قال المصنف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخبراً عما حتمه وقضاه لعباده الصالحين من السعادة في الدنيا والآخرة، ووراثة الأرض في الدنيا والآخرة كقوله تعالى: إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128] ].
فهم موعودون بوراثة الأرض في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا تكون العاقبة للمؤمنين، وفي الآخرة يرثون أرض الجنة فهي للمتقين المؤمنين وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105] وقال عن موسى عليه السلام لما قالوا له: أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الأعراف:129].
إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51].
وقال: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا [النور:55]، وأخبر تعالى أن هذا مكتوب مسطور في الكتب الشرعية والقدرية، فهو كائن لا محالة، ولهذا قال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ [الأنبياء:105] قال الأعمش : سألت سعيد بن جبير عن قوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ [الأنبياء:105] فقال: الزبور: التوراة والإنجيل والقرآن.
وقال مجاهد : الزبور: الكتاب، وقال ابن عباس والشعبي والحسن وقتادة وغير واحد: الزبور: الذي أنزل على داود عليه السلام، والذكر: التوراة، وعن ابن عباس الذكر: القرآن.
وقال سعيد بن جبير : الذكر الذي في السماء.
وقال مجاهد : الزبور الكتب بعد الذكر، والذكر أم الكتاب عند الله، واختار ذلك ابن جرير رحمه الله ].
وذكر في نسخ أخرى قول ابن عباس أن الزبور هو القرآن، والزبور على هذا القول يشمل جميع الكتب فيشمل التوراة والإنجيل والزبور القرآن، وسمي زبوراً؛ لأنه مزبور، أي: مكتوب من الزبر وهو الجمع، والذكر: اللوح المحفوظ، فالله تعالى كتب في كتب السماء التي أنزلها بعد اللوح المحفوظ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105] فكتب هذا شرعاً وقدراً، أما قدراً: كتبه في اللوح المحفوظ أن الأرض يرثها الصالحون، وكتب ذلك في الكتب الشرعية: التوراة، والإنجيل والزبور والقرآن، فوراثة الأرض للمؤمنين مكتوب كتبه الله شرعاً وقدراً.
وأما كون الذكر: اللوح المحفوظ فهذا ما اختاره ابن جرير ، والزبور يشمل الكتب المنزلة كلها: التوارة والإنجيل والزبور والقرآن.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وكذا قال زيد بن أسلم : هو الكتاب الأول. وقال الثوري : هو اللوح المحفوظ. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الزبور: الكتب التي نزلت على الأنبياء، والذكر: أم الكتاب الذي يكتب فيه الأشياء قبل ذلك.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أخبر الله سبحانه في التوراة والزبور وسابق علمه قبل أن تكون السموات والأرض أن يورث أمة محمد صلى الله عليه وسلم الأرض ويدخلهم الجنة وهم الصالحون.
وقال مجاهد عن ابن عباس : أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105] قال: أرض الجنة. وكذا قال أبو العالية ومجاهد وسعيد بن جبير والشعبي وقتادة والسدي وأبو صالح والربيع بن أنس والثوري .
وقال أبو الدرداء : نحن الصالحون، وقال السدي : هم المؤمنون ].
والأقرب مثلما اختار ابن جرير رحمه الله أن الذكر المراد به: اللوح المحفوظ، والزبور: الكتب المنزلة على الأنبياء: من التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، فالله تعالى كتب في اللوح المحفوظ وكتب في الكتب السماوية التي نزلها بعد اللوح المحفوظ أن الأرض يرثها عباد الله الصالحون.
وقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] يخبر تعالى أن الله جعل محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، أي: أرسله رحمة لهم كلهم، فمن قبل هذه الرحمة وشكر هذه النعمة سعد في الدنيا والآخرة، ومن ردها وجحدها خسر الدنيا والآخرة كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ [إبراهيم:28-29].
وقال تعالى في صفة القرآن: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [فصلت:44].
وقال مسلم في صحيحه: حدثنا ابن أبي عمر قال: حدثنا مروان الفزاري عن يزيد بن كيسان عن ابن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل: (يا رسول الله، ادع على المشركين، قال: إني لم أبعث لعاناً، وإنما بعثت رحمة) انفرد بإخراجه مسلم ].
إن لعن العصاة والكافرين والمشركين إذا كان على وجه العموم فلا بأس به؛ لأن الله تعالى لعنهم في كتابه فقال: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود:18]، وقال: فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [البقرة:89] وقال عليه الصلاة والسلام: (لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء)، وقال: (لعن الله شارب الخمر وعاصره...) وقال: (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده)، لكن لعن المعين لا يجوز، ومثال ذلك في رجل تعرفه يشرب الخمر فلا تعلنه بعينه، ولهذا لما جيء برجل قد شرب الخمر وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بجلده، وكان كثيراً ما يجلد، قال: رجل من القوم: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (لا تلعنه؛ فإنه يحب الله ورسوله).
فالصواب أنه لا يلعن المعين، لكن يجوز اللعن للوصف، كأن تقول: لعن الله من شرب الخمر، لعن الله الكفرة، لعن الله اليهود، لعن الله النصارى، لعن الله السراق. أما فلان ابن فلان السارق، أو فلان ابن فلان الشارب فلا يجوز لعنه على الصحيح.
وساء قوله من كان لعاناً، أعني اللعن الخاص، فإن بعض الناس تجده يلعن فلاناً، ويلعن فلاناً على الدوام، وقد لعنت امرأة ناقة لها؛ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتركها وأخذ ما عليها وقال: (لا تصحبنا ناقة ملعونة).
وفي الحديث الآخر: (إن اللعانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة)، أما لعن من لعنه الله ورسوله، فهذا لا بأس به.
فإن قيل: هل يقر من يلعن المتبرجات ويخص بعضهن بالذكر؟
فالجواب: أنه لا يقر، وإنما يجوز لعن المتبرجات على العموم، ولا يقل: لعن الله فلانة بنت فلان.
إذ قد لعن الله المتبرجات، أما تعيين فلانة من النساء فلا يجوز على الصحيح؛ لأنها قد تتوب، وقد لا يكون بلغها النص؛ ولأن اللعن يعني الطرد من رحمة الله.
فلا تلعن ولكن تنصح ويدعى لها بالاستقامة والثبات، وكذلك إذا رأى إنسان يشرب الدخان فلا يلعنه، ولكن يدعو له وينصحه.
وكذلك لعن المشرك المعين لا يجوز على الصحيح، إلا من اشتد أذاه لهم، وذلك لكونه اعتدى عليهم. وقد قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن دوساً عصت وأبت فادع الله عليهم، فقال: (اللهم اهد دوساً وائت بهم).
قال الحافظ ابن عساكر : وقد رواه مالك بن سعيد بن الخمس عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعاً ].
ومالك بن سعيد بكسر المعجمة وسكون الميم بعده سين مهملة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ثم ساقه من طريق أبي بكر بن المقرئ وأبي أحمد الحاكم كلاهما عن بكر بن محمد بن إبراهيم الصوفي حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري عن أبي أسامة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا رحمة مهداة ).
ثم أورده من طريق الصلت بن مسعود عن سفيان بن عيينة عن مسعر عن سعيد بن خالد عن رجل عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله بعثني رحمة مهداة بعثت برفع قوم وخفض آخرين) ].
هذا الحديث ضعيف؛ ففيه رجل مبهم، لكن يصح مع الشاهد الذي قبله.
يا معشر قريش! إن محمداً نزل يثرب وأرسل طلائعه، وإنما يريد أن يصيب منكم شيئاً، فاحذورا أن تمروا طريقه أو تقاربوه، فإنه كالأسد الضاري، إنه حنق عليكم لأنكم نفيتموه نفي القردان عن المناسم، والله إن له لسحرة ما رأيته قط ولا أحداً من أصحابه إلا رأيت معهم الشياطين، وإنكم قد عرفتم عداوة ابني قيلة -يعني الأوس والخزرج- فهو عدو استعان بعدو ].
قوله: (خمرة) خطأ، والصواب: (حمزة) أي: حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه كما هي عند الطبراني ، كما ذكر ذلك في البداية والنهاية، وكان هذا في السنة الأولى، حيث خرج حمزة في سرية قبل بدر.
وبنو قيلة هم الأوس والخزرج نسبوا إلى أمهم، وكان اسمها قيلة، وكان الأوس والخزرج أخوين، ثم صارا حيين، وحدثت بينهم حروب، وكانت الحروب بينهم لا تهدأ قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جمعهم الله بالنبي صلى الله عليه وسلم، حين بادروا إلى الإسلام.
فـأبو جهل يقول لهم: أنتم تعرفون عداوة الخزرج لكم، وتعلمون عداوة محمد، فهو عدو نزل على عدو. وهذا إن صح هذا الخبر.
ويثرب: اسم للمدينة، وهو اسم جاهلي، فلما هاجر إليها النبي صلى الله عليه وسلم سماها طيبة وطابة، ولهذا أخبر الله عن المنافقين أنهم قالوا في غزوة الأحزاب: يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا [الأحزاب:13]
والمناسم جمع منسم -بكسر فسكون- وهو طرف خف البعير، وقيل: منسم البعير ظفراه اللذان في يديه.
قوله: (إنه له لسحرة) لعله (لسحراً).
قوله: (ما رأيته قط) يعني أن تأثيره في السحر أشد من تأثير غيره.
قال: المؤلف رحمه الله: [ فقال له مطعم بن عدي : يا أبا الحكم ! والله ما رأيت أحداً أصدق لساناً ولا أصدق موعداً من أخيكم الذي طردتم، وإذ فعلتم الذي فعلتم فكونوا أكف الناس عنه. قال أبو سفيان بن الحارث : كونوا أشد ما كنتم عليه؛ إن ابني قيلة إن ظفروا بكم لم يرقبوا فيكم إلاً ولا ذمة، وإن أطعتموني ألجأتموهم حير كنانة أو تخرجوا محمداً من بين ظهرانيهم، فيكون وحيداً مطروداً، وأما ابنا قيلة فوالله ما هما وأهل دهلك في المذلة إلا سواء، وسأكفيكم حدهم ].
قوله: [دَهْلَك]: بفتح أوله وسكون ثانيه، ولام مفتوحة، وآخره كاف، وهو اسم أعجمي معرب، وهي جزيرة في بحر اليمن، وهو مرسى بين بلاد اليمن والحبشة.
قال المؤلف رحمه الله: [ وقال:
سأمنح جانباً مني غليظا على ما كان من قرب وبعد
رجال الخزرجية أهل ذل إذا ما كان هزل بعد جد
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (والذي نفسي بيده لأقتلنهم، ولأصلبنهم، ولأهدينهم، وهم كارهون؛ إني رحمة بعثني الله، ولا يتوفاني حتى يظهر الله دينه، لي خمسة أسماء أنا محمد، وأحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب)، وقال أحمد بن صالح : أرجو أن يكون الحديث صحيحاً].
وقال: الترمذي حديث حسن صحيح، وصححه الألباني .
والشاهد من الحديث قوله: (إني رحمة).
فإن قيل: فأي رحمة حصلت لمن كفر به؟!
فالجواب: ما رواه أبو جعفر بن جرير حدثنا إسحاق بن شاهين حدثنا إسحاق الأزرق عن المسعودي عن رجل يقال له: سعيد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] قال: من آمن بالله واليوم الآخر كتب له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن بالله ورسوله عوفي مما أصاب الأمم من الخسف والقذف].
يعني أنه رحمة للكافر؛ لأنه يعافى من الخسف والقذف، والقذف هو الرمي بالحجارة، كما رجم قوم لوط.
قال المؤلف رحمه الله: [ وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث المسعودي عن أبي سعد -وهو سعيد بن المرزبان البقال - عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما فذكره بنحوه، والله أعلم.
وقد رواه أبو القاسم الطبراني عن عبدان بن أحمد عن عيسى بن يونس الرملي عن أيوب بن سويد عن المسعودي عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] قال: من تبعه كان له رحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يتبعه عوفي مما كان يبتلى به سائر الأمم من الخسف والمسخ والقذف ].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ يقول تعالى آمراً رسوله صلوات الله وسلامه عليه أن يقول للمشركين: قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [الأنبياء:108] أي: متبعون على ذلك مستسلمون منقادون له، فَإِنْ تَوَلَّوْا [الأنبياء:109] أي: تركوا ما دعوتهم إليه، فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ [الأنبياء:109] أي: أعلمتكم أني حرب لكم كما أنكم حرب لي، بريء منكم كما أنكم برآء مني، كقوله: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يونس:41]، وقال: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ [الأنفال:58]، أي: ليكن علمك وعلمهم بنبذ العهود على السواء، وهكذا ههنا: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ [الأنبياء:109] أي: أعلمتكم ببراءتي منكم وبراءتكم مني لعلمي بذلك.
[وقوله: وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ [الأنبياء:109]. أي: هو واقع لا محالة، ولكن لا علم لي بقربه ولا ببعده إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ [الأنبياء:110] أي: إن الله يعلم الغيب جميعه، ويعلم ما يظهره العباد وما يسرون، يعلم الظواهر والضمائر، ويعلم السر وأخفى، ويعلم ما العباد عاملون في أجهارهم وأسرارهم، وسيجزيهم على ذلك القليل والجليل.
وقوله: وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [الأنبياء:111] أي: وما أدري لعل هذا فتنة لكم ومتاع إلى حين.
قال ابن جرير : لعل تأخير ذلك عنكم فتنة لكم ومتاع إلى أجل مسمى، وحكاه عون عن ابن عباس رضي الله عنهما، فالله أعلم ].
وقوله: [ إجهارهم ] متعد بالهمزة، وأصل الفعل منه (جهر) فعدي بالهمزة، ومثله أكرم وأقدم.
وأجهر جهاراً، متعد بالهمزة، مثل كرم، أكرم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أي: افصل بيننا وبين قومنا المكذبين بالحق.
قال قتادة : كانت الأنبياء عليهم السلام يقولون: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [الأعراف:89].
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك، وعن مالك عن زيد بن أسلم : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا شهد غزاة قال: (رب احكم بالحق) ) ].
وقوله: وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [الأنبياء:112].
أي: على ما يقولون ويفترون من الكذب، ويتنوعون في مقامات التكذيب والإفك، والله المستعان عليكم في ذلك ].
الجواب إذا أكره فإنه يتقيهم، كما قال الله: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران:28] وأما مع عدم الإكراه فإنه تجب البراءة ظاهرة، فعلى كل مسلم يعلن البراءة من الكفار، قال الله تعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة:4].
فتجب البراءة إلى الله تعالى من المشركين والكفار والمنافقين واليهود والنصارى، ونبرأ إلى الله تعالى من اعتقادهم وأعمالهم وأقوالهم وأفعالهم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر