إسلام ويب

تفسير سورة البقرة [58-60]للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أنعم الله على بني إسرائيل بنعم كثيرة، فأغرق فرعون وهم ينظرون، وتاب عليهم من عبادتهم العجل، وكان من توبتهم أن يقتل بعضهم بعضاً، ثم أمر موسى البقية الباقية منهم بدخول الأرض المقدسة، وأخبرهم أن الله وعدهم بفتحها إذا هم حملوا عليهم، فرفضوا وامتنعوا، وبدلوا أمر الله لهم من الخضوع بالقول والفعل، فعاقبهم الله بالتيه، ولما هلك الجيل الذي تربى على الجزع والخوف والهلع في التيه، جاء جيل النصر والتمكين، فدخل بهم يوشع عليه السلام بيت المقدس، وفي هذا تحذير لهذه الأمة أن تسلك مسلك هؤلاء، فيصيبهم ما أصابها من الرجس والعذاب.
    قال الله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [البقرة:58-59].

    قال المصنف رحمه الله: [ يقول تعالى لائماً لهم على نكولهم عن الجهاد، ودخولهم الأرض المقدسة لما قدموا من بلاد مصر صحبة موسى عليه السلام، فأمروا بدخول الأرض المقدسة التي هي ميراث لهم عن أبيهم إسرائيل، وقتال من فيها من العماليق الكفرة، فنكلوا عن قتالهم ].

    وهي بيت المقدس كما قال الله على لسان نبيه موسى: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة:21].

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وضعفوا واستحسروا، فرماهم الله في التيه عقوبة لهم كما ذكره تعالى في سورة المائدة، ولهذا كان أصح القولين أن هذه البلدة هي بيت المقدس كما نص على ذلك السدي والربيع بن أنس وقتادة وأبو مسلم الأصفهاني وغير واحد، وقد قال الله تعالى حاكياً عن موسى: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا.. [المائدة:21] الآيات.

    وقال آخرون: هي أريحا، ويحكى عن ابن عباس وعبد الرحمن بن زيد ، وهذا بعيد؛ لأنها ليست على طريقهم وهم قاصدون بيت المقدس لأريحا، وأبعد من ذلك قول من ذهب إلى أنها مصر، حكاه الرازي في تفسيره، والصحيح الأول أنها بيت المقدس، وهذا كان لما خرجوا من التيه بعد أربعين سنة مع يوشع بن نون عليه السلام ].

    ويوشع بن نون هو فتى موسى الذي صحبه في رحلته إلى الخضر، قال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ [الكهف:60] وقد صار نبياً بعد ذلك، وقاد بني إسرائيل للجهاد، ففتح بهم بيت المقدس، وهو الذي حبست له الشمس، أما موسى فمعلوم أنه مات في التيه مع بني إسرائيل.

    وأما الأربعون السنة التي حرم الله عليهم فيها دخول بيت المقدس، فقد قال الله عز وجل: قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً [المائدة:26] تحريماً قدرياً، فلما تمت المدة وجاء جيل جديد، استطاع أن يفتح بيت المقدس، أما الجيل الأول الذي تربى على الجزع والهلع، وانخلعت قلوبهم من فرعون، فرفضوا ونكلوا حيث قالوا: لا يمكن أن ندخلها أبداً َاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا [المائدة:24] يقولون ذلك لنبيهم! نسأل الله السلامة والعافية.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وفتحها الله عليهم عشية جمعة، وقد حبست لهم الشمس يومئذ قليلاً حتى أمكن الفتح ].

    وخبر حبس الشمس ليوشع بن نون ثابت في الصحيحين عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

    أمر الله لبني إسرائيل بالسجود عند دخول الأرض المقدسة

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ولما فتحوها أمروا أن يدخلوا الباب باب البلد: سُجَّدًا [الأعراف:161]، أي: شكراً لله تعالى على ما أنعم به عليهم من الفتح والنصر، ورد بلدهم عليهم، وإنقاذهم من التيه والضلال، قال العوفي في تفسيره عن ابن عباس : أنه كان يقول في قوله تعالى: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا [الأعراف:161] أي: ركعاً، وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا سفيان عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا قال: ركعاً من باب صغير. رواه الحاكم من حديث سفيان به، ورواه ابن أبي حاتم من حديث سفيان وهو الثوري به، وزاد: فدخلوا من قبل أستاههم ].

    أي: أدبارهم، والدبر يقال له: است، وهي المقعدة، وهذا من عتوهم وعنادهم، إذ أمروا أن يدخلوا الباب سجداً فدخلوا يزحفون على أدبارهم، فكان كل واحد منهم يزحف على مقعدته والعياذ بالله! وهذا من التغيير بالفعل والتغيير بالقول، قال الله: وَقُولُوا حِطَّةٌ [الأعراف:161] يعني: حط يا الله عنا ذنوبنا واغفر لنا! فقالوا: حنطة، فغيروا بالقول والفعل، والجهمية في: (استوى) زادوا لاماً فقالوا: (استولى) ولذلك قال ابن القيم رحمه الله: إن لام الجهمية مثل نون اليهود، فاليهود زادوا نوناً في حطة فقالوا: حنطة، والجهمية زادوا لاماً في استوى فقالوا: معنى اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [يونس:3] استولى.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال الحسن البصري : أمروا أن يسجدوا على وجوههم حال دخولهم واستبعده الرازي ، وحكي عن بعضهم أن المراد هاهنا بالسجود: الخضوع لتعذر حمله على حقيقته ].

    والصواب الأول، وهو أن المراد بالسجود: الركوع، وليس المراد السجود على الجباه أو الخضوع؛ لأمرين:

    الأول: أن السجود يأتي في اللغة بمعنى الركوع.

    الثاني: أنه لا يمكن دخولهم على جباههم، والركوع في اللغة يسمى سجوداً، ومنه سجدت الأشجار أي: مالت، فالميل يسمى سجوداً.

    والمعنى: ادخلوا الباب ركعاً وأنتم خاضعون لله بالقول والفعل تعظيماً لله عز وجل، واسألوا الله المغفرة، وحط الخطايا، وقولوا حطة، فغيروا بالقول والفعل، فعاقبهم الله تعالى حيث قال: فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [البقرة:59] وفي الآية أن عملهم هذا فسق وعصيان لله ولرسوله، فبعد أن منّ الله عليهم وفتح عليهم، أمرهم أن يشكروه فيدخلون راكعين خاضعين شاكرين له على ما تم لهم من الفتح والنصر، وعلى استرداد بلدهم عليهم، وعلى نصرهم على العماليق الكفار، فغيروا بالقول وبالفعل، ودخلوا يزحفون على أستاههم، وقالوا: حنطة، نعوذ بالله!

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال خصيف : قال عكرمة : قال ابن عباس : كان الباب قبل القبلة، وقال ابن عباس ومجاهد والسدي وقتادة والضحاك : هو باب الحطة من باب إيليا ببيت المقدس، وحكى الرازي عن بعضهم: أنه عنى بالباب جهة من جهات القبلة، وقال خصيف : قال عكرمة : قال ابن عباس : فدخلوا على شق، وقال السدي : عن أبي سعيد الأزدي عن أبي الكنود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قيل لهم: ادخلوا الباب سجداً، فدخلوا مقنعي رءوسهم، أي: رافعي رءوسهم خلاف ما أمروا ].

    بيان معنى قوله تعالى: (وقولوا حطة) وذكر أقوال السلف في الآية

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقوله تعالى: وَقُولُوا حِطَّةٌ قال الثوري عن الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: وَقُولُوا حِطَّةٌ ، قال: مغفرة واستغفروا، وروي عن عطاء والحسن وقتادة والربيع بن أنس نحوه.

    وقال الضحاك عن ابن عباس : وَقُولُوا حِطَّةٌ قال: قولوا هذا الأمر حق كما قيل لكم، وقال عكرمة : قولوا: لا إله إلا الله، وقال الأوزاعي : كتب ابن عباس إلى رجل قد سماه فسأله عن قوله تعالى: وَقُولُوا حِطَّةٌ فكتب إليه أن أقروا بالذنب، وقال الحسن وقتادة أي: احطط عنا خطايانا.

    نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:58] وقال: هذا جواب الأمر، أي: إذا فعلتم ما أمرناكم غفرنا لكم الخطيئات وضاعفنا لكم الحسنات.

    وحاصل الأمر أنهم أمروا أن يخضعوا لله تعالى عند الفتح بالفعل والقول، وأن يعترفوا بذنوبهم ويستغفروا منها، والشكر على النعمة عندها، والمبادرة إلى ذلك من المحبوب عند الله تعالى، كما قال تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:1-3].

    فسره بعض الصحابة بكثرة الذكر والاستغفار عند الفتح والنصر، وفسره ابن عباس بأنه نعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أجله فيها، وأقره على ذلك عمر رضي الله عنه، ولا منافاة بين أن يكون قد أمر بذلك عند ذلك ونعى إليه روحه الكريمة أيضاً ].

    هو كما قال، فالأمران مراد: نعي إليه روحه الكريمة وأخبر بقرب أجله عليه السلام، وهي أمر بكثرة الذكر والاستغفار عند تقدم السن.

    والمقصود من هذه الآية تحذير هذه الأمة من أن تسلك مسلك بني إسرائيل فتعصي نبيها عليه الصلاة والسلام بالقول أو بالفعل؛ فيصيبها ما أصاب بني إسرائيل من الرجس والعذاب، فلذا قال سبحانه: فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ [البقرة:59] وليس كما قال بعض المفسرين: مضى القوم ولم يعن به سواهم، فإن كانوا قد مضوا، فالمقصود نحن الآن، فهو تحذير لنا من أن نسلك مسلكهم فيصيبنا ما أصابهم.

    الشكر على النصر دأب نبينا صلى الله عليه وسلم

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يظهر عليه الخضوع جداً عند النصر، كما روى أنه كان يوم الفتح فتح مكة داخلاً إليها من الثنية العليا وأنه لخاضع لربه حتى إن عثنونه ليمس مورك رحله شكراً لله على ذلك، ثم لما دخل البلد اغتسل وصلى ثمان ركعات وذلك ضحى، فقال بعضهم: هذه صلاة الضحى، وقال آخرون: بل هي صلاة الفتح، فاستحبوا للإمام وللأمير إذا فتح بلداً أن يصلي فيها ثمان ركعات عند أول دخوله كما فعل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما دخل إيوان كسرى، صلى فيه ثمان ركعات، والصحيح أنه يفصل بين كل ركعتين بتسليم، وقيل: يصليها كلها بتسليم واحد، والله أعلم ].

    والصواب أنه يسلم من كل ركعتين، وهذه يصدق عليها أنها صلاة الضحى وصلاة النصر، فصلاة الضحى ثابتة ويسن المداومة عليها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا الدرداء وأبا هريرة بالمحافظة عليها.

    وكذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه يصبح على كل سلامى من الناس صدقة) -وهي المفاصل- ثم قال: (ويجزئ عن ذلك ركعتان يركعهما من الضحى).

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088783083

    عدد مرات الحفظ

    779002165