إسلام ويب

ميزانية نهاية العامللشيخ : سعيد بن مسفر

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الأيام والشهور والأعوام، تمر علينا فماذا قدمنا لأنفسنا؟ هل قمنا بمحاسبتها؟ هل حافظنا على رأس المال، من الأعمال الصالحة؟ هل قمنا بمراجعة الحسابات؟ ومراجعة الربح والخسارة؟ إننا لنهتم بترتيب أوضاعنا الدنيوية، بينما الأوضاع الأخروية أهملناها. فيا أخي! اعمل لنفسك جدولاً زمنياً تحاسب نفسك فيه، وتحصي أعمالك خيرها وشرها، لتسلك طرق النجاة، وتتجنب سبل الهلاك.
    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    وبعد:

    أيها الإخوة في الله: في هذا اليوم الثلاثاء: الموافق للثاني من شهر محرم من عام: (1411هـ) على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وفي جامع الذياب بحي السُلَي بمدينة الرياض ، وبالأمس ودَّعنا عاماً من أعمارنا، وطَوَينا صفحةً من صفحات حياتنا، ودَّعناه بما استودعناه من عمل، وكما مر هذا العام والأعوام التي قبله ستمُر بقية الأعوام من أعمارنا، وسيجد الإنسان نفسه يوماً من الأيام، وهو يقف في المحطة الأخيرة من رحلة هذه الحياة، وسينزل نزولاً إجبارياً، وسيتم التعامل معه على ضوء تعامله هنا، فمن أحسن هنا لقي إحسانه هناك، ومن أساء هنا لقي إساءته هناك، يقول عز وجل: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم:31] ويقـول عز وجل: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النمل:89-90] ماذا تتوقع أن تُجْزى عليه إلا عملك؟! هل تتوقع أن يعطيك الله عملَ غيرِك؟! أو أن يضع الله سيئاتك في موازين غيرك؟! لا والله، لا يظلم ربك مثقال ذرة، يقول عز وجل: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47] تنكشف أوراق الإنسان وحساباته، ويجد كل شيء، والله لا يظلمك الله شيئاً.

    يقول الله عز وجل: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُـوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:30] هذا تحذير في ذلك تتمنى أن يجعل الله بينك وبين سيئاتك أمداً بعيداً، لكن من الآن اجعل بينك وبينها أمداً بعيداً، أما أن تجعلها ملازمة لك، وملاصقة لك، فتعايش المعاصي والسيئات بالليل والنهار فسوف تعايشك السيئات في النار، أما إذا جعلت بينك وبينها الآن حجاباً مستوراً من طاعة الله، وجعلت بينك وبينها عوازل وموانع من تقوى الله؛ جَعَلَ الله بينك وبين النار عوازل وموانع وأسكنك الجنة.

    وبين عامٍ يمضي وآخر يحل فترةٌ من الزمان نطويها اسمها: العمر، وتنقص أعمارنا بمقدار ما يمر من أعوامنا، أنت مجموعة أيام، وكل يوم يمشي ينقص بعضك إلى أن تنتهي، مَثَلُك مَثَلُ التقويم المعلَّق على الجدار، في أول العام الدراسي أو العام الهجري تجده سميناً مليئاً بالأوراق، ثلاثمائة وستين ورقة؛ ولكن في مغرب كل يوم تنزع ورقة، وتمشي الأيام، ولا ننتبه إلا والتقويم لم يبق منه إلا اللوح فقط.

    وكذلك أنت! كل يوم تنزع ورقة من عمرك، وسيأتي عليك يوم لا يبقى منك إلا اللوح، ما هو اللوح؟! جثتك، واللوح ماذا يُفْعَل به فيما بعد؟! يُرْمَى ويهمل، وأنت يوم أن تنتهي أيامك وتنتهي ساعاتك ولحظاتك في هذه الحياة، تُرْمى وتقذف في المقبرة، وترتفع روحُك إما إلى علِّيِّين، أو تُسْقَط وتُهْبَط وتُدَنَّس وتُسَجن في سجِّين.

    يقول عز وجل: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين:18] -جعلنا الله وإياكم من الأبرار- كلمة أبرار تحمل معاني البر والصفاء، وتحمل معاني القرب من الله، رجلٌ بارٌّ، رجلٌ برٌّ: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ [المطففين:18-19] تعظيم وتفخيم لعلِّيِّين: كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ [المطففين:20-21] كتابٌ مرقومٌ يشهدُه المقربون مِن الملائكة، وماذا في هذا الكتاب؟! يقول الله:

    إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ [المطففين:22] هذا هو المكتوب في الكتاب: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين:22-24] كما كانت في وجوههم نضرة الإيمان، ونضرة البهاء والصلاح، ونضرة الخوف والمراقبة، فأيضاً يوم القيامة: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين:24].

    أما أولئك -والعياذ بالله- الذين غفلوا، ومرت الأعمار عليهم هكذا سراعاً وراء بعضها دون تأمل ولا مراجعة، ولا وقفة ولا محاسبة، فيقول الله فيهم: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ [المطففين:7-9] ماذا في الكتاب؟! وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المطففين:10] نعوذ بالله وإياكم من ويل، ومن عذاب الله عز وجل.

    فنحن نمتطي مطايا الليل والنهار، فهذه الأيام مطايا ونحن ركوب على ظهورها، وننزل من مطية الليل إلى مطية النهار، ونفرح بدوران الشهر من أجل أن نستلم الراتب، أحب الأيام إلينا أيام: (28) و(29) و(30)، وأسوأ الأيام إلينا أيام: (4) و(5) و(6)، نبيع أعمارنا برواتبنا، والأيام والليالي تسير بنا ونحن لا ندري، لا نستطيع أن نقف على عجلة الزمان أو نوقفها عند نقطة معينة، بل تسير بنا الأيام ونحن لا ندري، ولا مجال للتريُّث، ولا معنى للانتظار، فإن الزمان لا ينتظر أحداً، ولا يتريَّث لأحد، يروي الإمام مسلم حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على ضرورة السرعة في العمل الصالح مع الله، يقول عليه الصلاة والسلام: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل)، وبسط اليد بالليل والنهار دليلُ استعجال، أي: بسرعة تُبْ إلى الله، ما دمتَ أسأت في الليل فإن الله بسط يده لك من أجل أن تتوب؛ لأنك مسيء؛ هذا فيه عملية حث، عملية شحذ للهمم وأنك تسير ولا تدري ما المصير الذي تصير إليه، فلا بد أن تتنبه وأن تكون عاقلاً، لا تسِرْ مع الذين يعيشون بعقلية البهائم، ولا همَّ لهم إلا هذه الدنيا، ولا ينتبهون إلا وهم يَقْتَحِمون ويُقْذَفون ويُدَعُّون على رءوسهم إلى النار وهناك يقولون:

    يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا [الأحزاب:66].. يَا وَيْلَتَى [الفرقان:28].. لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ [الحاقة:25-27].

    يقول الظالم: رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون:99] لماذا؟ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ ... [المؤمنون:100] حسناً! لماذا كنت غافلاً؟! من الذي أخرك؟! يقول الله: ... كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100].

    فكل تأخير -يا أخي في الله- في إنقاذ نفسك وتصحيح مسارك لا يعني إلا تعريضك لمزيد من الخسارة، وتعريضك لنهاية المصير والانحدار والدمار، وما أجمل أن يعيد الإنسان تنظيم وضعه مع الله بين الحين والحين! وأن يُرْسِل نظرات ناقدة في جوانب نفسه ليتعرف على عيوبها وأخطائها، ويرسم السياسات القصيرة والعاجلة للتخلص من الأخطاء والخطايا!

    يا أيها الإخوة في الله: في كل بضعة أيام ينظر أحدنا إلى مكتبه، ويعيد ترتيب أوراقه، فيقضي على الفوضى التي حلت على المكتب من قصاصات متناثرة، وسِجِلات مبعثرة، وأوراق أدت غرضها، ويقوم بترتيب كل شيء، ويضع كل شيء في وضعه الصحيح؛ فالمعاملات القابلة للحفظ تُحْفَظ، والمعاملات اللازم تحويلها تُحَوَّل، والأوراق التي لا غرض لها تُمَزَّق وتُهْمَل.

    وفي البيت تصبح الغرف والحجرات غير مرتبة ومتناثرة، فإذا بأيدي الإصلاح تتدخل من الزوجة أو الخادمة وتجول هنا وهناك، وتنظف الأثاث المُغْبَر، وتطرد القمامة الزائدة، وتعيد كل شيء إلى مكانه ونظامه.

    بل ثوبك الذي على جلدك تراجعه كل ثلاثة أيام؛ لتزيل ما عَلِق به من أوساخ وأقذار، ولتلبس ثوباً جديداً تستطيع أن تعيش به بين الناس.

    أيها الإخوة في الله: ألا تستحق حياة الإنسان منا مثل هذا الجهد؟!

    ألا تستحق نفسك أن تتعهدها بين الحين والحين؛ لترى ما لحق بها من اضطراب فتزيله، وما تعرضت له من إثم فتنفيه، مثلما تنفي القمامة من ساحات منزلك وبيتك؟!

    ألا تستحق النفس أيها الإخوة! -بعد كل مرحلة تقطعها من مراحل الحياة- أن نعيد النظر فيما أصابها من غُنْم أو خسارة، وأن نرجع إليها، وأن نعيد إليها توازنها، وأن نعيد بناءها وترتيبها. فالنفس تحتاج إلى توازن مثل السيارة؛ فالسيارة تمشي في الطرق المعبَّدة والعادية سليمة؛ لكن إذا مشيت بها على مَطَبٍّ فإنها تَرتجُّ، وبالتالي تحتاج إلى ميزان، فتذهب بها إلى الجهاز من أجل أن توزن عجلات السيارة.

    أنت الآن تعيش وتقع في مطبات، ونفسك ترتج بالأزمات، وتهتز بالفتن والمشكلات، وهي في عراك دائب على ظهر هذه الحياة.

    إجراء الإصلاحات ومعالجة العلل والآفات

    إن الإنسان -أيها الإخوة والله الذي لا إله إلا هو- لَهُو أحوج ما يكون إلى التنقيب والتفتيش في أرجاء نفسه، وتَعَهُّد حياته، وإجراء الصيانات لها من العلل والأمراض والآفات. ما السبب؟!

    السبب أن الإنسان قلَّما يبقى متماسكاً، فلا بد له من تثبيت، السيارة التي تمشي دائماً في المطبات تتخلخل وتتحلل مساميرها (وصواميلها) وتحتاج منك أن تجري لها بين فترة وأخرى إعادة تثبيت وتوازن وفحص دوري لتَفَقُّد أجزائها، ونحن واقعيون مع سياراتنا، فلا يمكنك أن تجدد الاستمارة حتى تفحص السيارة.

    لكن هل فحصنا قلوبنا؟!

    هل فحصنا جوارحنا؟!

    هل أعدنا التدقيق مع أنفسنا؟!

    نفحص أجسادنا، ونجري فحصاً كاملاً للجسم: فحصٌ للعينين؛ وهل هي سليمة!

    فحصٌ للرئتين؛ ومدى قوة التهوية فيهما!

    فحصٌ للكبد.

    فحصٌ للأمعاء.

    لكن القلوب التي في الصدور لم نجرِ لها فحصاً!

    إن حِدَّة الاحتكاك، وضغط الشبهات، وضروب الشهوات تؤثر في النفس، فإذا غفل الإنسان عن نفسه، وترك عوامل الهدم تنال منها، فسوف تقضي عليه لا محالة، وينفرط عليه أمره، ويكون شأنه كمن قال الله فيه: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف:28] فكثير من الناس الآن أمره فُرُطٌ؛ لماذا؟! لأنه غافل عن الله، والله يقول قبل هذا: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف:28] ينفرط عليه دينه فلا يجمعه، يضيع صلاته، يضيع عقيدته، يضيع الزكاة، وإذا قلت له: الصلاة!

    قال: يا شيخ، نحن مشغولون!

    - الزكاة!

    - يا رجل -الله يهديك- أنت ما زلت تريد زكاةً، الناس عندهم (مليارات)، ونحن ماذا عندنا؟ نحن ليس معنا شيء!

    - والحج!

    يقول: الحج زحمة، وحَرٌّ هذه السنة.

    - والعمرة!

    يقول: العمرة، نحن قد أدينا، العمرة تكفي مرة.

    - والصوم!

    - الله المستعان!

    - ويذهب ليصوم في ( كازابلانكا )، أو في ( تايلاند )، ويحج، ويأتي بعمرة! لا إله إلا الله! فهذا مفرط!

    اليوم وأنا في الفندق نائم ضرب الجرس عليَّ شخص، وأنا في ساعة استغراق النوم، الساعة الثالثة، وهو أحسن وقت، وإذا بالهاتف يدق، قال: ألوه.

    قلت: نعم.

    قال: طائرة (بومباي) متى تقلع؟

    قلت: من تريد أنت؟!

    قال: الخطوط السعودية؟!

    قلت: لا يا رجل، أنا في الفندق، أين تريد أنت؟!

    قال: أريد ( بومباي ) .

    قلت: لماذا؟! ماذا في ( بومباي )؟! تريد عمرة؟! تحج؟!

    قال: لا. فقط نوسِّع الخاطر.

    قلت: والله تضيِّق الخاطر أيها الأخ! والله يضِيْق فكرك وبالك بمعصية الله، وغضب الله وسخطه، هناك ذنوبٌ وآثامٌ حماك الله منها، وتحجز بالطائرة من أجل أن تذهب لتتمتع وتراها وتوسِّع البال.

    الله أكبر! كيف يتَّسع فكر مسلمي هذا الزمان بمعصية الله؟!

    إن القلوب تنعكس، والنفوس تنقلب حين ترى أن معصية الله توسيعٌ للبال! إنا لله وإنا إليه راجعون!

    فرح الله بتوبة عبده

    يا أخي المسلم: يا أخي في الله! وقفةٌ مع النفس مع بداية هذا العام الجديد، وقفةٌ صادقة جادة تصحح المسار، وتزيل الأخطاء، وترجع إلى الطريق الصحيح، فالرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، ولا تعتذر يا أخي بكثرة خطاياك، فلو كانت كزبد البحر ما بالى الله بها، إذا اتجهت إليه قصداً، وإذا انطلقت إليه ركضاً، إن الخطأ القديم لا يجوز أن يكون عائقاً أمام التوبة الصادقة، يقول ربنا عز وجل -وهو يخاطب أصحاب الأخطاء الكبيرة، المسرفين على أنفسهم، يقول فيهم ويدعوهم بدعاء وبنداء العبودية ويتحبب لهم- في سورة الزمر: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ... [الزمر:53] أسرفوا على أنفسهم بالذنوب والخطايا. ... لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53] إذاً: ماذا نعمل؟ قال: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الزمر:54-55] ما هو العذاب الذي يأتيك بغتة إذا كنت عاصياً؟

    إنه الموت، هل يرسل الموت إنذارات قبل أن يأتي؟!

    لا. بل يركب الرجل منا سيارته ولا ينزلونه منها إلا ميتاً.

    ويلبـس ثوبه ولا يَخْـلَعُ ثوبه هو، بل يُقَطَّع ثوبُه من عند أزراره، إي نعم هذا معناه: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى ... [الزمر:56-59] اسمعوا هنا! بلى للإضراب، بلى أنت كذاب أيها العبد: بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ [الزمر:59] لا تكن المعاصي عائقةً، فتقول: والله، أنا كثير الذنوب. فإذا كنتَ كثير الذنوب؟! إذاً: فالله كثير المغفرة. تقول: ذنوبي عظيمة؟! فالله مغفرته أعظم من ذنوبك، لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم لقيت الله مستغفراً غفر الله لك، لو كانت ذنوبك كزبد البحر، أو كعدد الرمل، أو كعدد قطر السماء، فرحمة الله أوسع: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف:156] فقط حوِّل (الموجة)، هذا الذي نريده منك، الماضي هذا كله يغفره الله لك، بتبعاته ومسئولياته وما فيه من أخطاء، كلها يبدلها الله لك حسنات، فهل يوجد أعظم من هذا يا أخي؟! أي فضل أعظم من هذا! إذا غفر الله لك فهذه كرامة؛ لكن كونه يغفر لك وتكون عليك (مليون) سيئة، فيحولها الله لك (مليونَي) حسنة، فهذا فضلٌ لا يضيعه إلا خاسر لا خير فيه، والعياذ بالله.

    وأيضاً: مع أن الله يغفر لك يفرح بك! ففي الحديث الذي في صحيح البخاري يقول عليه الصلاة والسلام: (لَلَّهُ أشد فَرَحاً بتوبة عبده من رجل كان في فلاة -مسافر- ومعه راحلته، وعليها زاده وماؤه، فضلت عنه، وبحث عنها فلم يجدها، فلما يئس منها استسلم للموت، وأتى إلى تحت شجرة، وانطرح تحتها ينتظر الموت -انتهى! ليس من وسيلة للنجاة!- وبينما هو نائم ينتظر الموت إذا بناقته تعود وتقف بين يديه، فلما فتح عينيه وجدها -ما معنى هذا؟! معناه أنه وجد الحياة- قام فَرِحاً وقال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك)، لم يعرف أن يتكلم؛ لأنه كان موقناً بالموت والهلاك، والآن أعاد الله له وسائل الحياة، فأخطأ من شدة الفرح.

    فاللهُ يا أخي يفرح بتوبتك أعظم من فرحة هذا الرجل بعودة ناقته!

    أفلا تُفْرِح ربك؟!

    ألا تريد أن يفرح ربك بك يا أخي؟!

    تريد الشيطانَ عدوك أن يفرح بك، لتكون عبداً وحماراً له، يركب على ظهرك ورقبتك، ويسوقك إلى جهنم، ثم يقذفك فيها، ثم يتخلى عنك في النار ويقول: وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ [إبراهيم:22] ما أخذتك بكتاب ولا بعصا: إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم:22]* فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ [إبراهيم:22] خزي والله أعظم خزي!

    أيُّ مجد وأيُّ عَظَمَة أعظم من أن يفرح بك ربُّك، ويكرمك ويحفظك في الدنيا، ثم يدخلك الجنة في الآخرة؟

    أخي في الله: ألا يُبْهِرك هذا الترحيب، وهذه الفرحة من ربك؟! أترى سروراً أو فرحةً تعدِل هذه البهجة الخالصة من الله عز وجل؟!

    متطلبات العودة إلى الله

    يا أخي في الله: إن تصحيح وضعك بعد إجراء المحاسبة، هو تجديد لحياتك، ونقلة حضارية حاسمة لتغير معالم نفسك، وذلك لا يعني أن تدخل أعمالاً صالحة وسط جملة ضخمة من العادات القبيحة، والتصرفات والأخلاق السيئة، فهذا خلط وتغشيش لا يصلح.

    إن العودة تتطلب منك أن تعيد ترتيب حياتك كلها، وأن تستأنف مع ربك علاقةً كاملة أفضل، وعملاً أكمل، وعهداً، وعقيدةً، وهو يدعوك سبحانه وتعالى إلى هذا في سيد الاستغفار؛ ففي صحيح البخاري ومسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلك على سيد الاستغفار؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: قل: اللهم أنت ربي وأنا عبدك، خلقتَني وأنا على عهدك ووعدك ما استطعتُ، أعوذ بك من شر ما صنعتُ، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت).

    إن العودة إلى الله تقتضي أن تعيد تنظيم حياتك كلها، وتُجْري تغييراً كاملاً:

    تغييراً للشريط الذي كنت تسمعه!

    وتغييراً للمجلة التي كنت تشتريها!

    وتغييراً لطريقة النوم!

    وتغييراً لوقت النوم!

    وتغييراً لوقت الاستيقاظ!

    وتغييراً للزملاء والأصدقاء!

    وتغييراً لمواعيد الدوام؛ كنتَ تأتي الساعة التاسعة؛ لكن عندما التزمتَ لا تأتي السابعة والنصف إلا وأنت على المكتب؛ لأنك تريد أن تأكل حلالاً!

    وتغييراً لأسلوب العمل؛ كنتَ تدخل وأنت تنفخ، وتصيح على الموظفين والمراجعين؛ لكن لما التزمتَ أصبحت تدخل مبتسماً؛ لأن تبسمك في وجه أخيك صدقة، ولأنك لا تحقر من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق.

    وتغييراً في أسلوب أدائك لعملك؛ كنت من قبل تتنصل عن المعاملات، وتمشِّي الأوراق، وتزيحها، وتمرِّرها، يعني: فقط تتخلص، لكن لَمَّا صرتَ ملتزماً ومسلماً لا تنهي معاملة إلا بعد ضبطها (100 %)، تبحثها من أول ورقة إلى آخر ورقة، لماذا؟! لأنك تغيرت تغيراً كاملاً!

    وتغييراً لعينيك؛ إلى أين كانت تنظر؟!

    وتغييراً لأذنيك؛ ماذا كانت تسمع؟!

    وتغييراً للسانك؛ بِمَ كان يَهْرِف ولا يعرف؟!

    وتغييراً لبطنك؛ ماذا كان يأكل؟!

    وتغييراً لفرجك؛ أين كان يقع؟!

    وتغييراً ليديك!

    وتغييراً لقلبك!

    وتغييراً لكل شيء في حياتك!

    لماذا؟

    لأنك راجعتَ نفسك، وجدَّدتَ حياتك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088524998

    عدد مرات الحفظ

    777127648