قال المصنف رحمه الله: [ وقال العوفي في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ.. [البقرة:102] الآية: وكان حين ذهب ملك سليمان ارتد فئات من الجن والإنس واتبعوا الشهوات، فلما أرجع الله إلى سليمان ملكه، وقام الناس على الدين كما كان، وإن سليمان ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيه، وتوفي سليمان عليه الصلاة والسلام حدثان ذلك فظهر الإنس والجن على الكتب بعد وفاة سليمان ].
قوله: [حِدثان ذلك]: بكسر الحاء يعني: إثر ذلك، وعقب ذلك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقالوا: هذا كتاب من الله نزل على سليمان فأخفاه عنا، فأخذوا به فجعلوه ديناً، فأنزل الله تعالى: وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ.. [البقرة:101] الآية، واتبعوا الشهوات التي كانت تتلوا الشياطين، وهي المعازف واللعب وكل شيء يصد عن ذكر الله.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة عن الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان آصف كاتب سليمان وكان يعلم الاسم الأعظم، وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه، فلما مات سليمان، أخرجته الشياطين، فكتبوا بين كل سطرين سحراً وكفراً وقالوا: هذا الذي كان سليمان يعمل بها قال: فأكفره جهال الناس وسبوه، ووقف علماء الناس، فلم يزل جهال الناس يسبونه حتى أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا [البقرة:102].
وقال ابن جرير : حدثني أبو السائب سلمة بن جنادة السوائي حدثنا أبو معاوية ].
قوله: [سلمة بن جنادة] لعله سلم، بدون هاء، وهو ثقة وربما خالف.
قال: [ حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان سليمان عليه الصلاة والسلام إذا أراد أن يدخل الخلاء، أو يأتي شيئاً من نسائه أعطى الجرادة -وهي امرأة- خاتمه،
فلما أراد الله أن يبتلي سليمان عليه السلام بالذي ابتلاه به؛ أعطى الجرادة ذات يوم خاتمه، فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال: هاتي خاتمي، فأخذه ولبسه، فلما لبسه دانت له الشياطين والجن والإنس.
قال: فجاءها سليمان فقال لها: هاتي خاتمي، فقالت: كذبت؛ لست سليمان. قال: فعرف سليمان أنه بلاء ابتلي به، قال: فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الأيام كتباً فيها سحر وكفر فدفنوها تحت كرسي سليمان، ثم أخرجوها وقرءوها على الناس، وقالوا: إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب، قال: فبرئ الناس من سليمان وكفروه حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم فأنزل عليه: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا ... [البقرة:102].
ثم قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد حدثنا جرير عن حصين بن عبد الرحمن عن عمران -وهو ابن الحارث - قال: بينما نحن عند ابن عباس رضي الله عنهما إذ جاء رجل فقال له: من أين جئت؟ قال: من العراق. قال ومن أيِّه؟ قال: من الكوفة. قال: فما الخبر؟ قال: تركتهم يتحدثون أن علياً خارج إليهم، ففزع ثم قال: ما تقول لا أبا لك؟ لو شعرنا ما نكحنا نساءه ولا قسمنا ميراثه، أما إني سأحدثكم عن ذلك: إنه كانت الشياطين يسترقون السمع من السماء فيجيء أحدهم بكلمة حق قد سمعها، فإذا جرب منه صدق كذب معها سبعين كذبة، قال: فتشربها قلوب الناس، قال: فأطلع الله عليها سليمان عليه السلام فدفنها تحت كرسيه، فلما توفي سليمان عليه السلام قام شيطان الطريق فقال: هل أدلكم على كنزه الممنع الذي لا كنز له مثله؟ تحت الكرسي. فأخرجوه، فقال: هذا سحر، فتناسخها الأمم حتى بقاياها ما يتحدث به أهل العراق، فأنزل الله عز وجل: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا [البقرة:102]، الآية). ]
هذا السند ضعيف؛ لأن فيه ابن حميد، ولا يعول عليه.
وهذه الآثار كلها ضعيفة؛ لأنها من رواية العوفي عن ابن عباس وهي منقطعة، وابن حميد هذا ضعيف، قال البخاري: (فيه نظر)، والبخاري إذا قال في رجل: فيه نظر فهو ضعيف.
والأسانيد الأخرى فيها عنعنة الأعمش ، وابن عباس رضي الله عنه ممن يروي عن بني إسرائيل، فهذه الآثار كلها ضعيفة، لكن مجموعها يدل على أن لهذه الأخبار أصلاً، ومعنى الآية واضح، وهو أن الشياطين كذبوا وافتروا على سليمان عليه الصلاة والسلام وادعوا أنه ساحر، فأبطل الله ذلك وبرأ نبيه سليمان عليه الصلاة والسلام من ذلك، وهذا واضح من الآية، أما هذه الآثار فهي ضعيفة، فلا يعول عليها.
وقوله تعالى: وَاتَّبَعُوا ، أي: الناس مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ [البقرة:102]، فالشياطين هم الذين يعلمون الناس السحر، وقد افتروا على سليمان وكذبوا عليه بعد وفاته، وقالوا: إنه يعلم الناس السحر، وانطلى هذا على كثير من الناس، فبرأ الله تعالى نبيه سليمان مما ألصقت به الشياطين وافترته وكذبته عليه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ورواه الحاكم في مستدركه عن أبي زكريا العنبري عن محمد بن عبد السلام عن إسحق بن إبراهيم عن جرير به.
وقال السدي في قوله تعالى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [البقرة:102]، أي: على عهد سليمان، قال: كانت الشياطين تصعد إلى السماء فتقعد منها مقاعد للسمع فيستمعون من كلام الملائكة ما يكون في الأرض من موت أو غيب أو أمر، فيأتون الكهنة فيخبرونهم، فتحدث الكهنة الناس فيجدونه كما قالوا، فلما أمنتهم الكهنة كذبوا لهم وأدخلوا فيه غيره، فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة، فاكتتب الناس ذلك الحديث في الكتب، وفشى ذلك في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب، فبعث سليمان في الناس فجمع تلك الكتب فجعلها في صندوق ثم دفنها تحت كرسيه، ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق، وقال: لا أسمع أحداً يذكر أن الشياطين يعلمون الغيب إلا ضربت عنقه. فلما مات سليمان، وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان، وخلف من بعد ذلك خلف؛ تمثل الشيطان في صورة إنسان، ثم أتى نفراً من بني إسرائيل فقال لهم: هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبداً؟ ] يعني: لا ينفد [ قالوا: نعم، قال: فاحفروا تحت الكرسي، فذهب معهم وأراهم المكان وقام ناحيته، فقالوا له: فادن، فقال: لا ولكنني هاهنا في أيديكم، فإن لم تجدوه فاقتلوني، فحفروا فوجدوا تلك الكتب، فلما أخرجوها قال الشيطان: إن سليمان إنما كان يضبط الإنس والشياطين والطير بهذا السحر، ثم طار وذهب، وفشا في الناس أن سليمان كان ساحراً، واتخذت بنو إسرائيل تلك الكتب، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم خاصموه بها، فذلك حين يقول الله تعالى: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا [البقرة:102].
وقال الربيع بن أنس : إن اليهود سألوا محمداً صلى الله عليه وسلم زماناً عن أمور من التوراة لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله سبحانه وتعالى ما سألوه عنه فيخصمهم، فلما رأوا ذلك قالوا: هذا أعلم بما أنزل الله إلينا منا، وإنهم سألوه عن السحر وخاصموه به فأنزل الله عز وجل: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ [البقرة:102]، وإن الشياطين عمدوا إلى كتاب فكتبوا فيه السحر والكهانة وما شاء الله من ذلك، فدفنوه تحت كرسي مجلس سليمان، وكان عليه الصلاة والسلام لا يعلم الغيب، فلما فارق سليمان الدنيا استخرجوا ذلك السحر وخدعوا الناس وقالوا: هذا علم كان سليمان يكتمه ويحسد الناس عليه، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث، فرجعوا من عنده وقد حزنوا، وقد أدحض الله حجتهم.
وقال مجاهد في قوله تعالى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [البقرة:102]، قال: كانت الشياطين تستمع الوحي، فما سمعوا من كلمة زادوا فيها مائتين مثلها، فأرسل سليمان عليه السلام إلى ما كتبوا من ذلك، فلما توفي سليمان وجدته الشياطين وعلمته الناس، وهو السحر.
وقال سعيد بن جبير : كان سليمان يتتبع ما في أيدي الشياطين من السحر فيأخذه منهم فيدفنه تحت كرسيه في بيت خزانته فلم تقدر الشياطين أن يصلوا إليه، فدنت إلى الإنس فقالوا لهم: أتدرون ما العلم الذي كان سليمان يسخر به الشياطين والرياح وغير ذلك؟ قالوا: نعم، قالوا: فإنه في بيت خزانته وتحت كرسيه، فاستشار به الإنس واستخرجوه وعملوا به، فقال أهل الحجاز: كان سليمان يعلم بهذا وهذا سحر. فأنزل الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم براءة سليمان عليه السلام فقال تعالى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا [البقرة:102] ].
وهذا ظاهره أنه لم يكن ذلك في وقت النبي صلى الله عليه وسلم، بل ظاهر السياق أنه كان بعد وفاة سليمان عليه السلام.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال محمد بن إسحاق بن يسار : عمدت الشياطين حين عرفت موت سليمان بن داود عليه السلام فكتبوا أصناف السحر: من كان يحب أن يبلغ كذا فليفعل كذا وكذا، حتى إذا صنفوا أصناف السحر جعلوه في كتاب ثم ختموه بخاتم على نقش خاتم سليمان وكتبوا في عنوانه: هذا ما كتب آصف بن برخيا الصديق للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم. ثم دفنوه تحت كرسيه، واستخرجته بعد ذلك بقايا بني إسرائيل حتى أحدثوا ما أحدثوا، فلما عثروا عليه قالوا: والله ما كان ملك سليمان إلا بهذا. فأفشوا السحر في الناس فتعلموه وعلموه، فليس هو في أحد أكثر منه في اليهود لعنهم الله، فلما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نزل عليه من الله سليمان بن داود وعدَّه فيمن عد من المرسلين، قال من كان بالمدينة من اليهود: ألا تعجبون من محمد يزعم أن ابن داود كان نبياً؟! والله ما كان إلا ساحراً، وأنزل الله في ذلك من قولهم وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا [البقرة:102]، الآية.
وقال ابن جرير : حدثنا القاسم حدثنا حسين حدثنا الحجاج عن أبي بكر عن شهر بن حوشب قال: لما سلب سليمان ملكه كانت الشياطين تكتب السحر في غيبة سليمان، فكتبت: من أراد أن يأتي كذا وكذا فليستقبل الشمس وليقل كذا وكذا، ومن أراد أن يفعل كذا وكذا فليستدبر الشمس وليقل كذا وكذا، فكتبته وجعلت عنوانه: (هذا ما كتب آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود عليهما السلام من ذخائر كنوز العلم)، ثم دفنه تحت كرسيه. فلما مات سليمان عليه السلام قام إبليس لعنه الله خطيباً فقال: يا أيها الناس! إن سليمان لم يكن نبياً إنما كان ساحراً، فالتمسوا سحره في متاعه وبيوته. ثم دلهم على المكان الذي دفن فيه فقالوا: والله لقد كان سليمان ساحراً وهذا سحره، بهذا تعبدنا وبهذا قهرنا، فقال المؤمنون: بل كان نبياً مؤمناً، فلما بعث الله النبي محمداً صلى الله عليه وسلم وذكر داود وسليمان فقالت اليهود: انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل؛ يذكر سليمان مع الأنبياء، إنما كان ساحراً يركب الريح فأنزل الله تعالى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ [البقرة:102]، الآية.
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني حدثنا المعتمر بن سليمان قال: سمعت عمران بن حدير عن أبي مجلز قال: أخذ سليمان عليه السلام من كل دابة عهداً، فإذا أصيب رجل فسأل بذلك العهد خلي عنه، فزاد الناس السجع والسحر، فقالوا: هذا يعمل به سليمان بن داود عليهما السلام، فقال الله تعالى: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ [البقرة:102].
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عصام بن رواد حدثنا آدم حدثنا المسعودي عن زياد مولى ابن مصعب عن الحسن : وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ [البقرة:102] قال: ثلثٌ الشعر، وثلثٌ السحر، وثلثٌ الكهانة.
وقال: حدثنا الحسن بن أحمد حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن بشار الواسطي حدثني سرور بن المغيرة عن عباد بن منصور عن الحسن : وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [البقرة:102]: وتبعته اليهود على ملكه، وكان السحر قبل ذلك في الأرض لم يزل بها، ولكنه إنما اتبع على ملك سليمان.
فهذه نبذة من أقوال أئمة السلف في هذا المقام، ولا يخفى ملخص القصة والجمع بين أطرافها، وأنه لا تعارض بين السياقات على اللبيب الفَهِم، والله الهادي ].
وهذه كلها أخبار من أخبار بني إسرائيل، ولو اكتفى -رحمه الله- ببعضها لكفى، لكن مقصوده أن يبين ما قيل في المسألة وما ورد حول الآية، ومجموع هذا يدل على أن ذلك له أصل، والآية واضحة في أن الشياطين افتروا على سليمان وكذبوا عليه ونسبوه إلى السحر، وقالوا: إنه ساحر، فبرأه الله وأكذبهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله تعالى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [البقرة:102]، أي: واتبعت اليهود الذين أوتوا الكتاب من بعد إعراضهم عن كتاب الله الذي بأيديهم ومخالفتهم لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ما تتلوه الشياطين، أي: ما ترويه وتخبر به وتحدثه الشياطين على ملك سليمان، وعداه بـ(على) لأنه تضمن (تتلو) (تكذب).
وقال ابن جرير : (على) هاهنا بمعنى (في)، أي: تتلوا في ملك سليمان، ونقله عن ابن جريج وابن إسحاق .
قلت: والتضمن أحسن وأولى، والله أعلم ].
التضمن هو أن تضمن الكلمة معنى آخر، والتعدي غير التضمن، فهنا ضُمن فعل (تتلو) معنى (تكذب)، وهذا يكون على حسب المعنى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقول الحسن البصري رحمه الله: وكان السحر قبل زمان سليمان بن داود صحيح لا شك فيه؛ لأن السحرة كانوا في زمان موسى عليه السلام وسليمان بن داود بعده، كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوْسَى [البقرة:246] الآية، ثم ذكر القصة بعدها وفيها: وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة:251]، وقال قوم صالح -وهم قبل إبراهيم الخليل عليه السلام- لنبيهم صالح: إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ [الشعراء:153] أي: من المسحورين على المشهور].
فدل هذا على أن السحر قديم، وداود وسليمان من أنبياء بني إسرائيل من الذين كلفوا بالعمل بالتوراة، وسليمان جاء بعد موسى عليهما السلام، فدل على أن السحر قديم؛ لأن السحر كان في زمان موسى، وقوم صالح قالوا لنبيهم صالح عليه السلام: إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ [الشعراء:153]، وهم قبل إبراهيم الخليل عليه السلام.
يعني أن فيها أقوالاً: القول الأول: أن (ما) نافية، فقوله تعالى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ [البقرة:102] يعني: وما أنزل الله على الملكين شيئاً، ولم ينزل الله على الملكين السحر.
والقول الثاني -كما سيأتي- أن (ما) موصولة بمعنى الذي، والتقدير: واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان والذي أنزل على الملكين.
فعلى القول الأول يكون المعنى: أن الله نفى أنه أنزل على الملكين السحر، وأما على القول الثاني فتكون (ما) موصولة، وتكون تابعة، فيكون المعنى: اتبع الناس ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان واتبعوا ما أنزل على الملكين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ثم قال: وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ [البقرة:102]، وذلك أن اليهود كانوا يزعمون أنه نزل به جبريل وميكائيل، فأكذبهم الله وجعل قوله: هَارُوتَ وَمَارُوتَ [البقرة:102] بدلاً من الشياطين. قال: وصح ذلك إما لأن الجمع يطلق على الاثنين، كما في قوله تعالى: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ [النساء:11]، أو لكونهما لهما أتباع، أو ذكرا من بينهم لتمردهما، فتقدير الكلام عنده: يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت، ثم قال: وهذا أولى ما حملت عليه الآية وأصح، ولا يلتفت إلى ما سواه ].
هذا قول القرطبي ، وهذا قول ضعيف، والصواب هو القول الثاني، وهو أن (ما) موصولة، وهو قول أكثر المفسرين، فالآية فيها قولان مشهوران: أحدهما: أن (ما) نافية، والثاني: أن (ما) موصولة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وروى ابن جرير بإسناده من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ.. الآية، يقول: لم ينزل الله السحر. وبإسناده عن الربيع بن أنس في قوله: وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ قال: ما أنزل الله عليهما السحر.
قال ابن جرير : فتأويل الآية على هذا: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ من السحر، وما كفر سليمان ولا أنزل الله السحر على الملكين، ولكن الشياطين كفروا؛ يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت ].
يعني أن الله نفى أنه أنزل على الملكين السحر على هذا القول، فقوله: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ [البقرة:102] أي: وما كفر سليمان وما أنزل الله على الملكين السحر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فيكون قوله: (ببابل هاروت وماروت) من المؤخر الذي معناه المقدم. قال: فإن قال لنا قائل: كيف وجه تقديم ذلك؟ قيل: وجه تقديمه أن يقال: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [البقرة:102] من السحر، وما كفر سليمان، وما أنزل الله السحر على الملكين، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت، فيكون معنياً بالملكين جبريل وميكائيل عليهما السلام؛ لأن سحرة اليهود -فيما ذكر- كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود، فأكذبهم الله بذلك، وأخبر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر، وبرأ سليمان عليه السلام مما نحلوه من السحر، وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين، وأنها تعلم الناس ذلك ببابل، وأن الذين يعلمونهم ذلك رجلان اسم أحدهما: هاروت، واسم الآخر: ماروت، فيكون (هاروت وماروت) على هذا التأويل ترجمة عن الناس ورداً عليهم. هذا لفظة بحروفه ].
يعني أن المراد بالناس هاروت وماروت، والمراد بالملكين جبريل وميكائيل، وتكون الآية نافية، والمعنى: وما كفر سليمان وما أنزل الله على الملكين -يعني: جبريل وميكائيل- السحر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد قال ابن أبي حاتم : حدثت عن عبيد الله بن موسى أخبرنا فضيل بن مرزوق عن عطية : وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ [البقرة:102] قال: ما أنزل الله على جبريل وميكائيل السحر ].
وهذا ضعيف منقطع؛ لأن ابن أبي حاتم قال: (حدثت)، وفضيل بن مرزوق ضعيف، وعطية العوفي أيضاً شيعي مدلس.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال ابن أبي حاتم : وأخبرنا الفضل بن شاذان أخبرنا محمد بن عيسى أخبرنا يعلى -يعني ابن أسد - أخبرنا بكر -يعني: ابن مصعب - أخبرنا الحسن بن أبي جعفر أن عبد الرحمن بن أبزي كان يقرؤها: (وما أنزل على المَلِكَين داود وسليمان)، وقال أبو العالية : لم ينزل عليهما السحر، يقول: علما بالإيمان والكفر، فالسحر من الكفر، فهما ينهيان عنه أشد النهي. رواه ابن أبي حاتم .
ثم شرع ابن جرير في رد هذا القول، وأن (ما) بمعنى الذي، وأطال القول في ذلك، وادعى أن هاروت وماروت ملكان أنزلهما الله إلى الأرض وأذن لهما في تعليم السحر اختباراً لعباده وامتحاناً بعد أن بين لعباده أن ذلك مما ينهى عنه على ألسنة الرسل، وادعى أن هاروت وماروت مطيعان في تعليم ذلك؛ لأنهما امتثلا ما أمرا به، وهذا الذي سلكه غريب جداً ].
ولا شك في أن هذا غريب جداً؛ لأن فيه أن الله أذن لهما أن يعلما الناس السحر، وهذا لا يليق.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأغرب منه قول من زعم أن هاروت وماروت قبيلان من الجن، كما زعمه ابن حزم .
وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن الضحاك بن مزاحم أنه كان يقرؤها: (وما أنزل على الملكين) ويقول: هما علجان من أهل بابل. ووجّه أصحاب هذا القول الإنزال بمعنى الخلق لا بمعنى الإيحاء في قوله تعالى وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ [البقرة:102]، كما قال تعالى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [الزمر:6]، وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ [الحديد:25]، وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا [غافر:13]، وفي الحديث: (ما أنزل الله داءً إلا أنزل له دواءً) وكما يقال: أنزل الله الخير والشر.
وحكى القرطبي عن ابن عباس وابن أبزى والحسن البصري أنهم قرءوا: (وما أنزل على الملِكين) بكسر اللام، قال ابن أبزى: وهما: داود وسليمان. قال القرطبي : فعلى هذا تكون (ما) نافية أيضاً، وذهب آخرون إلى الوقف على قوله: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ [البقرة:102]، و(ما) نافية.
قال ابن جرير: حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرنا الليث عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد وسأله رجل عن قول الله: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ [البقرة:102]، فقال : الرجلان يعلمان الناس ما أنزل عليهما؟ ويعلمان الناس ما لم ينزل عليهما. فقال القاسم : ما أبالي أيتهما كانت.
ثم روى عن يونس عن أنس بن عياض عن بعض أصحابه أن القاسم قال في هذه القصة: لا أبالي أي ذلك كان؛ إني آمنت به.
وذهب كثير من السلف إلى أنهما كانا ملكين من السماء، وأنهما أُنزلا إلى الأرض فكان من أمرهما ما كان.
وقد ورد في ذلك حديث مرفوع رواه الإمام أحمد في مسنده رحمه الله كما سنورده إن شاء الله، وعلى هذا فيكون الجمع بين هذا وبين ما ورد من الدلائل على عصمة الملائكة أن هذين سبق في علم الله لهما هذا، فيكون تخصيصاً لهما، فلا تعارض حينئذٍ كما سبق في علمه من أمر إبليس ما سبق. وفي قول: إنه كان من الملائكة، لقوله تعالى وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى [البقرة:34]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك، مع أن شأن هاروت وماروت على ما ذكر أخف مما وقع من إبليس لعنه الله تعالى، وقد حكاه القرطبي عن علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وكعب الأحبار والسدي والكلبي ] .
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في مسنده: أخبرنا يحيى بن بكير حدثنا زهير بن محمد عن موسى بن جبير عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه سمع نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن آدم عليه السلام لما أهبطه الله إلى الأرض قالت الملائكة: أي رب أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30]، قالوا: ربنا نحن أطوع لك من بني آدم! قال الله تعالى للملائكة: هلموا ملكين من الملائكة حتى نهبطهما إلى الأرض فننظر كيف يعملان. قالوا: ربنا! هاروت وماروت، فأهبطا إلى الأرض، ومثلت لهما الزهرة امرأة من أحسن البشر، فجاءتهما فسألاها نفسها فقالت: لا -والله- حتى تتكلما بهذه الكلمة من الإشراك، فقالا: والله لا نشرك بالله شيئاً أبداً. فذهبت عنهما ثم رجعت بصبي تحمله فسألاها نفسها فقالت: لا -والله- حتى تقتلا هذا الصبي. فقالا: لا -والله- لا نقتله أبداً، فذهبت ثم رجعت بقدح خمر تحمله، فسألاها نفسها فقالت: لا -والله- حتى تشربا هذا الخمر، فشربا فسكرا فوقعا عليها وقتلا الصبي، فلما أفاقا قالت المرأة: والله ما تركتما شيئاً أبيتماه علي إلا قد فعلتماه حين سكرتما، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا).
هذا الحديث فيه موسى بن جبير مجهول الحال، فلا يصح، لكن لو صح فإنه يدل على خبث الخمر، والعياذ بالله، فهي أم الخبائث؛ لأنها إذا شربها الإنسان غاب عقله، فيقع في الزنا ويقع في القتل ويقع في الشرك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهكذا رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه عن الحسن بن سفيان عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يحيى بن بكير به، وهذا حديث غريب من هذا الوجه، ورجاله كلهم ثقات من رجال الصحيحين، إلا موسى بن جبير هذا، وهو الأنصاري السلمي مولاهم ].
قوله: [السلمي] نسبة إلى بني سلمة، [مولاهم] يعني أنه نسب إلى بني سلمة بالولاء.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ إلا موسى بن جبير هذا، وهو الأنصاري السلمي مولاهم المديني الحذاء، روى عن ابن عباس وأبي أمامة بن سهل بن حنيف ونافع وعبد الله بن كعب بن مالك ، وروى عنه ابنه عبد السلام وبكر بن مضر وزهير بن محمد وسعيد بن سلمة وعبد الله بن لهيعة وعمرو بن الحارث ويحيى بن أيوب ، وروى له أبو داود وابن ماجة ، وذكره ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل ولم يحك فيه شيئاً من هذا، فهو مستور الحال، وقد تفرد به عن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروي له متابع من وجه آخر عن نافع ، كما قال ابن مردويه : حدثنا دعلج بن أحمد حدثنا هشام بن علي بن هشام حدثنا عبد الله بن رجاء حدثنا سعيد بن سلمة حدثنا موسى بن سرجس عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول، فذكره بطوله.
وقال أبو جعفر بن جرير رحمه الله: حدثنا القاسم أخبرنا الحسين -وهو سنيد بن داود صاحب التفسير- أخبرنا الفرج بن فضالة عن معاوية بن صالح عن نافع قال: سافرت مع ابن عمر، فلما كان من آخر الليل قال: يا نافع ! انظر، طلعت الحمراء؟ قلت: لا مرتين أو ثلاثاً، ثم قلت: قد طلعت، قال: لا مرحباً بها ولا أهلاً، قلت: سبحان الله! نجم مسخر سامع مطيع؟! قال: ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الملائكة قالت: يا رب! كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب؟ قال: إني ابتليتهم وعافيتكم. قالوا: لو كنا مكانهم ما عصيناك. قال: فاختاروا ملكين منكم، قال: فلم يألوا جهداً أن يختاروا، فاختاروا هاروت وماروت) وهذان -أيضاً- غريبان جداً ].
وهذا فيه الفرج بن فضالة، وهو ضعيف، وهذه الأخبار كلها ضعيفة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأقرب ما يكون في هذا أنه من رواية عبد الله بن عمر عن كعب الأحبار لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ].
يعني أن الأقرب أنه من رواية عبد الله بن عمر عن كعب الأحبار وليس مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكعب الأحبار هو من بني إسرائيل، أسلم في زمن عمر رضي الله عنه، وكان ينقل عن بني إسرائيل الغث والسمين، والصحيح والباطل، فالأقرب أن هذا الخبر من رواية كعب الأحبار .
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ كما قال عبد الرزاق في تفسيره عن الثوري عن موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر عن كعب الأحبار قال: ذكرت الملائكة أعمال بني آدم وما يأتون من الذنوب، فقيل لهم: اختاروا منكم اثنين، فاختاروا هاروت وماروت، فقال لهما: إني أرسل إلى بني آدم رسلاً وليس بيني وبينكم رسول، إنزلا لا تشركا بي شيئاً ولا تزنيا ولا تشربا الخمر، قال كعب : فوالله ما أمسيا من يومهما الذي أهبطا فيه حتى استكملا جميع ما نهيا عنه. رواه ابن جرير من طريقين عن عبد الرزاق به. ورواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن عصام عن مؤمل عن سفيان الثوري به. ورواه ابن جرير أيضاً: حدثني المثنى أخبرنا المعلى -وهو ابن أسد - أخبرنا عبد العزيز بن المختار عن موسى بن عقبة حدثني سالم أنه سمع عبد الله يحدث عن كعب الأحبار فذكره. فهذا أصح وأثبت إلى عبد الله بن عمر من الإسنادين المتقدمين، وسالم أثبت في أبيه من مولاه نافع. فدار الحديث ورجع إلى نقل كعب الأحبار عن كتب بني إسرائيل. والله أعلم ].
المؤلف رجح أن الحديث إنما هو عن ابن عمر عن كعب الأحبار، وهو من رواية سالم عن أبيه، وهي أصح من رواية نافع عن ابن عمر المرفوعة، فالرواية الأولى عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، والرواية الثانية عن سالماً عن ابن عمر عن كعب الأحبار ، وهذا أثبت؛ لأن سالم أثبت في أبيه من مولاه نافع ، فرجح الحافظ رحمه الله أنها من أخبار بني إسرائيل، وهذا هو الأقرب، وعلى هذا فلا تثبت قصة في إنزال الملكين وقصة الزهرة.
قال ابن جرير : حدثني المثنى حدثنا الحجاج أخبرنا حماد عن خالد الحذاء عن عمير بن سعيد قال: سمعت علياً رضي الله عنه يقول: كانت الزهرة امرأة جملية من أهل فارس، وإنها خاصمت إلى الملكين هاروت وماروت فراوداها عن نفسها فأبت عليهما إلا أن يعلماها الكلام الذي إذا تكلم به أحد يعرج به إلى السماء، فعلماها فتكلمت به فعرجت إلى السماء، فمسخت كوكباً. وهذا الإسناد رجاله ثقات، وهو غريب جداً ].
وهذا الحديث أو الأثر الموقوف على علي رضي الله عنه -وإن كان رجال إسناده ثقات- مأخوذ عن بني إسرائيل، فهو مما أخذ من بني إسرائيل، فلا يعتمد عليه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا الفضل بن شاذان أخبرنا محمد بن عيسى أخبرنا إبراهيم بن موسى أخبرنا معاوية عن أبي خالد عن عمير بن سعيد عن علي رضي الله عنه قال: هما ملكان من ملائكة السماء، يعني: وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ [البقرة:102]. ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره بسنده عن مغيث عن مولاه جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي مرفوعاً، وهذا لا يثبت من هذا الوجه ].
يعني أنه إما موقوف، وإما أنه أخذه عن بني إسرائيل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ثم رواه من طريقين آخرين عن جابر عن أبي الطفيل عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله
والأمر كما قال الحافظ، فهذا لا يصح، بل هو منكر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال ابن جرير : حدثني المثنى بن إبراهيم أخبرنا الحجاج بن منهال حدثنا حماد عن علي بن زيد عن أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم أنهما قالا جميعاً: لما كثر بنو آدم وعصوا دعت الملائكة عليهم والأرض والجبال: ربنا لا تمهلهم. فأوحى الله إلى الملائكة: إني أزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم، وأنزلت الشهوة والشيطان في قلوبهم، ولو نزلتم لفعلتم أيضاً، قال: فحدثوا أنفسهم أن: لو ابتلوا اعتصموا، فأوحى الله إليهم أن اختاروا ملكين من أفضلكم. فاختاروا هاروت وماروت، فأهبطا إلى الأرض، وأنزلت الزهرة إليهما في صورة امرأة من أهل فارس يسمونها بيذخت، قال: فوقعا بالخطيئة، فكانت الملائكة يستغفرون للذين آمنوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا [غافر:7]، فلما وقعا بالخطيئة استغفروا لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا.
وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي أخبرنا عبد الله بن جعفر الرقي أخبرنا عبيد الله -يعني ابن عمرو - عن زيد بن أبي أنيسة عن المنهال بن عمرو ويونس بن خباب عن مجاهد قال: كنت نازلاً على عبد الله بن عمر في سفر، فلما كان ذات ليلة قال لغلامه: انظر هل طلعت الحمراء؟ لا مرحباً بها ولا أهلاً ولا حياها الله؛ هي صاحبة الملكين، قالت الملائكة: يا رب! كيف تدع عصاة بني آدم وهم يسفكون الدم الحرام وينتهكون محارمك ويفسدون في الأرض؟! قال: إني ابتليتهم، فلعل إن ابتليتكم بمثل الذي ابتليتهم به فعلتم كالذي يفعلون، قالوا: لا، قال: فاختاروا من خياركم اثنين، فاختاروا هاروت وماروت، فقال لهما: إني مهبطكما إلى الأرض وعاهد إليكما ألا تشركا ولا تزنيا ولا تخونا، فأهبطا إلى الأرض وألقي عليهما الشهوة، وأهبطت لهما الزهرة في أحسن صورة امرأة فتعرضت لهما فراوداها عن نفسها فقالت: إني على دين لا يصح لأحد أن يأتيني إلا من كان على مثله، قالا: وما دينك؟ قالت: المجوسية، قالا: الشرك هذا شيء لا نقر به. فمكثت عنهما ما شاء الله تعالى، ثم تعرضت لهما فراوداها عن نفسها، فقالت: ما شئتما، غير أن لي زوجاً وأنا أكره أن يطلع على هذا مني فأفتضح، فإن أقررتما لي بديني وشرطتما لي أن تصعدا بي إلى السماء فعلت، فأقرا لها بدينها وأتياها فيما يريان، ثم صعدا بها إلى السماء، فلما انتهيا بها إلى السماء اختطفت منهما وقطعت أجنحتهما فوقعا خائفين نادمين يبكيان، وفي الأرض نبي يدعو بين الجمعتين، فإذا كان يوم الجمعة أجيب، فقالا: لو أتينا فلاناً فسألناه فطلب لنا التوبة، فأتياه فقال: رحمكما الله! كيف يطلب التوبة أهل الأرض لأهل السماء؟! قالا: إنا قد ابتلينا، قال: ائتياني يوم الجمعة. فأتياه فقال: ما أجبت فيكما بشيء، ائتياني في الجمعة الثانية، فأتياه فقال: اختارا فقد خيرتماك إن اخترتما معافاة الدنيا وعذاب الآخرة، وإن أحببتما فعذاب الدنيا وأنتما يوم القيامة على حكم الله، فقال أحدهما: إن الدنيا لم يمض منها إلا القليل، وقال الآخر: ويحك إني قد اطعتك في الأمر الأول فأطعني الآن؛ إن عذاباً يفنى ليس كعذاب يبقى. فقال: إننا يوم القيامة على حكم الله، فأخاف أن يعذبنا، قال: لا، إني أرجو إن علم الله أنا قد اخترنا عذاب الدنيا مخافة عذاب الآخرة ألا يجمعهما علينا، قال: فاختارا عذاب الدنيا، فجعلا في بكرات من حديد في قليب مملوءة من نار عاليهما سافلهما. وهذ إسناد جيد إلى عبد الله بن عمر ، وقد تقدم في رواية ابن جرير من حديث معاوية بن صالح عن نافع عنه رفعه. وهذا أثبت وأصح إسناداً، ثم هو -والله أعلم- من رواية ابن عمر عن كعب كما تقدم بيانه من رواية سالم عن أبيه ].
الإسناد صحيح إلى ابن عمر ، لكن ابن عمر أخذ عن كعب الأحبار ، وكعب يروي عن بني إسرائيل الغث والسمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله: (إن الزهرة نزلت في صورة امرأة، حسناء) وكذا في المروي عن علي فيه غرابة جداً ].
لا شك في أنه غريب جداً، ولا يستحيل أن تنزل في صورة امرأة؛ فإن الله على كل شيء قدير، لكن هذا فيه نظر؛ لأن إثباته يحتاج إلى دليل صحيح.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأقرب ما ورد في ذلك ما قال ابن أبي حاتم : أخبرنا عصام بن رواد أخبرنا آدم أخبرنا أبو جعفر حدثنا الربيع بن أنس عن قيس بن عباد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما وقع الناس من بعد آدم عليه السلام فيما وقعوا فيه من المعاصي والكفر بالله قالت الملائكة في السماء: يا رب! هذا العالم الذي إنما خلقتهم لعبادتك وطاعتك قد وقعوا فميا وقعوا فيه وركبوا الكفر وقتل النفس وأكل المال الحرام والزنا والسرقة وشرب الخمر، فجعلوا يدعون عليهم ولا يعذرونهم، فقيل: إنهم في غيب، فلم يعذروهم، فقيل لهم: اختاروا من أفضلكم ملكين آمرهما وأنهاهما، فاختاروا هاروت وماروت، فأهبطا إلى الأرض وجعل لهما شهوات بني آدم، وأمرهما الله أن يعبداه ولا يشركا به شيئاً، ونهيا عن قتل النفس الحرام، وأكل المال الحرام، وعن الزنا والسرقة وشرب الخمر، فلبثا في الأرض زماناً يحكمان بين الناس بالحق، وذلك في زمن إدريس عليه السلام، وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في النساء كحسن الزهرة في سائر الكواكب، وإنهما أتيا عليها فخضعا لها في القول وأراداها على نفسها، فأبت إلا أن يكونا على أمرها وعلى دينها، فسألاها عن دينها فأخرجت لهما صنماً فقالت: هذا أعبده. فقالا: لا حاجة لنا في عبادة هذا، فذهبا فعبرا ما شاء الله، ثم أتيا عليها فأراداها على نفسها ففعلت مثل ذلك، فذهبا ثم أتيا عليها فأراداها على نفسها، فلما رأت أنهما قد أبيا أن يعبدا الصنم قالت لهما: اختارا أحد الخلال الثلاث: إما ان تعبدا هذا الصنم، وإما أن تقتلا هذه النفس، وإما أن تشربا هذه الخمر، فقالا: كل هذا لا ينبغي، وأهون هذا شرب الخمر، فشربا الخمر فأخذت فيهما فواقعا المرأة، فخشيا أن يخبر الإنسان عنهما فقتلاه، فلما ذهب عنهما السكر وعلما ما وقعا فيه من الخطيئة أرادا أن يصعدا إلى السماء فلم يستطيعا، وحيل بينهما وبين ذلك، وكشف الغطاء فيما بينهما وبين أهل السماء، فنظرت الملائكة إلى ما وقعا فيه فعجبوا كل العجب، وعرفوا أنه من كان في غيب فهو أقل خشية، فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض، فنزل في ذلك: وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ [الشورى:5]، فقيل لهما: اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة، فقالا: أما عذاب الدنيا فإنه ينقطع ويذهب، وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له، فاختارا عذاب الدنيا، فجعلا ببابل فهما يعذبان. وقد رواه الحاكم في مستدركه مطولاً عن أبي زكريا العنبري عن محمد بن عبد السلام عن إسحاق بن راهويه عن حكام بن سلم الرازي -وكان ثقة- عن أبي جعفر الرازي به. ثم قال: صحيح الإسناد لم يخرجاه، فهذا أقرب ما روي في شأن الزهرة، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا أبي أخبرنا مسلم أخبرنا القاسم بن الفضل الحدائي أخبرنا يزيد -يعني الفارسي - عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن أهل سماء الدينا أشرفوا على أهل الأرض فرأوهم يعملون المعاصي، فقالوا: يا رب! أهل الأرض كانوا يعملون بالمعاصي، فقال الله: أنتم معي وهم في غيب عني، فقيل لهم: اختاروا منكم ثلاثة، فاختاروا منهم ثلاثة على أن يهبطوا إلى الأرض على أن يحكموا بين أهل الأرض، وجعل فيهم شهوة الآدميين، فأمروا ألا يشربوا خمراً ولا يقتلوا نفساً ولا يزنوا ولا يسجدوا لوثن، فاستقال منهم واحد فأقيل، فأهبط اثنان إلى الأرض، فأتتهما امرأة من أحسن الناس يقال لها: مناهية، فهوياها جميعاً ثم أتيا منزلها فاجتمعا عندها فأراداها فقالت لهما: لا، حتى تشربا خمري وتقتلا ابن جاري وتسجدا لوثني، فقالا: لا نسجد، ثم شربا من الخمر، ثم قتلا، ثم سجدا ].
يعني أنهما فعلا الثلاثة، فالخمر جماع الإثم وأم الخبائث، ولا شك في أنه إذا سكر الإنسان غاب عقله فيقتل ويفعل المنكرات، وقد يتكلم بكلمة الشرك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فأشرف أهل السماء عليهما، وقالت لهما: أخبراني بالكلمة التي إذا قلتماها طرتما، فأخبراها فطارت، فمسخت جمرة، وهي هذه الزهرة، وأما هما فأرسل إليهما سليمان بن داود فخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا، فهما مناطان بين السماء والأرض ].
يعني: معلقان.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهذا السياق فيه زيادة كثيرة وإغراب ونكارة، والله أعلم بالصواب.
وقال عبد الرزاق : قال معمر : قال قتادة والزهري عن عبيد الله بن عبد الله : وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ [البقرة:102]: كانا ملكين من الملائكة فأهبطا ليحكما بين الناس، وذلك أن الملائكة سخروا من حكام بني آدم، فحاكمت إليهما امرأة فحافا لها، ثم ذهبا يصعدان فحيل بينهما وبين ذلك، ثم خيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا. قال معمر : قال قتادة : فكانا يعلمان الناس السحر، فأخذ عليهما ألا يعلما أحداً حتى يقولا: إنما نحن فتنة فلا تكفر ].
والمؤلف رحمه الله أطال في هذا، ولو اكتفى ببعض الآثار لكان أولى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال أسباط عن السدي أنه قال: كان من أمر هاروت وماروت أنهما طعنا على أهل الأرض في أحكامهم، فقيل لهما: إني أعطيت بني آدم عشراً من الشهوات فبها يعصونني، قال هاروت وماروت: ربنا! لو أعطيتنا تلك الشهوات ثم نزلنا لحكمنا بالعدل. فقال لهما: أنزلا فقد أعطيتكما تلك الشهوات العشر، فاحكما بين الناس، فنزلا ببابل ديناوند، فكانا يحكمان حتى إذا أمسيا عرجا، فإذا أصبحا هبطا، فلم يزالا كذلك حتى أتتهما امرأة تخاصم زوجها، فأعجبهما حسنها، واسمها بالعربية الزهرة، وبالنبطية بيذخت، وبالفارسية أناهيد ، فقال أحدهما لصاحبه: إنها لتعجبني، قال الآخر: قد أردت أن أذكر لك فاستحييت منك، فقال الآخر: هل لك أن أذكرها لنفسها؟ قال: نعم، ولكن كيف لنا بعذاب الله؟ قال الآخر: إنا لنرجو رحمة الله، فلما جاءت تخاصم زوجها ذكرا إليها نفسها فقالت: لا، حتى تقضيا لي على زوجي، فقضيا لها على زوجها ثم واعدتهما خربة من الخرب يأتيانها فيها فأتياها لذلك فلما أراد الذي يواقعها قالت: ما أنا بالذي أفعل حتى تخبراني بأي كلام تصعدان إلى السماء وبأي كلام تنزلان منها، فأخبراها فتكلمت فصعدت، فأنساها الله تعالى ما تنزل به، فثبتت مكانها، وجعلها الله كوكباً. فكان عبد الله بن عمر كلما رآها لعنها وقال: هذه التي فتنت هاروت وماروت، فلما كان الليل أرادا أن يصعدا فلم يطيقا، فعرفا الهلكة، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا، فعلقا ببابل، وجعلا يكلمان الناس كلامهما وهو السحر. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : أما شأن هاروت وماروت فإن الملائكة عجبت من ظلم بني آدم وقد جاءتهم الرسل والكتب والبينات فقال لهم ربهم تعالى: اختاروا منكم ملكين أنزلهما يحكمان في الأرض، فاختاروا فلم يألوا هاروت وماروت ].
قوله: [لم يألوا] أي: لم يقصروا في حسن الاختيار.
قال: [ فقال لهما حين أنزلهما: أعجبتما من بني آدم من ظلمهم ومعصيتهم وإنما تأتيهم الرسل والكتب من وراء وراء، وإنكما ليس بيني وبينكما رسول، فافعلا كذا وكذا، ودعا كذا وكذا، فأمرهما بأمور ونهاهما، ثم نزلا على ذلك ليس أحد أطوع لله منهما، فحكما فعدلا، فكانا يحكمان في النهار بين بني آدم، فإذا أمسيا عرجا فكانا مع الملائكة، وينزلان حين يصبحان فيحكمان فيعدلان، حتى أنزلت عليهما الزهرة في أحسن صورة امرأة تخاصم، فقضيا عليها، فلما قامت وجد كل واحد منهما في نفسه فقال أحدهما لصاحبه: وجدت مثل الذي وجدت؟ ].
يعني: أوجدت؟ على حذف حرف الاستفهام.
قال: [ قال: نعم، فبعثا إليها أن ائتيانا نقض لك، فلما رجعت قالا وقضيا لها، فأتتهما فكشفا لها عن عورتيهما، وإنما كانت سوآتهما في أنفسهما ولم يكونا كبني آدم في شهوة النساء ولذاتها، فلما بلغا ذلك واستحلاه افتتنا، فطارت الزهرة فرجعت حيث كانت، فلما أمسيا عرجا فزجرا فلم يؤذن لهما ولم تحملهما أجنحتهما، فاستغاثا برجل من بني آدم فأتياه فقالا: ادع لنا ربك، فقال: كيف يشفع أهل الأرض لأهل السماء؟ قالا: سمعنا ربك يذكرك بخير في السماء، فوعدهما يوماً وغداً يدعو لهما، فدعا لهما فاستجيب له، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فنظر أحدهما إلى صاحبه فقال: ألا تعلم أن أفواج عذاب الله في الآخرة كذا وكذا في الخلد وفي الدنيا تسع مرات مثلها؟ فأمرا أن ينزلا ببابل، فثمَّ عذابهما ].
(ثمَّ) ظرف مكان بمعنى هناك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وزعم أنهما معلقان في الحديد مطويان يصفقان بأجنحتهما، وقد روي في قصة هاروت وماروت عن جماعة من التابعين كـمجاهد والسدي والحسن البصري وقتادة وأبي العالية والزهري والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وغيرهم. وقصها خلق من المفسرين من المتقدمين والمتأخرين، وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل؛ إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى، والله أعلم بحقيقة الحال ].
هذا هو الصواب كما قال الحافظ رحمه الله، فالصواب أن الله تعالى أجملها، وأما هذه التفصيلات من أن الله تعالى أنزل ملكين، وأنزلت الزهرة ونحو ذلك؛ فإن كل هذه من أخبار بني إسرائيل.
أي: بقيت في المكان وأبيت الرجوع.
قالت: [ فقالا: اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه، فذهبت فاقشعررت وخفت، ثم رجعت إليهما وقلت: قد فعلت، فقالا: فما رأيت؟ قلت: لم أر شيئاً، فقالا: كذبت، لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري، فإنك على رأس أمرك، فأرببت وأبيت، فقالا: اذهبي إلى التنور فبولي فيه، فذهبت إليه فبلت فيه، فرأيت فارساً مقنعاً بحديد خرج مني فذهب في السماء وغاب حتى ما أراه، فجئتهما فقلت: قد فعلت، فقالا: فما رأيت؟ قلت: رأيت فارساً مقنعاً خرج مني فذهب في السماء وغاب حتى ما أراه، فقالا: صدقت، ذلك إيمانك خرج منك، اذهبي، فقلت للمرأة: والله ما أعلم شيئاً وما قالا لي شيئاً، فقالت: بلى، لم تريدي شيئاً إلا كان، خذي هذا القمح فابذري، فبذرت وقلت: اطلعي، فأطلعت، وقلت: احقلي فأحقلت ].
أي: أنها بذرت فطلع النبات ثم صار سنبلاً في الحال.
قالت: [ ثم قلت: افركي فأفركت ].
أي: أن الحب خرج من السنبل.
قالت: [ ثم قلت: أيبسي فأيبست ].
أي أن الحب يبس في الحال بعد أن كان السنبل حباً رطباً.
قالت: [ ثم قلت: اطحني فأطحنت ].
أي أن الحب طحن في الحال.
قالت: [ ثم قلت : اخبزي فأخبزت، فلما رأيت أني لا أريد شيئاً إلا كان سُقِط في يدي وندمت -والله! يا أم المؤمنين- ما فعلت شيئاً ولا أفعله أبداً. ورواه ابن أبي حاتم عن الربيع بن سليمان به مطولاً كما تقدم، وزاد بعد قولها: (ولا أفعله أبداً) فسألت أصحاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حداثة وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهم يومئذ متوافرون- فما دروا ما يقولون لها، وكلهم هاب وخاف أن يفتيها بما لا يعلمه، إلا أنه قد قال لها ابن عباس أو بعض من كان عنده: لو كان أبواك حيين أو أحدهما -قال هشام:- فلو جاءتنا أفتيناها بالضمان. قال ابن أبي الزناد : وكان هشام يقول: إنهم كانوا من أهل الورع والخشية من الله، ثم يقول هشام : لو جاءتنا مثلها اليوم لوجدت نوكى أهل حمق وتكلف بغير علم، فهذا إسناد جيد إلى عائشة رضي الله عنها ].
النوكى: الحمقى، جمع أحمق، والحديث ليس فيه أنها فعلت السحر، إنما فيه أنها بذرت وحقلت وطحنت وخبزت في الحال، فيحتمل أن هذا من كذب المرأة أو من كذب العجوز، وليس فيه أنها تقربت للشيطان، إنما فيه أنها بالت على التنور فقط.
وقوله: [فلو جاءتنا أفتيناها بالضمان]، لا أدري ما المقصود به؛ فليس فيه أنها أخذت شيئاً فتضمنه.
وقولها: [فأرببت] أي: دنوت منه، وأربت: أقمت في المكان.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقد استدل بهذا الأمر من ذهب إلى أن الساحر له تمكن في قلب الأعيان؛ لأن هذه المرأة بذرت واستغلت في الحال، وقال آخرون: بل ليس له قدرة إلا على التخييل، كما قال تعالى سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الأعراف:116] ].
الصواب أن السحر منه ما هو حقيقة ومنه ما هو خيال، فهو يقتل ويمرض ويفرق بين المرء وزوجه، ولا يقلب الأعيان، وسيأتي أن بعض أهل البدع يقول: إن الساحر يقلب الإنسان حماراً والحمار إنساناً، والحجر ذهباً والذهب حجراً، وهذا ليس بصحيح، ويقولون: إنه إذا تكلم بالكلمة السحرية قلب الله له الشيء إلى ما يريد.
فالصواب أن له حقيقة، فهو يمرض ويقتل ويفرق بين المرء وزوجه، أما مسألة قلب الأعيان فهي مسألة أخرى، فإنه لا يقدر على قلب الأعيان أحد، وإنما يقدر الساحر على التخييل، كأن يكرِّه الزوج إلى امرأته فتراه بصورة قبيحة حتى تفارقه، والعكس، فيجمع ويفرق، ويسمى هذا العطف والصرف.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال تعالى: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى [طه:66]، واستدل به على أن بابل المذكورة في القرآن هي بابل العراق لا بابل ديناوند كما قاله السدي وغيره. ]
جاء في معجم البلدان: قيل بابل العراق، وقيل: بابل دنباوند.
وقال أيضاً في دنباوند: جبل من نواحي الري.
وبلاد الري هي في جهة إيران وأفغانستان اليوم.
هذا الحديث ضعيف؛ لأن فيه ابن لهيعة .
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال أبو داود : أخبرنا سليمان بن داود أخبرنا ابن وهب حدثني ابن لهيعة ويحيى بن أزهر عن عمار بن سعد المرادي عن أبي صالح الغفاري أن علياً مر ببابل؛ وهو يسير فجاءه المؤذن يؤذنه بصلاة العصر، فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة، فلما فرغ قال : (إن حبيبي صلى الله عليه وسلم نهاني أن أصلي في المقبرة، ونهاني أن أصلي بأرض بابل فإنها ملعونة)، حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني يحيى بن أزهر وابن لهيعة عن حجاج بن شداد عن أبي صالح الغفاري عن علي بمعنى حديث سليمان بن داود قال: فلما (خرج) مكان (برز)، وهذا الحديث حسن عند الإمام أبي داود ؛ لأنه رواه وسكت عليه، ففيه من الفقه كراهية الصلاة بأرض بابل كما تكره بديار ثمود الذين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدخول إلى منازلهم إلا أن يكونوا باكين ].
المراد بالصلاة الصلاة المعروفة، فلا يصلى فيها؛ لأنه يحرم الصلاة في أرض العذاب مثل الصلاة في الأرض المغصوبة، وهل تصح الصلاة لو صلى مع الإثم أو لا تصح؟ فيه خلاف بين أهل العلم، والصلاة في الأرض المغصوبة لا تجوز وحرام، ولكن اختلف العلماء في صحتها، فالحنابلة يرون أنها لا تصح، وغيرهم يرى أنها تصح مع الإثم، وهو الأقرب، ومثلها الصلاة في الثوب المغصوب أو الثوب الحرير.
فإن قيل: إنه منهي عنها لذات المكان، ولشيء يتعلق بالصلاة، فنقول: النهي ليس لشيء يتعلق بالصلاة، وإنما النهي يتعلق بالأرض ذاتها؛ لأنها أرض العذاب.
والحديث عند أبي داود حسن مع أنه فيه ابن لهيعة ، لأن ابن وهب رواه عنه وعن آخر، وهو: يحيى بن أزهر ، وأبو داود روى الحديث وفتش عنه، فهو حسن عنده.
قال الفقهاء: لا تجوز الصلاة في أرض بابل؛ لأنها مكان عذاب، ولكن هل يؤخذ من هذه الآثار أن بابل هي مكان عذاب للملكين؟ لم يثبت ذلك، لكن إذا ثبت الحديث فإنه يكفي، وإذا صح الحديث في أن بابل أرض عذاب، فهل هي أرض عذاب للملكين أو غيرهما؟ هذا يحتاج إلى تأمل.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قال أصحاب الهيئة: وبعد ما بين بابل -وهي من إقليم العراق- عن البحر المحيط الغربي -ويقال له: أوقيانوس- سبعون درجة، ويسمون هذا طولاً، وأما عرضهما -وهو بعد ما بينها وبين وسط الأرض من ناحية الجنوب وهو المسامت لخط الاستواء- اثنان وثلاثون درجة، والله أعلم ].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر