إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [7]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يكرم الله سبحانه عباده برؤيته جل وعلا يوم القيامة وفي الجنة، فلا يجدون لذة تفوق لذة النظر إلى وجهه سبحانه وتعالى، هذا ما يعتقده أهل السنة والجماعة، تصديقاً منهم لكتاب ربهم، وسنة نبيهم، وإن خالفهم في ذلك بعض فرق المسلمين فأنكروا الرؤية بالكلية، أو انحرفوا فيها فأبطلوا حقيقتها؛ اتباعاً لزبالات الأذهان، وأقوال فلاسفة اليونان.
    قال المصنف رحمه الله: [والرؤية حق لأهل الجنة، بغير إحاطة ولا كيفية كما نطق به كتاب ربنا: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23] وتفسيره على ما أراد الله تعالى وعلمه] .

    الرؤية من أخص الصفات التي حصل فيها النزاع، وقد أجمع السلف على أن المؤمنين يرون ربهم عياناً بأبصارهم كما يرون القمر ليلة البدر، وكما يرون الشمس صحواً ليس دونها سحاب، في عرصات القيامة، وفي الجنة. والدليل على ذلك: الكتاب، والمتواتر من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، والإجماع.

    وقد نفى الرؤية أئمة الجهمية والمعتزلة، وطوائف من الشيعة المقلدة للمعتزلة، وهذا المذهب بدعة بإجماع السلف، بل قال شيخ الإسلام رحمه الله: (إن من بلغته نصوص الرؤية ولم يقل بها، فإنه يكون كافراً إذا قامت الحجة عليه بها)، وقد جاء عن غير واحدٍ من السلف كـأحمد ومالك ، أنهم سموا الخلاف في هذه المسألة كفراً.

    ولا شك أن الأمر كذلك، فإن من خالف صريح النصوص، ومتواتر السنة، وصريح الإجماع، فإن قوله يكون كفراً وإن كان قائله لا يكفر ابتداءً كالمسألة التي تقدمت في قول من قال: إن القرآن مخلوق، فلا فرق بين المسألتين في الحكم.

    أدلة إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة

    وأما دلائل الرؤية فمن القرآن قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23] فإن النظر أضيف إلى الوجوه وعدي بـ (إلى)، فدل ذلك على أن المراد به النظر بالأبصار.

    وتعلم أن النظر في لسان العرب يأتي بحسب سياقه على غير معناه كقولهم: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد:13] وكقوله: أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأعراف:185] ، فهذه معان مختلفة، وهذه قاعدة من أهم القواعد لطالب العلم في فقهه لمذهب أهل السنة ودلائلهم: وهي أن تفسير الأئمة للآيات والأحاديث النبوية، ليس معتبراً بوضع الكلمة المفردة في اللغة، بل هو معتبر بسياق الكلام نفسه.

    وهذا يرد قول من قال: إن النظر في قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23] ، بمعنى الانتظار؛ لأن النظر يأتي في كلام العرب على معنى الانتظار، ومنه قوله: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد:13] أو قال: إنه التفكر، لأنه يأتي في كلام العرب كذلك ومنه قوله تعالى: أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ [الأعراف:185] أي: نظر تفكر أو نحو ذلك.

    ومثله في الصفات الأخرى، كقول من قال إن اليد في قوله تعالى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] المراد بها هنا النعمة؛ لأن العرب تذكر اليد وتريد بها النعمة.

    ومنه قول عروة بن مسعود لـأبي بكر رضي الله عنه في الحديبية كما في الصحيح: (لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك). أي: لولا نعمة لك علي.

    فالسياق يوجب أن تفسر اليد بالصفة ويرد تأويلهم؛ فإن قوله تعالى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] ذكر لفظ اليد هنا مثنىً مضافاً، وإذا ذكر مثنىً مضافاً، فإنه لا بد أن يفسر بالصفة القائمة بموصوفها ولا يمكن أن يكون المراد به النعمة أو نحو ذلك.

    ومن دلائل الرؤية قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26] ، فلفظ الزيادة لفظ مجمل، لكنه صلى الله عليه وسلم في حديث صهيب الذي رواه مسلم فسر الزيادة بالنظر إلى وجه الله، ومن هنا كان هذا اللفظ مبيناً بالسنة.

    ومن دلائلها قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام:103] ، فإن الله نفى الإدراك، والإدراك قدر زائد على أصل الرؤية، فلما خص القدر الزائد بالنفي دل على أن ما دونه ثابت، وإلا فلا معنى لتخصيص القدر الزائد بالنفي، بمعنى أنه لو كان أصل الرؤية ممتنعاً، فلن يكون لتخصيص القدر الزائد بالنفي معنى، ومعلوم في حس بني آدم أن بين الإدراك وأصل الرؤية فرقاً، فإنك إذا رأيت الشيء لا يلزم أن تكون قد أدركته.

    وقد قال رجل لـابن عباس رضي الله عنهما: يا ابن عباس إن الله يقول: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23] ويقول: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)، فقال له ابن عباس رضي الله عنهما: ألست ترى السماء؟ قال الرجل: بلى؛ قال: أتدركها كلها؟ قال الرجل: لا. قال فالله أعظم.

    وأما قول من قال: إن تفسير قوله: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) أي: لا تراه في الدنيا، فهذا قول قاله طائفة من أهل السنة ولكنه ليس براجح، بل الصحيح أن الآية على عمومها، وأن من خصائصه سبحانه أنه يُرى ولا يدرك، بخلاف غيره؛ فإنه إذا رئي يدرك أو يكون ممكن الإدراك، وهذا معنى قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] أي في صفاته الثابتة، فهو يرى ولا يدرك، كما أنه يُعْلَم من علمه شيء ولا يحاط به علماً.

    ومن دلائل الرؤية عند أهل السنة قوله تعالى: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143] ، ووجه الدلالة أن موسى عليه الصلاة والسلام سأل ربه الرؤية، ولو كان -كما تزعم المعتزلة- من أصل التوحيد أن الله سبحانه تمتنع عنه الرؤية، للزم من ذلك أن يبعث الله رسولاً ويصطفيه برسالته وبتكليمه على الناس، ويكون جاهلاً بأصل من أصول الربوبية!

    وقد علق الله رؤيته بأمرٍ ممكن، وهو استقرار الجبل مكانه، فدل على أنها ممكنة.

    ومن دليل أهل السنة والجماعة على إثبات رؤية المؤمنين لربهم: متواتر الحديث؛ فإنه تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق نحو ثلاثين من الصحابة منهم العشرة المبشرون بالجنة، في الصحيحين والسنن والمسانيد، تصريحه صلى الله عليه وسلم بين يدي أصحابه مع اختلاف أحوالهم: أن المؤمنين يرون ربهم، كما في قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، وكما ترون الشمس صحواً ليس دونها سحاب، لا تضامون في رؤيته) متفق عليه.

    ومن ذلك حديث أبي موسى في الصحيحين، وحديث صهيب عند مسلم ، وحديث جرير بن عبد الله البجلي إلى غير ذلك.

    اعتراض القاضي عبد الجبار على أحاديث الرؤية والرد عليه

    ومن جهل علماء المعتزلة بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم أن أكبر قضاتهم في زمنه، وهو القاضي عبد الجبار بن أحمد صاحب (المغني) و(المحيط بالتكليف) وغيرها، قال: (وأما ما استدلت به العامة -يعني: أهل السنة- من الحديث فهو آحاد، لم يروه إلا جرير بن عبد الله البجلي ).

    وهذا جهل من جهتين:

    الأولى: أن حديث الرؤية رواه نحو ثلاثين من الصحابة، فكيف يقول: إنه لم يروه إلا جرير بن عبد الله البجلي ، خاصة أن اللفظ الذي ذكره جرير ذكره غيره من الصحابة.

    الثانية: وهي زعمه أن دليل الآحاد لا يُستدل به.

    حكم الاحتجاج بالآحاد في العقائد

    شاع في كتب طائفة من الأصوليين وعلماء الكلام، وبعض علماء المصطلح؛ تقسيم الحديث إلى آحاد ومتواتر، وهذا التقسيم من حيث هو اصطلاح لا إشكال فيه، وإنما الغلط هو حد من قال: إن المتواتر هو ما رواه جماعة عن جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب، وأسندوه إلى شيء محسوس، ثم جعل كل ما خالف المتواتر آحاداً، ورتب المعتزلة وطوائف من الأشاعرة على ذلك نتيجة، وهي أن الآحاد لا يحتج بها في العقائد والأصول.

    فهذا الحد للمتواتر غلط على السنة، لأنهم قالوا: ما رواه جماعة عن جماعة، ثم ذكروا خلافاً في حد الجماعة، والذي يستقر عليه كثيرٌ منهم هو: العشرة أو ما يقاربهم فعلى طريقتهم، لا يصير الحديث متواتراً إلا إذا رواه عن الرسول عليه الصلاة والسلام من الصحابة عشرة، ورواه عن كل صحابي عشرة، فيكون العدد في التابعين مائة، ورواه عن كل واحد من هؤلاء المائة عشرة، فتكون الطبقة الثالثة ألفاً من الرواة، ومثل هذا لا ترى له مثالاً في السنة، وإن فرض له مثال فهو يسير جداً.

    وقد صرح بعض الحفاظ الذين ذكروا هذا الحد أنه لا مثال له على هذا الوجه، فلو صحح رأيهم في المتواتر على هذا الوجه لكان نتيجة ذلك: أن السنة لا يحتج بها في الاعتقاد، لأنه لا يوجد حديث متواتر على هذا الحد.

    وأما أن تقسم الرواية إلى متواتر وآحاد على حد يختلف عن ذلك فهذا لا بأس به، وقد ذكر الإمام الشافعي رحمه الله وطائفة من المتقدمين لفظ المتواتر في كلامهم، لكنهم لم يوردوا للمتواتر هذا الحد الذي زعمه المتكلمون ودخل على طائفة من الأصوليين وعلماء المصطلح المتأخرين.

    دليل نفاة الرؤية

    الجهمية والمعتزلة هم نفاة الرؤية، والقاعدة أنه لم ينف جهمي أو معتزلي صفة من الصفات لدليل من القرآن أو السنة، وغاية ما يستدلون به قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] وهذا دليل مجمل لا دلالة فيه، إنما فيه تنزيه الله سبحانه وتعالى عن مماثلة غيره، وهذا مما استقر عند سائر المسلمين.

    وأما استدلالهم على نفي الرؤية بقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103] ، وقوله تعالى: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143] ، فقالوا: (لن) تقتضي التأبيد.

    فلو سلم جدلاً أن الآيتين تدلان على مراد المعتزلة، فتكون نتيجة الدليل نفي الرؤية مع إمكانها؛ لكن المعتزلة والجهمية يقولون: إن الرؤية ممتنعة، ومعلوم أن المنفي قد يكون ممكناً وقد يكون ممتنعاً، فإذا قيل لك: هل لك ولد؟ فقلت: لا، فلا يعني هذا أن الولد في حقك ممتنع، بل هو ممكن، لكنه لم يوجد حتى الآن.

    فإذاً: الامتناع يستلزم النفي، ولكن النفي لا يستلزم الامتناع، فقد ينفى الشيء وهو ممكن، وقد يُنفى الشيء وهو ممتنع، فلو وقفت المعتزلة عند الدليل الذي زعمت أنها تستدل به، للزمهم أن يقولوا: إن الرؤية منفية ولكن لا نقول: إنها ممتنعة.

    لكن لما قرروا أنها ممتنعة بما يسمونه دليل المقابلة، وهو عندهم امتناع الرؤية لامتناع العلو على الله تعالى، ودليل الانطباع، وغيرها من الدلائل الكلامية الفلسفية، وحكموا عليها بالامتناع، ثبت أنهم ليس لهم دليل لا من الكتاب ولا من السنة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088555195

    عدد مرات الحفظ

    777299511