إسلام ويب

تفسير سورة البقرة [4-5]للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من لوازم الإيمان وصفات المؤمنين الإيمان بما أنزل على نبينا صلى الله عليه وسلم وما أنزل على من سبقه من إخوانه المرسلين، وهذا الإيمان أمر إيجابي حتمي لا يصح لأي مكلف إيمانه بدونه، وجمعه مع سائر لوازم الإيمان سبيل إلى نيل هداية الله تعالى والفوز والفلاح في الدنيا والآخرة.
    قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة:4].

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن عباس : وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [البقرة:4] أي: يصدقون بما جئت به من الله، وما جاء به من قبلك من المرسلين لا يفرقون بينهم، ولا يجحدون ما جاءوهم به من ربهم وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أي: بالبعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان، وإنما سميت الآخرة لأنها بعد الدنيا ].

    ذكر خلاف المفسرين فيمن أريد بقوله تعالى: (والذين يؤمنون بما أنزل إليك ...)

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد اختلف المفسرون في الموصوفين هنا: هل هم الموصوفون بما تقدم من قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:3]، ومن هم؟ على ثلاثة أقوال حكاها ابن جرير.

    أحدها: أن الموصوفين أولاً هم الموصوفون ثانياً، وهم كل مؤمن مؤمنو العرب ومؤمنو أهل الكتاب وغيرهم، قاله مجاهد وأبو العالية والربيع بن أنس وقتادة .

    والثاني: هما واحد، وهم مؤمنو أهل الكتاب، وعلى هذين تكون الواو عاطفة صفات على صفات، كما قال تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى [الأعلى:1-5].

    وكما قال الشاعر:

    إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم

    فعطف الصفات بعضها على بعض والموصوف واحد ].

    وهو الملك القرم ابن الهمام وليث الكتبية، فلو حذفت الواو لبقي المقصود واحداً، فكلها صفات له.

    وقوله: [ فعطف الصفات بعضها على بعض، والموصوف واحد ].

    يعني: قالوا: إن قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ [البقرة:3-4] يراد به موصوف واحد، وهم أهل الكتاب.

    والقول الأول: أن المراد به العموم، أي: المؤمنون من العرب ومن أهل الكتاب.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والثالث: أن الموصوفين أولاً مؤمنو العرب، والموصوفين ثانياً بقوله: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة:4]، لمؤمني أهل الكتاب، نقله السدي في تفسيره عن ابن عباس وابن مسعود وأناس من الصحابة رضي الله عنهم، واختاره ابن جرير رحمه الله، ويُستشهَد لما قال بقوله تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ [آل عمران:199] ].

    أي أن ابن جرير اختار أن المراد بقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ [البقرة:4] هم أهل الكتاب، واستشهد المؤلف لهذا القول بآية آل عمران.

    فهنا ثلاثة أقوال: الأول: أن الموصوفين أولاً المؤمنون من العرب، والموصوفين ثانياً المؤمنون من أهل الكتاب.

    والقول الثاني: أن الموصوفين أولاً وثانياً هم أهل الكتاب.

    والقول الثالث: أن الموصوفين أولاً وثانياً المؤمنون من العرب ومن أهل الكتاب، والصواب -كما سيأتي- أنه عام، فالموصوفون أولاً وثانياً هم المؤمنون من العرب ومن أهل الكتاب.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ويستشهد لما قال بقوله تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ [آل عمران:199] الآية.

    وبقوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [القصص:52-54].

    وبما ثبت في الصحيحين من حديث الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي، ورجل مملوك أدى حق الله وحق مواليه، ورجل أدب جاريته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها).

    وأما ابن جرير فما استشهد على صحة ما قال إلا بمناسبة، وهي أن الله وصف في أول هذه السورة المؤمنين والكافرين، فكما أنه صنف الكافرين إلى صنفين: كافر ومنافق، فكذلك المؤمنون صنفهم إلى صنفين: عربي وكتابي ].

    هذا اختاره ابن جرير رحمه الله، والصواب القول الأول، وهو أن الموصوفين أولاً وثانياً هم المؤمنون من العرب ومن أهل الكتاب.

    اختيار ابن كثير

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قلت: والظاهر قول مجاهد فيما رواه الثوري عن رجل عن مجاهد ، ورواه غير واحد عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال: أربع آيات من أول سورة البقرة في نعت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة في المنافقين.

    فهذه الآيات الأربع عامات في كل مؤمن اتصف بها من عربي وعجمي وكتابي، من إنسي وجني، وليس تصح واحدة من هذه الصفات بدون الأخرى، بل كل واحدة مستلزمة للأخرى وشرط معها، فلا يصح الإيمان بالغيب وإقام الصلاة والزكاة إلا مع الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من قبله من الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، والإيقان بالآخرة، كما أن هذا لا يصح إلا بذاك، وقد أمر الله المؤمنين بذلك، كما قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ.. [النساء:136] الآية، وقال تعالى: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ.. [العنكبوت:46] الآية، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ [النساء:47]، وقال تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [المائدة:68].

    وأخبر تعالى عن المؤمنين كلهم بذلك، فقال تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة:285]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ [النساء:152]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أمر جميع المؤمنين بالإيمان بالله ورسله وكتبه، لكن لمؤمني أهل الكتاب خصوصية، وذلك أنهم يؤمنون بما بأيديهم مفصلاً، فإذا دخلوا في الإسلام وآمنوا به مفصلاً كان لهم على ذلك الأجر مرتين، وأما غيرهم فإنما يحصل له الإيمان بما تقدم مجملاً، كما جاء في الصحيح: (إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تكذبوهم ولا تصدقوهم، ولكن قولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم)، ولكن قد يكون إيمان كثير من العرب بالإسلام الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم أتم وأكمل، وأعم وأشمل من إيمان من دخل منهم في الإسلام، فهم وإن حصل لهم أجران من تلك الحيثية فغيرهم يحصل له من التصديق ما يُنيف ثوابه على الأجرين اللذين حصلا لهم، والله أعلم ].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088466098

    عدد مرات الحفظ

    776890194