من لوازم الإيمان وصفات المؤمنين الإيمان بما أنزل على نبينا صلى الله عليه وسلم وما أنزل على من سبقه من إخوانه المرسلين، وهذا الإيمان أمر إيجابي حتمي لا يصح لأي مكلف إيمانه بدونه، وجمعه مع سائر لوازم الإيمان سبيل إلى نيل هداية الله تعالى والفوز والفلاح في الدنيا والآخرة.
تقسير قوله تعالى: (والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن عباس : وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ[البقرة:4] أي: يصدقون بما جئت به من الله، وما جاء به من قبلك من المرسلين لا يفرقون بينهم، ولا يجحدون ما جاءوهم به من ربهم وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أي: بالبعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان، وإنما سميت الآخرة لأنها بعد الدنيا ].
ذكر خلاف المفسرين فيمن أريد بقوله تعالى: (والذين يؤمنون بما أنزل إليك ...)
فهنا ثلاثة أقوال: الأول: أن الموصوفين أولاً المؤمنون من العرب، والموصوفين ثانياً المؤمنون من أهل الكتاب.
والقول الثاني: أن الموصوفين أولاً وثانياً هم أهل الكتاب.
والقول الثالث: أن الموصوفين أولاً وثانياً المؤمنون من العرب ومن أهل الكتاب، والصواب -كما سيأتي- أنه عام، فالموصوفون أولاً وثانياً هم المؤمنون من العرب ومن أهل الكتاب.
وأما ابن جرير فما استشهد على صحة ما قال إلا بمناسبة، وهي أن الله وصف في أول هذه السورة المؤمنين والكافرين، فكما أنه صنف الكافرين إلى صنفين: كافر ومنافق، فكذلك المؤمنون صنفهم إلى صنفين: عربي وكتابي ].
هذا اختاره ابن جرير رحمه الله، والصواب القول الأول، وهو أن الموصوفين أولاً وثانياً هم المؤمنون من العرب ومن أهل الكتاب.
اختيار ابن كثير
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قلت: والظاهر قول مجاهد فيما رواه الثوري عن رجل عن مجاهد ، ورواه غير واحد عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال: أربع آيات من أول سورة البقرة في نعت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة في المنافقين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول الله تعالى: أُوْلَئِكَ[البقرة:5] أي: المتصفون بما تقدم من الإيمان بالغيب، وإقام الصلاة، والإنفاق من الذي رزقهم الله، والإيمان بما أنزل إلى الرسول ومن قبله من الرسل، والإيقان بالدار الآخرة، وهو مستلزمٌ الاستعداد لها من الأعمال الصالحة وترك المحرمات، عَلَى هُدًى [البقرة:5] أي: على نور وبيان وبصيرة من الله تعالى وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي: في الدنيا والآخرة ].
أي أن هؤلاء هم أهل الهداية في الدنيا، وهم أهل الفلاح في الآخرة، فالذي يوصفون بهذه الصفات: الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، وينفقون مما رزقهم الله، ويؤمنون بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وما أنزل من قبله، ويوقنون بالآخرة، والاستعداد لها بالعمل الصالح، وأداء حقوق الله، وحقوق العباد، والوقوف عند حدود الله؛ هؤلاء هم أهل الهداية في الدنيا وهم أهل الفلاح في الآخرة، فقد حصلوا على ما يطلبون، وهو رضا الله وكرامته، والتمتع برؤيته سبحانه وتعالى، وسلموا من غضب الله وسخطه وناره، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.
الذي يطلبونه هو ثواب الله ورضاه وجنته، والذي يرهبونه هو غضب الله وسخطه والنار، فهم أدركوا ما طلبوا وسلموا مما خافوا منه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال ابن جرير : أما معنى قوله تعالى: أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ فإن معنى ذلك: فإنهم على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد بتسديده إياهم وتوفيقه لهم، وتأويل قوله تعالى: وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي: المنجحون المدركون ما طلبوا عند الله بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله من الفوز بالثواب، والخلود في الجنات، والنجاة مما أعد الله لأعدائه من العقاب.
وقد حكى ابن جرير قولاً عن بعضهم أنه أعاد اسم الإشارة في قوله تعالى: أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ إلى مؤمني أهل الكتاب الموصوفين بقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ الآية، على ما تقدم من الخلاف، وعلى هذا فيجوز أن يكون قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ منقطعاً مما قبله، وأن يكون مرفوعاً على الابتداء، وخبره: وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ .
الصواب أن الإشارة للجميع وأن الوصف للجميع، فكل من الوصفين المراد به المؤمنون من العرب ومن أهل الكتاب، من الجن ومن الإنس، من السابقين ومن اللاحقين, والإشارة تعود إليهم.