال عز وجل: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ [النساء:69] النبيين: هذه أعلى درجات البشر، الصديقين: الدرجة الثانية بعد البشر وليسوا بأنبياء؛ لكنهم أقوام اصطفوا وتم اختيارهم، وهم: أتباع الرسل الذين صدقوه، مثل: عيسى، وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وبعدها: وَالشُّهَدَاءِ [النساء:69] الشهداء ولو كانوا ما عاصروا الأنبياء، فإنهم في المنزلة الثالثة، وبعدها: وَالصَّالِحِينَ [النساء:69] ماذا بقي بعد هؤلاء الأربعة؟! لم يبق إلا العصاة والمجرمون واللوطة والزناة والسكارى والقتلة والمرابون -والعياذ بالله- وعاقو الوالدين .. المهم فاعل كل جريمة بقي بعد هؤلاء الأربعة.
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] فإذا قال العبد بعدها: آمين، أي: اللهم استجب، قال الله عز وجل: (هذه لعبدي ولعبدي ما سأل). نسأل الله وإياكم من فضله.
فأنت إذا حافظت على السنن الرواتب وأخذت أقل الوتر -وهي واحدة- فإنك بها تكون قد طرقت باب ربك في كل يومٍ ثلاثين مرة، فإن أخذت بأكثر أنواع الوتر وهو إحدى عشر ركعة تكون قد طرقت باب ربك أربعين مرة، وجدير أن يفتح لك، فإن باب الله عز وجل واسع وهو كريم، ولا يرد من سأله: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60] ويقول ربنا تبارك وتعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186] وهذا الذي أؤكد عليه؛ لأن هناك بعض التساهل من بعض الشباب حفظهم الله وأصلحهم ووفقهم في أداء السنن الرواتب، فقد تجد كثيراً منهم يصلون الفريضة ثم يخرجون ولا يصلون النافلة، والذي يترك النافلة فإنه سيترك بعد ذلك الفريضة؛ لأن الشيطان وأنت تواجهه يجد عندك خطوط دفاعات، فيجب أن يكون عندك خط دفاع أول، وثانٍ، وثالث، بحيث إذا انهزمت في الخط الأول فعندك خط ثاني، وهذه خطط العسكريين الآن؛ يضعون خطوطاً في مواجهة الأعداء: الخط الأول يسمونه: الخط الحار أو الخط الشاغل أو خط النار، هذا المواجهة باستمرار، والخط الثاني أشد، والخط الثالث أشدها فليس وراءه إلا الموت.
فأنت في مواجهة الشيطان أمام صراعات، يجب أن يكون لك في العبادة خط ناري ساخن وهو الأول واسمه كثرة النوافل؛ ما إن تتاح لك فرصة حتى تصلي.
الخط الثاني الذي إذا هزمت وغلبت وشغلت ولم تستطع فلا تتخل عنه وهو خط الرواتب، إذ لا يمكن أن تترك الراتبة مهما كان عذرك، وشغلك، وكسلك وتعبك؛ لأن الرواتب هذه لا خيار فيها، ولا مساومة عليها، بل الحرص كل الحرص عليها.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية : عن رجل يصلي الفريضة ولا يؤدي الراتبة؟ قال: ذاك رجل فاسق تُرد شهادته. وأشكل هذا الكلام على بعض أهل العلم حينما سمعوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والحديث في الصحيحين واللفظ للبخاري : (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أرأيت إن صليت المكتوبات ولم أزد على ذلك شيئاً، أأدخل الجنة؟ قال: نعم، وقال: من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا) قالوا: هذا الرجل يصلي الفريضة فقط، فكيف نحكم بفسقه، فتأوله رحمه الله وهو من أئمة العلم الهداة الذين لديهم بصائر عظيمة في كشف الأسرار والأدلة من كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: إن هذا الرجل صادق، والرسول صلى الله عليه وسلم زكاه، وتزكية الرسول صلى الله عليه وسلم له لا تكون إلا بوحي، وأنه سيحافظ على الفرائض حتى يموت، ولا شك أن من حافظ على الفرائض حتى يموت فهو مسلم يدخل الجنة، لكن الغالب أن من يحافظ على الفرائض فقط ولا يصلي النوافل أنه في نهاية الأمر يترك الفرائض.
وهذا مشاهد ومجرب؛ لأنه ليس عنده إلا خط دفاع واحد، فإذا جاءه الشيطان ليحاربه في الصلاة وتركها أين يرجع؟ ليس هناك إلا الكفر، وليس بعد ترك الصلاة إلا الكفر، ولكن إذا كسلت في النوافل فإنك ترجع إلى الخط الثاني، فإذا هزمك الشيطان وتغلب عليك في لحظة من اللحظات أو وقت من الأوقات وتركت الراتبة فإن معك الفريضة، لكن من يحرص على النافلة والراتبة والفريضة لا يمكن أبداً أن يضيع الفريضة، فهذه اسمها رءوس أموال، ويوجد أرباح سائلة دائماً وكثيرة، فرءوس الأموال: الفرائض، والأرباح الثابتة: هذه الرواتب، والأرباح الكثيرة في المواسم: بقية النوافل.
ومن منا يضمن أن يأتي بفريضته كاملة، هل أحد يضمن؟ أعطيكم مثالاً في يومنا هذا: صلينا المغرب ثلاث ركعات، من منا يضمن أنه صلى المغرب ثلاث ركعات ولم تخطر له خاطرة، أي: ولم يحصل له وسواس في شيء من أمور الدنيا؟
الجواب: لا أحد. ليس هناك أحد أبداً .. مستحيل. هل قال شخص: والله إني كبرت تكبيرة الإحرام وسلمت تسليمة الختام، وما خطر في قلبي من التكبيرة حتى التسليم شيء إلا الله والجنة والنار والدار الآخرة والقبر والعذاب، ولم أفكر في زوجة ولا عشاء ولا ولد ولا دراسة ولا سمرة ولا مباراة ولا لعبة ولا سهرة، هل يستطيع أحد أن يقول هذا؟ لا.
ولذا إذا أردنا أن نجري امتحاناً عملياً ونكتب في ورقة ونقسمها على الحاضرين في هذا المجلس -وأنتم الصفوة إن شاء الله- ونقول لكم: السؤال الأول: ماذا قرأ الإمام في الركعة الأولى؟
السؤال الثاني: ماذا قرأ الإمام في الركعة الثانية؟ كل واحد يجيب ويطبق الورقة ويأتي بها لنجري هذا الاستفتاء لنعرف من هم الذين عرفوا قراءة الإمام، وقد أكون وأنا الإمام نسيت ماذا قرأت؛ لأني ربما أقرأ وقلبي ليس معي، ولو سألنا هذا العمود الموجود في المسجد، وقلنا: يا عمود، يا مسلح، يا أسمنت، ماذا قرأ الإمام في الركعة الأولى؟ هل تظنه يرد؟ ماذا يقول العمود؟ يقول: لا أعلم، فلو أتينا بعمود ثان بشري من الموجودين وقلنا: يا عمود يا بشري يا متحرك: ماذا قرأ الإمام؟ وقال: لا أعلم، فما الفرق بين العمودين؟! هل يوجد فرق؟ الفرق هو: أن هذا ثابت وهذا متحرك، ولكن الثابت أكثر وجوداً من المتحرك في المسجد؛ فالمتحرك جلس ربع ساعة وهذا جلس أربعاً وعشرين ساعة، نعم. فالعمود قد يكون أفضل، فالخشوع في الصلاة الآن مفقود عند كثير من الناس .. سواء المتكلم أو السامع إلا من رحم الله عز وجل!!
فإذا أتيت يوم القيامة وصليت المغرب ثلاث ركعات؛ لكن الله لم يكتب لي منها إلا ركعة واحدة؛ لأنه جاء في الحديث: (للعبد من صلاته ما حضر فيها قلبه، يكتب للعبد من صلاته: نصفها، ثلثها، ربعها، خمسها، سدسها، ثمنها تسعها، عشرها، وبعضهم لا يكتب له من صلاته شيء)
فإذا جِئتُ يوم القيامة وقد كُتب لي -إذا كنت من الخاشعين- ثلثها أو ثلثين، أو ركعتين؟! قال: أين هي؟ قال: هذه ركعتين في العشاء ، وركعتين في السمرة، وركعتين في العمارة، وركعتين مع الأولاد، والذي لله بقي لله وسجل لك، والذي ليس لله ذهب للناس، يقول الله تعالى: (انظروا هل له شيء؟)، أي: يكمل به صلاته .. فإذا جئت وما عندك ما ترقع به فمن أين ترقع يوم القيامة؟ لم يبق إلا النار، لا إله إلا الله! فالرواتب مهمة -يا إخواني- جداً جداً.
بعض الشباب يلعب عليهم الشيطان، ويأتيهم من باب ما يحبون، فعندما يشم في قلوبهم الرغبة في فعل الخير يقول لهم: قد سمعتم في الحديث الصحيح (إن أفضل صلاة الرجل في بيته إلا المكتوبة) فيقول للإنسان: أنت صليت الفريضة من أجل أن تصير صلاتك فضيلة فصل النافلة في البيت، فإذا دخل الإنسان البيت نسي الله، ونسي الصلاة، فأول ما يدخل والعشاء أمامه، هل سيفكر في صلاة والسفرة موجودة؟ وبعد أن يتعشى أو يتغدى إذا كان بعد صلاة الظهر يغسل يديه وبعدها يدخل غرفته ليسمع أو يقرأ جريدة أو كتاباً أو ينام .. وذهبت السنن! ويأتي الشيطان ليضحك عليه، يأتي إليه ويتلفت فيه وقد ضيع الصلاة وضيع الفريضة فيأتي إليه ويضحك عليه ويقول: مغفل! تريد الفضيلة؟! ضيعناك منها كلها، لا فضيلة ولا غيرها.
فإن كنت من أهل الحرص الشديد وتعرف أنك بمجرد أن تدخل البيت تصلي النافلة، أو عندك ترتيبات خاصة لا تنام إلا بعد أداء الراتبة فأمر حسن، وإلا فصلها في المسجد؛ لأن حفظها خير من ضياعها .. نريد الربح مثلما يقولون، نريد أن نذهب إلى البيت لنصلي صلاة النافلة لنحصل على فضيلة فنضيعها ولا نصليها أصلاً، فاحرص عليها في مسجدك وعود نفسك باستمرار عليها حتى تصبح شيئاً طبيعياً، انظروا الآن آبائنا وكبار السن فينا والعوام منا الذين لم يطلبوا العلم ولم يعرفوا كثيراً من الأحكام الشرعية، ولكنهم لما ألزموا أنفسهم بالرواتب، فهم من يوم أن خلقوا لا يستطيعون تركها، وكثير من كبار السن معنا في هذا المسجد وفي كثير من المساجد إذا صلى لا يمكن أبداً أن تقول له: هيا، يقول: لم أصل السنة، طيب .. هذه نافلة، قال: لا يا شيخ! هذه سنة الرسول صلى الله عليهم وسلم، فأصبحت جزءاً من صلاته التي يصليها، بينما شبابنا إلا من عصم الله يصلي الفرض ويخرج، ماذا بك؟ قال: هذه سنة يا شيخ! ماذا بالسنة، والرسول يقول: (من رغب عن سنتي فليس مني) السنة أي: الطريقة، هذه طريقة النبي صلى الله عليه وسلم! أسنها لك وأمرك بها لتتركها، وتفرط فيها؟! هذه مصيبة أيها الإخوة!
أما موضوعنا فلا يزال امتداداً للمواضيع السابقة عن الروح ورحلتها العظيمة منذ أن تستقر في الإنسان وحتى تستقر في الجنة أو في النار.
فالإشكال حصل هنا عند الناس: القرآن يقول العلماء فيه: إنه قطعي الثبوت، القرآن في مجمله من ألفه إلى يائه -من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس- قطعي الثبوت؛ يعني: ليس فيه حرف زائد عما أنزل الله، ولا حرف ناقص على ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن في آياته هذه دلالات قطعية وظنية أي: فيه آيات قطعية الثبوت وفيه قطعية الدلالة، وفيه آيات قطعية الثبوت لكنها ظنية الدلالة، من يعرف القطعي والظني في الدلالات؟ العلماء هم الذين يعلمونه، قال الله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7] فالعلماء العارفون بالله يعرفون دلالات الكتاب مما علمهم الله وعلمهم رسوله صلى الله عليه وسلم، هذه الآية يقول الله عز وجل: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ [لقمان:34] حملوها الناس على غير مراد الله منها حملاً كاملاً، العلم هنا الذي قاله الله تعالى: علم كامل شامل، يعلم ما في الأرحام، ما قال الله: ويعلم نوعية الجنين الذي في الأرحام، حتى نقول: إذا ثبت بالعلم وبالأشعة أنهم عرفوا أنه ذكر أو أنثى، قلنا: والله قد قال: يَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ [لقمان:34] لا. العلم هنا ممكن، لماذا؟ قالوا: لأن الله تعالى يقول: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ [عبس:19-21] والفاء تفيد التعقيب الفوري، وثم: تفيد الترتيب على التراخي، تقول: دخل محمد فعلي، يعني: دخل علي بعد محمد مباشرة، لكن تقول: دخل محمد فعليّ ثم جاء سعيد، يعني: دخل محمد وجاء علي بعده وبعد ذلك جاء سعيد بعد ساعة أو ساعتين أو فترة من الزمن، فهنا يقول الله عز وجل: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ [عبس:19] يعني: بعد خلقه نطفة حصل له التقدير، في لحظة التقدير لا يستطيع أن يعرف نوعية هذا المولود أحد، حتى الملائكة لا تعرف، لكن بعد التقدير وبعد مضي (120) يوماً يؤمر الملك بنفخ الروح، وكتابة الأجل والرزق ونوعية الذكر والأنثى، وفي هذه اللحظات لم يعد العلم علماً خاصاً بالله، فقد انتقل من العلم الخاص بالله إلى علم تعلمه الملائكة، فالملائكة الآن أصبحت في البطن، أي: أن الملائكة التي أمرت بالنفخ في الروح تعرف أن هذا الجنين ذكراً أو أنثى، وبإمكان الناس بعد أن عرفت الملائكة أن يعرفوا أنه ذكر أو أنثى قبل أن يخرج من الرحم، فبالإمكان أن نطلع عليه عن طريق الأشعة، أو نجري عملية للمرأة أو نخرجه بعملية قيصرية ونعرف أولد أم أنثى .. هذا ممكن، لكن في اللحظة الأولى -لحظة التقدير- لا يمكن لأحد أن يعرفه إلا الله؛ لأن الإنسان يكون بكل صفاته الوراثية وجيناته موجود في رأس الحيوان المنوي؛ والحيوان المنوي: حيوان لا يرى بالعين المجردة، لا يرى إلا بالمجهر المكبر الإلكتروني، وإذا وضعت قطعة من المني على عدسة المجهر فسترى الملايين من الحيوانات المنوية، ويقول العلماء: إن ما يدفقه الرجل من حيوانات منوية في الدفقة الواحدة: أربعمائة مليون حيوان منوي، أي: إذا أتى الرجل زوجته؛ فإنه يدفق في كل دفقه من مائة إلى أربعمائة مليون حيوان منوي، تخرج هذه الحيوانات المنوية وتمر في الرحم ولا يصل إلى قناة فالوب في أعلى القناة التي فيها بويضة المرأة إلا حيوان واحد، ويموت الباقي، فالذي يسبق تحتضنه البويضة وتقفل على نفسها ويبقى الباقون يدورون يريدون طريقاً إلى البويضة فلا يجدون ثم يموتون .. والحياة هنا للأقوى! هذا الحيوان المنوي الصغير الذي لا يرى بالعين المجردة في رأسه جميع الجينات والخصائص الوراثية! الإنسان .. أنت وأنا .. في حيوان منوي صغير لا يرى بالعين المجردة، وما يجري بعد ذلك من مراحل ما هي إلا عملية تطويرية في كونك -أيها الإنسان- تكون بعد ذلك أطواراً، يقول الله تعالى: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً [نوح:13]* وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً [نوح:14] أطواراً من الترتيبات؛ من نطفة إلى صاحب عضلات وقوة.
وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ [لقمان:34] فالعلم المقصود هنا ليس علم نوعية وإنما علم كامل شامل في مرحلة التقدير، وإذا عرف الناس ذلك في هذا فليس بمعجز، أي: ليس بغريب؛ لأنه ليس مما اختص الله بعلمه.
وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً [لقمان:34] هذه لا تزال وستظل، ولن يعرف أحد ماذا يكسب غداً إلا الله، لا تعرف ماذا يصير لك غداً، لا تعلم أبداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان:34] تجد الرجل يعيش في أرضٍِ حتى آخر لحظة ثم يذهب إلى مكان ويموت فيه.
فالذي أعرف أن رجلاً كان يعيش معنا في أبها هنا رحمة الله تعالى عليه لا يحب السفر، ويكره الأسفار ولم يُعرف أنه خرج من أبها في حياته قط، حتى خميس مشيط لا يعرفها، وكان يبيع ويشتري في دكانه وكلما سافر تجار إلى أبها أرسل معهم طلباته ويكتب قوائم، يقول: أريد كذا .. وكذا .. وكذا .. تعال معنا، قال: لا أريد السفر، وبعدها جاءت فريضة الحج، قالوا له: حج، قال: الحج هذه السنة زحمة، والسنة الثانية قال: زحمة، المهم أنه بلغ من العمر عتياً -وبلغ الستين والسبعين سنة- ولم يحج، لا يستطيع أن يركب أو يسافر، وأخيراً قال له أبناؤه: يا أبانا هذا حرام عليك سوف تموت، وتموت يهودياً أو نصرانياً! لا بد أن تحج. وهو مسكين؛ يخاف أن يذهب ويموت هناك، فعزم أولاده على أن يحج، وخرج للحج، وحج .. وبعد أن رجع وهو في عقبة الطائف وقع له حادث ومات. انظروا ستين سنة لم يركب سيارة كي لا يموت، وذهب يحج ثم مات! متى ينفع الحذر؟ لا ينفع الحذر من القدر: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان:34]
إذا خرج الإنسان إلى هذه الدنيا تعلقت به الروح تعلقاً جديداً يختلف عن التعلق الأول، فإذا مات الإنسان وخرجت روحه من جسده وانتقل جسده إلى عالم الآخرة نقلت روحه معه إلى عالم البرزخ، وتعلقت به تعلقاً آخر من جنس آخر، فالجسم تجده في القبر قد رَمَّ وتفتت وأكلته الأرض .. والروح تعذب أو تنعم.
هناك كلام لـابن القيم رحمه الله عجيب جداً، يقول: إن الجسد والروح الآن في الدنيا متلازمان، وأي عذاب ينال الجسد يناله بالأصالة في الدنيا وينال الروح بالتبعية. أي: عندما تأتي الآن بشخص تدقه بإبرة في بطنه ما الذي يتألم؟ الجسد؛ لأن مراكز الإحساس في الجلد، ولكن تبعاً لتألم الجسد تتألم الروح، إذ لو لم يكن له روح وطعنته، هل يحس؟ لا. فالآن الضربة في الجسد والألم للجسد والتبعية للروح هذا في الدنيا، أما في القبر فبالعكس: الضربة في الروح والنعيم في الروح والتبعية على الجسد حتى ولو صار عظيماً وما بقي إلا الطين لكن الروح تعذب أو تنعم، يعني: البرزخ عكس الدنيا، في الآخرة -يوم القيامة- العذاب أو النعيم يسلط على الروح والجسد سواء بسواء، ليس هناك تبعية، بالأصالة كلا الاثنين.
وأضرب لكم على هذا مثالاً ضربه ابن القيم ، قال: ترى رجلين ينامان على فراش واحد، ويريا في منامهما رؤية، الأول يرى أنه يقتتل مع رجل آخر -واحد أمامه ومعه سكين وذاك معه سكين ويتطاعنون وهذا يطعن، وهذا يطعن- والثاني نائم على فراشه ويرى أنه يتزوج بامرأة جميلة، وفي آخر الليل أتى شخص يوقظهم -أيقظ هذا وأيقظ هذا- ما وقع للأجساد شيء، لكن هذا إذا قام قال: لا إله إلا الله الحمد لله يتلفت إلى جسمه فلا يجد دماً، ولا طعناً .. ولا أي شيء، قال: الحمد لله، الله يجزيكم خيراً عندما أيقظتموني! أعوذ بالله من هذا الحلم، ما هذه الرؤيا؟ ما هذا الحلم؟ ماذا يوجد؟! قال: أعوذ بالله، شخص طعنني وما ترك في بطني مكاناً إلا مزقه .. الحمد لله الذي أيقظني، تنظر في بطنه فلا يجد شيئاً، وتجد الآخر الذي رأى أنه يتزوج وأنه يأخذ واحدة جميلة؛ فإذا أيقظته من النوم، وقام وتلفت والله ما في ولا شيء .. لا امرأة ولا أي شيء، يقول: الله أكبر! ليتكم ما أيقظتموني، ليت النومة هذه بقيت إلى يوم القيامة، لماذا؟ سعيد! كان مع زوجة جميلة، فهو سعيد معها، لكن ليس هناك شيء، لا يوجد زوجة حقيقية للجسد، ولا سكين هنا للجسد، لكن الزوجة مع من؟ مع الروح، والحديد هنا والطعن مع من؟ مع الروح، فتألم الجسد بالتبعية، والنوم هو صورة مصغرة من الموت، فإذا مات الشخص حصل ما حصل.
ولهذا ظاهر القبور تراب وباطنها نعيم أو عذاب، ظاهرها الآن .. تلفت وانظر .. لكن بين القبر والقبر مثل ما بين السماء والأرض، هذا في روضة من رياض الجنة؛ وآخر بجواره ما بينه وبينه إلا شبر أو نصف متر في حفرة من حفر النار.
هذا ينعم وذاك يعذب، لماذا؟ بأسباب العمل، فالروح في خروجها ورحلتها إلى الآخرة لها رحلة طويلة وبعيدة، ونبدأ بأرواح الأنبياء:
الأنبياء حين يحضرهم الموت، يعاملون بطريقة تختلف عن معاملة بقية البشر، فإنهم يخيرون بين أن يموتوا وبين أن يبقوا على ظهر الحياة، بعد أن يروا ما أعد الله لهم من جزيل الثواب وعظيم الأجر عنده في الآخرة، ولا يوجد على الإطلاق رسول اختار البقاء؛ لأنهم عقلاء، فكل رسول لا يخير إلا ويقول: إلى الله، يختار جوار ربه تبارك وتعالى؛ لأنهم آمنوا بقضايا الآخرة إيماناً حقيقياً لدرجة أنهم يفاضلون بينها وبين الدنيا كما يفاضلون بين العشة المتهدمة وبين العمارة العظيمة، فإذا قال لك شخص وأنت ساكن في عشة متهدمة تخرخر عليك، الحيات والعقارب في طرفها، والحمامات قذرة، والمياه فيها غير مرتبة، ويقال لك: تريد أن تقعد في العشة أو تأتي العمارة؟! في القصر العظيم .. فيه البساتين والحدائق، وبرك السباحة (وجراش) السيارات، والزوجات ..؟! ما رأيك؟! تقول: والله أريد العشة؟ أو تقول: الله يجزيكم خيراً أريد تلك، فالأنبياء عرفوا قيمة الدنيا وحقارتها، وعرفوا قيمة الآخرة؛ فهم دائماً يختارون الجنة، ولا شك أنهم يختارونها لعلمهم بها.
وقد حدث هذا لرسولنا صلى الله عليه وسلم، فقد خُير بين الموت والحياة فاختار جوار ربه، فقد روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول -يعني: قبل الموت-: لم يقبض نبيٍ قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير، تقول
والروح لا ترى، وقد أجرى أحد العلماء الأمريكيين بحوثاً ودراسات على الروح، كيف تدخل، وكيف تخرج؟ وجاء برجل يحتضر ووضعه في صندوق وأجرى له جميع وسائل الحياة -صندوق زجاجي- وأخذ يرصد كل حركة وكل شيء يدخل هذا الروح، وبينما هو يرصد وإذا بالإنسان يموت، مات الإنسان داخل الصندوق دون أن يرى شيئاً دخل أو خرج!
هذه الروح تخرج كما جاء في حديث مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان يصعدانها) فذكر من طيب ريحها، وذكر المسك قال: (ويقول أهل السماء: روح طيبة، جاءت من قبل الأرض صلى الله عليك وعلى جسد كنت تعمرينه، فينطلق بها إلى ربها عز وجل، ثم يقول: انطلقوا به إلى آخر الأجل) والحديث في صحيح مسلم عن حماد قال صلى الله عليه وسلم: (أما الكافر إذا خرجت روحه .. فذكر الراوي من نتنها) -والعياذ بالله- والنتن والطيب هنا شيء معنوي، يتحول عند الموت إلى شيء مادي، وهو الآن مادي .. فوالله إننا لنشم رائحة الإيمان ورائحة الطيب في الرجل الصالح، وإننا لنشم رائحة الخبث في الرجل الخبيث، ولو اغتسل بماء الأرض كله .. إنه لخبيث مثل الخنزير.
بعض المؤمنين تجده طبيعياً في اغتساله لكن فيه رائحة جميلة؛ وهذه الروائح عرفت الآن في الشهداء في الأفغان، ومن أراد أن يرى المزيد فليراجع كتاب: آيات الرحمن في جهاد الأفغان للشيخ الدكتور عبد الله عزام ، وذكر من الآيات الكثيرة ومن ضمن ما ذكر: أن القتلى من المؤمنين تجد لهم ريحاً مثل ريح المسك، والدم مثل ريح المسك، وبعضهم إذا حمل الشهيد وجاءوا يغسلون أيديهم من الدماء تبقى الرائحة أياماً، بل بعضهم قال: بقيت الرائحة في يدي بعد أن غسلتها شهوراً، إنها رائحة المسك من دم هذا الشهيد.
قال: (فيخرج من نتنها وخبثها وقذرها، ويقول أهل السماء: روح خبيثة من قبل الأرض جاءت، فيقال: انطلقوا به إلى الأجل) وقد ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام في حديث البراء بن عازب وهو صحيح في سنن أبي داود وأخرجه أحمد في مسنده : ذكر التكريم الذي يكون لروح العبد الصالح عند خروج روحه من جسده حيث تصلي عليها الملائكة، وتفتح لها أبواب السماء، وتجعل في كفن من الجنة، وفي حنوط من الجنة، وتخرج منها روائح طيبة تفوق رائحة المسك، ثم تأخذها الملائكة في رحلة علوية كريمة مباركة، وتفتح لها أبواب السماء، أما الروح الخبيثة فتلعنها الملائكة -والعياذ بالله- عند عروجها، وتغلق أبواب السماء دونها، ويدعو كل فريق من الملائكة على باب ألا تعرج من عنده -يقول: اللهم لا تأت من عندي هذه الخبيثة- وتجعل تلك الروح الخبيثة في حنوط من النار ومسوح من النار، وتفوح منها الروائح الخبيثة التي تؤذي الملائكة، ويعرج بها إلى السماء فلا يفتح لها باباً، فتلقى روحه من السماء.
وفي حديث البراء يصف الرسول عليه الصلاة والسلام هذه الرحلة من الموت إلى البرزخ، فيقول: (حتى إذا خرجت روحه صلى عليه كل ملك بين السماء والأرض، وكل ملك في السماء، وفُتحت له أبواب السماء، ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله أن يعرج بروحه من قبلهم، فإذا أخذها -يعني ملك الموت- لم يدعوها في يده طرفة عين -قال الله عز وجل: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ [الأنعام:61] ويخرج منها كأطيب ريح وجد على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: هذا فلان بن فلان؛ بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين -وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ [المطففين:19-21] أي: يحضر كتابته المقربون من الملائكة- فيكتب كتابه في عليين -نسأل الله وإياكم من فضله- ثم يقال: أعيدوه إلى الأرض؛ فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى).
أما الكافر والفاجر -والعياذ بالله- فقد تحدث عنه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث فقال: (إذا نزعت روحه من جسده لعنته الملائكة بين السماء والأرض، وتغلق دونه كل أبواب السماء، ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله ألا تعرج روحه من قبلهم، فيأخذها ملك الموت، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في ذلك المسوح) والمسوح هو الشعر الغليظ الذي مثل المسحل أو المبرد، ليس فيه نوع من النعومة وإنما قاسٍ وشديد توضع فيه الروح فتتأذى الروح قبل أن تصل إلى الأذى العظيم في النار لا حول ولا قوة إلا بالله. (ويخرج منها ريح جيفة كأنتن ريح على وجه الأرض؛ فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة، فيقولون: هذا فلان بن فلان، بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى يُنتهى بها إلى السماء الدنيا فتستفتح أبواب السماء فلا تُفتح، ثم قرأ: لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]).
يقول المفسرون: إن تعليق دخولهم الجنة على دخول الجمل في خرق الإبرة تعليق على المستحيل، هل من المعقول أن يدخل البعير في خرق الإبرة؟! ليس معقولاً، وفيه تفسير آخر مشهور: إن الجمل ليس الجمل البعير، الجمل: الحبل الغليظ الذي تربط به السفن في مراسيها، ولعلكم رأيتم السفن في الموانئ إذا وقفت ألقت حبالاً غليظة، وربطت بها في طرف الميناء حتى لا تسحبها الأمواج، وقالوا: إن الدليل على أن المقصود أن الجمل هنا الحبل؛ لقول الله عز وجل: إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ [المرسلات:32]* كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ [المرسلات:33] أي: كأنه حبال صفر طويلة، فالشرر إذا امتدت كأنه حبل طويل، والقول الأول أرجح، وهو أن المقصود: أنه إذا دخل الجمل، أي: البعير؛ إذا دخل البعير في خرق الإبرة دخلوا هؤلاء في الجنة .. وهذا مستحيل.
ثم يقول الله عز وجل: (اكتبوا كتابه في سجين) هذا فاجر؛ لأن الله تعالى يقول: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ [المطففين:7] وما سجين؟ كِتَابٌ مَرْقُومٌ [المطففين:9] ما هذا المرقوم؟ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المطففين:10] هذا المكتوب في هذا الكتاب. (وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، قال: فتطرح روحه من السماء إلى الأرض، ثم قرأ قول الله عز وجل: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31]) أعاذنا الله وإياكم من ذلك!
وروى ابن ماجة في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد الميت تحضره ملائكة، فإذا كان صالحاً قال: اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء؛ فيستفتح لها فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان، فيقال: مرحباً بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، أدخلي حميدة، وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان، فلا يزالون كذلك، أما الرجل الفاجر -الرجل السوء- فإنه يقال لروحه: اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ذميمة وأبشري بحميمٍ وغساق).
الحميم: الماء الذي بلغ درجة متناهية من الحرارة، والغساق: هو القيح والدم الذي أحمي حتى أصبح في درجة الغليان وهو خبيث، وإذا كان بارداً وهو قيح ودم ليس جيداً، فكيف إذا كان قيحاً ودماً وصديداً وهو يفور، إذ لابد أن يشرب، من أين يشرب؟ لا حول ولا قوة إلا بالله! يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ [إبراهيم:17] (وأبشري بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج؛ فإذا عرج بها إلى السماء؛ قفلت أبواب السماء، فيقال لها: لا مرحباً بالروح الخبيثة كانت في الجسد الخبيث) لأن الخبث والطيب -أيها الإخوة- إنما يكتسب من الدين، الخبث يكتسب من المعاصي، والطيب يكتسب من الطاعات، فالجسد الذي غذي بالحلال واستعين به في طاعة الله، وما رئي إلا في الأماكن الطيبة، فتجد عينه، وأذنه، ولسانه، ويده، ورجله، وفرجه كلها طاهرة، وسلوكه عامر .. وعبادة وصلاة .. هذا هو الطيب، وكل سلوكه طيب. أما الخبيث الذي عينه خبيثة فلا يمكن أن ترضى إلا بالحرام، وأذنه خبيثة لا تستمع إلا للحرام، ولسانه خبيث لا يسمع ولا يتكلم إلا بالحرام، ويده خبيثة تبطش بالحرام، ورجله، وفرجه، وبطنه كلها خبيثة -والعياذ بالله- وعمله خبيث .. هذا كله خبيث! ويظهر الخبث والطيب عند الموت.
قال: (كانت في الجسد الخبيث، ارجعي ذميمة؛ فإنها لا تفتح لك الأبواب؛ فترسل من السماء)، أي: يلقى بها حتى تصير إلى الأرض.
الجواب: المحارم الذين يجوز للمرأة أن تكشف عليهم هم الذين يحرمون عليها على التأبيد، أي: لا يجوز لها أن تتزوجهم مطلقاً، وقد ذكر الله عز وجل في سورة النور الرجال الذين يجوز لهم أن تكشف عليهم، وهم أحد عشر رجلاً، قال عز وجل: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا .. إلخ [النور:31] فيجوز الكشف لهؤلاء الذين استثناهم الله، وهذا الخطاب موجه للرسول صلى الله عليه وسلم، والأمر له: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ [النور:31] والمؤمنة هي التي تستجيب، والتي لا تستجيب لله ولا لرسوله صلى الله عليه وسلم، وتعصي الله وترفض آية الحجاب؛ فقد ضلت ضلالاً مبيناً؛ لأن الله تعالى يقول: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً [الأحزاب:36]
وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ [النور:31] فيجوز أن تكشف على البعل ما يحتاج أَوْ آبَائِهِنَّ [النور:31] أبوها أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ [النور:31] أبو بعلها، أي: عمها أبو زوجها أَوْ أَبْنَائِهِنَّ [النور:31] ولدها أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ [النور:31] ولد بعلها من زوجة أخرى؛ لأنها عمته ولا يجوز له أن ينكحها بعد أبيه أَوْ إِخْوَانِهِنَّ [النور:31] أخوها من الرضاعة أو من النسب أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ [النور:31] أبناء أخوها وهي عمتهم أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ [النور:31] عيال أختها وهي خالتهم، ولا يجوز لها في غير هؤلاء، وأبناء الخال وأبناء العم وابن العم وابن العمة وابن الخالة كلهم لا يجوز.
والعم يجوز؛ لأنه مقيس على الأب، والخال مقيس على الأب، فيجوز للمرأة أن تكشف على عمها وخالها؛ لأنه لا يجوز أن يتزوج ابنة أخته؛ فهي تحرم عليه على التأبيد.
أَوْ نِسَائِهِنَّ [النور:31] هؤلاء ثمانية أصناف من الأقارب وأربعة من غير الأقارب فيصبح المجموع اثني عشر. فمن غير الأقارب: النساء، فيجوز للمرأة أن تكشف على المرأة. وأيضاً: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ [النور:31] إذ يجوز للمرأة أن تكشف على العبد الرقيق الذي تملكه. أي: عبد مملوك لها؛ فإنها تكشف عليه؛ لأنه لا يستطيع ولا يقدر على أن يكشف عورتها خشية عقابها.
ثم: أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ [النور:31] تابع الزوج الذي يخدم عند الزوج وهو: الراعي أو الخادم أو العامل أو السائق بشرط أن يكون هذا العامل أو الراعي أو الخادم أو السائق مخصياً، ليس له إربة، قال الله عز وجل: أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ [النور:31] يعني: ليس فيه إربة للنساء، ولا فيه ما في الرجال: هذا يجوز، أما إذا كان السائق أو العامل غير مخصي فهذا أخطر شيء على المحارم.
أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ [النور:31] الطفل الصغير الذي ما عرف الجميلة من القبيحة يجوز له أن يكشف.
هؤلاء الذين يجوز لهم، وينبغي للمرأة المسلمة التي تخشى الله وتخاف عقوبته وترجو ثوابه أن تحمي نفسها، وعرضها وعرض زوجها وأهلها؛ بأن تلتزم بالحجاب التزاماً كاملاً وأن تكون ممن يقول: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [البقرة:285] كما قالت عائشة رضي الله عنها: (رحم الله نساء الأنصار: ما إن نزلت آية الحجاب حتى غدا الرجال إلى النساء فأخبروهن بأمر الله، فشققن مروطهن واعتجرن بها، فكأني برءوسهن في الغد كالغربان السود) كل واحدة في اليوم الثاني كأنها غراب أسود، ماذا هناك؟ أمر الله بالحجاب.
لكن بعض النساء تقول: كيف أتحجب وهم يعرفونني من قبل؟ لماذا أغطي وهم يعرفونني كلهم؟
الجواب: ليست القضية أنهم يعرفونك أو لا يعرفونك؟! القضية أمر الله تعالى، فالله تعالى أمر أن تتحجبي فتحجبي، سواء عرفوك أم لم يعرفوك، كذلك الصحابة كانوا يعرفون الصحابيات قبل آية الحجاب؛ فلما نزل أمر الله غضوا وامتثلوا أمر الله تبارك وتعالى.
وليس من حق المرأة أن ترفع صوتها في بيتها؛ لأن هذا من علامات سوء أدبها؛ ولأن الصوت عورة، فإذا سمعت صوت المرأة وهي تسب وتشتم وتلعن وتتكلم بعنف فهذا يدل على عدم أدبها، وعلى قلة دينها -والعياذ بالله- أما المرأة الخافظة لصوتها فهي الممتازة وهي من حسنات الدنيا.
الجواب: أولاً: حكم هذا العمل أنه بدعة؛ فلا ينبغي أن نأتي بأي شيء إلا ما جاءت به السنة، ولو كان خيراً لسبقنا إليه السلف، فاجتماع النساء من أجل قراءة القرآن والتسبيح والتهليل والترديد ولم يأتِ به أمر، إنما هذا إحداث في دين الله بشيء لم يأذن به الله فهو بدعة، ويجب على من أتت إليهن عند العزاء ووجدتهن على هذا الوضع أن تحذرهن وأن تأمرهن بطاعة الله تعالى، وتقول: هذا الأمر حرام ولا يجوز .. وما أتى به الشرع، وإذا جلست معهن وهي قادرة على أن تخرج؛ فإنها آثمة حتى ولو لم تقره بقلبها، إذ لا بد من الإنكار: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [النساء:140].
فلا يجوز لك أن تجلس في مكان فيه أمر يُسخط الله إلا أن تكون مضطراً، كيف تكون مضطراً؟ أي: مكره، وليس الإكراه من أجل أن تتعشى، فبعض الناس يذهب في وليمة وهم يطبلون ويلعبون ويرقصون، ويقول: إني مضطر، لماذا؟ قال: من أجل أن أملأ بطني رزاً .. الله أكبر على بطنك التي لم تمتلئ بالرز! اذهب واملأها بثلاثة ريال في أي مطعم يا أخي! وانفر بدينك، المكره أن تكون مسجوناً، أو مريضاً مقعداً ويوجد منكر ولا تستطيع أن تفلح وهو أمر خارج عن إرادتك .. هذا هو المكره. أما أن تكون قادراً على أن تخرج فلا.
الجواب: لا يجوز قراءة القرآن على نية التعبد إلا والإنسان طاهر؛ لأن الله تعالى يقول: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:77-79] وبعض الناس عنده تفسير سطحي لا أعلم من أين أتى به، يقول: إن المطهرين هنا هم الملائكة، والملائكة تمس المصحف! الملائكة لا تمس المصحف ولا تأتيه فأنت الذي تمسه: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79] فتجب الطهارة الكاملة من الحدث الأصغر والأكبر، وجوّز أهل العلم لطالب العلم ولمدرس القرآن أن يمس المصحف ولو كان محدثاً حدثاً أصغر لصعوبة الاحتراز من ذلك؛ ولأن فيه مشقة.
فمدرس القرآن أو طالب القرآن متعلق به من الصباح إلى الظهر ولا يستطيع أن يظل دائماً محتفظاً بطهارته، فإنه يعفى عنه أن يمس المصحف ولو كان محدثاً، أما حمل القرآن وقراءته على نية التعبد؛ فإنه لا بد أن تكون طاهراً؛ لأن القرآن جزء من الصلاة؛ فيقاس عليها: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79].
الجواب: هذا السؤال يتكرر باستمرار، الرقصة -يا أخوان- اسمها: رقص، ومن اسمها يدل على أنها غير مطلوبة، والمسلم ما خلق ليرقص؛ ولكن قال بعض أهل العلم: إذا كانت العرضة أو الرقصة حربية، يعني: لظروف قتال، ومن أجل دعوة الناس واستلهاب عواطفهم واستنفارهم للقتال في سبيل الله؛ فقد جوزوا ذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم رخص لـعائشة أن ترى رقصة الأحباش -والحديث في صحيح البخاري - لما قدموا عليه وكانوا يرتجزون، وقد أتوا ليسلموا ويرجعوا بعد ذلك ليقاتلوا في سبيل الله عز وجل، فرآهم فأقرهم.
فإن كانت رقصة قتال فليس هناك مانع، وأما رقصة لغير قتال مثل رقصاتنا الآن .. فلا، فالمسلم ليس له رقصة إلا على ظهور الجياد في سبيل الله تعالى، أما أن يرقص مثل المرأة طول الليلة والقدس تحت أيدي اليهود .. والمسلمون في هذه الضائقة التي لا يعلمها إلا الله، ويقول: رقص شعبي أو غير شعبي، لا ترقص أبداً إلا في ساحات الجهاد، أما هناك فارقص؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى عكاشة بن محصن وقد أخذ السيف وجاء يرتجز بمشية فيها خيلاء وفيها كبرياء، قال: (إن هذه مشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن) أي: في مواطن القتال.
الجواب: يقول العلماء: إن من ترك ركناً عامداً أو ساهياً بطلت صلاته، فإن ترك قراءة الفاتحة عامداً وقرأها ثانيةً قبل أن ينتقل إلى ركن آخر فإن صلاته صحيحة، أي: كبر ويريد أن يقرأ ولم يقرأ، وقبل أن يركع تذكر أنها ركن فقرأها فصلاته صحيحة، أما إذا استمر في تركها حتى انتقل إلى ركن آخر وهو الركوع فقد بطلت صلاته وعليه أن يعيد الصلاة.
أما المأموم فقد اختلف أهل العلم في حكم قراءة الفاتحة للمأموم على ثلاثة أقوال:
قول للإمام الشافعي وهو أرجحها وأقواها وأقربها إلى الدليل وهو: إن من ترك قراءة الفاتحة إماماً كان أو مأموماً فإن صلاته باطلة.
والدليل حديث عبادة بن الصامت في صحيح البخاري وصحيح مسلم ، قال عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) وفي حديث آخر في صحيح البخاري : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ وكان بعده من الصحابة من يقرأ فقال لما انصرف من الصلاة: (من الذي ينازعني القرآن؟) فقال أحد الصحابة: أنا يا رسول الله، قال: (لا. إلا بفاتحة الكتاب) أي: لا تنازعني، ولا تقرأ ورائي إلا بفاتحة الكتاب.
فدلت الأدلة هذه على أن قراءة الفاتحة ركن في حق المأموم والإمام والفرد.
والقول الثاني للإمام أحمد ومالك وهو: أن الفاتحة تجب على المأموم في القراءة السرية، وتسقط عنه في القراءة الجهرية؛ لأن قراءة الإمام قراءة له، فإذا سمعت قراءة الإمام وأنت في الجهرية فإنك لا تقرأ؛ لأنك سمعت، أما في السرية فإنك تقرأ، وهذا قول الإمام أحمد ورجحه ابن تيمية .
أما الأول رجحه الإمام البخاري وبوب عليه باباً وألف فيه كتاباً وانتصر له انتصاراً عظيماً، وقال: لا يمكن أبداً أن نضع -أو أن نضيع- حديثاً صحيحاً في صحيحي البخاري ومسلم لا تنهض لمقاومته الأحاديث التي في السنن والتي فيها قراءة الإمام قراءة للمأموم، لا. هذا لا يقاوم ولا يعضد ولا يستطيع أن يصل إلى درجة صحيحي البخاري ومسلم . القول الثالث: وهو من الأقوال التي لا دليل عليها، وهو قول الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه، قال: إن المأموم لا يقرأ؛ لا في السرية ولا الجهرية، أي: ابق واقفاً بعد الإمام، ولا دليل له غير أنه قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به)، ورد عليه بأنه يؤتم بالإمام في الحركات، أما في الأقوال فإنه مطلوب من المسلم أن يكبر ويقرأ الفاتحة ويقول أيضاً: سبحان ربي العظيم، والذي يرجحه أهل العلم أن تقرأها إماماً أو مأموماً، أين تقرأها؟ إن كانت سرية تقرأها في سرك، وإن كانت جهرية ففي سكتات الإمام، أي: إذا قال: ولا الضالين، آمين. تقرأ، وإن كان لا يسكت، أي: بعض الأئمة يقول: ولا الضالين آمين ويقرأ مباشرة، عندئذٍ اقرأ وهو يقرأ؛ لأنه مطلوب منك؛ ولأن هذا لا ينافي قول الله عز وجل: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا [الأعراف:204] لأن هذه الآية عامة وهذه لها دليل مخصص والمخصص مقدم على العام، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر