قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن عباس : وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [البقرة:4] أي: يصدقون بما جئت به من الله، وما جاء به من قبلك من المرسلين لا يفرقون بينهم، ولا يجحدون ما جاءوهم به من ربهم وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أي: بالبعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان، وإنما سميت الآخرة لأنها بعد الدنيا ].
أحدها: أن الموصوفين أولاً هم الموصوفون ثانياً، وهم كل مؤمن مؤمنو العرب ومؤمنو أهل الكتاب وغيرهم، قاله مجاهد وأبو العالية والربيع بن أنس وقتادة .
والثاني: هما واحد، وهم مؤمنو أهل الكتاب، وعلى هذين تكون الواو عاطفة صفات على صفات، كما قال تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى [الأعلى:1-5].
وكما قال الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم
فعطف الصفات بعضها على بعض والموصوف واحد ].
وهو الملك القرم ابن الهمام وليث الكتبية، فلو حذفت الواو لبقي المقصود واحداً، فكلها صفات له.
وقوله: [ فعطف الصفات بعضها على بعض، والموصوف واحد ].
يعني: قالوا: إن قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ [البقرة:3-4] يراد به موصوف واحد، وهم أهل الكتاب.
والقول الأول: أن المراد به العموم، أي: المؤمنون من العرب ومن أهل الكتاب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والثالث: أن الموصوفين أولاً مؤمنو العرب، والموصوفين ثانياً بقوله: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة:4]، لمؤمني أهل الكتاب، نقله السدي في تفسيره عن ابن عباس وابن مسعود وأناس من الصحابة رضي الله عنهم، واختاره ابن جرير رحمه الله، ويُستشهَد لما قال بقوله تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ [آل عمران:199] ].
أي أن ابن جرير اختار أن المراد بقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ [البقرة:4] هم أهل الكتاب، واستشهد المؤلف لهذا القول بآية آل عمران.
فهنا ثلاثة أقوال: الأول: أن الموصوفين أولاً المؤمنون من العرب، والموصوفين ثانياً المؤمنون من أهل الكتاب.
والقول الثاني: أن الموصوفين أولاً وثانياً هم أهل الكتاب.
والقول الثالث: أن الموصوفين أولاً وثانياً المؤمنون من العرب ومن أهل الكتاب، والصواب -كما سيأتي- أنه عام، فالموصوفون أولاً وثانياً هم المؤمنون من العرب ومن أهل الكتاب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ويستشهد لما قال بقوله تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ [آل عمران:199] الآية.
وبقوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [القصص:52-54].
وبما ثبت في الصحيحين من حديث الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي، ورجل مملوك أدى حق الله وحق مواليه، ورجل أدب جاريته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها).
وأما ابن جرير فما استشهد على صحة ما قال إلا بمناسبة، وهي أن الله وصف في أول هذه السورة المؤمنين والكافرين، فكما أنه صنف الكافرين إلى صنفين: كافر ومنافق، فكذلك المؤمنون صنفهم إلى صنفين: عربي وكتابي ].
هذا اختاره ابن جرير رحمه الله، والصواب القول الأول، وهو أن الموصوفين أولاً وثانياً هم المؤمنون من العرب ومن أهل الكتاب.
فهذه الآيات الأربع عامات في كل مؤمن اتصف بها من عربي وعجمي وكتابي، من إنسي وجني، وليس تصح واحدة من هذه الصفات بدون الأخرى، بل كل واحدة مستلزمة للأخرى وشرط معها، فلا يصح الإيمان بالغيب وإقام الصلاة والزكاة إلا مع الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من قبله من الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، والإيقان بالآخرة، كما أن هذا لا يصح إلا بذاك، وقد أمر الله المؤمنين بذلك، كما قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ.. [النساء:136] الآية، وقال تعالى: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ.. [العنكبوت:46] الآية، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ [النساء:47]، وقال تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [المائدة:68].
وأخبر تعالى عن المؤمنين كلهم بذلك، فقال تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة:285]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ [النساء:152]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أمر جميع المؤمنين بالإيمان بالله ورسله وكتبه، لكن لمؤمني أهل الكتاب خصوصية، وذلك أنهم يؤمنون بما بأيديهم مفصلاً، فإذا دخلوا في الإسلام وآمنوا به مفصلاً كان لهم على ذلك الأجر مرتين، وأما غيرهم فإنما يحصل له الإيمان بما تقدم مجملاً، كما جاء في الصحيح: (إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تكذبوهم ولا تصدقوهم، ولكن قولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم)، ولكن قد يكون إيمان كثير من العرب بالإسلام الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم أتم وأكمل، وأعم وأشمل من إيمان من دخل منهم في الإسلام، فهم وإن حصل لهم أجران من تلك الحيثية فغيرهم يحصل له من التصديق ما يُنيف ثوابه على الأجرين اللذين حصلا لهم، والله أعلم ].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول الله تعالى: أُوْلَئِكَ [البقرة:5] أي: المتصفون بما تقدم من الإيمان بالغيب، وإقام الصلاة، والإنفاق من الذي رزقهم الله، والإيمان بما أنزل إلى الرسول ومن قبله من الرسل، والإيقان بالدار الآخرة، وهو مستلزمٌ الاستعداد لها من الأعمال الصالحة وترك المحرمات، عَلَى هُدًى [البقرة:5] أي: على نور وبيان وبصيرة من الله تعالى وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي: في الدنيا والآخرة ].
أي أن هؤلاء هم أهل الهداية في الدنيا، وهم أهل الفلاح في الآخرة، فالذي يوصفون بهذه الصفات: الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، وينفقون مما رزقهم الله، ويؤمنون بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وما أنزل من قبله، ويوقنون بالآخرة، والاستعداد لها بالعمل الصالح، وأداء حقوق الله، وحقوق العباد، والوقوف عند حدود الله؛ هؤلاء هم أهل الهداية في الدنيا وهم أهل الفلاح في الآخرة، فقد حصلوا على ما يطلبون، وهو رضا الله وكرامته، والتمتع برؤيته سبحانه وتعالى، وسلموا من غضب الله وسخطه وناره، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير- عن ابن عباس رضي الله عنهما: أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ أي: على نور من ربهم واستقامة على ما جاءهم به، وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:5] أي: الذين أدركوا ما طلبوا ونجوا من شر ما منه هربوا ].
الذي يطلبونه هو ثواب الله ورضاه وجنته، والذي يرهبونه هو غضب الله وسخطه والنار، فهم أدركوا ما طلبوا وسلموا مما خافوا منه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال ابن جرير : أما معنى قوله تعالى: أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ فإن معنى ذلك: فإنهم على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد بتسديده إياهم وتوفيقه لهم، وتأويل قوله تعالى: وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي: المنجحون المدركون ما طلبوا عند الله بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله من الفوز بالثواب، والخلود في الجنات، والنجاة مما أعد الله لأعدائه من العقاب.
وقد حكى ابن جرير قولاً عن بعضهم أنه أعاد اسم الإشارة في قوله تعالى: أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ إلى مؤمني أهل الكتاب الموصوفين بقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ الآية، على ما تقدم من الخلاف، وعلى هذا فيجوز أن يكون قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ منقطعاً مما قبله، وأن يكون مرفوعاً على الابتداء، وخبره: وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ .
واختار أنه عائد إلى جميع من تقدم ذكره من مؤمني العرب وأهل الكتاب؛ لما رواه السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما الذين يؤمنون بالغيب فهم المؤمنون من العرب، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [البقرة:4] هم المؤمنون من أهل الكتاب. ثم جمع الفريقين فقال: أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ .
وقد تقدم من الترجيح أن ذلك صفة للمؤمنين عامة، والإشارة عائدة عليهم، والله أعلم.
وقد نقل عن مجاهد وأبي العالية والربيع بن أنس وقتادة رحمهم الله ].
الصواب أن الإشارة للجميع وأن الوصف للجميع، فكل من الوصفين المراد به المؤمنون من العرب ومن أهل الكتاب، من الجن ومن الإنس، من السابقين ومن اللاحقين, والإشارة تعود إليهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح المصري ، حدثنا أبي، وحدثنا ابن لهيعة، حدثني عبيد الله بن المغيرة عن أبي الهيثم -واسمه سليمان بن عبد الله- عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقيل له: (يا رسول الله! إنا نقرأ من القرآن فنرجو، ونقرأ من القرآن فنكاد أن نيئس -أو كما قال-، قال: أفلا أخبركم عن أهل الجنة وأهل النار؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:1-2].. إلى قوله تعالى: الْمُفْلِحُونَ [البقرة:5] هؤلاء أهل الجنة، قالوا: إنا نرجو أن نكون هؤلاء، ثم قال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ [البقرة:6] إلى قوله: عَظِيمٌ [البقرة:7] هؤلاء أهل النار، قالوا: لسنا هم يا رسول الله، قال: أجل) ].
هذا الحديث في سنده ابن لهيعة، وهو ضعيف.
وأبو الهيثم: قيل في حاشية الشعب: في المخطوطة أن اسمه سليمان بن عمرو العفواري، كما في خلاصة التهذيب.
وأما عثمان بن صالح السهمي المصري فقد ذكره الحافظ الذهبي في الميزان، وفي ترجمته أحاديث مكذوبة أدخلت عليه.
و أبو الهيثم في السند هو سليمان بن عمرو وليس هو ابن عبد الله، فينظر هل سمع من عبد الله بن عمرو، فإنهم ما ذكروا في ترجمته من روى عنه من الصحابة إلا أبا سعيد وأبا هريرة ، وأبا بصرة الرفاعي، كما في (الجرح والتعديل) لـابن أبي حاتم ، وفي (تهذيب التهذيب) إلا أنه صحف أبا بصرة إلى أبي نضرة .
فيكون في الحديث انقطاعاً مع ضعف ابن لهيعة أيضاً، لكن المعنى صحيح.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر