قال المؤلف رحمه الله: [ يقول تعالى: فَإِنْ آمَنُوا يعني: الكفار من أهل الكتاب وغيرهم، بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ يا أيها المؤمنون! من الإيمان بجميع كتب الله ورسله، ولم يفرقوا بين أحد منهم، فَقَدِ اهْتَدَوا أي: فقد أصابوا الحق وأرشدوا إليه، وَإِنْ تَوَلَّوْا أي: عن الحق إلى الباطل بعد قيام الحجة عليهم، فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ أي: فسينصرك عليهم، ويظفرك بهم.
وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، قال ابن أبي حاتم قرأ على يونس بن عبد الأعلى قال أخبرنا ابن وهب قال أخبرنا زياد بن يونس قال حدث النافع بن أبي نعيم قال: أرسل إلي بعض الخلفاء مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه ليصلحه. قال زياد : فقلت له: إن الناس ليقولون: إن مصحفه كان في حجره حين قتل، فوقع الدم على: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:137].
فقال نافع : بصُرت عيني بالدم على هذه الآية، وقد قدم ].
يعني: صار قديماً؛ لأنه قد طالت عليه المدة. ولا بأس بسنده، وهذا قد حصل للثوار الذين قتلوا عثمان رضي الله عنه من الإذلال والإهانة والذم لهم إلى يوم القيامة، وهذا من كفاية الله لـعثمان رضي الله عنه.
قال المؤلف رحمه الله: [ وقوله: صِبْغَةَ اللَّهِ [البقرة:138]، قال الضحاك عن ابن عباس : دين الله، وكذا روي عن مجاهد وأبي العالية وعكرمة وإبراهيم والحسن وقتادة والضحاك وعبد الله بن كثير وعطية العوفي والربيع بن أنس والسدي نحو ذلك. وانتصاب صِبْغَةَ اللَّهِ إما على الإغراء، كقوله: فِطْرَةَ اللَّهِ [الروم:30]، أي: الزموا ذلك عليكموه، وقال بعضهم: بدلاً من قوله: مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ [البقرة:135]، وقال سيبويه : هو مصدر مؤكد انتصب عن قوله: آمَنَّا بِاللَّهِ [البقرة:136]، كقوله: وَعْدَ اللَّهِ [النساء:122]، وقد ورد في حديث رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه من رواية أشعث بن إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن بني إسرائيل قالوا: يا رسول الله! هل يصبغ ربك؟ فقال: اتقوا الله، فناداه ربه: يا موسى، سألوك هل يصبغ ربك؟ فقل: نعم، أنا أصبغ الألوان: الأحمر والأبيض والأسود والألوان كلها من صبغي) ].
فقوله: صِبْغَةَ اللَّهِ [البقرة:138] يعني: دين الله، مثل: البر والتقوى والاستقامة على طاعة الله، ومن قصر من طاعته لله فقد نقص من صبغته، فقوله: صِبْغَةَ اللَّهِ أي: الزموا دين الله.
قال المؤلف رحمه الله: [ وأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم: صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً [البقرة:138]
كذا وقع في رواية ابن مردويه مرفوعًا، وهو في رواية ابن أبي حاتم موقوف، وهو أشبه إن صح إسناده، والله أعلم ].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ يقول الله تعالى مرشداً نبيه صلوات الله وسلامه عليه إلى درء مجادلة المشركين: قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ أي: أتناظروننا في توحيد الله، والإخلاص له والانقياد، واتباع أوامره وترك زواجره؟! وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ المتصرف فينا وفيكم، المستحق لإخلاص الإلهية له وحده لا شريك له، وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ أي: نحن برآء منكم، وأنتم براء منا، كما قال في الآية الأخرى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يونس:41]، وقال تعالى: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ [آل عمران:20] إلى آخر الآية.
وقال تعالى إخباراً عن إبراهيم: وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ [الأنعام:80].
وقال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ [البقرة:258] الآية.
وقال في هذه الآية الكريمة: وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ [البقرة:139] أي: نحن برآء منكم كما أنتم برآء منا، ونحن له مخلصون، أي: في العبادة والتوجه ].
وقوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ ، قال الحسن البصري : كانوا يقرءون في كتاب الله الذي آتاهم: إن الدين الإسلام، وإن محمداً رسول الله، وإن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا برآء من اليهودية والنصرانية، فشهد الله بذلك، وأقروا على أنفسهم لله، فكتموا شهادة الله عندهم من ذلك.
وقوله: وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ تهديد ووعيد شديد، أي: إن علمه محيط بعملكم، وسيجزيكم عليه].
وهذا كما سبق في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)، فالنسب لا ينفع وحده إذا كان العمل سيئاً، ولهذا لم ينتفع ابن نوح الكافر بقربه من أبيه، ولم ينتفع والد إبراهيم من ابنه، ولم ينفع أبو لهب وأبو جهل قربهم من نسب النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن (من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قيل: المراد بالسفهاء هاهنا: مشركو العرب، قاله الزجاج ، وقيل: أحبار يهود، قاله مجاهد ، وقيل: المنافقون، قاله السدي ، والآية عامة في هؤلاء كلهم. والله أعلم ].
انفرد به البخاري من هذا الوجه، ورواه مسلم من وجه آخر، وقال محمد بن إسحاق : حدثني إسماعيل بن أبي خالد عن أبي إسحاق عن البراء قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي نحو بيت المقدس، ويكثر النظر إلى السماء، ينتظر أمر الله، فأنزل الله: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144]).
هذه الآيات الكريمات كما قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: شاملة لكل من اعترض على توجيه الله تعالى لنبيه الكريم إلى الكعبة المشرفة، فكل من اعترض على توجيه الله تعالى لنبيه إلى الكعبة فهو من السفهاء وتشمله الآية، ولكن ظاهر الآية أن الذين اعترضوا هم اليهود، وقد سموا في بعض الأحاديث، فهم يدخلون فيها دخولاً أولياً، وكذلك كل من اعترض على هذا التوجيه الكريم من الله تعالى لنبيه بالتوجه إلى الكعبة فهو من السفهاء، وتشمله الآية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فقال رجل من المسلمين: وددنا لو علمنا علم من مات منا قبل أن نصرف إلى القبلة، وكيف بصلاتنا نحو بيت المقدس؟ فأنزل الله: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [البقرة:143]. وقال السفهاء من الناس -وهم أهل الكتاب-: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [البقرة:142]؟ فأنزل الله: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ [البقرة:142]، إلى آخر الآية ].
ففسرها هنا بأنهم أهل الكتاب.
قال المؤلف رحمه الله: [ وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة حدثنا الحسن بن عطية حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، وكان يحب أن يوجه نحو الكعبة، فأنزل الله: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144]، قال: فوجه نحو الكعبة، وقال السفهاء من الناس وهم اليهود: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:142]).
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة أمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهراً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم، فكان يدعو الله وينظر إلى السماء، فأنزل الله عز وجل: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ )، أي: نحوه، فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ؟ فأنزل الله: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ .
وقد جاء في هذا الباب أحاديث كثيرة، وحاصل الأمر: أنه قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أُمر باستقبال الصخرة من بيت المقدس، فكان بمكة يصلي بين الركنين، فتكون بين يديه الكعبة وهو مستقبل صخرة بيت المقدس، فلما هاجر إلى المدينة تعذر الجمع بينهما، فأمره الله بالتوجه إلى بيت المقدس، قاله ابن عباس والجمهور، ثم اختلف هؤلاء هل كان الأمر به في القرآن أو بغيره ].
وقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: أنه أمر باستقبال الصخرة من بيت المقدس يحتاج إلى دليل، والظاهر أنه أمر بالتوجيه إلى بيت المقدس وهو المسجد المطهر، وهو قبلة الأنبياء، وأما التوجه إلى نفس الصخرة فلابد له من دليل، فاستقبل بيت المقدس ستة عشر شهراً، وليس فيها أنه وجه إلى الصخرة.
قال المؤلف رحمه الله: [ ثم اختلف هؤلاء هل كان الأمر به بالقرآن أو بغيره؟ على قولين. وحكى القرطبي في تفسيره عن عكرمة وأبي العالية والحسن البصري : أن التوجه إلى بيت المقدس كان باجتهاده عليه الصلاة والسلام، والمقصود أن التوجه إلى بيت المقدس بعد مقدمه صلى الله عليه وسلم المدينة، واستمر الأمر على ذلك بضعة عشر شهراً، وكان يكثر الدعاء والابتهال أن يوجه إلى الكعبة التي هي قبلة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فأجيب إلى ذلك، وأمر بالتوجه إلى البيت العتيق، وخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، فأعلمهم بذلك، وكان أول صلاة صلاها إليها صلاة العصر، كما تقدم في الصحيحين من رواية البراء ، ووقع عند النسائي من رواية أبي سعيد بن المعلى : (أنها الظهر، وقال: كنت أنا وصاحبي أول من صلى إلى الكعبة).
وذكر غير واحد من المفسرين وغيرهم أن تحويل القبلة نزل على رسول الله وقد صلى ركعتين من الظهر وذلك في مسجد بني سلمة، فسمي مسجد القبليتين ].
وفي هذا دليل على أن الناسخ لا يلزم حكمه إلا بعد العلم به وإن تقدم نزوله وإبلاغه؛ لأنهم لم يؤمروا بإعادة العصر والمغرب والعشاء. والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وزيغ عن الهدى وتخبيط وشك، وقالوا: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [البقرة:142] ].
وهذا يحصل عند الأمور المشتبهة، فإن ضعفاء البصائر وضعفاء الإيمان يحصل عندهم شك وريب وانتكاسة، نسأل الله السلامة والعافية، بخلاف أهل اليقين وأهل العلم وأهل الثبات، فإن الله يثبتهم عند الشدائد والمحن، ومن ذلك ما حصل للناس يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من ارتياب واضطراب، حتى إن عمر رضي الله عنه مع جلالة قدره لم يصدق أن النبي صلى الله عليه وسلم قد توفي، وقال: إنه لم يمت، وسيأتي ويقطع أيدي رجال وأرجلهم، حتى جاء الصديق رضي الله عنه وخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.
رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس منقطعة، وكذلك رواية العوفي ، وكثيراً ما ينقل الحافظ رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، لكن الظاهر أنه ما سمع منه، وكذلك العوفي .
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أي: قالوا: ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا، وتارة يستقبلون كذا؟ فأنزل الله جوابهم في قوله: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [البقرة:142] أي: الحكم والتصرف والأمر كله لله، فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115]، لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ [البقرة:177] أي: الشأن كله في امتثال أوامر الله، فحيثما وُجِّهنا توجهنا، فالطاعة في امتثال أمره، ولو وجهنا في كل يوم مرات إلى جهات متعددة، فنحن عبيده وفي تصرفه وخدامه حيثما وجهنا توجهنا، وهو تعالى له بعبده ورسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه وأمته عناية عظيمة، إذ هداهم إلى قبلة إبراهيم خليل الرحمن، وجعل توجههم إلى الكعبة المبنية على اسمه تعالى وحده لا شريك له، أشرف بيوت الله في الأرض، إذ هي بناء إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، ولهذا قال: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:142].
وقد روى الإمام أحمد عن علي بن عاصم عن حصين بن عبد الرحمن عن عمرو بن قيس عن محمد بن الأشعث عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني: في أهل الكتاب-: (إنهم لا يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على يوم الجمعة التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين) ].
الصواب: عمر بن قيس كما في المسند.
قال ابن حبان : علي بن أبي طلحة كنيته أبو الحسن لم يسمع أحداً من الصحابة، وهو الذي يروي عن ابن عباس في الناسخ والمنسوخ ولم يره.
وقال المزي في تهذيب الكمال بعد أن ترجم له: روى عن ابن عباس وعن عبد الله بن عباس في ابن ماجة في التفسير مرسل، بينهما مجاهد .
يعني: أن الراوي بينهما مجاهد ، لكن في الغالب أن الحافظ ابن كثير يعتمده.
يقول تعالى: إنما حولناكم إلى قبلة إبراهيم عليه الصلاة والسلام واخترناها لكم لنجعلكم خيار الأمم، لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم؛ لأن الجميع معترفون لكم بالفضل، والوسط هاهنا: الخيار والأجود، كما يقال: قريش أوسط العرب نسباً وداراً، أي: خيرها.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطاً في قومه، أي: أشرفهم نسباً، ومنه الصلاة الوسطى التي هي أفضل الصلوات، وهي العصر كما ثبت في الصحاح وغيرها، ولما جعل الله هذه الأمة وسطاً خصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب، كما قال تعالى: هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [الحج:78].
وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يدعى نوح يوم القيامة فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم. فيدعى قومه فيقال لهم: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، وما أتانا من أحد. فيقال لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته. قال: فذلك قوله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143]، قال: والوسط: العدل. فتدعون فتشهدون له بالبلاغ، ثم أشهد عليكم) رواه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجة من طرق عن الأعمش ].
المقصود من هذا فضيحتهم على رءوس الأشهاد، وبيان خزيهم حيث كذبوا أنبياءهم، وإلا فالرسل مصدقون غير مكذبين، والحجة قائمة عليهم، لكن المقصود بيان فضيحتهم وخزيهم على رءوس الأشهاد حيث أنكروا، وبيان فضل هذه الأمة، حيث إنها تشهد عليهم، ويشهد عليها نبيها عليه الصلاة والسلام.
قال السيوطي بعد أن ذكر طريق عطية العوفي عن ابن عباس قال: وهي غير مرضية؛ لأن عطية ضعيف وليس بواه، وربما حسن له الترمذي ، وهذه الطريق قد أخرج منها ابن جرير وابن أبي حاتم كثيراً.
و للعوفي كتاب في التفسير ذكره الثعلبي في الكشف والبيان، وكذلك ابن كثير .
و عطية العوفي ضعيف ضعفاً شديداً وهو شيعي.
و العوفي هو عطية بن سعد بن جنادة الجدلي أبو الحسن الكوفي روى عن أبي هريرة وأبي سعيد وابن عباس رضي الله تعالى عنهم، وكذلك ذكر المزي في التهذيب روايته عن ابن عباس .
وكانت وفاته سنة إحدى عشرة ومائة -يعني: طالت حياته-، وكان شيعياً مدلساً، لكنه قد سمع من ابن عباس ، وليس مثل علي بن أبي طلحة ، فإن علي بن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس ، وروايته في الغالب هي عن مجاهد عن ابن عباس .
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجلان وأكثر من ذلك، فيدعى قومه فيقال: هل بلغكم هذا؟ فيقولون: لا. فيقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم. فيقال: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته. فيدعى محمد وأمته، فيقال لهم: هل بلغ هذا قومه؟ فيقولون: نعم. فيقال: وما علمكم؟ فيقولون: جاءنا نبينا فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا، فذلك قوله عز وجل: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143]، قال: عدلا، لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143]).
وقال أحمد أيضاً: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143]، قال: عدلاً.
وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه وابن أبي حاتم من حديث عبد الواحد بن زياد عن أبي مالك الأشجعي عن المغيرة بن عتيبة بن نهاس حدثني مكاتب لنا عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا وأمتي يوم القيامة على كوم مشرفين على الخلائق، ما من الناس أحد إلا ود أنه منا) ].
والكوم: التل، وفي نسخة: على تل. والمغيرة بن نهاس : هو الكوفي القاضي وهو ضعيف، وقوله: روى عن مكاتب لنا: هذا مبهم، والمبهم مجهول.
ولكن لا شك في أن الآية واضحة في أن هذه الأمة تشهد على الأمم السابقة، ويشهد عليها نبيها.
قال المؤلف رحمه الله: [ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا وأمتي يوم القيامة على كوم مشرفين على الخلائق، ما من الناس أحد إلا ود أنه منا، وما من نبي كذبه قومه إلا ونحن نشهد أنه قد بلغ رسالة ربه عز وجل) ].
قال مصعب بن ثابت : فقال لنا عند ذلك محمد بن كعب : صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قرأ: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143].
ثم قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ].
في هذه النسخة: بني مسلمة، والصواب: بني سلمة.
وبنو حارثة هم قوم جابر رضي الله عنه، وقوله: أنت بالذي تقول، يعني: تعلم بالذي تقول، وأنت مسئول عن هذا القول.
و مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير الأسدي يروي عن جده مرسلاً، وعن أبيه، وعنه ابنه عبد الله وزيد بن أسلم ، ضعفه أحمد وابن معين ، وقال أبو حاتم : صدوق كثير الغلط، وقال النسائي : ليس بالقوي مات سنة سبع وخمسين ومائة.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الأموات فإنهم أفضوا إلى ما قدموا)، فهو على بابه إلا إذا كان فيه التحذير للأحياء من بدعة فلا بأس؛ فإذا كان مبتدعاً فيحذر من بدعته ومن شره، وأما إذا لم يكن كذلك فلا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الأموات فإنهم أفضوا إلى ما قدموا).
فإن اشتهر خطره وأصبح ظاهراً لكل أحد وليس أمراً خفياً، فإن الشيء الظاهر لا يعتبر غيبة، مثل شخص يشرب الدخان في الشارع، أو يحلق لحيته، فتقول فلان الذي يشرب الدخان، فلا تعتبر غيبة؛ لأنه هو الذي فضح نفسه ولم يستتر، وكل يراه. فلعل الذين أثنوا عليه شراً كان شيئاً ظاهراً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال الإمام أحمد : حدثنا يونس بن محمد حدثنا داود بن أبي الفرات عن عبد الله بن بريدة عن أبي الأسود أنه قال: أتيت المدينة فوافقتها وقد وقع بها مرض فهم يموتون موتاً ذريعاً، فجلست إلى عمر بن الخطاب فمرت به جنازة، فأثني على صاحبها خيراً، فقال: وجبت، ثم مر بأخرى فأثني عليها شراً فقال عمر : وجبت. فقال أبو الأسود : ما وجبت يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة. قال: فقلنا: وثلاثة؟ قال: وثلاثة. قال، فقلنا: واثنان؟ قال: واثنان. ثم لم نسأله عن الواحد).
وكذا رواه البخاري والترمذي والنسائي من حديث داود بن أبي الفرات به.
وقال ابن مردويه : حدثنا أحمد بن عثمان بن يحيى حدثنا أبو قِلابة الرقاشي حدثنا أبو الوليد حدثنا نافع بن عمر حدثني أمية بن صفوان عن أبي بكر بن أبي زهير الثقفي عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنباوة ].
و عبد الملك بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الملك الرقاشي، بفتح الراء وتخفيف القاف ثم معجمة، أبو قلابة البصري ، يكنى: أبا محمد وأبو قلابة لقب، صدوق يخطئ تغير حفظه لما سكن بغداد، من الحادية عشرة.
وما دل عليه حديث: (من شهد له اثنان وجبت له الجنة) أخذ به أبو ثور وبعض العلماء، وكان أبو ثور يشهد للإمام أحمد بالجنة، لكن المشهور عند جمهور العلماء أنه لا يشهد بالجنة إلا لمن شهدت له النصوص، كالعشرة المبشرين بالجنة والحسن والحسين ، ولعل هذا خاص بالصحابة الذين زكاهم النبي صلى الله عليه وسلم، لكن أبا ثور يرى أن من شهد له بالخير عدلان من أهل العدالة فإن هذا دليل على أنه يشهد له بالجنة؛ لأن الذين شهدوا له عدول، ولأنهم اشتهروا بالخير.
وهذا الحديث الأصل فيه العموم، ولكن يعارض هذا الأصل المشهود لهم بالجنة، فمعنى هذا: أن المشهود لهم بالجنة كثير، وكل من شهد له اثنان شهد له بالجنة، فلا يكون هناك ميزة للمشهود لهم بالجنة.
القول الأول: أنه لا يشهد إلا للأنبياء فقط.
القول الثاني: أنه لا يشهد إلا للأنبياء، ولمن شهدت له النصوص.
القول الثالث: أنه يشهد لمن شهد له اثنان بأنه اشتهر بالخير، والأرجح القول الثاني: إنه يشهد للأنبياء ولمن شهدت له النصوص.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنباوة يقول: (يوشك أن تعلموا خياركم من شراركم، قالوا: بم يا رسول الله؟! قال: بالثناء الحسن والثناء السيء، أنتم شهداء الله في الأرض)، ورواه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن يزيد بن هارون .
ورواه الإمام أحمد عن يزيد بن هارون وعبد الملك بن عمرو وشريح عن نافع عن ابن عمر به ].
قال المؤلف رحمه الله: [ يقول تعالى: إنما شرعنا لك يا محمد التوجه أولاً إلى بيت المقدس، ثم صرفناك عنها إلى الكعبة؛ ليظهر حال من يتبعك ويطيعك ويستقبل معك حيثما توجهت ممن ينقلب على عقبيه، أي: مرتداً عن دينه، وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً [البقرة:143]، أي: هذه الفعلة، وهو صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة، أي: وإن كان هذا الأمر عظيماً في النفوس، إلا على الذين هدى الله قلوبهم، وأيقنوا بتصديق الرسل، وأن كل ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه، وأن الله يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، فله أن يكلف عباده بما شاء، وينسخ ما يشاء، وله الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك، بخلاف الذين في قلوبهم مرض، فإنه كلما حدث أمر أحدث لهم شكاً، كما يحصل للذين آمنوا إيقان وتصديق، كما قال الله تعالى: وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ [التوبة:124-125] ].
وهم المنافقون الذين في قلوبهم مرض الشك والنفاق والريب، نسأل الله العافية.
فالمؤمنون يزدادون إيماناً ويقيناً وثباتاً، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم، وأما المنافقون فيزدادون شكاً وريباً واضطراباً وحيرة، نسأل الله السلامة والعافية.
قال المؤلف رحمه الله: [ وقال تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [فصلت:44].
وقال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [الإسراء:82].
ولهذا كان من ثبت على تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه في ذلك وتوجه حيث أمره الله من غير شك ولا ريب من سادات الصحابة.
وقد ذهب بعضهم إلى أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار هم الذين صلوا القبلتين ].
قال المصنف رحمه الله تعالى: ولهذا كان من ثبت على تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه في ذلك، وتوجه حيث أمره الله من غير شك ولا ريب من سادات الصحابة.
وقد ذهب بعضهم إلى أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار هم الذين صلوا إلى القبلتين، وهذا قول مرجوح، والصواب أن السابقين الأولين هم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، يعني: قبل صلح الحديبية، فصلح الحديبية حد فاصل، فمن أسلم قبل صلح الحديبية فهو من السابقين الأولين، ومن أسلم بعده فليس منهم، كـخالد بن الوليد .
ولهذا لما وقع الكلام بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف ، وكان عبد الرحمن بن عوف من السابقين الأولين رضي الله عنه، وخالد لم يكن من السابقين، فقد أسلم بعد صلح الحديبية، فلما وقع بينهما كلام قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي) يخاطب خالداً : (لا تسبوا أصحابي): يعني: لا تسبوا أصحابي المتقدمين في الصحبة، (فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، فهذا من التفاضل بين الصحابة، فلو أنفق خالد مثل أحد ذهباً ما بلغ مد عبد الرحمن أو نصف المد.
وهؤلاء الذين أسلموا بعد صلح الحديبية أفضل من الذين أسلموا بعد فتح مكة، كـأبي سفيان بن حرب ، وابنيه معاوية ويزيد ، فقد أسلموا يوم الفتح، ويقال لكل هؤلاء الذين أسلموا بعد الفتح: مسلمة الفتح، وهم طبقات، فالسابقون الأولون قبل صلح الحديبية، ثم من أسلم بعد صلح الحديبية، ثم مسلمة الفتح.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال البخاري في تفسير هذه الآية: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (بينا الناس يصلون الصبح في مسجد قباء إذ جاء رجل فقال: لقد أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، فتوجهوا إلى الكعبة).
وقد رواه مسلم من وجه آخر عن ابن عمر ، ورواه الترمذي من حديث سفيان الثوري، وعنده أنهم كانوا ركوعاً، فاستداروا كما هم إلى الكعبة وهم ركوع.
وكذا رواه مسلم من حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس مثله، وهذا يدل على كمال طاعتهم لله ولرسوله وانقيادهم لأوامر الله عز وجل رضي الله عنهم أجمعين.
وقوله: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] أي: صلاتكم إلى بيت المقدس قبل ذلك ما كان يضيع ثوابها عند الله.
وفي الصحيح من حديث أبي إسحاق السبيعي عن البراء رضي الله عنه قال: مات قوم كانوا يصلون نحو بيت المقدس فقال الناس: ما حالهم في ذلك؟ فأنزل الله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143].
ورواه الترمذي عن ابن عباس وصححه.
وقال ابن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] أي: بالقبلة الأولى وتصديقكم نبيكم واتباعه للقبلة الأخرى، أي: ليعطيكم أجرهما جميعاً، إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [البقرة:143].
وقال الحسن البصري : وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] أي: ما كان الله ليضيع محمداً صلى الله عليه وسلم وانصرافكم معه حيث انصرف، إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [البقرة:143] ].
المشهور الأول، وهو أن المراد بالإيمان الصلاة، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143]، أي: صلاتكم إلى بيت المقدس، وذلك أنه لما مات قوم قبل أن يوجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة قال الصحابة: كيف حال إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله هذه الآية: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] يعني: صلاتكم.
وفي هذا دليل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، كما هو قول الجمهور في الرد على الأحناف ومرجئة الفقهاء الذين يقولون: إن الأعمال ليست داخلة في مسمى الإيمان، فالله تعالى سمى الصلاة إيماناً وهي عمل، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] يعني: صلاتكم.
والأحناف ومرجئة الفقهاء يقولون: سميت الصلاة إيماناً تسمية مجازية، والصواب أنها تسمية حقيقية؛ لأن الإيمان عندهم هو تصديق في القلب فقط، فإذا سميت الأعمال تصديقاً فيقولون هذه تسمية مجازية، وهذا، خطأ، فالمجاز يتوجه إليه النفي، وهذا لا يصح فيه ذلك، فلا يصح أن يقال: ليست الصلاة إيماناً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة من السبي قد فرق بينها وبين ولدها، فجعلت كلما وجدت صبياً من السبي أخذته فألصقته بصدرها، وهي تدور على ولدها، فلما وجدته ضمته إليها وألقمته ثديها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أترون هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر على ألا تطرحه؟ قالوا: لا يا رسول الله! قال: فوالله لله أرحم بعباده من هذه بولدها) ].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر