أيها الإخوة في الله! أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وألا يبقي فينا ولا معنا شقياً ولا محروماً، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، نجد ثوابه إن شاء الله يوم الوقوف بين يدي الله عز وجل.
قبل أن أبدأ في موضوع الدرس أحب أن أشير بالمناسبة إلى شيء اعتاد الناس أن يفعلوه في مثل هذه الأيام على اعتبار أنه دين وليس بدين.
كلكم يعلم أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم دين يدين المسلم به لله عز وجل، وأنه قربة من أعظم القرب، وأن بغضه أو كراهيته أو بغض شيء مما جاء به صلوات الله وسلامه عليه، كفر بدين الله مخرج لصاحبه من الملة، فقد ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب في رسالته نواقض الإسلام، أن من ضمن النواقض: بغض الرسول صلى الله عليه وسلم، أو بغض شيء مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، حتى ولو عمل بهذا الأمر ولكنه من قرارة نفسه يبغضه أو يكرهه، فإنه يكفر ولو عمل به؛ لأن الله عز وجل يقول: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65] وقال: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً [الأحزاب:36].
محبة النبي صلى الله عليه وسلم قربة وطاعة ومن أعظم الطاعات، بأبي وأمي هو صلى الله عليه وسلم معلم البشرية، ومنقذ الإنسانية، والذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وهدى الله به من الضلالة، وعلم به من الجهالة، فصلوات الله وسلامه عليه، صلاة دائمة متتابعة ما تتابع الليل والنهار.
وما سمي الإنسان إلا لنسيه ولا القلب إلا أنه يتقلب |
فهم شرعوا لأنفسهم حفلاً يقيمونه، يحتفلون فيه في كل عام بمولد هذا الإنسان الذي يريدون أن يذكروه، ثم صيروا ذلك شعيرة من شعائرهم، يحتفلون فيها حتى بمولد نبيهم عيسى عليه وعلى نبينا وعلى سائر الأنبياء أفضل الصلاة والسلام.
وجاء المقلدون والرعاع من هذه الأمة يريدون أن يحتفلوا بذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وما علموا أن ذكراه صلى الله عليه وسلم حية في كل وقت وحين، فنحن لا ننساه، ننسى أنفسنا وآباءنا وأمهاتنا وأزواجنا وأولادنا، بل ننسى ذواتنا ولا ننساه صلوات الله وسلامه عليه، كيف ننساه ونحن نسمع ذكره يعلو على كل مأذنة في كل يوم خمس مرات؟ فما من أذان يرفع إلا وفيه أشهد أن محمداً رسول الله، كيف تنساه الأمة وهي مطلوب منها وهي تصلي في كل يوم خمس صلوات، ولا تقبل صلاتها إلا بالصلاة عليه في تشهدها الأوسط والأخير، فأنت تقول: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، اللهم صلِّ على محمد.
هل يمكن أن تنسى هذا الإنسان الذي تذكره في كل وقت وحين؟
تذكره وأنت تدخل البيت، فتتذكر أن هناك هدياً وسنة لا بد أن تقولها، ثم وأنت تأكل الطعام، ولما تشبع من الطعام، ثم وأنت تنام، وعندما تستيقظ، وتذكره وأنت ترى القمر، وتسمع هبوب الرياح، وترى المطر ينزل، وتذكره وأنت تأكل من باكورة الثمار، تذكره في كل شيء؛ لأن معالمه وبصماته صلوات الله وسلامه عليه مرسومة في كل هديك، وسلوكك وتصرفاتك، فهل نحتاج بعد هذا إلى أن نحتفل بذكراه مرة في العام ثم ننساه؟!!
ففي الصحيحين عن أنس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: -الأولى- أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) ويقول عليه الصلاة والسلام يوماً لصحابته: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وأهله وماله والناس أجمعين) فيقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يعرف وزن الكلمة وقيمتها، ليس إنساناً مغالطاً، أو يقول الكلام على عواهنه، قال: (والله يا رسول الله! إنك أحب إليَّ من أهلي ومالي ومن الناس أجمعين إلا من نفسي) لا يعرف الكذب، ولا التملق، قال: (لا يا
فهؤلاء المبتدعة يبتدعون في الدين ما لم يأذن به الله، ويوردون ديناً على الناس وليس بدين، وقد ذكر علماء الإسلام أن عملهم هذا محرم، ولا يجوز إقراره، ويجب إنكاره، ولا يجوز السكوت عليه، بل ينبغي من درس التوحيد، وعرف هدي السلف، ثم ذهب إلى أي بلاد من هذه البلاد، وعلم بأنه يقام مثل هذا الاحتفال في هذه البلاد بأن ينصحهم ويعظهم؛ لأننا نعرف ونسمع أن هناك من خفافيش الظلام من لا يستطيعون أن يظهروا في الضوء، فهم يعيشون في الظلام ببدعتهم.
سألني شخص هذا اليوم، قال لي: متى يوافق اليوم الثاني عشر بالضبط؟ قلت: لماذا؟ قال: أريد أن أصوم هذا اليوم، قلت: ولم؟ قال: لأنه مولد النبي صلى الله عليه وسلم، قلت: هل أمرك أن تصومه؟ قال: لا. قلت: هل صامه خلفاؤه الراشدون؟ قال: لا. قلت: هل صامه سلف هذه الأمة؟ قال: لا. قلت: من أمرك؟ قال: الناس عندنا يصومون هذا اليوم في باكستان ، قلت: سبحان الله! تأخذ دينك من الناس، هذا دين لا يؤخذ إلا عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، لا تصم هذا اليوم، وإن صمته على أنه قربة فأنت آثم ولست بمأجور؛ لأنك تبتدع بدعة أعظم في الدين من ثواب هذا اليوم الذي تريد أن تتقرب به وليس بقربة.
كيف وأنتم في كل يوم تضيعون سنناً وتحدثون بدعاً؟! وهذه من البدع التي أحدثها أعداء الله، اقتبسوها من النصارى وسموها ديناً، ووصفوا من لا يفعلها، والذي يذب عن هديه، ودينه، يسمونه (وهابي) يقولون: أنت لا تحب الرسول صلى الله عليه وسلم، سبحان الله! كيف انقلبت المفاهيم وانعكست الموازين، وأصبح أتباعه هم أعداؤه، وأصبح المبتدعة هم أحبابه، يقولون: نحن أحبابه، وقد خسئوا فهو منهم براء، صلوات الله وسلامه عليه. (إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، ثم قال: وإياكم -تحذير- ومحدثات الأمور) أي: في الدين، ليس المحدثات في الأمور العادية وعادات الناس، يجب أن يفهم الناس ما معنى المحدثة، المحدثة في الأمر أي: في أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، أما في عادات البشر فليس عليه حرج، كونك تركب سيارة، أو تأخذ ثلاجة، أو تلبس ثياباً، أو تفرش بيتك، هذه كلها لم تكن موجودة وهي مما أباحه الله عز وجل.
إنما الشيء المرسوم، والمحدد بإطار معين، والمحاط بسور الاتباع هو دين الله، وما أمر به الله أو أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم (إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) وقد سمعت شخصاً من المبتدعة المفتونين يتكلم ويكتب ويقول: إن البدعة منها ما هي بدعة حسنة، ومنها ما هي بدعة محرمة وغير ذلك، فقسم البدعة إلى خمسة أقسام على أقسام الحكم التكليفي.
الحكم التكليفي كما تعرفون في الأصول أقسامه خمسة، فقال: بدعة محرمة، وبدعة مكروهه، وبدعة واجبة، وبدعة مستحبة، وبدعة مباحة.
الله أكبر! ما هذا الفقه؟! والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) كل ضلالة في جهنم.
فهذا الحديث يبين لنا أنه لا ينبغي لأحد أن يستن إلا بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وبهدي خلفائه الراشدين، وألا يعمل أمراً أو يضيف ديناً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد خلفائه الراشدين، فالدين ما شرع الله وما سن رسوله صلى الله عليه وسلم.
قد يقول قائل: إن هذه الاحتفالات من الأمور العادية، نقول لا. ليست من الأمور العادية؛ إنها من الأمور الشرعية الدينية؛ لأن كل ما كان له علاقة بالكتاب، أو بالسنة، أو برسول الله صلى الله عليه وسلم فهو دين، فكونه يحتفل به على أنه قربة، وأن هذا يقرب إلى الله؛ لأن هذا رسول الله، والاحتفال به شيء عظيم، فقد جعله من الدين، وليس عليه دليل، فهو مردود.
اليهود والنصارى يعتقدون أنك إذا ما احتفلت بعيد ميلاد ولدك هذا فإنه قد يموت، فأنت كل سنة يمر عليك تقيم له حفلاً، وتدعو الناس، وتطفئ شمعة وتشعل شمعة جديدة، وإطفاء الشمعات وإشعالها هذا ليس منك، والأعمار بيد الله، والله تبارك وتعالى هو الذي يقضي بالليل والنهار على عباده، ولا راد لأمره تبارك وتعالى، ولا معقب لحكمه، وهذه بدعة نصرانية مردودة.
فلا ينبغي للمسلم أن يكون ذيلاً لهم، وإذا علم أن هذه الوليمة أو هذا العشاء بمناسبة مرور ثلاث أو خمس أو ست سنوات على زواج فلان، أو على ميلاد فلان، يرفضه ويقول: لا أحضر إلى بدعة ليس عليها دليل من النبي صلى الله عليه وسلم.
والتشبه باليهود والنصارى محرم بدليل الحديث الذي رواه الإمام الترمذي في السنن وهو صحيح، قال عليه الصلاة والسلام: (لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى، فإنه ليس منا من تشبه بغيرنا) وفي حديث آخر، قال عليه الصلاة والسلام: (من تشبه بقوم فهو منهم) والتشبه أن تعمل أعمالهم.
لا يا أخي كن إنساناً استقلالياً، لا تكن تبعياً، كن إنساناً بارزاً لك قدوة وأسوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21].
الله أكبر! لا إله إلا الله! يشرك برب الأرض والسماوات، وهذا هو الذي نزل من أجله الكتاب، وشرع من أجله الجهاد، وبعثت من أجله الرسل؛ أن يدعى الله وحده، والله يقول: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً [الجن:18].
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول للصحابي الذي قال له: (ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله نداً؟! قل ما شاء الله وحده) (ولا يقل أحدكم: عبدي وأمتي ولكن يقول: فتاي وفتاتي) والله يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65] هذا الرسول وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ * وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر:65-67] سبحانه وتعالى عما يشركون علواً كبيراً، فيدعون الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهؤلاء نقول لهم بمنطق العقل: إذا كان في أكثر بقاع العالم هذه الاحتفالات، وكلهم يزعم أن الرسول جاء، فكيف انقسم عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم، ودخل كل حفل من احتفالاتهم؟!! كيف قام ووصل إلى كل هؤلاء، وخرج من عند هؤلاء في خلال ساعة، أو في يوم، أو في ليلة واحدة؟!!
أهذا كلام يعقل؟ سبحان الله! رسول الله صلى الله عليه وسلم ميت صلوات الله وسلامه عليه، كما قال الله: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30] وقال: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [الأنبياء:34-35] هو ميت ولكنه حي، كأكمل حياة الشهداء، حياة برزخية، ليست حياة مثل حياتنا، حياة بزرخية كأكمل حياة الشهداء صلوات الله وسلامه عليه، وهو لا يخرج من قبره ولا يعلم ما يحدث في أمته من بعده، ولهذا يوم القيامة يوم تذاد مجموعة من الأمة عن الحوض فيقول: (أمتي أمتي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، لا زالوا يرجعون عن دينهم القهقرى، فأقول: بعداً بعداً، وسحقاً سحقاً) وأقول كما يقول العبد الصالح: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المائدة:117] إلى آخر الآيات.
فهذه المنكرات يحصل فيها الشرك بالله، بالإضافة إلى الإسراف، والتبذير في إقامة الولائم، ونصب السرادقات، وإضاءة الأضواء، وإهلاك الأموال في هذا الأمر الذي لم يأذن به الله، ولم يشرعه رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يسعنا -أيها الإخوة- إلا ما وسع السلف [ومن كان مستناً فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تأمن فتنته].
ونقول للناس الذين يبتدعون هذا: لو كان خيراً لسبقنا إليه صحابة رسول الله وسلف هذه الأمة، وما لم يسبقونا إليه فليس بدين، وما لم يكن في عهدهم دين فلن يكون في عهدنا دين، فقد ضيع هؤلاء أكثر دين الله، ثم يحدثون فيه ما ليس من دين الله، فنريد -أيها الإخوة- أن نعرف هذا الأمر على حقيقته، وأن نعرف أدلة رده حتى إذا ما ناقشنا مبتدع، أو جاء ليضللنا ضال؛ لأن كثيراً من المسلمين -فقهنا الله وإياهم بالدين- بحبهم للنبي صلى الله عليه وسلم وبفطرتهم السليمة، إذا جاءهم مبتدع وسوغ لهم هذا الأمر، ربما ينطلي عليهم، وربما بدافع الحب للنبي صلى الله عليه وسلم يصنعون هذا الأمر وهم لا يشعرون، فنريد أن يعي إخواننا، وهم بدورهم ينقلون هذا إلى كل من يسمعون أنه يحدث مثل هذه البدعة، ويقولون له: هذا ليس بدين، بل هي بدعة، والبدعة طريق الشرك.
فأَقَلّ بدعة كما يقول شيخ الإسلام ابن القيم: أعظم عند الله من أعظم كبيرة من كبائر الذنوب، يعني: البدعة الصغيرة أعظم من كبيرة الخمر والزنا، لماذا؟ قالوا: لأن صاحب الخمر والزنا يرجو أن يتوب، لكن صاحب البدعة يحسب أنه على هدى، ولا يفكر أن يتوب أبداً؛ لأنه يدعو إلى بدعته، والعياذ بالله!
هذا -أيها الإخوة- ما أردت أن أذكره لكم كبداية في هذه الجلسة.
يحدث هانئ مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال: [كان
إذاً اللحية معلم من معالم الرجولة، وسنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، لا بد من إبقائها في الوجه عملاً وتطبيقاً لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قيل له: (يا أمير المؤمنين! نراك تذكر الجنة والنار فلا تبكي، ثم تذكر القبر فتبكي، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر، وإن لم ينج منه فما بعده أشد) قال: (وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما رأيت منظراً قط إلا والقبر أفظع منه) رواه الترمذي، وابن ماجة، والإمام ابن الأثير في جامع الأصول، وقال الشيخ الألباني في تعليقه عليه: سنده حسن، وأخرجه وحسنه في صحيح الجامع للسيوطي.
حقيقةً القبر -أيها الإخوة- من أفظع ما يمكن على الناس؛ لأنك لو نمت في غرفة، هذه الغرفة مساحتها (2م×2م) أو (2م×1م)، وبعدها تعرف أنه لا يوجد معك أحد باستمرار، وليس عندك طعام ولا شراب، وسقفها قريب منك، إذا كنت في غرفة، أو سجن، أو زنزانة، أو غرفة كبيرة لا بد أن يكون سقفها بينك وبينه (2م) أو (3م)، لكن إذا كانت الغرفة التي تنام فيها (1.5م×1.5م)، وارتفاع السقف شبر واحد، والحجارة فوق ظهرك، هذا شيء فضيع (ما رأيت منظراً إلا والقبر أفظع منه)، وليته رقود ولا شيء بعده، ولكن هناك أشياء:
ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حي |
ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعده عن كل شيء |
فلذا كان عثمان رضي الله عنه إذا ذكر القبر بكى وارتعد، وإذا ذكر الجنة والنار لم يبك؛ لأنه يرجو ويخاف، يرجو في رحمة الله أن يكون القبر روضة من رياض الجنة، ويخاف من عذاب الله أن يكون القبر حفرة من حفر النار، فيخاف من القبر؛ لأنه يعلم أن ما بعده أيسر أو أشد منه، ولما كان ما بعد القبر أيسر منه لمن نجا، فإن العبد إذا رأى في قبره ما أعد الله له من نعيم قال: كما في حديث البراء بن عازب : (رب أقم الساعة، رب أقم الساعة، رب أقم الساعة، فيقال له لم؟ قال: لعلي أرجع إلى أهلي ومالي) أين أهله وماله؟ ليس ذلك في الدنيا، وإنما يرجع إلى أهله وماله في الجنة؛ لأنه يرى قصوره ويرى الحور وما أعد الله له من النعيم، فهو في القبر في روضة من رياض الجنة، لكنه يريد ما هو أعظم، يريد الجنة.
وأما الكافر -والعياذ بالله- والمنافق والفاجر، فإنه وهو في حفرة من حفر النار يرى الحيات والعقارب، والسلاسل والأغلال والأنكال وأودية العذاب، والنار يحطم بعضها بعضاً، عند ذلك يقول: رب لا تقم الساعة، رغم أنه في عذاب لكن ما بعده أفظع، فهو لا يتمنى أن تقوم الساعة عليه؛ لعلمه بأن ما بعده أعظم مما هو فيه، والعياذ بالله!
أما ظلمة القبر، فالقبر له ظلمة وله نور أيضاً، فهو ظلمة على أهل المعاصي، ونور على أهل الطاعات، نور الله قلوبنا وقلوبكم وقبورنا وقبوركم، وقبور آبائنا وأمهاتنا وجميع إخواننا المسلمين، وفي الحديث الذي رواه الإمام البخاري، ومسلم، وأصحاب السنن: والبيهقي ، وأحمد في المسند - قال: (ماتت امرأة كانت تقمّ المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) تقم المسجد: أي تزيل القذر، والقذر غير النجاسة، إذ لا يتوقع أن يكون في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم نجاسة، لكن القذر: ما يتقذر منه، كالشعرة، والعود، والورقة، والكناس، أي شيء من هذا الذي تجده في المسجد، من أعظم القربات أن تحمل هذه الشيء.
ولقد قال لي أحد المشايخ يقول: رأيت شاباً في مقتبل العمر وهو جالس في المسجد يذكر الله ويقرأ، فرفع رأسه فرأى أمامه أعواداً، يقول: فجمع الأعواد من أمامه وفتح جيبه وجعلها في جيبه. يقول: سبحان الله! كيف ترق نفس المؤمن وتصبح شفافة إلى أبعد درجة، لدرجة أنه يجعل المسجد أعظم حرمة من ثوبه وجيبه، يجمع أذى المسجد ليضعه في جيبه، الإنسان لا يضع في جيبه إلا الشيء الغالي أليس كذلك؟ تضع النقود، والشيكات والأوراق الغالية والنفيسة، لكن تضع القمامة في جيبك؟! لو كنت في بيتك ووجدت أي قمامة لا يمكن أن تضعها في الجيب، تأخذها وترميها أو تتركها؛ لكن في بيت ربك، لا. جيبك أولى بالقمامة من بيت ربك.
فهذا العمل بسيط في ظاهره كونه يأخذ الحبة ويضعها في جيبه، لكنه عند الله عظيم، لا إله إلا الله! بدليل حديث البخاري ومسلم: أن هذه المرأة التي كانت تقم المسجد أي: تكنسه وتنظفه، ففقدها النبي صلى الله عليه وسلم، فقدها وفقد آثار عملها، رأى بعض الأشياء في المسجد، ففقدها من فقدانه لأثر فعلها، وهو تنظيفها للمسجد فسأل عنها، فأخبروه: أنها ماتت بالليل وأنهم دفنوها، ولم يخبروه صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كرهوا إيقاظه وإزعاجه، لعلمهم بما كان يبذل صلى الله عليه وسلم من جهد جهيد في سبيل خدمة الدعوة الإسلامية، فكانت حياته كلها لله.
فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أفلا آذنتموني؟ أفلا آذنتموني؟ ثم طلب من أصحابه أن يدلوه على قبرها، ثم جاء إلى قبرها، فصلى عليه صلوات الله وسلامه عليه -صلى عليها صلاة الجنازة- ثم قال: إن هذه القبور مليئة بالظلمة على أهلها، وإن الله عز وجل منورها لهم بصلاتي عليهم) رواه البخاري ومسلم.
فالظلمة موجودة في القبر؛ وسبب الظلمة ما يكتسبه الإنسان من دخان المعاصي في الدنيا، فمن يعيش في بيته على دخان المعاصي يعيش في دخانها هناك، وفي ظلمتها في القبر، وعلى الصراط، وفي دار الظلمات، يوم أن ينادي أهل الإيمان ويقول: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً [الحديد:13] من أراد النور فعليه بالتعبئة من الآن من محطات النور وأماكن الطاعات، فالطاعة نور والمعصية ظلام -أعاذنا الله وإياكم من ذلك- هذه ظلمته!
والعلماء يحققون في هذا، يقول الإمام الذهبي : وليست ضغطة القبر التي تعرض لها سعد بن معاذ رضي الله عنه من عذاب القبر في شيء؛ لأنه مشهود له بالجنة، ومن أهل الجنة، فلا يتصور أن يضغطه القبر عذاباً، ولكن قالوا: إن ضغطة القبر وألم الضغطة الذي تعرض لها سعد، وسوف يتعرض لها كل إنسان، هي من نوع الألم الذي يجده الإنسان عند الموت مثل الحشرجة، والألم الذي يجده الإنسان عند المرض والجوع ووخز الإبرة، هذه كلها آلام تأتي للجسد.
فذهب إلى سعد بن معاذ وقال له اذهب أسكته أنت، فغضب سعد، وكأنه استشف أن مصعباً رفض أنه يسكت، فأخذ حربته وسيفه وقدم على مصعب يريد قتله، فقال له: تسفه الأحلام وتغوي الأبناء، اسكت، قال له: يا هذا اسمع ما نقول، فإن أعجبك ما نقول وإلا كفننا عنك -وكانوا عقلاء، عندهم إنصاف- قال له: لقد أنصفت، فجلس عنده، وسمع منه ما سمع من القرآن الكريم، فقال: ماذا يفعل من يريد أن يدخل في دينكم؟ قال: يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم رجع، ثم جاء إلى قومه قال: ما أنا فيكم؟ قالوا: أنت سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا، قال: فكلامكم وطعامكم وشرابكم عليّ حرام إن لم تأمنوا بمثل ما آمنت به، فما أمسى بيت من بيوت عبد الأشهل إلا وقد دخله الإسلام في تلك الليلة.
هذا إنسان عظيم من كبار الصحابة، كان في الجاهلية صديقاً لـأمية بن خلف ، وكان أمية بن خلف زعيم الكفار وصنديداً من صناديدهم، إذا ذهب إلى الشام يمر على المدينة فيجلس عند سعد ؛ لأنه زعيم الأوس، وكان إذا اعتمر سعد بن معاذ أو ذهب إلى مكة لزيارة الحرم والطواف بالبيت على طريقة الجاهليين يجلس عند أمية، فبعد أن أسلم سعد ذهب إلى مكة ليعتمر، ونزل عند أمية صديقه، فلما نزل عنده قال: ما جاء بك؟ قال: جئت معتمراً، قال: اجلس حتى يضحي النهار ويخف الناس -يقول: ما أريد أن تطوف وأنا معك ويعرفون أنك قد آويت الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتأتي هكذا آمناً، اترك الناس يذهبون وبعد ذلك نطوف أي: نطوف خفية- قال: لا. بل أطوف، وذهب يطوف، وبينما هو يطوف رآه أبو جهل -عليه من الله ما يستحق- فجاء إليه وأمسكه -ولكن سعداً بطل- قال له: أتطوف آمناً وقد آويت من آويت -تطوف ببيتنا وبيت الله وفي مكاننا وأنت آمن- قال: اسكت، والله لئن منعتني لأقطعن عليك التجارة من الشام فلا يمر لكم جمل من عندي -قول وفعل فقال أمية بن خلف لرفيقه سعد : لا ترفع صوتك على أبي الحكم فإنه سيد الوادي.
ولما جاءت غزوة بدر وخرج كفار قريش لمحاربة الله ورسوله، خرجوا بحدهم وحديدهم وقضهم وقضيضهم، وقالوا: بعد أن سمعوا أن القافلة قد نجت، قالوا: والله ما نرجع حتى ننحر الجزور، ونشرب الخمر ونستأصل شأفة محمد، وتعلم العرب عنا، وترقص القيان بين أيدينا على بدر ؛ لأنهم علموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد خيم على بدر فقام أمية وجاء إلى أبي جهل -لأنهم رفقاء- قال له: أريد منك أن تسمح لي قال: يا أمية! ماذا يقول الناس وأنت من رجال القوم وصناديدهم، ولكن اخرج معنا يوماً أو يومين، ثم ارجع، فخرج معهم، ولكنه لم يرجع؛ فقد قتله صحابة صلى الله عليه وسلم يوم بدر.
أشهد بالله أنه بطل، ثم قال: (والله لئن خضت بنا البحر لخضناه معك، ما تخلف منا رجل) وفعلاً كانوا صدق في الحرب لا يعرفون الرجوع إلى الوراء.
هذا سعد بن معاذ رضي الله عنه لما كان في يوم الخندق ، وكانت عليه درعه، والدرع من حديد، الدروع كانت تصنع من الحديد وهي حلق، وأول من صنعها داود، والله قال له: أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ [سبأ:11] سابغات: أي دروع كاسية، تسبغ الإنسان وتغطيه وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ [سبأ:11] أي: ضيق في الحلق؛ لأنه كلما كانت الحلق أضيق كان الدرع أقوى، لكن عندما تكون الحلق متباعدة يمكن أن يدخل من هذه الحلقة أي شيء، وهذه من حكمة الصنعة التي علم الله نبيه داود عليه السلام: أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ [سبأ:11].
فكان عليه درع، وخرج منه يمينه؛ لأنه كان طويلاً، فوقع فيه سهم فقطع أكحله -الأكحل العرق- فدعا الله تبارك وتعالى، فقال: [اللهم إن كنت قد أبقيت من قتال أعدائك قريش شيئاً فلا تمتني حتى أقاتلهم، ثم قال: ولا تمتني حتى تحكمني في قريظة] ويهود قريظة في غزوة الأحزاب نقضوا العهد، وخالفوا الأوامر، فلما انتهت المعركة وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينهي المعركة، جاء جبريل، قال: إن الملائكة ما وضعوا السلاح، أنتم انتهيتم من الكفار والأحزاب، لكن بقي المنافقون واليهود الذين تخلفوا ونقضوا العهد.
فلبس عليه الصلاة والسلام سلاحه وقال عليه الصلاة والسلام للصحابة: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة ) فمشى الصحابة كلهم، منهم من صلى في بني قريظة تبعاً للأمر، ومنهم من أدركته الصلاة قبل بني قريظة فصلى في وقته، وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم كلهم على فقههم واجتهادهم، وبعد ذلك قبض على الرجال من اليهود من بني قريظة ، وبعد ذلك قال: (اختاروا حكماً) قالوا: نحكم سعداً ، وكان سعد حليفهم في الجاهلية، فظنوا أن حكم سعد سيكون خفيفاً؛ لأنه حليف، والحلف في العرب معروف أنه رابطة قوية، لكن جاءت رابطة الدين فنقضت كل رابطة، ولم تبق إلا رابطة الدين فقط.
فقال سعد لما جاءوا به وكان يعالج في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في خيمة قد نصبت له في المسجد، وكان يعالجه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أشرف جرحه على الاندمال، فجاءوا به على حمار حتى أدخلوه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بني قريظة، قال: (هذه قريظة تريد أن تحكمك فاحكم فيها بحكمك) -احكم فنحن نازلون على حكمك وهم راضون بحكمك- قالوا له: يا سعد أنت حليفنا ورفيقنا ونحن قبلنا حكمك، قال: قبلتم حكمي، قالوا: نعم. قال: [لقد آن لـسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم]، اللهم صلِّ وسلم على رسول الله.
انظروا الطراز العظيم، لا تأخذه في الله لومة لائم (إني أحكم بقتل رجالهم، وسبي أموالهم وذراريهم -الله أكبر!- قال صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت بحكم الله من فوق سبع سموات) ثم حفر الحفر وجاء بالجلادين، وأتوا بهم واحداً واحداً، حتى خرج حيي بن أخطب، خرج وكان زعيمهم وعليه ثوب جميل، وبردة حرير، فخرق الثوب كله قالوا له: لماذا؟ قال: لا أريد أن يلبسوه بعد قتلي لا يريد أن يلبس المسلمون ثوبه بعد قتله، وقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك فجر الله أكحل سعد، بعد ما أكمل الحكم ومات شهيداً رضي الله عنه وأرضاه.
روى النسائي في سننه بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا الذي تحرك له عرش الرحمن، وفتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفاً من الملائكة، لقد ضم ضمة ثم فرج عنه).
وفي مسند الإمام أحمد عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن للقبر ضغطة لو كان أحد ناجياً منها لنجا منها سعد ).
وعند الطبراني في الكبير والأوسط عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو نجا أحد من القبر لنجا
ومما يدل على أن ضمة القبر لازمة لكل إنسان، حتى الصبيان الصغار لا ينجون منها، ما رواه الطبراني عن أبي أيوب الأنصاري بإسناد صحيح، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو أفلت من ضمة القبر أحد لنجا منها هذا الصبي) صبي دُفن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد قلت لكم: إن هذا الأمر لا يعتبر من عذاب القبر، وإنما هو شيء من الآلام التي تحدث للإنسان بحكم طبيعته، وبحكم تكوينه البشري.
وقد أهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم جبة -والحديث في البخاري ومسلم ، والجبة هذه من سندس- أعجب بها الناس، يعني: شيء ما تعوده أبداً، فقال: (تعجبون من هذا، والذي نفسي بيده لمناديل
وإن كان منافقاً لا يعرف الرسول؛ لأن المنافق يعرف الرسول معرفة سطحية، والذي يعرف الرسول صلى الله عليه وسلم معرفة سطحية لا تبقى، والذي يعرف الرسول صلى الله عليه وسلم معرفة عملية باتباع هديه، والعض على سنته، والتمسك بطريقته، هذا هو الذي يلهمه الله حجته، أما الذي يعرف الرسول وهو ضد سننه، لا يقيم لله أمراً، ولا لرسول الله سنة ولا وزناً، هذا لا يعرف الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال: (وإن كان منافقاً أو فاجراً قال: سمعت الناس يقولون قولاً فقلته، لا أدري) هذا رواه الترمذي في كتاب الجنائز وقال: حديث حسن، وقد رمز له الشيخ محمد الألباني في كتابه وتصحيحه للجامع ، قال: بأنه حسن.
وأيضاً جاء في الحديث الذي يرويه البراء بن عازب رضي الله عنه؛ والبراء صحابي جليل، من كبار الفقهاء والمحدثين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى أكثر من ثلاثمائة وستة أحاديث، وكان قد شهد الغزوات كلها إلا بدراً فإنه اسْتُصْغِر، أي: ما أذن له؛ لأنه كان صغيراً، ففي معركة بدر خرج حتى الصبيان، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم يراهم، رأى أنهم أولاد أعمارهم أربع عشرة أو ثلاث عشرة سنة فردهم، فكان البراء وابن عمر وسمرة بن جندب ممن كانوا عند الرسول يرى رءوسهم، كان الواحد يقف على أطراف أصابعه ويتطاول؛ من أجل أن يأذن له الرسول في الخروج لا ليذهب إلى الملاهي والألعاب، بل يتطاول من أجل أن يذهب لكي تضرب رقبته بالسيف، أو يموت، لأنه يريد الجنة، فاستصغره النبي صلى الله عليه وسلم ورده يوم بدر، رضي الله عنه وأرضاه.
هذا البراء بن عازب له حديث عظيم، حديث رواه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه، وهو صحيح قال: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار)، والحديث طويل جداً نأخذ منه الشاهد وهو: (فيأتيه ملكان شديدا الانتهار) والانتهار: هو شدة القول، وهو دائماً شأن كل محقق، فأي شخص يحقق في قضية مع أي متهم لا يقدم له السؤال بالصيغة الطيبة، فيقول له: يا (أفندي)! يا (طويل العمر)! يا (سعادة الأستاذ)! نريد أن تقدم رأيك في هذا الموضوع، هل يقول له ذلك؟ لا. بل ينتهره، لماذا؟ لأنه متهم بقضية حتى تثبت براءته أو إدانته، ولذلك المحققون في القبر ينتهرون المحَقَّق معه: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ انتهار شديد، وليس انتهار ضابط، ولا عسكري، ولا مفتش مثلك، بل انتهار مَلَكٍ شديد قوي أسود أزرق، صوته قوي، وأنت عارٍ، ضعيف، فقير، ليس معك مال، ولا سلطان، ما معك أحد في تلك الحفرة، وفي قبر ضيق، وظلمة، وهذا أمامك. لا إله إلا الله ما أعظم القبر أيها الإخوة!!
قال: (فيجلسانه ويقولان له: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟) وهي آخر فتنة، تعرض على المؤمن، وآخر شيء يوجه للمؤمن هذه الفتنة، فتنة المؤمن عند حشرجة الموت وعند ضغطة القبر؛ لأن الملائكة لا يعلمون الغيب حتى يعاملونه معاملة حسنة، فهم يسألونك كأي شخص من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ فإذا قلت: ربي الله، ديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم، كشفت عن هويتك، بينت أسلوبك، أخرجت شهادتك، بعد ذلك لا فتنة عليك إلى يوم القيامة، فقط يقولون لك: (على هذا عشت وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله، وينادي منادٍ من السماء: صدق عبدي، فافرشوا له من الجنة، وافتحوا له إلى الجنة).
فذلك حين يقول الله عز وجل: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27] قال: (فإن كان مؤمناً قال: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم، فينادي منادٍ من السماء: أن صدق عبدي).
لقد كان نائماً، واستيقظ الآن، ما استيقظ إلا في القبر، (فتقول له الملائكة: لا دريت ولا تليت)، أي: تدعو عليه: جعلك الله لا تدري! قال: (فينادي مناد من السماء: أن كذب عبدي) فإنه يدري، بلغته الحجة، لكنه كذاب مماطل دجال، عبد للشيطان (كذب عبدي، فافرشوا له من النار، وافتحوا له باباً من النار، فيأتيه من حرها وسمومها حتى تقوم الساعة) نعوذ بالله وإياكم من ذلك!
وعن أنس رضي الله عنه، والحديث أيضاً في صحيح البخاري وصحيح مسلم ورواه أبو داود في السنن والنسائي يقول عليه الصلاة والسلام: (إن العبد إذا وضع في قبره تولى عنه أصحابه -أي: آخر من يدفنه- وإنه ليسمع قرع نعالهم) أي: أرجلهم وهم راجعون يسمعها الميت، وسوف أسمعها وتسمعها أنت ويسمعها كل واحد منكم في القبر، هذا الحديث صحيح.
وفي صحيح البخاري وصحيح مسلم (إن الميت إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه سمع قرع نعالهم إذا انصرفوا، وأتاه ملكان فيقعدانه ويقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل -محمد- فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، وأما الكافر والمنافق -وفي رواية: وأما المنافق والكافر- فيقول: لا أدري لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس فيه، فيقال: لا دريت ولا تليت) يروي هذا الحديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
وأنس هذا صحابي جليل رضي الله عنه، وهو خادم الرسول، وقريب الرسول لأمه، وتلميذ النبي صلى الله عليه وسلم، تتلمذ على يديه عشر سنوات، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنه، أمه أم سليم بنت ملحان رضي الله عنها وأرضاها، جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: (يا رسول الله! إني أعطيك هذا خادماً لك، ولكن ادع له، فدعا له وقال: اللهم أطل عمره، وأكثر ماله وولده) فأطال الله عمره حتى بلغ عمره مائة وثلاث سنوات، وأكثر الله أولاده حتى خرج من صلبه مائة وستة ولد، جيش من صلبه بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وكثر الله ماله، حتى كانت بساتين الكرم -العنب- والنخيل تثمر في السنة مرتين، وجميع ثمار الأرض كلها تثمر مرة واحدة في السنة، إلا نخيل وعنب أنس، وفي يوم من الأيام رضي الله عنه جاءه عامله في بستانه فقال له: إن بستانك قد أقحل وليس فيه ماء، فنظر إلى السماء وكان في يوم صيف قائظ، والشمس في وسط النهار، فدعا الله عز وجل أن يمطره، يقول: فثار السحاب في وسط السماء، ثم جاءت على مزرعته، فأمطرتها حتى ملأتها، يقول: ثم لما جاء وأخبروه، قال: انظروا هل تجاوزتها، قالوا: والله ما تجاوزت حدودها، وسقيت المزرعة كاملة ببركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل العظيم، ويقول: [منذ موت النبي صلى الله عليه وسلم ما نمت ليلة إلا رأيته فيها] عظيم هذا الرجل، نحن ما نرى الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا نعتبره حرماناً، لماذا؟ لأن الشيطان لا يتمثل بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومن رآه في المنام فقد رآه حقاً، لقد كان يحب الرسول ويعيش مع النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: [ما نمت ليلة إلا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها بالمنام] رضي الله عنه وأرضاه، هو راوي هذا الحديث، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم في أول أمره أن القبور فيها فتنة، وأن الأمة تفتن في قبورها، ثم أوحى الله له بهذا العلم.
قطعت رجله بعد أن دبت فيها الآكلة، وهو داء يأكل العظام، فنصح بقطعها من أسفلها فأبى، قال: ما أريد أن تقبر رجلي لوحدها، فلما وصلت إلى ركبته قالوا له: إن لم تقطعها فسوف تتجاوز إلى أكثر من ذلك، فأشار إليه الخليفة أن يقطعها، فوافق على قطعها، وكيف قطعها؟ قالوا له: نريد أن نسقيك مسكراً -وهو المخدر- قال: لا. إني أحتسب على الله ألمها كما أحتسب فقدها، يقول: أحتسب فقدها، ولكن تفقد مني بألم أحتسبه عند الله، فجيء إليه بالسكين وقطع اللحم، ثم جيء إليه بالمنشار فنشر العظم، ثم انتهوا منها وجاءوا بالسمن المحمي ووضعت رجله فيه حتى لا ينزف دمه فيموت، ثم قال: وقد رفع رأسه إلى السماء: [اللهم إنك ابتليت فعافيت، وأخذت وأبقيت، جعلت لي أربعة أطراف وأخذت منها واحداً وبقي ثلاثة] رضي الله عنهم وأرضاهم.
هذا التابعي الجليل العظيم لما نظر إلى رجله في الطست بعدما وضعوها رفع نظره إلى السماء وقال: [اللهم إنك تعلم أنها ما حملتني إلى معصية قط] يقول: والله ما حملتني إلا إلى طاعة الله عز وجل، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، إنه رجل عظيم ولكن ابتلاه الله سبحانه وتعالى بها ولكنه يحتسبها عند الله، وستكون سابقة له عند الله عز وجل، أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم من أتباع رسوله صلى الله عليه وسلم.
هذا عروة بن الزبير يحدث حديثاً، والحديث صحيح عن خالته عائشة رضي الله عنها، قالت: (دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي امرأة من اليهود، وهي تقول: هل شعرتم أنكم تفتنون في قبوركم؟ فارتاع الرسول صلى الله عليه وسلم وهي تقول ذلك، وقال: إنما تفتن يهود -يقول: الفتنة ما هي للمسلمين، تفتن يهود فقط- قالت:
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الجواب: بل الشيشة أفظع -والعياذ بالله- وأنجس، ولكن الشيشة هذه هل تدرون من أين تصنع؟ هذه الشيشة طبعاً كما يقول الشيخ حافظ الحكمي وهو يصفها، يقول:
كذاك معشوقة الشيطان قد نصبت بها فخاخ لأرباب الجهالات |
وبعد ذلك يقول إنهم يتغنون فيها يقولون: إنها جميلة:
من أي وجه أتاها الحسن لقد أخطأ الطريق إليها في المرادات |
من حسن لمتها في طول قامتها من ذلك الحبل مطوياً بليات |
يقول: مثل البغي الزانية التي تقبل من ألف فم، أعوذ بالله من هذه المهزلة، هذا (الجراك) الذي يوضع فيها أصله فضلات الفواكه، الموز والتفاح والبرتقال الذي يرمى عندنا في الزبالة يجمع هناك في بعض البلاد، وبعد ذلك يوضع في مصاهر، ويضاف إليه عروق التبغ وبعض أشجار الدخان تضاف إليه، ثم يصهر إلى درجة حرارية قوية جداً حتى يسود، ثم يجمع في أواني وعلب، ويكتب عليها (باز بيد)، و(بال بيد)، ويأتي إلى بلدنا يشترونها بأربعين ريالاً وبثلاثين ريالاً، علبة الطحينية بخمسة ريالات وعلبة هذا الأسود الخبيث بثلاثين، هذه مصيبة ولا حول ولا قوة إلا بالله! فهذه الشيشة خبيثة، والمسلم منزه عن الخبث والخبائث، والله يقول: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157].
الجواب: نعم. بعض الإخوة يتساهل في هذا الأمر، ويكشف وجه زوجته في سيارته، ومعروف أن وجه الزوجة هو مجمع الفتنة، وهو عنصر وجماع كل شيء؛ لأنه من المعروف أن المرأة تغطي وجهها منذ زمن بعيد، فالحجاب حجاب الوجه؛ لأن الوجه مجمع الزينة: فيه العين، والأنف والشفتان، والأسنان، والخدان، وكل شيء في الوجه، ولذا إذا أردت أن تتزوج بامرأة، ماذا ترى فيها؟ تنظر إلى وجهها، فإذا أعجبك وجهها زال كل شيء، فالإنسان زينته في وجهه، فالله أمر بتغطية الوجه؛ لأنه قال: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ فلا يضرب الخمار على الجيب إلا مروراً بالوجه، والله عز وجل يقول: وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31] نهى الله المرأة أن تضرب برجلها حتى لا تفتن، فكيف يسمح لها بأن تكشف وجهها، والأدلة الصريحة الصحيحة من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ترد قول من يقول بكشف الوجه، ولا دليل معهم إلا دليل ضعيف لا يحتج به وإما منسوخ، ومن أراد المزيد في المسألة والتحقيق فليقرأ كتاب أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ محمد الأمين الشنقيطي، عند الكلام على قول الله عز وجل: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور:31] تكلم هناك على كلمة (ما ظهر منها) وما المقصود بها، وبين أن الزينة التي عفي عنها هي الزينة المكتسبة؛ لأن الله قال: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور:31] والضمير عائد على أقرب مذكور كما هو معروف في اللغة، وأقرب مذكور هنا الزينة، والزينة قسمان: زينة مكتسبة، وزينة خلقية، زينة يضيفها الإنسان، وزينة خلقها الله فيه، نرجع إلى كلمة الزينة في القرآن كله، نجد أن القرآن استعمل كلمة الزينة في الزينة المكتسبة، قال الله في قارون: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ [القصص:79] أي في هيلمانه ورجاله، وما أضيف حوله، والزينة في القرآن كلها مقصود بها الزينة الخلقية، فالله عفا عن المرأة وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ [النور:31] لا تبدي زينتها إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور:31]أي: إذا لبست عباءتها، وخرجت منتقلة من بيتها إلى بيت جارتها، أو عملها، أو مدرستها، أو أي شيء، ورغم هذا ففيه فتنة.
أما ترون المرأة إذا مرت وهي متغطية من رأسها إلى قدمها، لكن الشيطان يفتن بها، ولكن هذا أمر خارج عن إرادتها، فماذا تفعل؟ هل تدفن نفسها في الرمل، أم تتخذ نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء، قال الله: إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور:31] هذا هو المعفو عنه.
الجواب: (الشرعة) شرعها الشيطان، واستجاب لها أتباعه، وهي لباس فضفاض كبير أبيض، وفوقه مثل سنم البعير، وتأتي واحدة تقعد تزينها من الصباح، يسمونها (المصففة) أو (الممكيجة)، تقعد (تصفصفها) من الصباح ولا تصلي ظهراً ولا عصراً ولا مغرباً ولا عشاء، فتخرج كأن حملاً فوق رأسها، وتأتي تركب بالسيارة، ويرخون المقعدة حتى لا تدق رأسها بالسقف، ثم يضيئون السيارة من هنا ومن هنا، وإشارات وأضواء، ويجمع العريس أصحابه، ويطوف بالناس يُريهم امرأته! فهذا تافه سافل لا قيمة له، إنما الزواج ستر وليس فضيحة.
إذا تزوجت يا أخي اجعل زوجتك تلبس ثيابها الشرعية، وتخرج من بيت أهلها إلى بيتك معززة مكرمة بظلمة الليل ولا يرافقها أحد إلى بيتك وأدخلها في سترك، أما أن تفعل بها مظاهرة، وتعلن الاستنفار للناس من أجل أن يخرجوا وينظروا إلى امرأتك، هذا عيب والله! وأنا والله إذا رأيت من هذا المنظر أتقزز، ولا أعتبر من يفعله من الرجال، فلو كان فيه ذرة من الرجولة ما عمل مثل هذا العمل المنكر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الجواب: تعرف أنك من المتقين بثلاثة أمور:
الأمر الأول: فعل أوامر الله.
والأمر الثاني: ترك ما نهى الله.
والأمر الثالث: تصديق أخبار الله.
فتصير بهذا من المتقين.
والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر