قال المصنف رحمه الله: [ يقول تعالى لائماً لهم على نكولهم عن الجهاد، ودخولهم الأرض المقدسة لما قدموا من بلاد مصر صحبة موسى عليه السلام، فأمروا بدخول الأرض المقدسة التي هي ميراث لهم عن أبيهم إسرائيل، وقتال من فيها من العماليق الكفرة، فنكلوا عن قتالهم ].
وهي بيت المقدس كما قال الله على لسان نبيه موسى: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة:21].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وضعفوا واستحسروا، فرماهم الله في التيه عقوبة لهم كما ذكره تعالى في سورة المائدة، ولهذا كان أصح القولين أن هذه البلدة هي بيت المقدس كما نص على ذلك السدي والربيع بن أنس وقتادة وأبو مسلم الأصفهاني وغير واحد، وقد قال الله تعالى حاكياً عن موسى: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا.. [المائدة:21] الآيات.
وقال آخرون: هي أريحا، ويحكى عن ابن عباس وعبد الرحمن بن زيد ، وهذا بعيد؛ لأنها ليست على طريقهم وهم قاصدون بيت المقدس لأريحا، وأبعد من ذلك قول من ذهب إلى أنها مصر، حكاه الرازي في تفسيره، والصحيح الأول أنها بيت المقدس، وهذا كان لما خرجوا من التيه بعد أربعين سنة مع يوشع بن نون عليه السلام ].
ويوشع بن نون هو فتى موسى الذي صحبه في رحلته إلى الخضر، قال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ [الكهف:60] وقد صار نبياً بعد ذلك، وقاد بني إسرائيل للجهاد، ففتح بهم بيت المقدس، وهو الذي حبست له الشمس، أما موسى فمعلوم أنه مات في التيه مع بني إسرائيل.
وأما الأربعون السنة التي حرم الله عليهم فيها دخول بيت المقدس، فقد قال الله عز وجل: قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً [المائدة:26] تحريماً قدرياً، فلما تمت المدة وجاء جيل جديد، استطاع أن يفتح بيت المقدس، أما الجيل الأول الذي تربى على الجزع والهلع، وانخلعت قلوبهم من فرعون، فرفضوا ونكلوا حيث قالوا: لا يمكن أن ندخلها أبداً َاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا [المائدة:24] يقولون ذلك لنبيهم! نسأل الله السلامة والعافية.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وفتحها الله عليهم عشية جمعة، وقد حبست لهم الشمس يومئذ قليلاً حتى أمكن الفتح ].
وخبر حبس الشمس ليوشع بن نون ثابت في الصحيحين عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
أي: أدبارهم، والدبر يقال له: است، وهي المقعدة، وهذا من عتوهم وعنادهم، إذ أمروا أن يدخلوا الباب سجداً فدخلوا يزحفون على أدبارهم، فكان كل واحد منهم يزحف على مقعدته والعياذ بالله! وهذا من التغيير بالفعل والتغيير بالقول، قال الله: وَقُولُوا حِطَّةٌ [الأعراف:161] يعني: حط يا الله عنا ذنوبنا واغفر لنا! فقالوا: حنطة، فغيروا بالقول والفعل، والجهمية في: (استوى) زادوا لاماً فقالوا: (استولى) ولذلك قال ابن القيم رحمه الله: إن لام الجهمية مثل نون اليهود، فاليهود زادوا نوناً في حطة فقالوا: حنطة، والجهمية زادوا لاماً في استوى فقالوا: معنى اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [يونس:3] استولى.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال الحسن البصري : أمروا أن يسجدوا على وجوههم حال دخولهم واستبعده الرازي ، وحكي عن بعضهم أن المراد هاهنا بالسجود: الخضوع لتعذر حمله على حقيقته ].
والصواب الأول، وهو أن المراد بالسجود: الركوع، وليس المراد السجود على الجباه أو الخضوع؛ لأمرين:
الأول: أن السجود يأتي في اللغة بمعنى الركوع.
الثاني: أنه لا يمكن دخولهم على جباههم، والركوع في اللغة يسمى سجوداً، ومنه سجدت الأشجار أي: مالت، فالميل يسمى سجوداً.
والمعنى: ادخلوا الباب ركعاً وأنتم خاضعون لله بالقول والفعل تعظيماً لله عز وجل، واسألوا الله المغفرة، وحط الخطايا، وقولوا حطة، فغيروا بالقول والفعل، فعاقبهم الله تعالى حيث قال: فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [البقرة:59] وفي الآية أن عملهم هذا فسق وعصيان لله ولرسوله، فبعد أن منّ الله عليهم وفتح عليهم، أمرهم أن يشكروه فيدخلون راكعين خاضعين شاكرين له على ما تم لهم من الفتح والنصر، وعلى استرداد بلدهم عليهم، وعلى نصرهم على العماليق الكفار، فغيروا بالقول وبالفعل، ودخلوا يزحفون على أستاههم، وقالوا: حنطة، نعوذ بالله!
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال خصيف : قال عكرمة : قال ابن عباس : كان الباب قبل القبلة، وقال ابن عباس ومجاهد والسدي وقتادة والضحاك : هو باب الحطة من باب إيليا ببيت المقدس، وحكى الرازي عن بعضهم: أنه عنى بالباب جهة من جهات القبلة، وقال خصيف : قال عكرمة : قال ابن عباس : فدخلوا على شق، وقال السدي : عن أبي سعيد الأزدي عن أبي الكنود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قيل لهم: ادخلوا الباب سجداً، فدخلوا مقنعي رءوسهم، أي: رافعي رءوسهم خلاف ما أمروا ].
وقال الضحاك عن ابن عباس : وَقُولُوا حِطَّةٌ قال: قولوا هذا الأمر حق كما قيل لكم، وقال عكرمة : قولوا: لا إله إلا الله، وقال الأوزاعي : كتب ابن عباس إلى رجل قد سماه فسأله عن قوله تعالى: وَقُولُوا حِطَّةٌ فكتب إليه أن أقروا بالذنب، وقال الحسن وقتادة أي: احطط عنا خطايانا.
نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:58] وقال: هذا جواب الأمر، أي: إذا فعلتم ما أمرناكم غفرنا لكم الخطيئات وضاعفنا لكم الحسنات.
وحاصل الأمر أنهم أمروا أن يخضعوا لله تعالى عند الفتح بالفعل والقول، وأن يعترفوا بذنوبهم ويستغفروا منها، والشكر على النعمة عندها، والمبادرة إلى ذلك من المحبوب عند الله تعالى، كما قال تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:1-3].
فسره بعض الصحابة بكثرة الذكر والاستغفار عند الفتح والنصر، وفسره ابن عباس بأنه نعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أجله فيها، وأقره على ذلك عمر رضي الله عنه، ولا منافاة بين أن يكون قد أمر بذلك عند ذلك ونعى إليه روحه الكريمة أيضاً ].
هو كما قال، فالأمران مراد: نعي إليه روحه الكريمة وأخبر بقرب أجله عليه السلام، وهي أمر بكثرة الذكر والاستغفار عند تقدم السن.
والمقصود من هذه الآية تحذير هذه الأمة من أن تسلك مسلك بني إسرائيل فتعصي نبيها عليه الصلاة والسلام بالقول أو بالفعل؛ فيصيبها ما أصاب بني إسرائيل من الرجس والعذاب، فلذا قال سبحانه: فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ [البقرة:59] وليس كما قال بعض المفسرين: مضى القوم ولم يعن به سواهم، فإن كانوا قد مضوا، فالمقصود نحن الآن، فهو تحذير لنا من أن نسلك مسلكهم فيصيبنا ما أصابهم.
والصواب أنه يسلم من كل ركعتين، وهذه يصدق عليها أنها صلاة الضحى وصلاة النصر، فصلاة الضحى ثابتة ويسن المداومة عليها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا الدرداء وأبا هريرة بالمحافظة عليها.
وكذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه يصبح على كل سلامى من الناس صدقة) -وهي المفاصل- ثم قال: (ويجزئ عن ذلك ركعتان يركعهما من الضحى).
قال المصنف رحمه الله تعالى: قال البخاري : حدثني محمد حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن ابن المبارك عن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قيل لبني إسرائيل: ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة، فدخلوا يزحفون على أستاههم فبدلوا وقالوا: حبة في شعرة).
ورواه النسائي عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم عن عبد الرحمن به موقوفاً، وعن محمد بن عبيد بن محمد عن ابن المبارك ببعضه مسنداً في قوله تعالى: حِطَّةٌ قال: فبدلوا وقالوا: حبة.
وقال عبد الرزاق : أنبأنا معمر عن همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله لبني إسرائيل: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ [البقرة:58] فبدلوا ودخلوا الباب يزحفون على أستاههم فقالوا حبة في شعرة)، وهذا حديث صحيح رواه البخاري عن إسحاق بن نصر ومسلم عن محمد بن رافع والترمذي عن عبد الرحمن بن حميد كلهم عن عبد الرزاق به، وقال الترمذي : حسن صحيح.
وقال محمد بن إسحاق : كان تبديلهم كما حدثني صالح بن كيسان عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة ، وعمن لا أتهم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (دخلوا الباب -الذي أمروا أن يدخلوا فيه سجداً- يزحفون على أستاههم وهم يقولون: حنطة في شعيرة).
وقال أبو داود : حدثنا أحمد بن صالح وحدثنا سليمان بن سليمان بن داود حدثنا عبد الله بن وهب حدثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله لبني إسرائيل: َادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ [البقرة:58]).
ثم قال أبو داود : حدثنا أحمد بن مسافر حدثنا ابن أبي فديك عن هشام بمثله، هكذا رواه منفرداً به في كتاب الحروف مختصراً ].
أي: تبديل حرف بحرف، حطة حنطة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال ابن مردويه : حدثنا عبد الله بن جعفر حدثنا إبراهيم بن مهدي حدثنا أحمد بن محمد بن المنذر القزاز حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان من آخر الليل أجزنا في ثنية يقال لها ذات الحنظل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما مثل هذه الثنية الليلة إلا كمثل الباب الذي قال الله لبني إسرائيل: َادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ [البقرة:58]).
وقال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن البراء : سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ [البقرة:142] قال اليهود: قيل لهم: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا [البقرة:58] قال: ركعاً، وَقُولُوا حِطَّةٌ [البقرة:58] أي: مغفرة، فدخلوا على أستاههم وجعلوا يقولون: حنطة حمراء فيها شعيرة، فذلك قول الله تعالى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ [البقرة:59] ].
في نسخة: حبة في شعرة، وهو الأقرب.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال الثوري عن السدي عن أبي سعيد الأزدي عن أبي الكنود عن ابن مسعود : وَقُولُوا حِطَّةٌ ، فقالوا: حنطة، حبة حمراء فيها شعيرة، فأنزل الله: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ .
وقال أسباط عن السدي عن مرة عن ابن مسعود أنه قال: إنهم قالوا: هطا سمعاتا أزبة مزبا، فهي بالعربية: حبة حنطة حمراء مثقوبة فيها شعرة سوداء ]، واللفظ باللغة العبرية، وهي لغة اليهود.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فذلك قوله تعالى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ .
وقال الثوري عن الأعمش عن المنهال عن سعيد عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا قال: ركعاً من باب صغير، فدخلوا من قبل أستاههم وقالوا: حنطة، فذلك قوله تعالى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ .
وهكذا روي عن عطاء ومجاهد وعكرمة والضحاك والحسن وقتادة والربيع بن أنس ويحيى بن رافع .
وحاصل ما ذكره المفسرون وما دل عليه السياق أنهم بدلوا أمر الله لهم من الخضوع بالقول والفعل، فأمروا أن يدخلوا سجداً، فدخلوا يزحفون على أستاههم من قبل أستاههم رافعي رءوسهم، وأمروا أن يقولوا حطة، أي: احطط عنا ذنوبنا وخطايانا، فاستهزءوا فقالوا: حنطة في شعيرة، وهذا في غاية ما يكون من المخالفة والمعاندة؛ ولهذا أنزل الله بهم بأسه وعذابه بفسقهم وهو خروجهم عن طاعته، ولهذا قال: فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [البقرة:59] وقال الضحاك : عن ابن عباس : كل شيء في كتاب الله من الرجز، يعني به العذاب، وهكذا روي عن مجاهد وأبي مالك والسدي والحسن وقتادة أنه العذاب، وقال أبو العالية : الرجز الغضب، وقال الشعبي : الرجز إما الطاعون وإما البرد، وقال سعيد بن جبير : هو الطاعون.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا وكيع عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن إبراهيم بن سعد يعني ابن أبي وقاص عن سعد بن مالك وأسامة بن زيد وخزيمة بن ثابت رضي الله عنهم، قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطاعون رجز عذاب عذب به من كان قبلكم).
وهكذا رواه النسائي من حديث سفيان الثوري به، وأصل الحديث في الصحيحين من حديث حبيب بن أبي ثابت : (إذا سمعتم الطاعون بأرض فلا تدخلوها) الحديث ].
والرجز هو العذاب، والطاعون نوع من العذاب، لكنه رحمة للمؤمنين وشهادة لكل مسلم كما في الحديث: (الطاعون شهادة للمسلم).
وفي الحديث الآخر: (الشهداء خمسة، وذكر: المطعون والمبطون والحريق وصاحب الهدم).
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قال ابن جرير : أخبرني يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن يونس عن الزهري قال أخبرني عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أسامة بن زيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن هذا الوجع والسقم رجز عذب به بعض الأمم قبلكم).
وهذا الحديث أصله مخرج في الصحيحين من حديث الزهري ومن حديث مالك عن محمد بن المنكدر وسالم بن أبي النضر عن عامر بن سعد بنحوه ].
ولفظ البخاري : (الطاعون رجس أرسل على طائفة من بني إسرائيل أو على من كان قبلكم).
ولفظ مسلم : (الطاعون رجس أو عذاب).
وفي لفظ: (الطاعون آية الرجز، ابتلى الله عز وجل به ناساً من عباده).
وفي لفظ آخر: (إن هذا الوجع أو السقم رجس عذب به بعض الأمم قبلكم، ثم بقي بعد في الأرض، فيذهب المرة ويأتي الأخرى) ].
وذكر الحافظ في الفتح نزول الرجس على بني إسرائيل، فمن أحب أن يستزيد فعليه به، وهي موجودة في باب: ما يذكر في الطاعون.
قال ابن حجر في الفتح: والتنصيص على بني إسرائيل أخص، فإن كان ذلك المراد فكأنه أشار بذلك إلى ما جاء في قصة بلعام، فقد أخرج الطبري من طريق سليمان التيمي أحد صغار التابعين، عن سيار أن رجلاً كان يقال له بلعام، وكان مجاب الدعوة، وأن موسى أقبل في بني إسرائيل يريد الأرض التي فيها بلعام ، فأتاه قومه فقالوا: ادع الله عليهم، فقال: حتى أؤامر ربي، فمنع، والمعروف أن بلعام كان له ثلاث دعوات، وقد دعا بها كلها وذهبت، لكن الرواية عن سيار الله أعلم بثبوتها، لكن الله تعالى أخبر في كتابه فقال: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف:175-176]، أما كون هذه الآيات التي انسلخ عنها هي: الدعوات كما في هذا الأثر، فالله أعلم بثبوتها.
قال المصنف رحمه الله: [ يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في إجابتي لنبيكم موسى عليه السلام حين استسقاني لكم وتيسيري لكم الماء وإخراجه لكم من حجر معكم وتفجيري الماء لكم منه من اثنتي عشرة عيناً لكل سبط من أسباطكم عين قد عرفوها، فكلوا من المن والسلوى، واشربوا من هذا الماء الذي أنبعته لكم بلا سعي منكم ولا كد، واعبدوا الذي سخر لكم ذلك: وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ولا تقابلوا النعم بالعصيان فتسلبوها.
وقد بسطه المفسرون في كلامهم كما قال ابن عباس رضي الله عنه: وجعل بين ظهرانيهم حجر مربع، وأمر موسى عليه السلام فضربه بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً في كل ناحية منه ثلاث عيون، وأعلم كل سبط عينهم يشربون منها لا يرتحلون من منقلة إلا وجدوا ذلك معهم بالمكان الذي كان منهم بالمنزل الأول، وهذا قطعة من الحديث الذي رواه النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم وهو حديث الفتون الطويل.
وقال عطية العوفي : وجعل لهم حجراً مثل رأس الثور يحمل على ثور، فإذا نزلوا منزلاً وضعوه فضربه موسى عليه السلام بعصاه، فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، فإذا ساروا حملوه على ثور فاستمسك الماء.
وقال عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه: كان لبني إسرائيل حجر، فكان يضعه هارون ويضربه موسى بالعصا.
وقال قتادة : كان حجراً طورياً من الطور يحملونه معهم، حتى إذا نزلوا ضربه موسى بعصاه.
وقال الزمخشري : وقيل: كان من الرخام، وكان ذراعاً في ذراع. وقيل: مثل رأس الإنسان. وقيل: كان من الجنة طوله عشرة أذرع على طول موسى، وله شعبتان تتقدان في الظلمة، وكان يحمل على حمار.
قال: وقيل أهبطه آدم من الجنة فتوارثوه حتى وقع إلى شعيب فدفعه إليه مع العصا. وقيل: هو الحجر الذي وضع عليه ثوبه حين اغتسل، فقال له جبريل: ارفع هذا الحجر فإن فيه قدرة ولك فيه معجزة فحمله في مخلاته.
قال الزمخشري : ويحتمل أن تكون اللام للجنس لا للعهد، أي: اضرب الشيء الذي يقال له الحجر.
وعن الحسن : لم يأمره أن يضرب حجراً بعينه، قال: وهذا أظهر في المعجزة وأبين في القدرة، فكان يضرب الحجر بعصاه فينفجر، ثم يضربه فييبس.
فقالوا: إن فقد موسى هذا الحجر عطشنا، فأوحى الله إليه أن يكلم الحجارة فتنفجر ولا يمسها بالعصا لعلهم يقرون، والله أعلم ].
يَكْلَم الحجر، أي: يضربها، أو يجعل فيها كلم، والكلم: الجوف.
وفي هذه الآيات الكريمة يذكر الله تعالى بني إسرائيل بنعمه عليهم، ويخاطب اليهود الذين كانوا في المدينة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم أحفاد اليهود السابقين الذين كانوا مع موسى، لأن النعمة على الأجداد نعمة على الأحفاد؛ ولهذا قال تعالى: وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ أي: اذكروا نعمتي عليكم في إخراج الماء من الحجر حينما استسقى موسى، وتلك النعم وقعت عندما كانوا في التيه، وهي صحراء سيناء التي بين مصر وفلسطين.
ومعلوم أن بني إسرائيل قد أنعم الله عليهم بنعم كثيرة، ولكنهم قوم عتاة، ومن تلك النعم: أن الله تعالى أغرق فرعون عدوهم وهم ينظرون، فلما ساروا مع موسى ومروا بقوم يعبدون صنماً قالوا: يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138]، فبعد أن رأوا بأعينهم تلك المعجزة، وعلموا أن الله هو ربهم، وأنه المستحق للعبادة، مروا على قوم يعبدون صنماً فقالوا: اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف:138]، ولما ذهب موسى عليه السلام لميقات ربه أربعين ليلة، وقد استخلف أخاه هارون وكان نبياً، صور لهم السامري العجل فعبدوه من دون الله، ثم بعد ذلك سأل موسى ربه أن يتوب عليهم فتاب الله عليهم، وكان من توبتهم أن قتل بعضهم بعضاً، ولما بقي البقية منهم بعد توبتهم أمرهم موسى عليه السلام أن يدخلوا الأرض المقدسة وهي بيت المقدس، فيفتحوها، وأن يقاتلوا العماليق وهم قوم كفار، وأخبرهم موسى عليه السلام أن الله وعدهم بفتحها إذا هم حملوا عليهم، فرفضوا وامتنعوا، وقالوا: لا يمكن، فقال لهم: إن الله وعدني بالنصر إذا حملتم عليهم، فإذا دخلتموه فإنكم غالبون، قالوا: لا: إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا [المائدة:22] فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا [المائدة:24]، فعاقبهم الله بالتيه، قال الله: قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ [المائدة:26]، فظلوا أربعين سنة لا يهتدون إلى بلدهم، حتى مات كل هذا الجيل كله في التيه -في الصحراء- ومات معهم نبيهم موسى عليه السلام، ثم لما نشأ أحفادهم وأبناؤهم سار بهم يوشع بن نون فتى موسى -وكان نبياً بعد ذلك- وفتح بهم بيت المقدس، ولما عاقبهم الله بالتيه في الصحراء، وكانت أرضاً قاحلة ليس فيها أنهار ولا عيون ولا آبار، أنعم الله عليهم بنعم كثيرة، منها: أن الله أنزل عليهم المن والسلوى، كالعسل ينزل عليهم كل يوم، غذاء وحلوى وفاكهة، والسلوى طائر يقال له السمانى يأكلون منه، فقالوا: قد أكلنا فأين الشراب؟ فأمر الله موسى أن يضرب الحجر بعصاه فتنفجر إثنا عشر عيناً على عدد الأسباط، فكل قبيلة كان لها عين حتى لا يتنازعوا ولا يحترشوا، والله أعلم بهذا الحجر، أما القول: بأن هذا الحجر طوله كذا وعرضه كذا، وأنه نزل من الجنة، وأنه من الطور، أو أن له عينان تتقدان، فكل هذا من أخبار بني إسرائيل والله أعلم بذلك، وإنما العبرة بالإيمان بأن موسى يضرب حجراً، فينفجر اثني عشر عيناً، لكل سبط من أسباط بني إسرائيل عين حتى لا يتنازعوا ولا يختلفوا؛ ولهذا قال الله: قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ [البقرة:60]، وأيضاً من نعمه سبحانه عليهم في هذه الصحراء الحارة: أنه كان يأتيهم الغمام مثل السحاب، ويظلل عليهم حتى يزول الحر في الشدة، ولكن مع عظم هذه النعم إلا أنهم كانوا قوماً عتاة.
وبهذا يتميز أصحاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم صبروا في غزوة تبوك على الشدة والجهد والجوع الذي أصابهم، ولم يتعنتوا ولم يطلبوا ما طلب بنو إسرائيل من موسى، ولذلك لما قل عليهم الطعام سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله وأن يبارك فيه، فجمعوا ما عندهم فدعا النبي صلى الله عليه وسلم، فبارك الله في هذا الطعام وملئوا كل إناء، وكذلك لما قل عليهم الماء أمرهم بأن يأتوا بإناء فيه ضحضاح من ماء، فبسط يده في الإناء وفرج أصابعه، فنبع الماء من بين أصابعه فملئوا كل وعاء.
فامتاز أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بفضلهم وعلمهم وصبرهم وتحملهم وتقديرهم واحترامهم وتعزيرهم وتوقيرهم لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
فنسأل الله أن يوفقنا للسير على منهاجهم والتأدب بالآداب الشرعية، وتعظيم السنة والعمل بها واتباعها وملازمتها، إنه على كل شيء قدير.
ويوشع كان فتى موسى عليهما السلام، وكان معه لما ذهب إلى الخضر، وهو الذي فتح بيت المقدس بعد وفاة موسى، وهو الذي حبست له الشمس يوم الجمعة ليلة السبت الذي هو يوم عيدهم، وخشي أن تغرب الشمس قبل أن يتم الفتح فدعا الله، وقال: اللهم احبسها علينا، وقال للشمس: أنت مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا، فحبسها الله ووقفت حتى تم الفتح قبل غروب الشمس، ولم تحبس الشمس لأحد إلا لـيوشع بن نون، وهذا ثابت في الصحيح.
قال المصنف رحمه الله: [ وقال يحيى بن النضر : قلت لـجويبر : كيف علم كل أناس مشربهم؟ قال: كان موسى يضع الحجر ويقوم من كل سبط رجل ويضرب موسى الحجر فينفجر منه اثنتا عشرة عيناً فينضح من كل عين على رجل فيدعو ذلك الرجل سبطه إلى تلك العين.
وقال الضحاك : قال ابن عباس : لما كان بنو اسرائيل في التيه شق لهم من الحجر أنهاراً.
وقال الثوري عن أبي سعيد عن عكرمة عن ابن عباس : قال ذلك في التيه ضرب لهم موسى الحجر فصار منه اثنتا عشرة عيناً من ماء لكل سبط منهم عين يشربون منها، وقال مجاهد نحو قول ابن عباس .
وهذه القصة شبيهة بالقصة التي في سورة الأعراف، ولكن تلك مكية، فلذلك كان الإخبار عنهم بضمير الغائب؛ لأن الله تعالى يقص على رسوله صلى الله عليه وسلم ما فعل بهم.
وأما في هذه السورة -وهي البقرة- فهي مدنية، فلهذا كان الخطاب فيها متوجهاً إليهم، وأخبر هناك بقوله: فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا [الأعراف:160] وهو أول الانفجار، وأخبر ههنا بما آل إليه الحال آخراً وهو الانفجار، فناسب ذكر الانفجار هاهنا وذاك هناك والله أعلم ].
نزلت سورة الأعرف في مكة قبل أن يهاجر النبي إلى المدينة، وفيها أخبر الله تعالى نبيه عن حال بني إسرائيل بضمير الغيبة: وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ [الأعراف:160]، وهنا قال: وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا [البقرة:60]، وهذه الآية مدنية، فهو فيها يخاطب اليهود الذين كانوا في المدينة بعد الهجرة، ويذكرهم بنعمه على أجدادهم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وبين السياقين تباين من عشرة أوجه لفظية ومعنوية، قد سأل عنها الزمخشري في تفسيره وأجاب عنها بما عنده، والأمر في ذلك قريب. والله أعلم ].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر