قال الله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف:199-200]، وقال تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ * وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [المؤمنون:96-98]، وقال تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت:34-36].
فهذه ثلاث آيات ليس لهن رابعة في معناها ].
هذه الآيات في سورة الأعراف, وفي سورة حم السجدة، والثالثة في سورة المؤمنون.
فقوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف:199-200] ].
فهذا أمر بالاستعاذة بالله من الشيطان.
وقال تعالى ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ [المؤمنون:96]، وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [المؤمنون:98].
وهذه هي الآية الثانية، وهي في سورة المؤمنون، والشاهد: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ [المؤمنون:97].
وقال تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت:34-36].
وهذه الآية الثالثة في سورة فصلت.
قوله: [ فهذه ثلاث آيات ليس لهن رابعة في معناها.
وهو أن الله تعالى يأمر بمصانعة العدو الإنسي والإحسان إليه؛ ليرده عنه طبعه الطيب الأصل إلى الموالاة والمصافاة، ويأمر بالاستعاذة به من العدو الشيطاني لا محالة، إذ لا يقبل مصانعة ولا إحساناً، ولا يبتغي غير هلاك ابن آدم لشدة العداوة بينه وبين أبيه آدم من قبل كما قال تعالى: يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ [الأعراف:27].
وقال تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6] ].
فالعدو للإنسان نوعان: عدو من الإنس، وعدو من الجن, فعدو الإنس تتخلص منه بالإحسان والمصانعة, وتحسن إليه بالكلام, فإذا تكلم عليك بالسب والشتام ترد عليه رداً طيباً, وكذلك إذا آذاك بالفعل أو بالقول تصانعه، وتهدي إليه هدية فيزول شره عنك, وتنقلب عداوته صداقة في الغالب كما قال سبحانه: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34] أي: إذا دفعت بالتي هي أحسن انقلب الذي بينك وبينه عداوة إلى صداقة، وصار كأنه ولي حميم، أي: كأنه صديق قوي الصداقة.
وأما الشيطان فلا حيلة فيه، فلا تنفع فيه المصالحة، ولا ينفع فيه الكلام الطيب, ولهذا يلجأ العبد إلى الاستعاذة بالله منه، قال تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت:36]، فالعدو من الإنس تنفع فيه المصانعة، والكلام الطيب، والإحسان والهدية, فطبعه الخير وأصله الخير, فيرجع إلى أصله، لكن إذا قابلته بالمثل زادت العداوة وزاد الشر وآذاك؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34]، ثم قال: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا [فصلت:35] أي: لا يستطيع هذا ولا يقوى عليه إلا الموفق من أهل الصبر وأهل الحظوظ العظيمة, أما العدو من الجن فلا حيلة فيه، ولا ينفع فيه المصانعة ولا الكلام الطيب ولا الهدية، لأن العداوة شديدة وقديمة؛ ولهذا لا ينفع إلا الالتجاء إلى الله والاستعاذة بالله من شره فتقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, يعني: ألوذ والتجئ وأعتصم بك يا الله من شر هذا الشيطان العدو اللدود الذي يريد أن يفسد علي ديني؛ فلهذا أمر العبد بأن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم عند تلاوة القرآن؛ لأن الشيطان يحرص على الإنسان عند فعل الخير.
قوله: [ وقال: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [الكهف:50]، وقد أقسم للوالد آدم عليه السلام إنه له لمن الناصحين وكذب، فكيف معاملته لنا وقد قال: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83] ].
هذا قسم وحلف بعزة الله، فهي صفة من الصفات، فحلف أنه سيغوي بني آدم, وقد أقسم لأبينا إنه ناصح وصادق، وقد كذب وأوقعه في المعصية، وكذلك ذرية آدم أقسم بالله ليغوينهم, وقال: لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:62]، وقال: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82] إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر:40]، فالعداوة قديمة وليس هناك حيلة في المصالحة أبداً مع الشيطان, وليس هناك طريق للمصالحة, فالعداوة مستمرة وقديمة, فالإنسان عليه أن يأخذ حذره، وأن يستعيذ بالله من شره, وأن يلجأ إلى الله ويعتصم به، ويلوذ بحماه من شر هذا الشيطان, وأما المصالحة معه فغير ممكنة, ولا يمكن المصافاة، وأما العدو الإنسي فيمكن مصالحته، ويمكن مصافاته.
قالت طائفة من القراء وغيرهم: يتعوذ بعد القراءة، واعتمدوا على ظاهر سياق الآية، ولدفع الإعجاب بعد فراغ العبادة ].
أي: أن حجة هؤلاء: أن الله قال: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل:98]، قالوا: فظاهر الآية أن الاستعاذة تكون بعد قراءة القرآن, وأيضاً فيه فائدة أخرى وهي دفع الإعجاب.
وقال آخرون من أهل العلم: أنه يستعيذ بعد قراءة الفاتحة، وهذا قول ضعيف.
وقال آخرون: يستعيذ قبل القراءة, ومعنى قوله: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ [النحل:98] أي: فإذا أردت، وهذا له نظائر، مثل قوله عليه الصلاة والسلام (إذا دخل أحدكم الخلاء فليقل: باسم الله) يعني: إذا أراد دخول الخلاء, وهنا: (فإذا قرأت) يعني: إذا أردت، وهذا هو الصواب، وسيأتي أن الاستعاذة تكون قبل القراءة.
قوله: [ وممن ذهب إلى ذلك حمزة فيمن نقله عنه ابن قلوقا وأبو حاتم السجستاني ، حكى ذلك أبو القاسم يوسف بن علي بن جنادة الهذلي المغربي في كتاب العبادة الكامل، وروي عن أبي هريرة أيضاً وهو غريب، ونقله محمد بن عمر الرازي في تفسيره عن ابن سيرين في رواية عنه، قال: وهو قول إبراهيم النخعي وداود بن علي الأصبهاني الظاهري ، وحكى القرطبي عن أبي بكر بن العربي ، عن المجموعة، عن مالك رحمه الله أن القارئ يتعوذ بعد الفاتحة، واستغربه ابن العربي ].
هذا غريب؛ لأن الفاتحة أم القرآن.
قوله: [ وحكى قولاً ثالثاً وهو: الاستعاذة أولاً وآخراً؛ جمعاً بين الدليلين، نقله الرازي ].
وهذا قول ثالث: أن يستعيذ قبل القراءة ويستعيذ بعد القراءة، والقول الرابع: أنه يستعيذ مرة واحدة قبل القراءة، وهو الصواب.
قوله: [ والمشهور الذي عليه الجمهور أن الاستعاذة إنما تكون قبل التلاوة؛ لدفع الموسوس عنها ].
الموسوس: هو الشيطان, وهذا هو الصواب: أن الاستعاذة مرة واحدة قبل القراءة، وأما القول بأنها بعد القراءة أو القول أنها بعد الفاتحة أو القول بأنه يستعيذ مرتين فهي أقوال مرجوحة، والصواب: أنه يستعيذ مرة واحدة قبل القراءة؛ لدفع الموسوس وهو الشيطان.
قوله: [ ومعنى الآية عندهم: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل:98] أي: إذا أردت القراءة، كقوله تعالى: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ.. [المائدة:6].. الآية أي: إذا أردتم القيام ].
يعني: إذا أردتم القيام إلى الصلاة، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا دخل أحدكم الخلاء فليقل باسم الله) يعني: إذا أراد.
قوله: [ والدليل على ذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: حدثنا محمد بن الحسن بن أنس حدثنا جعفر بن سليمان عن علي بن علي الرفاعي اليشكري عن أبي المتوكل الناجي ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل فاستفتح صلاته وكبر قال: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك، ثم يقول: لا إله إلا الله ثلاثاً، ثم يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه).
وقد رواه أهل السنن الأربعة من رواية جعفر بن سليمان عن علي بن علي وهو: الرفاعي، وقال الترمذي : هو أشهر شيء في هذا الباب، وقد فسر الهمز بالموتة وهي الخنق ].
يعني: صرع الشيطان للإنسان.
قوله: [ والنفخ: بالكبر، والنفث بالشعر ].
فالتفسير: من همزه يعني: صرعه، ونفخه: وهو الكبر، ونفثه: وهو الشعر.
قوله: [ كما رواه أبو داود وابن ماجة من حديث شعبة عن عمرو بن مرة عن عاصم العنزي عن نافع بن مطعم عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل في الصلاة قال: (الله أكبر كبيراً ثلاثاً، الحمد لله كثيراً ثلاثاً، سبحان الله بكرة وأصيلاً ثلاثاً، اللهم إني أعوذ بك من الشيطان من همزه ونفخه ونفثه) ].
هذا نوع من أنواع الاستفتاحات، قوله صلى الله عليه وسلم: (الله أكبر ثلاثاً، الحمد لله ثلاثاً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً ثلاثاً) أي: تقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، سبحان الله بكرة وأصيلا، سبحان الله بكرة وأصيلا، سبحان الله بكرة وأصيلا. فهذا أحد الاستفتاحات.
ومن الاستفتاحات وهو أخصر الاستفتاحات وأفضلها في ذاته؛ لأنه ثناء قوله صلى الله عليه وسلم: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك) وهذا الذي كان يعلمه عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس على المنبر، واختاره الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب وهو مختصر، وأصح منه ما رواه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (يا رسول الله! إذا كبرت سكت هنيهة ماذا تقول؟ قال: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب, اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس, اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد), فهذا أصح ما ورد في الاستفتاحات؛ لأنه رواه الشيخان, و(سبحانك اللهم وبحمدك)، هذا أفضل الاستفتاحات في ذاته؛ لأنه ثناء على الله.
وهناك استفتاحات كثيرة وطويلة في قيام الليل, ومن ذلك ما رواه مسلم عن عائشة : (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم).
وهناك استفتاح ابن عباس ، وهو استفتاح طويل: (اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، اللهم لك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن, ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن، لقاؤك حق، ووعدك حق، ومحمد حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق والنبيون حق..) إلى آخره، لكن هذا في قيام الليل، والمقصود: أن هذا نوع من الاستفتاحات.
قوله: [ قال عمرو : وهمزه: الموتة، ونفخه: الكبر، ونفثه: الشعر.
وقال ابن ماجة : حدثنا علي بن المنذر ، حدثنا ابن فضيل ، حدثنا عطاء بن السائب ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم وهمزه ونفخه ونفثه) قال: همزه: الموتة، ونفخه: الكبر، ونفثه: الشعر.
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن يوسف ، حدثنا شريك ، عن يعلى بن عطاء ، عن رجل حدثه أنه سمع أبا أمامة الباهلي يقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة كبر ثلاثاً، ثم قال: لا إله إلا الله ثلاث مرات، وسبحان الله وبحمده ثلاث مرات، ثم قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه).
وقد روى هذا الحديث: أحمد بن حنبل ، عن أبي سعيد عن زائدة ، وأبو داود ، عن يوسف بن موسى ، عن جرير بن عبد الحميد، والترمذي والنسائي في اليوم والليلة عن بندار عن ابن مهدي عن الثوري والنسائي أيضاً من حديث زائدة بن قدامة ثلاثتهم عن عبد الملك بن عمير ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فغضب أحدهما غضباً شديداً حتى يخيل إلي أن أحدهما يتمزع أنفه من شدة غضبه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد من الغضب، فقال: ما هي يا رسول الله؟! قال: يقول: اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم) قال: فجعل معاذ يأمره فأبى وجعل يزداد غضباً وهذا لفظ أبي داود، وقال الترمذي : مرسل، يعني: أن عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يلق معاذ بن جبل فإنه مات قبل سنة عشرين.
قلت: وقد يكون عبد الرحمن بن أبي ليلى سمعه من أبي بن كعب كما تقدم، وبلغه عن معاذ بن جبل، فإن هذه القصة شهدها غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم.
قال البخاري : حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن عدي بن ثابت قال: قال سليمان بن صرد رضي الله عنه: (استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده جلوس، فأحدهما يسب صاحبه مغضباً قد احمر وجهه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجده لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فقالوا للرجل: ألا تسمع ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني لست بمجنون) ].
فهذا يحتمل أنه لا زال في غضبه وأنه سريع الغضب أو أنه منافق, لكن الأقرب أنه يستولي عليه الغضب، وجاء في اللفظ الآخر أنه قيل له: (إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لك قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, قال: أبي جنون حتى أقولها؟!)، فهذا يدل على أنه قد استولى عليه غضب وأنه ما أفاق من غضبه, ويحتمل أنه من المنافقين.
وهذا فيه دليل على أن الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم من أسباب زوال الغضب, ومن أسباب إزالة الغضب الوضوء كما جاء في الحديث الآخر؛ لأن الغضب من الشيطان، والشيطان مخلوق من نار, والنار يطفئها الماء.
ومنها: أنه يغير حالته التي هو عليها، فإن كان قائماً فليجلس، وإن كان جالساً فليضطجع، وليخرج أيضاً من البيت إذا كان في البيت, أو من المكان, فكل هذه من أسباب إزالة الغضب, فقد يحصل بين بعض الناس وبين أهله مغاضبة فليخرج, كما حصل بين علي رضي الله عنه وفاطمة مغاضبة، فذهب ونام في المسجد، وسأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة فقال: (أين ابن عمك؟ قالت: غاضبني فخرج إلى المسجد) أو كما جاء في الحديث, فيشرع للإنسان أن يخفف الغضب، ويعمل الأسباب التي تزيل هذا الغضب: من استعاذة بالله من الشيطان الرجيم، والوضوء، وتغيير الحالة، والانتقال والخروج من المكان أو من البيت، حتى يهدأ غضبه ويعود إليه رشده، وحتى لا يفعل شيئاً يندم عليه، ولا تحمد عقباه في المستقبل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد رواه أيضاً مع مسلم وأبي داود والنسائي من طرق متعددة عن الأعمش به.
وقد جاء في الاستعاذة أحاديث كثيرة يطول ذكرها ههنا وموطنها كتاب الأذكار وفضائل الأعمال، والله أعلم.
قال عبد الله : وهي أول سورة أنزلها الله على محمد صلى الله عليه وسلم بلسان جبريل، وهذا الأثر غريب، وإنما ذكرناه ليعرف فإن في إسناده ضعفاً وانقطاعاً، والله أعلم ].
هذا الأثر ضعيف، لكن كون أول ما نزل من القرآن هو (اقرأ) فهو ثابت بالأحاديث الصحيحة، وبها صار نبياً عليه الصلاة والسلام، ثم فتر الوحي ونزل عليه بعد ذلك: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر:1]، وبها صار رسولاً، نبئ باقرأ وأرسل بالمدثر، لكن الغرابة في قوله: استعذ بالله من الشيطان الرجيم، وقل: بسم الله الرحمن الرحيم، فهذا غلط، وأما كون جبريل نزل عليه وقال: (اقرأ) فهذا ثابت في الأحاديث الصحيحة ليس فيه إشكال.
وسند هذا الحديث فيه بشر بن عمارة ضعيف، والانقطاع بين الضحاك وابن عباس.
هذان قولان متقابلان, منهم من يقول: لا تجب إلا في العمر مرة، ومنهم من يقول: تجب في كل قراءة.
قوله: [ واحتج الرازي لـعطاء بظاهر الآية فَاسْتَعِذْ [الأعراف:200] وهو أمر ظاهره الوجوب، وبمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليها؛ ولأنها تدرأ شر الشيطان، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب؛ ولأن الاستعاذة أحوط وهو أحد مسالك الوجوب.
وقال بعضهم: كانت واجبة على النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته، وحكي عن مالك أنه لا يتعوذ في المكتوبة، ويتعوذ لقيام رمضان في أول ليلة منه ].
والصواب: الأول وهو ما عليه جمهور العلماء أنها مستحبة عند كل قراءة في الصلاة وخارجها، إلا أنها في الصلاة تكفي أن يستعيذ في الركعة الأولى، وكذلك البسملة مستحبة, وليست من الفاتحة، وهي آية مستقلة على الصحيح، فهي مستحبة في الصلاة وخارجها.
وقال الشافعي في الإملاء: يجهر بالتعوذ، وإن أسر فلا يضر، وقال في الأم بالتخيير؛ لأنه أسر ابن عمر وجهر أبو هريرة ].
والأفضل: الإسرار بالتعوذ والبسملة في الصلاة كما جاء في الأحاديث الصحيحة، ففي حديث أبي هريرة وغيره: (أن النبي صلى الله عليه وسلم و
قوله: [ واختلف قول الشافعي فيما عدا الركعة الأولى هل يستحب التعوذ فيها: على قولين، ورجَّحَ عدم الاستحباب والله أعلم، فإذا قال المستعيذ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم كفى ذلك عند الشافعي وأبي حنيفة، وزاد بعضهم: أعوذ بالله السميع العليم، وقال آخرون: بل يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم، قاله الثوري والأوزاعي.
وحكي عن بعضهم أنه يقول: أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لمطابقة أمر الآية؛ ولحديث الضحاك عن ابن عباس المذكور، والأحاديث الصحيحة كما تقدم أولى بالاتباع من هذا، والله أعلم ].
وهو أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, وإن قال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم فلا بأس، وحديث الضحاك عن ابن عباس كما سبق ضعيف لانقطاعه.
فإن قيل: هل تشرع الاستعاذة في الصلاة في السورة التي بعد الفاتحة؟
فالجواب: لا، فمن السنة الاستعاذة مرة واحدة في الصلاة، فيستعيذ ويبسمل في الفاتحة، والسورة إذا قرأها من أولها فإنه يبسمل وإن قرأ من أثناء السورة فلا يحتاج إلى البسملة, فالأفضل يكتفي بالاستعاذة في الركعة الأولى فقط.
ففي بداية السورة يبسمل، ثم بعد ذلك كلما قرأ سورة يبسمل.
فقول الجمهور: على أنه يستعيذ بعد التكبيرات قبل القراءة، وهذا هو الصواب: أن الاستعاذة للقراءة وليست للصلاة، والذي لا يقرأ لا يحتاج أن يستعيذ، فتكون بعد تكبيرات العيد الزوائد، فتكبر ستاً في الأولى, وخمساً في الثانية ثم تستعيذ بالله, هذا إذا أراد القراءة وأما الذي لا يقرأ فلا يستعيذ، فالاستعاذة ليست للصلاة وإنما هي للقراءة، هذا هو الصواب.
قوله: (المثاني) يعني: فوق المائة فهي في الأعراف والمؤمنون وفصلت، وهذه من المثاني.
قوله: [ وقال تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا [الإسراء:65]، وقد نزلت الملائكة لمقاتلة العدو البشري، فمن قتله العدو الظاهر البشري كان شهيداً، ومن قتله العدو الباطني كان طريداً، ومن غلبه العدو الظاهري كان مأجوراً ].
وهذا في غزوة بدر وفي غزوة حنين لما نزلت الملائكة لقتال العدو البشري وهو الكافر، ومن قتله العدو البشري في الجهاد في سيبل الله فهو شهيد، ومن قتله العدو الباطني وهو الشيطان فهو مطرود من رحمة الله؛ لأنه غلبه نعوذ بالله.
قوله: [ وقد نزلت الملائكة لمقاتلة العدو البشري، فمن قتله العدو الظاهري البشري كان شهيداً، ومن قتله العدو الباطني كان طريداً، ومن غلبه العدو الظاهري كان مأجوراً، ومن قهره العدو الباطني كان مفتوناً أو موزوراً، ولما كان الشيطان يرى الإنسان من حيث لا يراه استعاذ منه بالذي يراه ولا يراه الشيطان ].
كما قال سبحانه إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27]، هذا هو الأصل أن الشيطان يرى الإنسان ولا يراه, وقد يتبدى الجني للإنسان, وقد يظهر بعض الأحيان, لكن هذا قليل, والغالب والأصل: أن الشياطين والجن يرون الناس والناس ولا يرونهم، قال تعالى: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27]، ولهذا إذا دخلت الحمام وسميت الله كان لك ستراً من الشيطان، فإن الشيطان يعمى، ولا يرى الإنسان إذا سمى, وقد جاء في الحديث الأمر بالاستعاذة وأن الشياطين تلعب بعورات بني آدم, أو كما جاء في الحديث، وقد يكون فيه ضعف، لكن معروف أن الشيطان يرى الإنسان, فإذا سمى صار بينه وبين الشيطان ستر وحجاب.
والاستعاذة: هي الالتجاء إلى الله تعالى والالتصاق بجانبه من شر كل ذي شر، والعياذة تكون لدفع الشر، واللياذ يكون لطلب جلب الخير ].
قوله: (أعوذ بالله) يعني: ألتجئ وأعتصم وأستجير بك يا الله وأحتمي بك يا الله من شر هذا الشيطان العدو اللدود الذي يريد أن يفسد عليّ عبادتي, فالعياذ: هو الاستجارة والاحتماء، فمن استعاذ بميت أو بغائب فقد أشرك بالله؛ لأن هذه عبادة، ومن استعاذ بحي حاضر فيما يقدر عليه فلا بأس به، فيقول: أعذني من شر أولادك, ومن شر زوجتك, ومن شر دابتك, فهذا جائز، وأما أن يستعيذ بميت أو بغائب فهذا من الشرك, فالاستعاذة هي الالتجاء والاعتصام, وأما اللياذ فهو طلب الخير وتأمينه.
قوله: [ والاستعاذة: هي الإلتجاء إلى الله تعالى والإلتصاق بجانبه من شر كل ذي شر، والعياذة تكون لدفع الشر، واللياذ يكون لطلب جلب الخير كما قال المتنبي :
يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به ممن أحاذره
لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ولا يهيضون عظماً أنت جابره ].
يعني: لا يكسرون عظماً يجبره الله, كما أنهم لا يجبرون كسراً كسره الله.
والشاهد قوله:
يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به ممن أحاذره.
فالاستعاذة تكون من الشيء الذي يحذره الإنسان, واللياذ: تأمين الخير وطلبه.
قوله: [ ومعنى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. أي: أستجير بجناب الله من الشيطان الرجيم أن يضرني في ديني أو دنياي أو يصدني عن فعل ما أمرت به، أو يحثني على فعل ما نهيت عنه، فإن الشيطان لا يكفه عن الإنسان إلا الله؛ ولهذا أمر تعالى بمصانعة شيطان الإنس ومداراته بإسداء الجميل إليه، ليرده طبعه عما هو فيه من الأذى، وأمر بالاستعاذة به من شيطان الجن؛ لأنه لا يقبل رشوة ولا يؤثر فيه جميل؛ لأنه شرير بالطبع، ولا يكفه عنك إلا الذي خلقه، وهذا المعنى في ثلاث آيات من القرآن لا أعلم لهن رابعة، قوله تعالى في الأعراف: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199] فهذا فيما يتعلق بمعاملة الأعداء من البشر ثم قال: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف:200].
وقال تعالى في سورة: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1]: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ * وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [المؤمنون:96-98].
وقال تعالى في سورة (حم) السجدة: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت:34-36].
الشيطان في لغة العرب مشتق من شطن، إذا بعد، فهو بعيد بطبعه عن طباع البشر، وبعيد بفسقه عن كل خير، وقيل: مشتق من شاط؛ لأنه مخلوق من نار ].
أي: مشتقٌ من شطن إذا بعد، أو من شاط إذا احترق؛ لأن الشيطان مخلوق من نار, أو من شطن لبعده عن بني آدم، وبعده عن الخير بفسقه.
قوله: [ ومنهم من يقول: كلاهما صحيح في المعنى، ولكن الأول أصح، وعليه يدل كلام العرب قال أمية بن أبي الصلت في ذكر ما أوتي سليمان عليه السلام:
أيما شاطٍ عصاه عكاه ثم يلقى في السجن والأغلال ].
قال الشاعر: (ثم يلقى في السجن والأغلال) فيه إشارة إلى قوله تعالى: وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ [ص:37-38] يعني: سخروا له, (مقرنين في الأصفاد) أي: في الأغلال يربطون؛ ولهذا لما جاء الشيطان إلى النبي صلى الله عليه وسلم -وهو يصلى- بشهاب من نار يريد أن يحرقه، أخذه النبي وخنقه حتى وجد برد لعابه، وقال: (كدت أن أربطه في سارية من سواري المسجد, ولو فعلت للعب به صبيان أهل المدينة, لكن ذكرت قول أخي سليمان: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ص:35]) فتركه النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: [ فقال: أيما شاطن ولم يقل أيما شائط ].
فدل على أنه مشتق من شطن، وهذا هو الشاهد، ولو كان من شاط لقال: شائط.
قوله: [ وقال النابغة الذبياني وهو زياد بن عمرو بن معاوية بن جابر بن ضباب بن يربوع بن مرة بن سعد بن ذبيان :
نأت بسعاد عنك نوى شطون فباتت والفؤاد بها رهين ].
قوله: (نوى شطون) يعني: نوى بعد، والنوى: البعد، نأت بـسعاد، يعني: بعدت، وهذا شاهد على أنها مشتق من شطن لا من شاط، وهذا هو الأقرب؛ لأن شطن: بعد، فهو من البعد عن الخير، فهو بعيد عن الخير، وبعيد عن بني آدم وعن طباعهم.
قوله: [ يقول: بعدت بها طريق بعيدة، وقال سيبويه : العرب تقول: تشيطن فلان، إذا فعل فعل الشياطين، ولو كان من شاط لقالوا: تشيّط ].
وهذا معروف الآن في لغتنا الدارجة، نقول: فلان تشيطن، يعني: فعل فعل الشياطين, وهذه الكلمة باقية عندنا ولا يستغرب هذا، ولا يستغرب أن تبقى كلمات من العربية.
قوله: [ وقال سيبويه : العرب تقول: تشيطن فلان، إذا فعل فعل الشياطين، ولو كان من شاط لقالوا: تشيط، فالشيطان مشتق من البعد على الصحيح؛ ولهذا يسمون كل من تمرد من جني وإنسي وحيوان: شيطاناً، قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [الأنعام:112].
وفي مسند الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر تعوذ بالله من شياطين الإنس والجن، فقلت: أوللإنس شياطين؟ قال: نعم).
وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقطع الصلاة المرأة، والحمار، والكلب الأسود، فقلت: يا رسول الله ما بال الكلب الأسود من الأحمر والأصفر؟ فقال: الكلب الأسود شيطان) ].
وفي اللفظ الآخر: (يقطع صلاة المرء إذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل المرأة والكلب والحمار)، وهذا اللفظ لـمسلم .
وقوله: (الكلب الأسود) يعني: شيطان الكلاب, فالحيوانات لها شيطان، وكل من خرج من طبيعته يسمى شيطاناً، ومن تمرد من الحيوانات يسمى شيطاناً, ومن تمرد من الإنس يسمى شيطاناً, وكذلك الطيور، فإذا تمردت الدجاجة وطارت تصبح شيطانة وهكذا، وكل متمرد يسمى شيطاناً، فهو ليس خاصاً بشياطين الجن, فكل متمرد يسمى شيطاناً, سواء كان من الإنس أو الدواب أو الطيور.
قوله: [ وقال ابن وهب : أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ركب برذوناً فجعل يتبختر به، فجعل يضربه فلا يزداد إلا تبختراً، فنزل عنه وقال: ما حملتوني إلا على شيطان، ما نزلت عنه حتى أنكرت نفسي. إسناده صحيح ].
البرذون: لغة في البغل، وهو متولد من الخيل ومن الحمار, أمه حمارة وأبوه حصان, وإذا نزا الخيل على الحمر تولدت البغال، والبغل محرم والخيل حلال، تغليباً لجانب التحريم؛ لأنه متولد من حلال وحرام.
قوله: [ والرجيم: فعيل، بمعنى: مفعول، أي: أنه مرجوم مطرود عن الخير كله، كما قال تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ [الملك:5]، وقال تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [الصافات:6-10]، وقال تعالى: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ [الحجر:16-18] إلى غير ذلك من الآيات، وقيل: رجيم بمعنى: راجم؛ لأنه يرجم الناس بالوساوس والربائث، والأول أشهر وأصح ].
معنى الربائث: الموانع التي تمنع من الخير، وهي جمع ربيثة، وهي المانعة من الخير، فهو يرجم الناس بالوساوس وموانع الخير.
ولكن الشيخ الألباني حفظه الله ذكر في كتابه الأحاديث الضعيفة هذا الحديث برقم كذا وقال: إنه حديث منكر, فما موقف طالب العلم من ذلك: هل يأخذ بقول المتقدم من ذلك أم يأخذ بقول المتأخر؟
الجواب: طالب العلم يبحث عن الأسانيد وينظر فيها إذا كان عنده قدرة ولا يكتفي بالتقليد، فإذا وجد أن الحديث له أسانيد وله طرق يشد بعضها بعضاً أخذ به, وإن وجد أن الحديث طرقه ضعيفة فلا يأخذ به، لكن معروف عند العلماء أنه حديث جيد، وقد اعتمده العلماء والأصوليون والإمام شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم، وقد يكون الألباني وفقه الله -إن صح عنه هذا- ما اطلع على كل الطرق، فقد يفوت عليه شيء، فالشيخ الألباني فاتت عليه أشياء كثيرة كغيره، ففي (إرواء الغليل) فات عليه أحاديث كثيرة، فبعضها سكت عنها، وبعضها قال: لا أعرفه، ثم تعقبه وكتب بعده الشيخ صالح آل الشيخ، فقد خرج أكثر من مئتي حديث لم تخرج في إرواء الغليل بل كلها سكت عنها الألباني , وفي أشياء كذلك وهم فيها الألباني رحمه الله، فهو ليس بمعصوم، حتى إن شيخ الإسلام رحمة الله عليه مع إمامته قد يتوهم في بعض الأشياء، فطالب العلم يجمع الأسانيد وينظر فيها, وسند هذا الحديث معروف عند العلماء أنه جيد، وما دام اطلع العلماء على أنّ سنده جيد فهذا يدل على أن الشيخ الألباني قد خفي عليه بعض الأسانيد, وقد يكون ضعفه اجتهاداً منه، وضعفه مثلاً من أجل بعض الرواة والعلماء الآخرون, قد قووا هؤلاء الرواة في المتابعات، فالمقصود: أن طالب العلم عليه أن يتأمل، وإذا أراد أن يقلد فلا شك أن تقليد الأقدمين أولى, فإذا لم يكن عنده بصيرة قلد الأقدمين، فتقليد شيخ الإسلام والعلماء الأكابر والقدامى أولى من تقليد الشيخ الألباني في هذا، هذا إذا رجعت إلى مسألة التقليد، وإن كان عندك استطاعة فلتنظر ولتجمع الأسانيد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر