يعيّر الله سبحانه وتعالى بني إسرائيل ويبتكهم على كونهم يأمرون الناس بالبر والخير وينصحون الناس في ذلك، وهم أنفسهم مقصرون في ذلك، وهذا الفعل ليس بصحيح، بل ينبغي للإنسان أن يبادر إلى الخير الذي يأمر الناس به؛ حتى لا ينجو الناس وهو من الهالكين.
تفسير قوله تعالى: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم...)
قال المصنف رحمه الله: [ يقول تعالى: كيف يليق بكم يا معشر أهل الكتاب وأنتم تأمرون الناس بالبر -وهو جماع الخير- أن تنسوا أنفسكم فلا تأمرونها بما تأمرون الناس به، وأنتم مع ذلك تتلون الكتاب، وتعلمون ما فيه على من قصر في أوامر الله، أفلا تعقلون ما أنتم صانعون بأنفسكم فتنتبهوا من رقدتكم، وتتبصروا من عمايتكم، وهذا كما قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ[البقرة:44] قال: كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه وبالبر ويخالفون، فعيرهم الله عز وجل ].
فعيرهم، يعني: عابهم وذمهم، وهذا ليس خاصاً ببني إسرائيل، بل هو عام لبني إسرائيل ولهذه الأمة، ولهذا قال بعضهم: مضى القوم ولم يعن به سواكم، أي: أن المراد هذه الأمة؛ لأن بني إسرائيل قد مضوا، والله تعالى إنما ذكر هذا ليحذرنا من أن نفعل مثل فعلهم، فيصيبنا ما أصابهم.
فالواجب على الإنسان إذا أمر بالمعروف أن يكون أول المؤتمرين به، وإذا نهى عن منكر أن يكون أول المنتهين عنه، ولا شك أنه قبيح بالإنسان أن يأمر الناس بالخير ويتخلف عنه، ولكن كما سيأتي أن الإنسان عليه واجبات: الأول: واجب العمل، والثاني: واجب الدعوة. فيعمل بالواجب ويدعو الناس إليه، وإذا قصر في واحد منهما لم يسقط الآخر، فإذا كان الإنسان مقصر في الامتثال فلا يدعوه هذا التقصير إلى ألا يدعو غيره، بل يدعو ولو كان مقصراً، لكنه عيب منه، فهذا مما يعاب به الإنسان ويذم.
وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ[البقرة:44] أي: تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوة والعهد من التوراة وتتركون أنفسكم، أي: وأنتم تكفرون بما فيها من عهدي إليكم في تصديق رسولي، وتنقضون ميثاقي، وتجحدون ما تعلمون من كتابي.
هذا ضعيف بلا شك، فالإنسان عليه واجبان: واجب امتثال الأمر، والواجب الثاني أن يدعو الناس إليه، وعليه واجبان في المنهيات: ترك المحرم، ونهي غيره عنه، فإذا ضعف عن واحد منهما فلا يسقط الآخر، فإذا لم يعمل وجب عليه أن يدعو الناس وإن كان مذموماً، لكنه ترك أحد الواجبين وبقي عليه واجب آخر؛ ولهذا يقال: على أهل الكئوس -يعني: الذين يشربون الخمر- أن ينهى بعضهم بعضاً وهم يشربون الخمر، فكونه الآن لا يترك الخمر قبيح، لكن كونه ينهى غيره فهذا مطلوب، إذ هذا واجب آخر، وإن كان هذا قبيح بالإنسان، حيث ينهى عن الشيء ثم يفعله ويأمر بالشيء ولا يفعله.
ولهذا قال الشاعر :
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأضعف منه تمسكهم بهذه الآية، فإنه لا حجة لهم فيها، والصحيح: أن العالم يأمر بالمعروف وإن لم يفعله، وينهى عن المنكر وإن ارتكبه.
قال مالك عن ربيعة : سمعت سعيد بن جبير يقول: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر، قال مالك : وصدق، من ذا الذي ليس فيه شيء؟
وهذه الأحاديث قد يقال: إنها يشد بعضها بعضاً، فالسند هذا يشد السند الآخر إذا لم يكن فيه ضعيف شديد.
نصيحة الحكام سراً، وحكم الخروج عليهم
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حديث آخر: قال الإمام أحمد : حدثنا يعلى بن عبيد حدثنا الأعمش عن أبي وائل قال: قيل لـأسامة وأنا رديفه: ألا تكلم عثمان ؟ فقال: إنكم ترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم، إني لأكلمه فيما بيني وبينه دون أن أفتتح أمراً أحب أن أكون أول من افتتحه].
فقال: (فليكره ما يأتي) أي: اكره المعصية ولا تنزعن يداً من طاعة، والنصيحة مبذولة من العلماء ومن يستطيع الكلام مع ولاة الأمور بما يليق بهم، وأما الخروج ومنابذتهم وقتالهم وتأليب الناس عليهم فهذا ممنوع إلا في حالة واحدة، وهي كما جاء في الحديث: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان)، فذكر شروطاً هي: الأول: أن يصدر من ولي الأمر كفر، والثاني: أن يكون الكفر بواحاً يعني: صريحاً لا لبس فيه. الثالث: (عندكم من الله فيه برهان)، وأيضاً الشرط الأخير هو: القدرة ووجود البديل، فإن كان الإنسان لا يستطيع فعليه أن يصبر على الولاية ولو كانت كافرة، فإذا استطاع أن يزيل الكافر ويأتي بدله بكافر فما حصل المطلوب، وذلك مثل الانقلابات العسكرية، حيث تزال حكومة عسكرية كافرة ويأتي بدلها بحكومة عسكرية كافرة، وأما إذا كفر كفراً صريحاً واضحاً لا لبس فيه، والناس عندهم قدرة ووجد البديل وهي حكومة مسلمه فيخرج، وإلا فلا.
وأما العاصي فلا يجوز الخروج عليه، وإنما تكره المعاصي وتبذل النصيحة لولاة الأمور بسرية وبالطريقة المناسبة، وأما الخروج على ولاة الأمور فهذا يسبب الفوضى، والاضطراب، وإراقة الدماء، وانقسام الناس، واختلال الأمن، والزراعة، والمعيشة، والاقتصاد، والتعليم، وتتربص الأعداء بهم الدوائر، وتتدخل الدول الكافرة، إلى غير ذلك من المفاسد، فلا يجوز الخروج على ولاة الأمور كما قرر ذلك أهل السنة في عقائدهم كـالطحاوي وغيره، حيث قال: ولا تنزع يداً من طاعة، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة.
وهذا معروف عند أهل العلم، وقرر هذا أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية والمجدد الإمام محمد عبد الوهاب وأئمة الدعوة وغيرهم، وأما الدعوة إلى الخروج بالمعاصي فهذه طريقة الخوارج.
ومثل المعاصي المنكرات فإنها تبين وتنكر، فيبين ويقال: الربا حرام ولا يجوز التعامل به، وتبرج النساء حرام ، ويرد على أهل الباطل الذين يكتبون باطلهم في الصحف.
قوله: (يعافي الأميين) يعني: الذين لا يعلمون ولا يكتبون ولا يقرءون، وسموا أميين نسبة إلى الأمهات؛ لأن الغالب أن الأم لا تعلم ولا تقرأ ولا تكتب، قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ[الجمعة:2]، والرسول نبي أمي منسوب إلى أمه؛ لأن الأم لا تقرأ ولا تكتب في الغالب، ومعنى الحديث: إن الله يعافي الأميين الذين لا يعلمون ما لا يعافي الذين يعلمون، فالأمي الذي لا يعلم جاهل، والجاهل ليس كالعالم، فإثم العالم أعظم من إثم الجاهل، فالجاهل قد يكون معذوراً.
لاشك أنه يكون في ترك الأمور الواجبة كالصلاة، وفعْل الأمور المحرمة، فالأمور الواجبة يجب على الإنسان أن يلتزم بها والمحرمة يجب أن يبتعد عنها، فإذا أمر غيره بالأمور الواجبة ولم يمتثل صار مذموماً، وإذا نهى غيره عن المنهيات ولم ينته صار مذموماً، وأما النوافل فأمرها سهل إذا أمر بها ولم يأتها.
فابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى بالقول منك وينفع التعليم
وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الواحد بن زيد البصري العابد الواعظ قال: دعوت الله أن يريني رفيقي في الجنة، فقيل له في المنام: هي امرأة في الكوفة يقال لها: ميمونة السوداء، فقصدت الكوفة لأراها فقيل لي: هي ترعى غنماً في وادٍ هناك، فجئت إليها فإذا هي قائمة تصلي والغنم ترعى حولها وبينهن الذئاب لا ينفرن منهن، ولا يسطو الذئاب عليهن، فلما سلمت قالت: يا ابن زيد ليس الموعد هنا إنما الموعد ثمَّ، فسألتها عن شأن الذئاب والغنم، فقالت: إني أصلحت ما بيني وبين سيدي فأصلح ما بين الذئاب والغنم ].
المراد (بسيدي) الله سبحانه وتعالى.
[ فقلت لها: عظيني فقالت: يا عجباً من واعظ يوعظ، ثم قالت: يا ابن زيد ! إنك إن وضعتَ موازين القسط على جوارحك لخبرتك بمفهوم مكنون ما فيها، يا ابن زيد ! إنه بلغني: ما من عبد أعطي من الدنيا شيئاً فابتغى إليه إلا سلبه الله حب الخلوة، وبدله بعد القرب البعد، وبعد الأنس الوحشة، ثم أنشأت تقول:
يا واعظاً قام باحتساب يزجر قوماً عن الذنوب
تنهى ولما تستقيم حقاً هذا من المنكر العجيب
تنهى عن الغي والتمادي وأنت في النهي كالمريب
لو كنت أصلحت قبل هذا عيبك أو تبت من قريب
كان لما قلت يا حبيب موضع صدق من القلوب
القصة فيها نكارة من جهة أنه ذهب إليها وهي ترعى في الغنم، وهذه خلوة في البر ].