قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ يقال: مثل ومثل ومثيل أيضاً، والجمع أمثال، قال الله تعالى: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43] وتقدير هذا المثل أن الله سبحانه شبههم في اشترائهم الضلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد البصيرة إلى العمى بمن استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها وأبصر بها ما عن يمينه وشماله وتأنس بها؛ فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره وصار في ظلام شديد لا يبصر ولا يهتدي، وهو مع هذا أصم لا يسمع، أبكم لا ينطق، أعمى لو كان ضياءً لما أبصر؛ فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضاً عن الهدى، واستحبابهم الغي على الرشد، وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا، كما أخبر تعالى عنهم في غير هذا الموضع، والله أعلم ].
إن المنافقين من أخطر أعداء الله على المسلمين، وهم أشد الناس كفراً وضلالاً؛ وذلك لأنهم يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، فيلتبس أمرهم على المسلمين، ولهذا جلى الله سبحانه وتعالى صفاتهم في مواضع من كتابه، ومن ذلك هذه السورة الكريمة، فلقد ذكر الله تعالى وصفهم في ثلاث عشرة آية، بينما ذكر المؤمنين باطناً وظاهراً في أربع آيات، والكفار ظاهراً وباطناً في آيتين.
وأما المنافقون فلشدة خطرهم والتباسهم وشدة عداوتهم للإسلام والمسلمين جلى الله صفاتهم، ومن ذلك ما ذكره الله تعالى في هذه الآيات أنهم يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، وأنهم يخادعون الله ورسوله، وأنهم يصفون المؤمنين بالسفه، وأنهم لهم وجه مع المؤمنين ووجه مع الكافرين.
والمنافقون أصناف، فهذا الصنف من المنافقين كانوا على الإيمان أولاً ثم كفروا، أي أنهم كانوا مؤمنين أبصروا الهدى ورأوا الحق، ثم عموا عن الحق -والعياذ بالله- وانتكسوا وارتكسوا، نسأل الله السلامة والعافية.
وقد ضرب الله لهم هذا المثل الناري فقال: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا يعني: مثل إنسان كان في البرية أوقد ناراً فأضاءت فأبصر ما حوله وصار يرى كل شيء حوله، فهذا فيه تمثيل لهم بأنهم آمنوا، وذلك أنهم آمنوا أولاً وأبصروا الحق، ثم رجعوا بعد ذلك إلى الكفر فانطفأت هذه النار، فصاروا لا يبصرون ما حولهم، فكأنهم صاروا في ظلام دامس، ومع ذلك كل واحد منهم أصم لا يستطيع السمع، وأعمى لا يبصر حتى ولو لم يكن هناك ظلمة، وأبكم لا يتكلم، فكيف تكون حاله؟! فهذه حال المنافقين، نسأل الله السلامة والعافية.
وأما الصنف الثاني من الذين ضرب لهم المثل الناري؛ فهم أناس عندهم إيمان لكنه يخبو أحياناً ويضيء أحياناً، فأحياناً يكون عندهم إيمان وأحياناً يزول بسبب شكوكهم وغيهم.
وقوله: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى يعني: اعتاضوا الضلالة بالهدى، والباء تدخل على المتروك، أي أنهم تركوا الهدى وأخذوا الضلالة، فهم رغبوا في الضلالة كما يرغب المشتري في السلعة، نسأل الله السلامة والعافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد حكى هذا الذي قلناه الرازي في تفسيره عن السدي ، ثم قال: والتشبيه ههنا في غاية الصحة؛ لأنهم بإيمانهم اكتسبوا أولاً نوراً، ثم بنفاقهم ثانياً أبطلوا ذلك، فوقعوا في حيرة عظيمة، فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين.
وزعم ابن جرير أن المضروب لهم المثل ههنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات، واحتج بقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8]، والصواب أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم، وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك ثم سلبوه وطبع على قلوبهم.
ولم يستحضر ابن جرير هذه الآية ههنا، وهي قوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ [المنافقون:3]، فلهذا وجه هذا المثل بأنهم استضاءوا بما أظهروه من كلمة الإيمان، أي: في الدنيا، ثم أعقبهم ظلمات يوم القيامة، قال: وصح ضرب مثل الجماعة بالواحد، كما قال: رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [الأحزاب:19] أي: كدوران الذي يغشى عليه من الموت، وقال تعالى: مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [لقمان:28]، وقال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة:5].
وقال بعضهم: تقدير الكلام: مثل قصتهم كقصة الذي استوقد ناراً وقال بعضهم: المستوقد واحد لجماعة معه، وقال آخرون: (الذي) ههنا بمعنى (الذين) كما قال الشاعر:
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد ].
قوله: (وإن الذي)، أي: وإن الذين، فتأتي (الذي) بمعنى (الذين).
و ابن جرير رحمه الله شيخ المفسرين، وله اليد الطولى في التفسير، ولكن قد يكون له بعض الآراء المرجوحة، والحافظ ابن كثير رحمه الله لخص تفسيره وأتى بتحقيقات جيدة، فهو يتعقب ابن جرير ويخالفه أحياناً في الترجيح، ومن المعلوم أن ابن جرير له اليد الطولى وله السبق، وهو كما قال ابن مالك لما سبقه ابن معط في تأليف ألفية في علم النحو:
وهو بسبق حائز تفضيلاً مستوجب ثنائي الجميلا
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قلت: وقد التفت في أثناء المثل من الواحد إلى الجمع في قوله تعالى: فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة:17-18]، وهذا أفصح في الكلام، وأبلغ في النظام.
وقوله تعالى: ذهب الله بنورهم أي: ذهب عنهم بما ينفعهم، وهو النور، وأبقى لهم ما يضرهم، وهو الإحراق والدخان.
وتركهم في ظلمات هو ما هم فيه من الشك والكفر والنفاق.
لا يبصرون: لا يهتدون إلى سبيل خير ولا يعرفونها، وهم مع ذلك (صم) لا يسمعون خيراً، (بكم) لا يتكلمون بما ينفعهم، (عمي) في ضلالة وعماية البصيرة، كما قال تعالى: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46] ].
وقع في الآية أسلوب بلاغي معروف في اللغة يسمى الالتفات، أي: يلتفت من الغيبة إلى الخطاب، أو يلتفت من الخطاب إلى الغيبة، ونحو ذلك.
قوله: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ المقصود به الصمم والبكم والعمى المعنوي، فهم لا يرون الحق، ولا يتكلمون بالحق، ولا يسمعون الحق، وإن كانت أسماعهم وأبصارهم وألسنتهم سليمة، وخاصة في أمور دنياهم، فهم في أمور دنياهم يتكلمون، وليس الواحد منهم أخرس، وكذلك يسمعون كلام الدنيا وأمورها، وكذلك -أيضاً- يبصرون أمور دنياهم، لكنهم لا يبصرون الحق، ولا يقبلونه، ولا يتكلمون به.
قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة رضي الله عنهم في قوله تعالى: فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ [البقرة:17] زعم أن ناساً دخلوا في الإسلام مقدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ثم إنهم نافقوا، وكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقد ناراً، فلما أضاءت ما حوله من قذىً أو أذىً فأبصره حتى عرف ما يتقي منه، فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى، فذلك المنافق كان في ظلمة الشرك فأسلم، فعرف الحلال والحرام، والخير والشر، فبينما هو كذلك إذ كفر فصار لا يعرف الحلال من الحرام، ولا الخير من الشر.
وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية قال: أما النور فهو إيمانهم الذي كانوا يتكلمون به، وأما الظلمة فهي ضلالتهم وكفرهم الذي كانوا يتكلمون به، وهم قوم كانوا على هدىً ثم نزع منهم فعتوا بعد ذلك ].
رواية العوفي عن ابن عباس منقطعة، وكذلك رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس .
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال مجاهد : فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ أما إضاءة النار فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى. وقال عطاء الخراساني في قوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا قال: هذا مثل المنافق يبصر أحياناً ويعرف أحياناً، ثم يدركه عمى القلب.
وقال ابن أبي حاتم : وروي عن عكرمة والحسن والسدي والربيع بن أنس نحو قول عطاء الخراساني .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا إلى آخر الآية، قال: هذه صفة المنافقين، كانوا قد آمنوا حتى أضاء الإيمان في قلوبهم كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا ناراً، ثم كفروا، (فذهب الله بنورهم) أي: فانتزعه كما ذهب بضوء هذه النار، (فتركهم في ظلمات لا يبصرون).
وأما قول ابن جرير فيشبه ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا قال: هذا مثل ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزون بالإسلام، فيناكحهم المسلمون، ويوارثونهم، ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العز، كما سلب صاحب النار ضوءه ].
معنى ذلك أن المنافق إذا أخفى نفاقه فإنها تجرى عليه أحكام الإسلام، فيزوج، ويرث من أقاربه، ويورث، ويصلى عليه، وتتبع جنازته، وتجرى عليه سائر أحكام الإسلام، لكنه في الآخرة في أسفل النار.
وأما إذا أظهر نفاقه فإنه يقتل ويعامل معاملة المرتد، ولهذا لما مات عبد الله بن أبي رئيس المنافقين ودُلِّي في حفرته جاءه النبي صلى الله عليه وسلم واستخرجه، ونفث فيه من ريقه، وألبسه قميصه، فلما أراد أن يصلي عليه أخذ عمر بثوبه وقال: أتصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا وكذا كذا وكذا؟! فقال: (أخر عني يا
وهذا قبل أن ينهى، ثم نزلت الآية بعد ذلك: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة:84]، ففعل عليه الصلاة والسلام هذا قبل أن ينهى عن الصلاة عليهم، لأنه كان يرجو أن ينفعه ذلك، وفعل ذلك أيضاً مراعاة للأوس، ومراعاة لابنه عبد الله ، فإنه كان يتألفهم عليه صلى الله عليه وسلم، ثم نهي بعد ذلك عن الصلاة على المنافقين، فمن علم نفاقه فلا يُصلى عليه، ومن لم يعلم نفاقه صلى عليه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية : مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [البقرة:17]؛ فإنما ضوء النار ما أوقدتها، فإذا خمدت ذهب نورها، وكذلك المنافق كلما تكلم بكلمة الإخلاص بلا إله إلا الله أضاء له، فإذا شك وقع في الظلمة ].
المنافقون طبقات: فمنهم من استحكم الكفر والنفاق في قلبه، فليس عنده شيء من الإيمان، ومنهم من عنده شيء يسير يضيئ أحياناً ويخبو أحياناً، فإذا كثرت الشكوك والريب انطفأ هذا النور، وإذا خفت شكوكه ظهر شيء منه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال الضحاك : ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ : أما نورهم فهو إيمانهم الذي تكلموا به.
وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة : مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ هي لا إله إلا الله أضاءت لهم، فأكلوا بها وشربوا، وآمنوا في الدنيا، وأنكحوا النساء وحقنوا دماءهم، حتى إذا ماتوا ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ ].
أي أنهم لما قالوا: (لا إله إلا الله) دخلوا في الإسلام، فأكلوا بها وشربوا، أي: بقوا أحياء، وسلمت دماؤهم وأموالهم؛ لأنهم لو لم يقولوها لقتلوا، وبها تزوجوا النساء، ولكنهم كانوا يناقضون هذه الكلمة بالشك والريب والكفر، فلا تنفعهم في الآخرة، فكانوا في الدرك الأسفل من النار، عياذاً بالله تعالى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال سعيد عن قتادة في هذه الآية: إن المعنى: أن المنافق تكلم بلا إله إلا الله، فأضاءت له في الدنيا، فناكح بها المسلمين وغازاهم بها، ووارثهم بها وحقن بها دمه وماله، فلما كان عند الموت سلبها المنافق؛ لأنه لم يكن لها أصل في قلبه ولا حقيقة في عمله (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ) ].
أي: غزى وجاهد معهم في سبيل الله، فالمنافقون كانوا يغزون ويجاهدون مع المؤمنين، وقد انخذل عبد الله بن أبي يوم أحد بثلث الجيش، وكانوا -أيضاً- يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم، فالإسلام يُجري الأحكام على الظواهر، وأما البواطن فمردها إلى الله.
وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير- عن ابن عباس : (( وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ)) أي: يبصرون الحق ويقولون به، حتى إذا خرجوا من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم ونفاقهم فيه، فتركهم في ظلمات الكفر، فهم لا يبصرون هدى، ولا يستقيمون على حق.
وقال السدي في تفسيره بسنده: (( وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ)) فكانت الظلمة نفاقهم.
وقال الحسن البصري : (( وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ )) فذلك حين يموت المنافق، فيظلم عليه عمله عمل السوء، فلا يجد له عملاً من خير عمل به يصدق به قول لا إله إلا الله ].
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : (( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ )) يقول: لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه، وكذا قال أبو العالية وقتادة بن دعامة ].
أي أن صممهم معنوي وليس بحسي، فهذه أسماعهم سليمة، وأبصارهم سليمة، وألسنتهم سليمة، ولكنهم صم عن سماع الحق، وبكم لا يتكلمون بالحق، وعمي لا يرون الحق.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ (( فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ )) قال ابن عباس : أي لا يرجعون إلى هدى، وكذا قال الربيع بن أنس .
وقال السدي بسنده: (( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ )) إلى الإسلام، وقال قتادة : (( فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ )) أي: لا يتوبون ولا هم يذكرون ].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ هذا مثل آخر ضربه الله تعالى لضرب آخر من المنافقين ].
الضرب: هو النوع، أي: فهذا مثل ضربه الله تعالى لنوع آخر من المنافقين، فالمنافقون أقسام.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهم قوم يظهر لهم الحق تارة، ويشكون تارة أخرى، فقلوبهم في حال شكهم وكفرهم وترددهم كصيب، والصيب: المطر، قاله ابن مسعود وابن عباس وناس من الصحابة وأبو العالية ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحسن البصري وقتادة وعطية العوفي وعطاء الخراساني والسدي والربيع بن أنس .
وقال الضحاك : هو السحاب، والأشهر هو المطر نزل من السماء في حال الظلمات، وهي الشكوك والكفر ].
الأقرب أنه المطر؛ لحديث عائشة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى المطر قال: اللهم صيباً نافعاً).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ (ورعد)، وهو ما يزعج القلوب من الخوف، فإن من شأن المنافقين الخوف الشديد والفزع، كما قال تعالى: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ [المنافقون:4] ].
وذلك لأن قلوبهم مريضة، فهم يخافون أن يطلع المؤمنون على نفاقهم فيعاملونهم معاملة الكفار، فإذا سمعوا شيئاً ظنوا أنهم قد كشفوا وعرف حالهم، نسأل الله العافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال تعالى: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ [التوبة:56] ].
فمن صفات المنافقين الاعتذار بالحلف والأيمان الكاذبة، وقد فعلوا ذلك كما في غزوة تبوك وفي غيرها؛ ولهذا قال تعالى فيهم: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ [التوبة:56] أي أنهم يخافون أشد الخوف، ويهلعون أشد الهلع.
وقد ذكر الله في سورة الأحزاب كيفية الهلع بقوله: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [الأحزاب:18-19]، والمراد بالخوف هنا الجهاد، قال تعالى:فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ [الأحزاب:19] أي: يريدون أن يقاسموا المسلمين في الغنيمة، فإذا جاء صوت فزعوا منه؛ لأنهم ليس لديهم إيمان يدفعهم إلى الجهاد والشهادة، قال تعالى: فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ [الأحزاب:19] أي: الغنيمة، أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [الأحزاب:19].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال تعالى وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ * لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ [التوبة:56-57] ].
أي: وهم مسرعون.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والبرق: هو ما يلمح في قلوب هؤلاء الضرب من المنافقين في بعض الأحيان من نور الإيمان، ولهذا قال: يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ أي: ولا يجدي عنهم حذرهم شيئاً؛ لأن الله محيط بقدرته، وهم تحت مشيئته وإرادته، كما قال تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ [البروج:18-20].
والصواعق: جمع صاعقة، وهي نار تنزل من السماء وقت الرعد الشديد، وحكى الخليل بن أحمد عن بعضهم: صاعقة، وحكى بعضهم: صاعقة وصعقة وساطعة، ونقل عن الحسن البصري أنه قرأ من الصواقع حذر الموت بتقديم القاف، وأنشدوا لـأبي النجم :
يحكون بالمصقولة القواطع تشقق البرق عن الصواقع
قال النحاس : وهي لغة بني تميم وبعض بني ربيعة. وكذلك قال القرطبي في تفسيره ].
أي أنها لغة، واللغة المشهورة: صواعق.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ [البقرة:20] يقول: يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين.
وقال ابن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير- عن ابن عباس رضي الله عنهما: يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ أي: لشدة ضوء الحق، كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا [البقرة:20] أي: كلما ظهر لهم من الإيمان شيء استأنسوا به واتبعوه، وتارة تعرض لهم الشكوك فأظلمت قلوبهم فوقفوا حائرين.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ يقول: كلما أصاب المنافقين من عز الإسلام اطمأنوا إليه، وإن أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر، كقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ [الحج:11] الآية ].
أي: إذا انتصر المسلمون وأصابوا من الغنائم اطمأنوا وفرحوا، وقاسموا المسلمين الغنائم، وإذا أصابهم نكبة أو هزيمة ارتدوا والعياذ بالله؛ لما في قلبهم من الشكوك، قال الله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير- عن ابن عباس رضي الله عنهما : كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا [البقرة:20] أي: يعرفون الحق ويتكلمون به، فهم في قولهم به على استقامة، فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر قاموا أي: متحيرين.
وهكذا قال أبو العالية، والحسن البصري ، وقتادة، والربيع بن أنس، والسدي بسنده عن الصحابة، وهو أصح وأظهر، والله أعلم ].
أي أن نورهم في يوم القيامة يكون على حسب نور الإيمان في الدنيا، كما قال سبحانه: نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ [التحريم:8]، وقال تعالى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ [الحديد:12]، فمن كان قوي الإيمان حركه هذا الإيمان صاحبه إلى العمل الصالح والاستجابة والانقياد لأوامر الله وترك نواهيه، فيكون نوره قوياً يضيء له فراسخ، ومن ضعف إيمانه في هذه الدنيا ضعف نوره يوم القيامة حتى يكون كنور المنافقين الذين لهم نور يخبو ثم ينطفئ، نعوذ بالله.
وبعضهم من أول مرة ينطفئ نوره، قال الله تعالى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ [الحديد:13]، وذلك أنهم لما كانوا مع المؤمنين في الدنيا وكانوا يشاركونهم في العبادات كانوا معهم في الآخرة، ولهذا جاء في الحديث الصحيح الطويل أن الله عز وجل يقول يوم القيامة: (نتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار، حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر وغير أهل الكتاب، فيدعى اليهود فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد عزير ابن الله. فيقال: كذبتم، ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد، ويدعى النصارى فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد المسيح ابن مريم، فيقال لهم: كذبتم، ما اتخذ الله من صاحبة، ولا ولد، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها؛ فيتجلى الله لهم، فيسجد المؤمنون، ويريد المنافقون أن يسجدوا فلا يستطيعون السجود، ويكون ظهر كل واحد منهم طبقاً واحداً، كما قال سبحانه: وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ [القلم:42])، ثم بعد ذلك يجوزون الصراط وكل واحد معه نور، فينطفئ نور المنافقين، ويضرب بينهم وبين المؤمنين بسور له باب، نسأل الله العافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ومنهم من يطفأ نوره تارة ويضيء له أخرى، فيمشي على الصراط تارة ويقف أخرى، ومنهم من يطفأ نوره بالكلية وهم الخلّص من المنافقين الذين قال تعالى فيهم: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد:13] ].
قوله تعالى: انظرونا ليس المراد به النظر، بل المراد الانتظار، أي: انتظرونا حتى نقتبس من نوركم، فقيل لهم: ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد:13].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال في حق المؤمنين: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [الحديد:12]، وقال تعالى: يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التحريم:8]
ذكر الحديث الوارد في ذلك:
قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تعالى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ: ذُكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن أبين فصنعاء، ودون ذلك، حتى إن من المؤمنين من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه) ].
أي: منهم من يكون نوره طويلاً إلى عدن أبين، ومنهم من يكون أقل، ومنهم من نوره دون ذلك، لكن هذا الأثر عن قتادة مقطوع، وفيه -أيضاً- إبهام، فلا يعتمد عليه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ رواه ابن جرير ، ورواه ابن أبي حاتم من حديث عمران بن داور القطان عن قتادة بنحوه.
وهذا كما قال المنهال بن عمرو عن قيس بن السكن عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يرى نوره كالنخلة، ومنهم من يرى نوره كالرجل القائم، وأدناهم نوراً على إبهامه، يطفأ مرة ويتقد مرة ].
وهكذا رواه ابن جرير عن ابن مثنى عن ابن إدريس عن أبيه عن المنهال .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن علي بن محمد الطنافسي حدثنا ابن إدريس ، سمعت أبي يذكر عن المنهال بن عمرو ، عن قيس بن السكن ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ قال: على قدر أعمالهم يمرون على الصراط، فمنهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة، وأدناهم نوراً من نوره في إبهامه يتقد مرة ويطفأ أخرى.
وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي حدثنا أبو يحيى الحماني حدثنا عتبة بن اليقظان عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ليس أحد من أهل التوحيد إلا يعطى نوراً يوم القيامة، فأما المنافق فيطفأ نوره، فالمؤمن مشفق مما يرى من إطفاء نور المنافقين، فهم يقولون: رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا.
وقال الضحاك بن مزاحم : يعطى كل من كان يظهر الإيمان في الدنيا يوم القيامة نوراً، فإذا انتهى إلى الصراط طفئ نور المنافقين، فلما رأى ذلك المؤمنون أشفقوا، فقالوا: رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا ].
قسم الله تعالى في أول سورة البقرة الناس أقساماً:
القسم الأول: المؤمنون باطناً وظاهراً، وهم الذين قال فيهم: أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:5] والقسم الثاني: الكفار ظاهراً وباطناً، وهم الذين قال فيهم: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:6-7].
والقسم الثالث: المؤمنون ظاهراً الكفار باطناً، وهم المنافقون الذين قال الله فيهم: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:8] إلى آخر الآية.
وقسم هؤلاء إلى قسمين: قسم كفرهم غليظ، وهم المنافقون الخلَّص، وهم الذين ضرب لهم المثل الناري، وقسم آخر يظهر لهم النور تارة، ويخبو أخرى، نسأل الله العافية، وهم الذين ضرب لهم المثل المائي.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهذا المقام يشبه من بعض الوجوه ما ذكر في سورة النور من ضرب مثل المؤمن وما جعل الله في قلبه من الهدى والنور بالمصباح في الزجاجة التي كأنها كوكب دري، وهي قلب المؤمن المفطور على الإيمان، واستمداده من الشريعة الخالصة الصافية الواصلة إليه من غير كدر ولا تخليط، كما سيأتي تقريره في موضعه إن شاء الله، ثم ضرب مثل العُبَّاد من الكفار الذين يعتقدون أنهم على شيء وليسوا على شيء -وهم أصحاب الجهل المركب- في قوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا [النور:39] ثم ضرب مثل الكفار الجهال الجهل البسيط، وهم الذين قال الله فيهم: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40]. ].
الجهال الذين لا يعلمون الحق جهلهم بسيط، وأما العبَّاد من الكفار فجهلهم مركب؛ لأنهم لا يعلمون ويظنون أنهم على حق، حيث فهموا الأمور فهماً معكوساً، فعبّاد اليهود والنصارى يتعبدون على جهل وغي، وهم يحسبون أنهم على الحق.
فالجاهل جهلاً بسيطاً هو الذي لا يعلم، والجاهل جهلاً مركباً هو الذي يتصور الشيء على خلاف ما هو عليه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فقسم الكفار هنا إلى قسمين: داعية ومقلد، كما ذكرهما في أول سورة الحج: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ [الحج:3]، وقال بعده: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ [الحج:8]
وقد قسم الله المؤمنين في أول الواقعة وفي آخرها، وفي سورة الإنسان إلى قسمين: سابقون، وهم المقربون، وأصحاب يمين، وهم الأبرار.
فتلخص من مجموع هذه الآيات الكريمات أن المؤمنين صنفان: مقربون وأبرار، وأن الكافرين صنفان: دعاة ومقلدون، وأن المنافقين صنفان: منافق خالص، ومنافق فيه شعبة من نفاق، كما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) ].
المعروف عند أهل العلم أن الحديث إنما هو في النفاق العملي، لكن قال العلماء: إن هذه الخصال الأربع إذا استحكمت في الإنسان وكملت جرته إلى النفاق الأكبر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ استدلوا به على أن الإنسان قد تكون فيه شعبة من إيمان، وشعبة من نفاق إما عملي لهذا الحديث، أو اعتقادي كما دلت عليه الآية، كما ذهب إليه طائفة من السلف وبعض العلماء كما تقدم وكما سيأتي إن شاء الله ].
وهناك صنف ثالث من المؤمنين ذكره الله في سورة فاطر، وهم الظالمون لأنفسهم، وهم الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فهم مؤمنون موحدون لم يقعوا في الشرك لكن وقعوا في المعاصي، وذلك إما لأنهم قصروا في بعض الواجبات، أو ارتكبوا بعض المحرمات، وهؤلاء على خطر، فمنهم من يغفر الله له ويعفو عنه لتوحيده وإيمانه، ويدخل الجنة من أول وهلة، ومنهم من يشفع فيه، ومنهم من يعذب في النار، ومنهم من يعذب في القبر، ومنهم من يعذب بأهوال وشدائد يوم القيامة، لكن في النهاية مآلهم إلى الجنة والسلامة، فهم إذاً ثلاثة أصناف: سابقون مقربون، ومقتصدون، وظالمون لأنفسهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر حدثنا أبو معاوية -يعني: شيبان- عن ليث عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب مصفح، فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن، سراجه فيه نوره، وأما القلب الأغلف فقلب الكافر، وأما القلب المنكوس فقلب المنافق الخالص عرف ثم أنكر، وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق، ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والدم، فأي المدتين غلبت على الأخرى غلبت عليه)، وهذا إسناد جيد حسن ].
قلت: كيف يقول الحافظ ابن كثير : سنده جيد، وفيه الليث بن أبي سليم وهو ضعيف؟! فلعله يعني أن له شواهد.
وقال الشيخ أبو عبد الرحمن مقبل الوادعي : الحديث في سنده ليث، وهو: ابن أبي سليم كما جاء مصرحاً به في (المعجم الصغير) للطبراني ، وهو مختلط، وفي السند أيضاً انقطاع؛ فإن أبا البختري -وهو: سعيد بن فيروز- لم يسمع من أبي سعيد الخدري كما في (تهذيب التهذيب)، فعلم بهذا ضعف الحديث.
وقال ابن جرير : إنما وصف الله تعالى نفسه بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع؛ لأنه حذر المنافقين بأسه وسطوته، وأخبرهم أنه بهم محيط، وعلى إذهاب أسماعهم وأبصارهم قدير، ومعنى قدير قادر، كما أن معنى (عليم) عالم ].
ومناسبة ختم هذه الآية ببيان قدرته على كل شيء أن هؤلاء المنافقين ما استعملوا أسماعهم وأبصارهم وقلوبهم فيما ينفعهم، بل استعملوها فيما يضرهم، وقد حذرهم الله من ذلك وخوفهم وأخبرهم بأنه قادر على أن يسلب أسماعهم وأبصارهم وألسنتهم الحسية، كما سلب أسماعهم وأبصارهم وألسنتهم المعنوية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وذهب ابن جرير الطبري ومن تبعه من كثير من المفسرين إلى أن هذين المثلين مضروبان لصنف واحد من المنافقين، وتكون (أو) في قوله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ بمعنى الواو، كقوله تعالى: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [الإنسان:24] ].
يعني: آثماً وكفوراً، وقوله: (أو كصيب) أي: وكصيب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أو تكون للتخيير، أي: اضرب لهم مثلاً بهذا وإن شئت بهذا. قال القرطبي : (أو) للتساوي، مثل: جالس الحسن أو ابن سيرين ، على ما وجهه الزمخشري أن كلاً منهما مساوٍ للآخر في إباحة الجلوس إليه، ويكون معناه على قوله: سواء ضربت لهم مثلاً بهذا أو بهذا فهو مطابق لحالهم.
قلت: وهذا يكون باعتبار جنس المنافقين، فإنهم أصناف ولهم أحوال وصفات كما ذكرها الله تعالى في سورة براءة: (ومنهم) (ومنهم) (ومنهم)، يذكر أحوالهم وصفاتهم وما يعتمدونه من الأفعال والأقوال، فجعْل هذين المثلين لصنفين منهم أشد مطابقة لأحوالهم وصفاتهم -والله أعلم- كما ضرب المثلين في سورة النور لصنفي الكفار الدعاة والمقلدين في قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [النور:39] إلى أن قال: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ [النور:40]، فالأول للدعاة الذين هم في جهل مركب، والثاني لذوي الجهل البسيط من الأتباع المقلدين، والله أعلم بالصواب.
الأقرب ما ذكره المؤلف رحمه الله واختاره، وهو أنهم صنفان، وأن المثل الأول للكفار وللمنافقين الخلَّص، والمثل الثاني: للذين عندهم شك وريب، ويتفاوت عذابهم على حسب تفاوت الكفر.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر