أولاً: جزى الله الإخوة القائمين على أمر هذه الندوة خيراً، حيث هيئوا لنا هذا الاجتماع المبارك وهذه الحلقة الطيبة في هذه الروضة الناظرة وفي هذه المجالس الطاهرة؛ مجالس الملائكة، مجالس النور، المجالس التي يحبها الله ويباهي بأهلها في السماء، المجالس التي يقول الله عز وجل للقاعدين فيها: (قوموا مغفوراً لكم قد بدلت سيئاتكم حسنات) لأن من أعظم القربات إلى الله ومن أجلِّ الأعمال إلى الله: ذكر الله تبارك وتعالى، يروي أصحاب السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا أدلكم على أفضل الأعمال عند ربكم، وأزكاها عند مليككم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا رقابهم ويضربوا رقابكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ذكر الله عز وجل).
وقد كلف الله المكلفين بعبادات محددة في زمن معين وبهيئة معينة وبكمية معينة إلا ذكر الله، فما حدده بعدد ولا بزمن ولا بهيئة أو كيفية، وإنما طلب الإكثار منه وبين أن من صفات عباده: الإكثار من ذكره، قال عز وجل: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران:190-191] وهذه هي حالات الإنسان الثلاث التي لا يمكن أن يكون في غيرها فهو إما أن يكون قائماً أو قاعداً أو راقداً.
فالمؤمن يذكر الله قائماً وقاعداً وعلى جنبه وفي كل حالة من أحواله: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:191].
ويثني الله عز وجل على أهل ذكره فيقول: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ [الأحزاب:35] ويقول: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152] ويخبر تبارك وتعالى أن من أبرز صفات عباده أهل الإيمان كثرة ذكر الله، يقول عز وجل: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ [الرعد:28] تسكن قلوبهم وترتاح قلوبهم وتهدأ قلوبهم عند سماع ذكر الله: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] أي: قلوب أهل الإيمان، جعلنا الله وإياكم منهم.
فيقول عز وجل: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الزمر:45] لو قيل: إن المباراة في أرض بعيدة سيمشي على ركبه ويديه، ولو قيل له: إن السمرة واللعب في أبعد وادٍ أو في أصعب جبل لذهب إليه، لكن الندوة وذكر الله لا يأتي لها إلا مرغماً، إنا لله وإنا إليه راجعون!
وقد توعده الله بالعذاب الذي لا يصبر عليه، قال عز وجل: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً [طه:124] لأن العيشة الهنية والسعيدة والرضية هي في طاعة الله، وما يبحث الناس عنه الآن من مسليات ومن مهدئات لأنفسهم، كلها بسبب البعد عن الله، وما عرفوا من أين أتوا وما لاحظوا أن سبب بلائهم هم يسيرون فيه وأن السعادة كلها في طاعة الله: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124] أي: عذاب الدنيا المعيشة الضنك، وعذاب الآخرة أن يحشره الله أعمى، يحشره الله أعمى بصر وأعمى بصيرة، ويأمره الله عز وجل أن يسير على الصراط وأن يعبر على الجسر.
كيف تمشي في طائرة؟ في سيارة؟ على وسيلة نقل؟ لا، هناك وسيله اسمها: وسائل النقل الإيماني، ووسائل العمل الصالح، الذي قد تجهز بعمل صالح وبإيمان صادق في هذه الدنيا يعبر، ولهذا أخبر عليه الصلاة والسلام: (أن من الأمة من يمر كالبرق الخاطف).
لما رئي سفيان الثوري رضي الله عنه في المنام قالوا: ما صنع الله بك؟ قال: [وضعت قدمي على الصراط والثانية في الجنة] أخذها خطوة كلها، لماذا؟! لأن سفيان عابداً تقياً خائفاً من الله، منهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كأجاود الخيل، ومنهم من يمر كشد الرجل أي: مثل عدو الرجل، ومنهم من يمر ماشياً، ومنهم من يمر عابراً يمشي ويتعثر، ومنهم من يحط أول خطوة والثانية في النار. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فالله يحشره أعمى ويأمره بأن يسير على الصراط، وكيف يسير وهو أعمى؟! كيف ينظر والجسر أحد من السيف، وأدق من الشعر، وأحر من الجمر، وأروغ من الثعلب؟ لو نصبنا الآن خشباً ووضعناه بين عمارتين طول كل عمارة أربعة أدوار وبين العمارتين عشرون متراً ووضعنا هذا العمود وقلنا للناس امشوا عليه وعرضه (50سم) من يقدر أن يمشي عليه؟ لا أحد يستطيع أن يمشي، وإذا مشى فسيمشي وهو خائف جداً، والسقوط أقرب.
لكن السقوط في نار جهنم سبعين خريفاً، يقول عليه الصلاة والسلام وقد سمع وجبةً وهو مع أصحابه -أي: رجة-: (أتدرون ما هذه؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذاك حجر ألقي في شفير جهنم لم يصل إلا اليوم له سبعون خريفاً ما وصل إلا اليوم) اللهم صلِّ وسلم على رسول الله.
فسبب حشر الله له أعمى: أنه كان أعمى في هذه الدنيا، كان مبصراً في كل شيء إلا في طاعة الله، أما في دين الله فهو أعمى لا يعرف شيئاً في دين الله ولا يريد دين الله، وإذا قلت له: تعال -يا أخي!- تعلم دين الله، اجلس في مجالس العلم، انتقل من بيتك واركب سيارتك وابحث عن العلم، أين طلبة العلم، أين الندوات، أين الحلقات، اذهب إليها، قال: شغلتونا دعونا نسمر ونمسي، أشغلناه بطاعة الله، يريد أن يعيش أعمى ويموت أعمى، قال الله: وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً [الإسراء:72] .. وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه:124-126].
شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ، أي: فتح الله قلبه للدين، فهو على نور من الله، أينما سار فهو على نور أمامه بين يدي الله عز وجل، لماذا؟ لأنه منشرح الصدر والقلب لله؛ قلبه مفتوح ومشرق ومنور بنور الله: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الزمر:22] إن قاسي القلب الذي لا يلين لذكر الله، الذي تقشعر منه جلود الذين آمنوا ويخشون الله عز وجل، هذا يصبح وقوداً لجهنم -والعياذ بالله-؛ لأن الله يقول: نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6] القلوب القاسية التي ما لانت في الدنيا بطاعة الله وما لانت في الدنيا بذكر الله عز وجل يعذبها الله عز وجل بأن يلينها بالعذاب الشديد، وبالنكال الأكيد، وبالنار السوداء التي تحرق أصحابها؛ لأنهم ما رضوا بطاعة الله في هذه الحياة.
فيا أخي المسلم! لا أحد يعرف ما في قلبك، ولكنك أنت أعلم بنفسك، فإن كان قلبك يلين لذكر الله، ويحب ذكر الله، وأينما سمع بذكر الله ذهب إليه، ولو كان عالماً، لكنه يعرف مجالس العلم وفضيلتها، ويعرف أن الله يباهي بأهلها في السماء، وأن الله تبارك وتعالى ينادي أصحاب مجالس العلم ويقول: (قوموا مغفوراً لكم قد بدلت سيئاتكم حسنات) فهو يحب ذكر الله في الليل والنهار، فهذه علامة الإيمان.
أما إذا كانت الأخرى: القلب قاسٍ، والعين متحجرة، والقلب غافل ولا يريد ذكر الله، فاعلم أن في قلبه مرضاً، وعليه أن يسارع بعلاجه في هذه الدنيا قبل أن يكون العلاج في جهنم، وقبل أن يكون الدمع دماً والأضراس جمراً أعاذنا الله وإياكم من ذلك!
فجزى الله الإخوة الذين هيئوا لنا هذا الاجتماع المبارك خيراً، نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا بما نقول وبما نسمع، وأن يجعله حجةً لنا لا حجةً علينا.
والصلاة التي نعنيها هي الصلاة التي أمرنا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بأدائها كما يجب إذ قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح في صحيح البخاري وصحيح مسلم عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي).
والصلاة: هي أقوال وأعمال ظاهرةٌ تبدأ بالتكبير وتختم بالتسليم، شرعها الله تبارك وتعالى وتعبد الناس بها وفرضها عليهم وسماها صلاة بمعنى: صلة بينه وبين عباده.
ثانياً: أن جميع عبادات الإسلام كلها شرعت والنبي صلى الله عليه وسلم في الأرض يتلقى تشريعها من الله عن طريق الوحي إلا الصلاة؛ فإن الصلاة لما أراد الله أن يشرعها أسرى بنبيه صلى الله عليه وسلم، وما ذاك إلا لعظمها ولجلالة قدرها، قال عز وجل: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء:1] أسرى الله برسوله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم عرج به من المسجد الأقصى إلى السماء حتى بلغ سدرة المنتهى.
ثم شرع الله له الصلاة وأمره بها وفرضها خمسين صلاة، بمعنى: أنها لو بقيت على الفرض الذي فرضه الله لكنا مأمورين أن نصلي في كل (نصف ساعة) صلاة، ولكن بفضل الله ورحمته وبشفقة هذا النبي صلوات الله وسلامه عليه طلب من ربه التخفيف، بعد أن شاور موسى وأخبره وقال: (إن الله قد فرض عليَّ خمسين صلاة، قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فرجع فخفف الله خمساً ثم خمساً ثم خمساً حتى بقيت خمساً، وخفف خمساً وأربعين صلاة؛ فلما وصل إلى موسى قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، قال: يا موسى! قد سألت حتى استحييت من ربي، قال الله عز وجل: إني قضيت وقضائي لا يرد هي خمسٌ في العدد وخمسون في الأجر).
اللهم لك الحمد يا ربي، أي: كان المنطق أنه إذا خفف خمساً وأربعين أو بقى خمساً رحمة من الله يعطينا أجر الخمس وكَثُرَ خير الله وطاب، ولكن الله عز وجل كريم فقد حذف خمساً وأربعين وجعل ثوابها قائماً مع ثواب الخمس وأصبح لك مع الخمس خمسين صلاة، كأنك إذا صليت خمس صلوات تصلي خمسين صلاة.
ففرضها الله عز وجل في السماء وهي خاصية لها تميزت بها عن جميع شرائع الإسلام.
ولهذا لما منع المرتدون الزكاة في عهد أبي بكر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم واستباح دماءهم وأعراضهم وقال: [والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه] فقد اعتبرهم مرتدين عن دين الله؛ لأنهم رفضوا الزكاة، لكن الزكاة تسقط في أحوال، فالذي ليس عنده مال ليس عليه زكاة، والذي عنده مال وما حال عليه الحول ليس فيه زكاة، والذي عنده مال وحال عليه الحول ولكنه لم يبلغ النصاب ليس فيه زكاة، والذي عنده مال وحال عليه الحول وبلغ النصاب لكن لا يملكه فليس عليه زكاة، فالزكاة ركن لكنها تسقط في أحوال.
والصيام ركن يجب على الإنسان في كل عام شهراً، لكن إذا كان الإنسان مريضاً أو على سفر أباح الله له أن يفطر وأن يقضي من أيام أخر، ولكن إذا استمر به المرض وكان مرضاً لا يرجى برؤه فإنه يسقط عليه الصوم ويجب عليه الإطعام إن كان قادراً، فإن لم يستطع الإطعام سقط عنه الصوم والإطعام.
والحج ركن من أركان الدين لكنه يجب بثلاثة شروط: أمن الطريق، ووجود الزاد، ووجود الراحلة، فإذا كان الطريق غير آمن بحيث لو حججت قتلت سقط عنك الحج، وإذا لم يكن عندك زاد يكفيك في سفرك ويكفي أهلك من بعدك حتى تعود وليس عندك راحلة سقط عنك الحج، كما قال تعالى: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران:97] وهكذا كل الشرائع الدينية تسقط في حالات إذا عجز الإنسان عنها.
أما الصلاة فلا تسقط فإن كنت مريضاً تصلي وإن كنت متعافياً تصلي، يقول عمران بن الحصين كما قال عليه الصلاة والسلام: (صل قائماً، فإن لم تستطع -وكنت مريضاً- فقاعداً، فإن لم تستطع -وكنت لا تستطيع حتى أن تجلس من المرض- فعلى جنب، فإن -كنت وأنت على جنب- لم تستطع فأومئ إيماءً بطرفك).
وإذا كنت على غير طهارة فالمطلوب الطهارة؛ لأن الطهارة مفتاح الصلاة، ولكنك إذا لم تستطع الوضوء، كأن تكون في المستشفى وعملت عملية وبطنك مفتوح وثيابك ملطخة ولا تستطيع أن تبدل هذه الثياب المتنجسة، ولا تستطيع أن تتوضأ فصلي في ثيابك، ولو كانت غير طاهرة؛ لأن هذا لا تستطيعه.
وإذا ما كان عندك ماء وما قدرت أن تتوضأ فتيمم، فإن لم تستطع أن تتيمم فصل بغير تيمم ولا وضوء وصلاتك صحيحة.
وإذا كنت على السرير ولا تستطيع أن تحوله إلى القبلة فصل إلى أي وجهه.. فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115] فلا تسقط عنك الصلاة في أي حال من الأحوال في حال المرض.
والبلية والمصيبة أن بعض الناس إذا مرض ترك الصلاة، لماذا؟ قال: أصلي إذا تعافيت، سبحان الله!! وهل تضمن العافية؟ يوم قربت من أيام الامتحان -لأن المرض هذا وسيلة إلى الموت- وأنت تصلي طوال حياتك ويوم جاء المرض الذي يمكن أن تخرج منه فتترك الصلاة على أمل أنك تتعافى؟! من يضمن لك العافية؟ بل صل على أي وجه حتى لو تومئ بطرفك، فالصلاة واجبة ولا تسقط عن الإنسان في حال العافية والمرض.
والصلاة واجبة على الإنسان في حال الإقامة والسفر، في حال السفر يسقط عنك الصوم ويجوز لك أن تفطر وتقضي فيما بعد، لكن الصلاة لا تتركها وتقضي فيما بعد، صلِّ وأنت مقيم وتصلي وأنت مسافر.
ولكن من رحمة الله عز وجل بهذا العبد أن خفف عليه، فإذا كنت مسافراً فبدل أن تقف مرتين في صلاة الظهر والعصر قف مرة وصل الظهر والعصر سواء، وإذا كنت مسافراً وبدل أن تقف مرتين للمغرب والعشاء صل المغرب والعشاء جمع تقديم أو جمع تأخير.
ومن رحمة الله عز وجل أن جعل الصلاة الرباعية التي هي أربع ركعات ركعتين تصلي الظهر والعصر اثنتين والمغرب ثلاثاً ولا تقصرها؛ لأنها وتراً، والعشاء اثنتان، والفجر هي مقصورة في طبيعة الحال.
هذه رحمة من الله تبارك وتعالى، ولكن لا تدع الصلاة في حال السفر ولا في حال الإقامة ولا في حال المرض وكذلك في حال الخوف، أي: القتال، فإذا اشتبكت الجيوش الإسلامية مع جيوش الكفر فإن مبرر الجهاد لإعلاء كلمة الله كافٍ أن يكون الإنسان مشغولاً عن الصلاة بعمل أعظم وهو الجهاد الذي هو ذروة سنام الدين، فكان يمكن أن يكون للإنسان عذر لو أخر الصلاة؛ لكن لا تؤخر الصلاة حتى في الجهاد، كيف أصلي وأنا مجاهد؟ لقد نظم الله عز وجل صلاة الخوف وشرعها في القرآن الكريم: وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ [النساء:102] ثم ذكر الله عز وجل كيفية أداء الصلاة بأن ينقسم الجيش إلى قسمين، وأن يكون لهم إمام، قسم يصلي وقسم يقاتل، والإمام يصلي ركعة ثم ينتظر، وهؤلاء الذين صلوا يتمون الركعة الثانية لوحدهم ويسلمون، والإمام لا يزال واقفاً في الركعة الأولى، ثم يأتي القسم الثاني فيدخلون معه ثم يصلي الإمام الركعة الثانية وهم يصلون الركعة الأولى، ثم ينصرف ويقومون هم ليقضوا ركعتهم الثانية، هذه صلاة الخوف والجيوش محتدمة والسيوف مصلتة ولكن لابد من الصلاة، فهذه صلاة فكيف تضيعون الصلاة؟ وهل تنصرون إلا بالصلاة؟ إن الصلاة هي وسيلة النصر على الأعداء فكيف نضيع سلاحنا؟! كيف نضيع وسائل نصرنا؟ فمن أجل أن نقاتل أعداء الله، لا بد أن نصلي.
فإذا اشتبكت الجيوش فليس هناك مجال، فيقسم الناس صفاً صفاً أي: ينتظر أو يقاتل، قال تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ [البقرة:239] أي: اختلط الحابل بالنابل: فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً [البقرة:239] أي: صلوا وأنتم وقوف على أرجلكم، أو ركباناً على خيولكم وعلى جمالكم وعلى -بالمفهوم الحديث- سياراتكم ودباباتكم، المهم أن تصلوا، لا يمر عليك وقت الصلاة وتتركها وتقول: أقاتل. لا إله إلا الله! لا إله إلا الله!
فإبراهيم عليه السلام لما أتى بإسماعيل وأمه إلى مكة قال: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ [إبراهيم:37] وكان يدعو ويقول: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ [إبراهيم:40].
وموسى عليه السلام لما كان في الليلة التي كان فيها مسافراً وعائداً من أرض مدين إلى أرض مصر، وكان في الطور ومعه زوجته وكانت حاملاً، وفي ساعات المخاض أي: النفاس وكانت ليلةً باردةً مطيرةً مظلمة، أي: في حالة لا يعلمها إلا الله: آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً [القصص:29] أي: من جنب الجبل وجد ناراً: فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً [طه:10] يريد أن يدفئ أهله: لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ [النمل:7].. فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:11-14].
أول شيء: اعبدني وأقم الصلاة، ذكر الصلاة مع العبادة مع الأمر بالتوحيد: فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى [طه:14-15] وفي سورة يونس يقول الله عز وجل: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [يونس:87] أوحى الله إليهم إذا بنوا بيوتهم في مصر أن يجعلوا بيوتهم إلى القبلة، أي: إلى بيت المقدس ، وماذا؟! وأقيموا الصلاة، اجعل بيتك إلى القبلة وأقم الصلاة.
خلق الناس على أربعة أصناف: الصنف الأول: من غير أم ولا أب وهو آدم، قال الله: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59] فالله يخلق ما يشاء ويختار، فخلق آدم حيث قبض قبضةً من التراب، ونفخ فيه من روحه من غير أم ولا أب لا حمل في بطن ولا خرج من صلب، وإنما الله عز وجل قبضه من التراب وخلقه ثم نفخ فيه من الروح وصار بشراً سوياً.
الصنف الثاني: من أب بلا أم، وهي حواء خلقها الله من ضلع آدم الأيسر؛ ولهذا المرأة خلقت من ضلع أعوج وما في الدنيا امرأة مستقيمة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنهن خلقن من ضلع، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته -وكسره طلاقها- وإن استمتعت به استمتعت به على عوج) الذي يريد امرأة مستقيمة ما فيها عوج في الجنة، ولهذا أعوج ما في المرأة أعلاها أي: لسانها: (فاستمتعوا بهن على عوجهن) هكذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا صنف خلقه الله عز وجل من أبٍ بلا أم وهي حواء.
الصنف الثالث: خلقه الله من أم بلا أب وهو عيسى عليه السلام، بعث الله جبريل فنفخ في جيب درعها وبعدها حملت لما جاءها الملك قالت: إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً * فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً [مريم:18-23] لأنها من بيت الطهر والعفاف، من بيت المروءة والشرف، من بيت العزة والطهارة والنقاء.
فتقول: ليتني مت قبل هذا اليوم وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا [مريم:23-24] لكي يطمئنها أن القضية بأمر الله ليس فيها عيب أبداً، ولا فيها مخالفة ولكنها سنة الله الجارية فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً [مريم:24-26]، وكان صومهم الإمساك عن الكلام والطعام والشراب والنكاح، كان الذي يتكلم بكلمة يفطر ويقضي ذلك اليوم.
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ [مريم:27] فلما رأوه معها وهم يعرفونها أنها طاهرة، قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً [مريم:27] من أين جاء هذا؟ لقد جئت شيئاً عظيماً، جئت بمصيبة كبيرة، كيف هذا؟!! يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً * يَا أُخْتَ هَارُونَ [مريم:27-28] دعوها وذكروها بنسبها وأخيها العابد الذي كان عابداً في بيت المقدس مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً [مريم:28] يقولون: هذا ليس عملك أنت، كيف فعلت هذا؟ وهذا يتعارض مع الطهر والعفاف ومع النقاء والفضائل التي كنت تعيشين عليها في بيتك مع أمك وأبيك ومع أخيك هارون، يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ [مريم:28-29] بدون كلام قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً [مريم:29].
فترك الثدي وكان يرضع من ثديها وتكلم وقال لهم: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مريم:30] وفي هذه الكلمة يقول العلماء: إن فيها نسفاً لعقيدة النصارى، الآن في العالم أكثر من (ألف مليون) نصراني يعتقدون أن عيسى ابن الله ولكنه يقول هو: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مريم:30] وهو أعرف الناس بنفسه، فكذبوا، والله يقول: مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [مريم:35] فهنا قال: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ [مريم:30-31].
هذه وصية الله لعيسى عليه السلام وهي الشاهد من الحديث: وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [مريم:31-36].
الصنف الرابع: وهو من خلقوا من أم وأب وهم سائر البشرية، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى [الحجرات:13]
وفي حديث معاذ بن جبل لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار؟ قال: تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت الحرام إن استطعت إليه سبيلا، ثم قال: ألا أدلك على رأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: الصوم جنة) الصوم وقاية؛ لأنه يحفظك من كل معصية، والصائم يحفظ من معصية الله، فكيف يخرب ويبني في نفس الوقت. (الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل ثم قرأ: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:16-17] ثم قال: ألا أدلك على ملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: كف عليك هذا، قال: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! قال: ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم) فلا يكب الواحد في النار إلا لسانه، اللسان هو وسيلة النجاة وهو وسيلة الهلاك. لا حول ولا قوة إلا بالله!
فجاءت الصلاة لتكون ذات منزلة عظيمة في دين الله حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وجعلت قرة عيني في الصلاة) قال: (حبب إليَّ من دنياكم الطيب ) صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه طيب.
والطيب يرفع النفس ويبارك الروح، ولذا قال أهل العلم: لو أنفقت ثلث مالك في الطيب لم تعد مسرفاً، أي: لو أن راتبك (ستة آلاف ريال) وأنت شهرياً تصرف (ألفي ريال) في الطيب لم تعد مسرفاً، لماذا؟ لأن الطيب يحبه الله تبارك وتعالى، والملائكة تحب الطيب، والناس يحبون الطيب، فمن كان طيباً في ريحه فهو طيب عند الله في كل أموره.
لكن اليوم أكثر ما ينفق الناس أموالهم في الدخان في طيب الشيطان، ولا يمكن أن يغلق الباكت إلا والباكت وراءه، بل بعضهم يشتري (كراتين) لأنه يخاف أن تأتي حروب وتصير أزمة في الدخان، فهو يكنزه مثلما يكنز البر والحب -لا حول ولا قوة إلا بالله!- ولو حسب كم يشتري كل يوم يشرب علبتين، والعلبتان (بثمانية ريالات) أو (بعشرة ريالات) بحسب نوعية الدخان، أي: يشتري في الشهر (بثلاثمائة ريال) أي: في السنة (ثلاثة آلاف وستمائة ريال) في الدخان، ويقول بعضهم: إن ريال الدخان معوض، فلو جاءه فقير عند الباب في الصباح وأعطاه ريالاً قلنا: كثر الله خيرك، لكن لو جاءه في اليوم الثاني: ويريد ريالاً، قال: ماذا أتى بك؟ فبالأمس أعطيتك ريالاً وتمر عليَّ كل يوم، ولكن الدخان كل يوم (عشرة) وليس فيها كلام ولا تبرم أبداً ولا ضجر، لماذا؟! لأنها طاعة للشيطان ومعصية لله تبارك وتعالى.
بينما كم ينفق الإنسان في العود؟ كم ينفق الإنسان في الطيب؟ قليل جداً، فرسول الله صلى الله عليه وسلم طيب ويحب الطيب يقول: (حبب إليَّ من دنياكم الطيب والنساء -أي: الحلال-، وجعلت قرة عيني في الصلاة) صلوات الله وسلامه عليه، ويقول وهو يلفظ أنفاسه في آخر لحظة من لحظات حياته: (الله الله في الصلاة، الله الله في الصلاة، الله الله في الصلاة، وما ملكت أيمانكم) ولما نزل قول الله عز وجل: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ [مريم:59] خلف أي: نشء جديد، أي: أناس يأتون وأبرز صفاتهم أنهم لا يحبون الصلاة، وهذا موجود الآن، إلا من رحم الله.
ما من بيت إلا وفيه معركة بين الأب وبين الأولاد في الصلاة، الأب يريد طاعة الله والأولاد لا يريدونها أبداً، إذا دعاهم إلى الصلاة كأنه يضرب وجوههم بحديد، فلا يريدون الصلاة: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ [مريم:59] أما المباراة يذهب من قبل العصر ينتظرها يأتي لكي يلعب كرة، والكرة أتعب من الصلاة، لكنها صلاة إبليس وطاعة للشيطان، لكن الصلاة ثقيلة عندهم: وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً [مريم:59] لما نزلت هذه الآية قال محمد صلى الله عليه وسلم لجبريل: (أو تضيع أمتي من بعدي الصلاة؟!) أيعقل أن يُضيع مسلم الصلاة؟ (قال: يأتي أقوام في آخر الزمان يبيع أحدهم دينه بعرض من الدنيا، درهم عنده خير من صلاة)، فالآن تركوها بلا درهم ولا ريال ولا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون!
أما تارك الصلاة فإنه يقتل ولكنه لا يقتل حداً بل يقتل ردةً؛ لأنه كافر مرتد عن الدين، وتنتفي عنه أحكام المسلمين، فلا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، وإذا دفن لا يوجه إلى القبلة؛ لأنه ليس من أهل القبلة، أما المسلم إذا مات يوجهونه إلى القبلة، لماذا؟ ما معنى القبلة بالذات؟! أنا رأيت قبور اليهود نظرتها في نجران ليسوا موجهين لقبلة قبورهم منظمة تجاه القبلة، لكن أهل الإسلام قبورهم كلها متجهة إلى الله؛ لأنهم من أهل القبلة.
فتارك الصلاة ليس له قبلة، إذاً ماذا نصنع به؟ قالوا: يربط كما تربط الدابة، إذا مات حمار في القرية هل يقبرونه ويكفنونه ويصلون عليه؟ والله إن تارك الصلاة ألعن من الحمار، يوم القيامة يتمنى أن يكون حماراً يوم يقول الله للخلائق كلها هذه الحيوانات تكون تراباً، فيقول: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً [النبأ:40] ليته كان ثوراً أو بقرة أو حماراً، ويقول الله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ [محمد:12]، ويقول عز وجل: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44] فالحمار يسحب حتى تأكله الذئاب في طرف الوادي، ولكن الإنسان قالوا: يسحب ولا يحمل على رقبة، لماذا تحمله وهو عدو الله كافر؟! يسحب ولكن لا يترك للذئاب تأكله، لماذا؟ قالوا: لأن الذئاب لو أكلته لشبقت؛ لأن طعم لحم الإنسان ليس كطعم الحمار فإنه لذيذ، فإذا ذاقته الذئاب والسباع لفتكت بالناس واعتدت عليهم وأصابها الشبق، فلا يدفن في الأرض بل يحفر له ويوارى جسده ويكب على وجهه، فلا يوجه إلى قبلة ولكن يكب على وجهه. والعياذ بالله!
فلا ينبغي لمسلم أن يعلم هذا الأمر ويترك عرضه تحت كافر أو مرتد عن دين الله عز وجل، فما في الدين شيء تركه كفر على الإطلاق إلا الصلاة.
والذي يتأمل القرآن كله يجد أن الصلاة تأتي في أول صفات أهل الإيمان، يقول الله في أول سورة البقرة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة [البقرة:1-3] هذه صفات أهل الإيمان هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2] أي: القرآن هداية لأهل التقوى، فمن هم؟ قال الله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:3].
وقال عز وجل في سورة التوبة: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [التوبة:71].
وقال عز وجل في أول سورة الأنفال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2] و(إنما) يسميها العلماء أداة حصر، يعني: تحصر الإيمان في أهل هذه الصفات والذي ليس فيه هذه الصفات فليس من أهل الإيمان فالله يقول: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2] أي: خافت وارتعدت من الله: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:2-4].
ويقول الله عز وجل في أول سورة المؤمنون: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2] ثم ذكر الصفات كلها وقال في النهاية: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون:9-11].
فأكثر الناس لا يصلي الفجر ولا يصلي العصر، وربما يصلي المغرب والعشاء لكن الفجر تجد المسجد الذي فيه صفان ترى فيه (نصف صف) والبقية أين هم؟ كيف يعبدون الله في المغرب ويعصونه في الفجر؟ فهل الصلاة على مرادهم، أم على مراد الله؟! كيف تطيع الله في صلاة وتضيع الصلاة الثانية؟! لقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن: (أثقل الصلوات على المنافقين صلاتي العشاء والفجر، ولو يعلمون ما فيهما من الأجر لأتوهما ولو حبوا، ولو يعلم أحدهم أنه يجد عرقاً حسناً أو مرماتين حسنتين) المرماتان أي: الضلعين، تلك الأيام أيام الفقر لو يدرون أن هناك لحماً يقسم ويعطى لكل واحد والله لا يتخلف عن الصلاة أحداً (لحضر الصلاة).
يقول عليه الصلاة والسلام: (فرق ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يشهدون الفجر) وهذا الحديث أخبرنا عنه النبي صلى الله عليه وسلم وجعله مقياساً نقيس به الإيمان في صدورنا، لا تسأل هل أنت مؤمن، أم منافق؟ ولكن اسأل نفسك عن الفجر، فإن كنت من أهلها باستمرار فاعلم والله أنك مؤمن، وأن هذه من علامة الإيمان، وإن كنت لا تصلي الفجر ولو حافظت على الصلوات كلها لكنك لم تصل الفجر فاعلم أن هذه علامة النفاق، كما في الحديث: (أثقل الصلوات على المنافقين صلاتي العشاء والفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا).
والله لو صدر أمر من المسئولين وقالوا فيه: إننا لاحظنا أن الناس تأخروا عن صلاة الفجر، ومن أجل ذلك قررنا صرف مكافأة تشجيعية من أجل حث الناس ودفعهم إلى أداء صلاة الفجر، وقد صدر الأمر بتخصيص عشرة ريالات لكل مصل في المسجد، هل سينام أحد عن صلاة الفجر؟! عشرة ريالات للكبير، وعشرة ريالات للولد، ومثلها للمرأة، وللبنت، والله لن تسعهم مساجدهم، وسوف يبنون مع هذا المسجد مسجداً ويجعلون فيه جزءاً للنساء، ولن يتأخر شخص، ولو أن شخصاً تأخر سيلوم نفسه ويعض أصابعه؛ لأن البيت إذا فيه ستة أشخاص وصلوا وأعطوا ستين ريالاً تأتي بها مقاضي ذاك اليوم كله، وتوفر الراتب.
ولو قام يصلي ورجع إلى البيت وولده ما زال نائماً وقد أقامه هل سيسكت؟ بل سوف يأخذ العصا ويضربه ويقول: يا قليل الخير، ليس فيك رجولة، الناس كلهم بالخارج يصلون في المسجد، والله إن ولد فلان وولد فلان وولد فلان كلهم يصلون إلا أنت يا قليل الخير لا تصلي، إلى الآن وأنت نائم؟!!
لكنه يقوم يصلي ويمد البطانية على ولده، ويقول: إنه مسكين كان سهران بالأمس وكان يقرأ الكتب، فإذا جاء وقت المدرسة ضربه وأقامه، ولا يقيمه للصلاة، وإذا قيل له: أقمه، قال: أخاف أن أنفره وأعقده من الصلاة، لماذا لا تعقده من المدرسة؟ لكن الصلاة تجعله نائماً، لماذا؟ لأنه ليس في قلبك خوف من الله، ولا حرص على طاعة الله؛ لأن الصلاة هانت عليك، ولهذا تقوم بها كيفما كان، أما ولدك فلا يشغلك أمره، وأما الدنيا لما حلَّت في قلبك أهمك أمر ولدك فيها، ولو تأخر عن المدرسة يوماً واحداً لضربته وعاقبته.
يقول الله في الصلاة: إِلاَّ الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ [المعارج:22-23] دائمون، ثم ذكر الصفات كلها وقال في آخر الآيات: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ * فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ * عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ عِزِينَ * أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ * كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ * فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي يُوعَدُونَ * يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [المعارج:34-43] الأجداث أي: القبور، سراعاً: هاربين إلى الله: خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [المعارج:44] ذلة: ذلة الكفر والمعاصي والذنوب.
فيا إخواني في الله! الصلاةُ الصلاة، الصلاة عماد الدين، وإنه والله من حفظها حفظه الله وحفظ له كل خير في الدنيا والآخرة، ومن ضيعها فوالله إنه لما سواها أضيع.
وقد ورد في بعض الآثار: [أن تارك الصلاة يموت نصرانياً ويبعث يهودياً، وأنه تنزل عليه في كل ساعةٍ ألف ألف لعنة وألف ألف سخط، وأنه إذا رفع اللقمة إلى فمه قالت له اللقمة: لعنك الله يا عدو الله تأكل من رزق الله ولا تؤدي حق الله. وأنه إذا خرج من البيت قال له البيت: لا ردك الله من سفرك، ولا خلفك في أثرك، وأن الأرض التي يمشي عليها تلعنه، وأن كل شيء في السماء والأرض يلعنه] فالله قد لعنه؛ لأنه قد قطع الصلة بينه وبين الله عز وجل.
[ثانياً: يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب. ثالثاً: يمر على الصراط كالبرق الخاطف. رابعاً: يعطى كتابه بيمينه. خامساً: يمد له في قبره مد بصره
أيها الإخوة: إنه والله ما حفظت نعم الله بأعظم من طاعة الله عز وجل، ولا استجلبت نعم الله بأحسن من طاعة الله، ولا نزل البلاء ولا المصائب ولا العقوبات إلا بأسباب معصية الله عز وجل، ونحن في هذا الزمن -والحمد لله على كل حال- نعيش في نعمة ليس فيها أحد، والذي عاش في الفترة الماضية من قبل (30) أو (40) سنة ثم يقيس ما نحن فيه من النعم على ما كان عليه الناس من قبل يعاني ويخاف ولا يفرح بهذه النعمة، الناس في فرحة وهو في خوف في قلبه منها مثل النار؛ لأنها ليست دائمة، ولا عرفها الآباء والأجداد، ويرى أنها لا تقابل بالطاعات، ولله في الكون سنة جارية لا تتبدل أنه فلا يمكن أن يجمع بين نعمة ومعصية.
(النعمة + معصية = عذاب) لكن (نعمة + طاعة = زيادة) والله يقول: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7] فنحن نخاف على هذه النعمة التي نحن فيها؛ أمن وأمان، وعافية في الأبدان، وأرزاق تأتي من كل مكان، ولكننا نقابلها بالمعاصي، وما من بيت إلا وفيه معصية، هذه المعصية سواءً كانت مسموعة أو منظورة، أو ترك طاعة أو مخالفة لأمر الله عز وجل، والله يقول في الحديث القدسي: (أنا والإنس والجن في خبر عظيم، أخلقهم ويعبدون غيري، أرزقهم ويشكرون سواي، خيري إليهم نازل وشرهم إليَّ صاعد، أتحبب إليهم بالنعم ويتبغضون إليَّ بالمعاصي).
لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ [سبأ:15] آية وعبرة لمن يعتبر لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ [سبأ:15].
أقاموا سد مأرب وضربوه بالرصاص، أي: كان اللحام الذي بين الحجارة وبين الأخرى لم يكن طيناً ولا اسمنتاً ولا مسلحاً بل كان رصاصاً، ولما أراد الله تبارك وتعالى أن يدمرهم بهذا السد؛ لأنهم عصوا وخالفوا الأمر، قال: جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ [سبأ:15] كانت الجنان لما أوقفوا السيل وسدوه ورجع الماء، وأجروا الجداول والأخاديد من الجنب وسقوا به الأرض جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ [سبأ:15] فكانت المرأة تدخل في البستان والمكتل على رأسها، ويداها مسبلتان وتخرج من الطرف الآخر فإذا المكتل قد امتلأ من كل شيء تمد يدها على ثمرة واحدة، جنان دانية، كان الطائر إذا دخل لا يعرف كيف يخرج من تشابك الأغصان جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [سبأ:15] فالأرض طيبة والخيرات متوفرة والرب غفور، فماذا حدث؟!
أعرضوا، ولما أعرضوا عذبهم الله، قال: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ [سبأ:16] سماه الله سيل العرم؛ لأنه اقتلع كل شيء، سلط الله عليهم أولاً: جندياً من جنوده، من أضعف جنوده وهو الفأر الجرب؛ والجرب لا يأكل إلا الحب ويقضم الملابس، لكنَّ الله سلطه ليأكل الرصاص والحيود، فأكل السد ونخره، ثم أرسل الله الماء ليعذبهم به فكان يصرم السد مثلما يصرم السيف الزرع صرماً، والماء نعمة ولكن لما كان فيه غضب الله صار عذاباً.
كما صار قبل سنوات، من الذي منكم رأى وادي ضلع يوم أن نزل بالوادي ماء وليس ذلك ماء، كان إذا عرض على العمود الكبير وقد رأيت بعض الأعمدة فيه من الأسياخ والسيخ (32) مليمتر، وفيه أكثر من (25 سيخاً)، ولكن الماء يقصه، ماء يقص هذا؟ إن الماء رحمة لكنه فيه عذاب يأخذ الجسر من طرفه إلى أن يضعه على طرف الجبال، هذا لا يمكن أن يكون ماءً لا بد أن يكون فيه عذاب.
فالله لما أرسل عليهم سيل العرم اقتلع هذا السد ودمرهم وحروثهم وزروعهم وبيوتهم وشردهم في الأرض، ثم قال: وَبَدَّلْنَاهُمْ [سبأ:16] بدل ما كانت النعمة والبساتين والأنهار والآبار والخيرات، فلا يعملون ولا يزرعون ولا يبيعون ولا يشترون وإنما كان عليهم أن يشكروا ويعبدوا ويأكلوا من خيرات الله عز وجل، ولكنهم بدلوا وفجروا وكفروا وفسقوا وعملوا المعاصي فدمر الله عليهم الأرض: وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ [سبأ:16] أعطاهم الله بدل البساتين هذه بستانين لكن ما هي أشجارها؟! قال: ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ [سبأ:16] الخمط: الطلح، والأثل: الأثل الطويل الذي ليس فيه ولا ثمرة، والناس لا يأكلون الطلح ولا الأثل سوف يموتون، وحتى لا يموتوا أعطاهم الله السدر لكنه قليل وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ [سبأ:16] لكي يقتاتوا، ولا يموت السدر ففيه النبق، هل تعرفون النبق؟! الثمر الذي كان الناس ينزلونه ويأتون به ويكيلونه مثلما يكيلون الهيل، وكان يؤكل وقد رأيته في السوق قبل سنوات واشتريت منه، وأنا كنت أعرفه أيام الجوع وكان في طعمه لذة ويوم ذهبت للبيت وبدأت آكله وإذا به بلا طعم؛ لأن الجوع هو الذي جعل له طعماً في تلك الأيام، وإلا فهو كالعود، فقد رميناه، قلت لعيالي: كلوا فهذه كانت فاكهتنا قبل زمن، وكانت عبارة عن البرتقال في ذاك الزمان، قالوا: لا نريده، وإذا بهم رموه، كان يأكلونه الأولون لكي يسد جوعهم، تسد شيئاً في بطن الإنسان، قال الله: وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ [سبأ:16-17].
فنحن والله -يا إخواني- نخاف على هذه النعمة التي نحن فيها، وانظروا إلى مزارعنا يابسة، ليس فيها حتى قطرة ماء ولا زروع ولا شيء، وماذا كان آباؤنا وأجدادنا يعتمدون عليه من قبل؟ على الله ثم على الزرع، لكن هل أحسسنا الآن بجوع حين يبس الزرع؟! لا، ادخل السوق المركزي في كل قرية، حتى على الطرقات ادخل من الطرف تجد كل شيء، تجد اللحوم والأسماك والدجاج والطيور، وتجد الفواكه والمعلبات والحبوب، وجميع ثمار الأرض موجودة وتشتريها كيفما تشاء، والله ينعم عليك ويقول: كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [سبأ:15] لكننا إذا أعرضنا فوالله إن عذاب الله وسنة الله عز وجل واحدة لا تتبدل.
ويضرب الله مثلاً في القرآن فيقول في سورة النحل: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً [النحل:112] يقول العلماء: إنها كانت آمنة مطمئنة؛ لأنها استجابت لداعي الله وطبقت شريعة الله؛ فأعطاها الله كرامتين: الأمن والاطمئنان، الأمن: هو أمن الأوطان، والاطمئنان: هو اطمئنان القلوب، فقد يكون بعض الناس آمنين، أي: لا يوجد خوف ولا لصوص لكن ليس هناك اطمئنان في النفس، بل يوجد قلق وحيرة واضطراب، فلا ينام الليل ولا يشعر بأنه مرتاح، لماذا؟ لأن هناك أمناً في الوطن والبلد، وهناك قلق في النفس بسبب الذنوب والمعاصي، فالله عز وجل كافأ هؤلاء الرجال لما آمنوا وصدقوا أن رزقهم الأمان والاطمئنان: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ [النحل:112].
مثلما هو عندنا اليوم تجلب لنا الأرزاق وأهلها في حاجتها والله، وما يشبعون منها، كما كنا من قبل كنا ننتج الحب فنأخذ الجيد لنبيعه ونأخذ الغثاء والباقي نأخذه ونأكله وذاك نكنزه لكي نبيعه في السوق، ونشتري بقيمته كسوة لعيالنا، أو أشياء أخرى، فهم يأخذون أحسن ثمارهم ويعلبونها وتأتيك إلى بلدك تأكلها، وهم يأخذون الرديء.
يقول الله عز وجل في الحديث القدسي: (إني أمدهم حتى يرصعونه، ثم أمنعه حتى يشتهونه)، فهذا الأرز الذي نرميه في القمامة ما كان الناس قبلنا يعرفونه، يحدثني والدي يقول: والله كان هذا الأرز عبارة عن دواء إذا مرض أحدنا في أبها قالوا: ابحثوا له عن فنجان أرز عند آل بن عزيز أو عند آل ابن مسمار أو عند الخبارية من أهل أبها ابحثوا له عن فنجان أرز، وما كان في بلادنا أرز، ما كان عندنا إلا الطلح والعرعر، لكن الله رزقنا ثمرات كل شيء، فبدل أن تشكر هذه النعمة -يا إخواني- بدأت المعاصي في الناس، قال الله عز وجل: فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112] لباس الجوع -أعاذنا الله وإياكم من الجوع- يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإنه بئس الضجيع) ويقول: (كاد الجوع أن يكون كفرا).
من هو الذي في بيته إبرة؟ إذا تمزق الزرار من الثوب هل ترد الزرار؟! لا. بل يرمي، انقطع ماذا أعمل به؟ ومن هو الذي يرقع ثوبه إذا تمزق؟ لا يوجد شخص يرقع، بل والله يرمونها وهي جديدة وما تمزق فيها شيء، لكن يقول: قد لبسته كثيراً أريد غيره، وبعضهم تدخل دولابه ترى أمامك (20) بدلة و(20) ثوباً من كل شكل، وقد كان الناس من قبل ليس عندهم هذا الشيء، فمفارشنا في الماضي كانت خرائق معلقة لا نفرشها إلا في العيد فقط، وليست هي معلقة دائماً، فإذا أتى الضيف يرقد عليها، وإذا وجد ملحف، فلا تجد فيه شعرة ويفرشونه على الجميع، ثم يأخذون الملحف كلهم ولا يوجد لكل واحد فراش خاص وغرفة نوم يتقلب من طرف الغرفة إلى طرفها (4م × 3م) هذه نعمة أم ليست بنعمة؟! وبعد هذا كله موكيت وكنبات (بترينات) اسفنجات وقطنيات من كل ما لذ وطاب -فنحمد الله الذي لا إله إلا هو- أما المآكل والمشارب فحدث ولا حرج، فأنتم تعرفون ذلك.
يا نعمة الله حلي في بوادينا وجاورينا ولا تغدين من داري |
أجابت النعمة إن الشكر يلزمني وإن باب المعاصي باب إنداري |
والله تبارك وتعالى يقول: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56] لقد أصلح الله الأرض بالرسالات والأديان وأفسدها الناس بالمعاصي والعصيان، ولكن الله له سنة، يقول: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102] وانظروا إلى من سواكم فوقكم في بلاد الحرمين إلى الذين في الشمال وفي الجنوب، والذين في الشرق والغرب، وكل دولة فيها حرب وضرب وفقر وحروب وأوبئة وكوارث، والله حاميكم في هذا البلد حمانا بماذا؟ هل لأننا صنف ونحن غير الناس؟! لا حمانا ببركة الدين على آثار ما عندنا من الدين ولكن نخاف يا إخواني نغير، والله يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11] ويقول الله في الحديث القدسي: (وعزتي وجلالي ما تغير عبد من عبادي مما أكره إلى ما أحب إلا تغيرت له مما يكره إلى ما يحب، وعزتي وجلالي ما تغير عبد من عبادي مما أحب إلى ما أكره -يعني من المعاصي- إلا تغيرت له مما يحب إلى ما يكره) وإذا عذب الله الناس في الدنيا فإنه يعذبهم عذاباً عاجلاً: وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [الزمر:26].
وتعرفون القصة التي ذكرها الله عز وجل في سورة القلم عن أصحاب الجنة وأصحاب البستان، يقول الله: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ [القلم:17] أي: اختبرناهم: كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ [القلم:17] هؤلاء مجموعة من الأولاد كان أبوهم صالحاً وكان لهم بستاناً، وكان هذا الأب الصالح إذا خرجت غلة بستانه وزروعه قسمها ثلاثة أقسام: قسم يأكله هو وأولاده، وقسم يتصدق به لله، وقسم يرده في المزرعة، ولكن أولاده لا يريدون هذه القسمة، فحين مات أبوهم اجتمعوا وقالوا: إن أبانا ضيع رزقنا، لماذا يعطي الفقراء الثلث والله هذا حقنا ولا يخرج منه حبة واحدة، فاجتمعوا في الليل، إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا [القلم:17] كلهم حلفوا: لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ [القلم:17] أي: في الصباح وَلا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ * فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ [القلم:18-21] قاموا كلهم يتنادون قبل الفجر وقالوا: نحصده مبكراً أن يأتي الفقراء، أي: إذا تأخرنا سيدخلون علينا في البستان: أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ [القلم:24] لا يدخل شخص فقير: وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ [القلم:25] لكنهم تمالوا على الفسالة فالله يسري عليها بالليل، قال الله: فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ [القلم:19-20] ما صرمها الله لهم لكي يكفيهم حتى يروها جاهزة، بل صرمها وأعدمها وأحرقها، حتى أنهم ما عرفوا بلادهم: فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ [القلم:26] نحن ضائعون ليست هذه بلادنا، أين مزرعتنا؟! أين بستاننا؟! أين ضعنا؟!: قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ [القلم:28] اذكروا الله: قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ [القلم:29] .. عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْراً مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ [القلم:32] ثم قال بعدها: كَذَلِكَ الْعَذَابُ [القلم:33] أي: هذا عذاب الدنيا: وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [القلم:33].
فنحن لا نخشى أن تزول منا هذه النعم، وإذا زالت فوالله إنها مصيبة، والله إنه يموت أكثر الناس ويؤلمه الجوع ولا أحد يرى شيئاً من هذه الفواكه ومن هذه الخيرات، إن أكثر الناس يموتون جوعاً، ولكن نخشى أن ينزل العذاب وتزول النعم وعذاب آخر وهو عذاب الله في الآخرة، ولكن إذا أردنا النعيم الذي بين أيدينا يكثر يزيد والذي ينتظرنا عند الله عز وجل يزيد فلنتمسك بطاعة الله؛ لأننا إذا تمسكنا بطاعة الله تبارك وتعالى أعزنا الله في الدنيا والآخرة، يقول الله تبارك وتعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ [فاطر:10].
وأوصيكم بالمحافظة على هذه الندوة وتشجيعها ولمَّ أبناءكم حولها.
لقد كان في هذه الديار المباركة في الماضي ندوات وليست ليلة في الأسبوع، لا. فقد كان آباؤكم يجلسون من المغرب إلى العشاء كل ليلة ولهم درس دين، ولا يتأخر أحد، وأين كان يذهب أحدهم في الصباح؟ كان من الصباح إلى المغرب وهو فلاح يرعى أو يعمل أو يحطب، لا يصل بيته إلا وهو تعبان جداً، لكنه يحب الله ورسوله؛ ولذلك فإنه يأتي يذكر الله عز وجل، وبعد العشاء أين يذهب؟ يذهب البيت فلا يوجد سراج ولا طعام ولا نار ولا دفئ ولا فراش، وينظر إلى امرأته، فلعل امرأته مريضة وينظر إلى ولده فإذا هو مريض، لكن لا -يا أخي- اليوم تنام طوال يومك، وأنت نائم يوم الجمعة، هل عمل أحد منا اليوم في الزروع؟! هل نجمع الحجارة والصخور اليوم؟! لا. وينظر كل واحد منا إلى خيراته، وهو في نعمة عظيمة حتى يأتي المغرب.
-يا أخي- اقعد من المغرب إلى العشاء في ذكر الله، اذكر الله الذي لا إله إلا هو على هذه النعمة، ثم بعد العشاء سوف ترجع وتدخل بيتك وهو مضيء، كان الأولون ليس معهم نور ونورهم سراج إما لمبة أو فانوس أو عود ضوح يضوحون به حتى يحين وقت العشاء ثم يرمونه، لكنك أنت تدخل تلمس الجدار فإذا هوا يسرج كالشمس الشارقة، وإذا أردت أن تغتسل تذهب تحمي الماء بل تفتح الصنبور والحنفية فإذا به يصب لك ماءً حاراً، وهذا أمر لم يعرفه آباؤنا وأجدادنا السابقون.
والآن تتوضأ في الليل أو تغتسل ولا تحمي ولا تبرد، وبعدها غسلت ودخلت على زوجتك فإذا بها تنعم بالصحة؛ لأن الأولين كانوا يمرضون ولا يوجد مستشفيات، كان الشخص منهم يمرض ويظل يتعافى دون أن يجد العلاج، أو يسافرون به، أما الآن ولو كان صداعاً، قال: أعطوه (إسبرين) أو (بندول)، قالوا: صحة، أي: لم يبق مرض الآن في قريتكم هذه من طرفها إلى طرفها، لو فتشناها بيتاً بيتاً لا يوجد مريضاً -والحمد لله- وكان الناس سابقاً، وما من بيت إلا وفيه مريض ومعلول، لكنك تدخل غرفتك تريد أن تنام وإذا بأولادك -ما شاء الله- كلهم ينعمون بالصحة، وبعدها تفتح زوجتك الطعام وتأتيك بالسفرة والخيرات.
فهل أنت أولى بالجلسة مرة في الأسبوع؟! أم ذاك الذي يجلس كل يوم من بعد المغرب إلى العشاء على كتاب الله، وعلى ماذا يقرأ، هل على الكهرباء؟! لا، يقرأ على لمبة، وبعدها كانت المصاحف في ذلك الزمان ليست مثل مصاحفنا هذه -ما شاء الله- الحروف واضحة، وإنما كانت مصاحف مكتوبة بخط اليد وممزقة ولكن قلوبهم كانت معلقة بالله تبارك وتعالى.
فنحن -يا إخواني- كل شيء أقامه الله علينا حجة، ولكن ينبغي علينا أن نحرص، وأنا أعتقد -إن شاء الله- أنكم لو حافظتم على هذه الندوة باستمرار كل جمعه واخترتم في كل جمعة موضوعاً علمياً، نريدها مواعظ عائمة، يبدأ الإخوة بدروس منهجية؛ يبدءون في العقيدة، ثم العبادة، ثم في السلوك والمعاملات، فإن الله ينور بصائركم ويربي أبناءكم على الخير؛ لأن أولادكم إذا دخلوا وسمعوا الدين حفتهم الملائكة، فالعلم في المساجد، علم المدارس والكليات والجامعات علم لكنه ليس فيه بركة؛ لأنه علم من أجل الشهادة، ولهذا الطالب يخرج من صالة الامتحان، وقد نسى ما حفظه، لكن العلم المبارك هو علم المساجد؛ لأنها مساجد وأماكن النور، والملائكة تحفكم، والله عز وجل يذكركم فيمن عنده، ويباهي بكم في الملأ الأعلى.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل هذا الاجتماع اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وألا يبقي فينا ولا فيكم شقياً ولا محروماً، وأن يجعلنا وإياكم من الشاكرين لنعمه المعترفين بها لله تبارك وتعالى، وأن يحفظنا وإياكم من كل سوء في الدنيا والآخرة، إنه على كل شيء قدير، والله أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر