قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ يخبر تعالى عن تفرده بالإلهية وأنه لا شريك له ولا عديل له، بل هو الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لا إله إلا هو وأنه الرحمن الرحيم.
وقد تقدم تفسير هذين الاسمين في أول الفاتحة.
وفي الحديث عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد بن السكن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163]، الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران:1-2])، ثم ذكر الدليل على تفرده بالإلهية بخلق السموات والأرض وما فيهما وما بين ذلك مما ذرأ وبرأ من المخلوقات الدالة على وحدانيته، فقال: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة:164] ].
هذه الآية الكريمة وهي قوله تعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163] من الآيات العظيمة المحكمة الدالة على وحدانية الله عز وجل، وأنه المعبود بحق، فكما أنه الخالق الرازق الواحد المدبر الذي لا شريك له في الخلق، ولا شريك له في الربوبية، ولا في الملك ولا في التدبير، فكذلك لا شريك له في العبادة والألوهية، فهو الإله الحق سبحانه وتعالى.
ومعنى قوله سبحانه: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163] أي: لا معبود بحق سواه، فالعبادة حق الله عز وجل كالدعاء والصلاة والزكاة والصوم والحج والذبح والنذر والاستعانة والاستعاذة والاستغاثة والخوف والرجاء والتوكل وغيرها من أنواع العبادات، ولا يتصرف بنا غيره لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، فهو المعبود بالحق لا شريك له، وهو المنفرد بالألوهية فلا يشاركه فيها أحد.
وحق الرسول عليه الصلاة والسلام هو الطاعة والتوقير والمحبة وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، والرسل أحق بالطاعة والاتباع والمحبة والاقتداء بأفعالهم وأقوالهم الطيبة، فالله تعالى أحق بالعبادة، والمنفرد بالألوهية والعبادة فلا يستحق العبادة غيره، فالدعاء والذبح والنذر والاستعاذة والاستغاثة والصلاة والصوم والركوع والسجود حق الله، فلا تصرف لغيره لا لجبريل ولا لمحمد ولا لغيرهما.
وكما أنه المنفرد في الربوبية فلا رب غيره، وكما أنه منفرد بالملك فلا مالك غيره، وكما أنه المنفرد بالتدبير فلا مدبر غيره فكذلك هو المنفرد بالألوهية.
وهذه الآية المحكمة فيها الرد على النصارى الذين يتعلقون بالمتشابه فيقولون بتعدد الآلهة وأنها ثلاثة والعياذ بالله، فأهل الزيغ يأخذون بالمتشابه، وأهل الحق يردون المتشابه إلى المحكم، وهو قوله تعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163]، فهذه الآية تقطع شبهة النصراني وغيره؛ لأنها آية محكمه.
كذلك أيضاً قد يتعلق الجهمية والمعطلة بقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ [الزخرف:84]، فيقولون: إن الله في كل مكان تعالى الله عما يقولون، فهم من أهل الزيغ، وأما أهل الحق فيقولون بأنه معبود في الأرض وفي السماء، وهو فوق العرش سبحانه وتعالى، والآيات المحكمة واضحة في أن الله فوق العرش وأنه مستوٍ على العرش، قال تعالى: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16]، وقال تعالى: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255]، وأدلة العلو تزيد على ثلاثة آلاف دليل.
ثم استدل سبحانه وتعالى على أنه المعبود بحق بتوحيد الربوبية، كما في هذه الآية إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة:164].
فهذا الدليل يدل على استحقاقه للعبادة، وكثيراً ما يستدل سبحانه وتعالى بتوحيد الربوبية الذي يقر به المشركون على توحيد الألوهية، فكما أنهم يقرون بأن الله هو الخالق الرازق المدبر، فيجب عليهم أن يعبدوه وحده سبحانه، كما قال سبحانه في الآية الأخرى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ [البقرة:21]، فتوحيد الربوبية دليل على توحيد الألوهية، وكما في قوله سبحانه وتعالى: أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ [النمل:60]، أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [النمل:61]، وهكذا فيستدل سبحانه وتعالى بتوحيد الربوبية الذي يقر به المشركون على توحيد الألوهية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ تلك في ارتفاعها ولطافتها واتساعها وكواكبها السيارة والثوابت ودوران فلكها، وهذه الأرض في كثافتها وانخفاضها وجبالها وبحارها وقفارها ووهادها وعمرانها وما فيها من المنافع واختلاف الليل والنهار، هذا يجيء ثم يذهب ويخلفه الآخر ويعقبه لا يتأخر عنه لحظة، كما قال تعالى : لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:40]، وتارة يطول هذا ويقصر هذا، وتارة يأخذ هذا من هذا ثم يتعاوضان، كما قال تعالى: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ [الحج:61] أي: يزيد من هذا في هذا، ومن هذا في هذا وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ [البقرة:164]أي: في تسخير البحر بحمل السفن من جانب إلى جانب لمعايش الناس، والانتفاع بما عند أهل ذلك الإقليم، ونقل هذا إلى هؤلاء وما عند أولئك إلى هؤلاء، وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [البقرة:164]، كما قال تعالى : وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ [يس:33] إلى قوله: وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ [يس:36].
وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ [البقرة:164] أي: على اختلاف أشكالها وألوانها ومنافعها وصغرها وكبرها، وهو يعلم ذلك كله ويرزقه لا يخفى عليه شيء من ذلك، كما قال تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6].
وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ [البقرة:164] أي: فتارة تأتي بالرحمة وتارة تأتي بالعذاب، وتارة تأتي مبشرة بين يدي السحاب وتارة تسوقه، وتارة تجمعه وتارة تفرقه وتارة تصرفه ].
الرياح المبشرة هي التي تبشر بالمطر، كما في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الأعراف:57].
الرياح الشمالية تأتي من ناحية الشام شمال الكعبة، والجنوبية تأتي من ناحية اليمن جنوب الكعبة، والصبا تأتي من جهة شرق الكعبة فتصدم باب الكعبة فإنه وجه الكعبة، والدبور تأتي من جهة الغرب.
والحديث الذي ذكره المؤلف رحمه الله عن شهر بن حوشب: أن اسم الله الأعظم الرحمن الرحيم، ضعيف؛ لأن في سنده شهر بن حوشب وهو صدوق له أوهام، ولو صح فالمعنى أنه من الأسماء العظيمة، وكثيراً ما يراد باسم التفضيل الصفة المشبهة، فالأعظم بمعنى العظيم والمراد باسم الله الأعظم أي: اسم الله العظيم؛ والرحمن الرحيم من أسمائه.
ورواه ابن أبي حاتم من وجه آخر عن جعفر بن أبي المغيرة به، وزاد في آخره: (وكيف يسألونك الصفا وهم يرون من الآيات ما هو أعظم من الصفا؟).
وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا أبي حدثنا أبو حذيفة حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن عطاء قال: (نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163]، فقال كفار قريش بمكة: كيف يسع الناس إله واحد؟ فأنزل الله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ [البقرة:164] إلى قوله: لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة:164]) فبهذا يعلمون أنه إله واحد، وأنه إله كل شيء وخالق كل شيء ].
وهذا الحديث مرسل عن عطاء .
قال المؤلف رحمه الله تعالى:[ وقال وكيع بن الجراح : حدثنا سفيان عن أبيه عن أبي الضحى قال: لما نزلت وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [البقرة:163] إلى آخر الآية، قال المشركون: إن كان هكذا فليأتنا بآية، فأنزل الله عز وجل: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [البقرة:164] إلى قوله: يَعْقِلُونَ [البقرة:164].
ورواه آدم بن أبي إياس عن أبي جعفر هو الرازي عن سعيد بن مسروق والد سفيان عن أبي الضحى به ]
وهذا أيضاً مرسل عن أبي الضحى، ووكيع بن الجراح هو شيخ الإمام الشافعي والإمام أحمد، ومشهور عنه أنه شكا إليه الشافعي من سوء الحفظ:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال: اعلم بأن العلم نور ونور الله لا يؤتاه عاصي
ويقال: إن الشافعي رحمه الله أخذ الموطأ عن شيخه مالك في جلسة واحدة، فقال له الإمام مالك : إني أرى عليك نوراً فلا تطفئه بمعصية الله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى:[ يذكر تعالى حال المشركين به في الدنيا ومآلهم في الدار الآخرة، حيث جعلوا له أنداداً أي: أمثالاً ونظراء يعبدونهم معه، ويحبونهم كحبه، وهو الله لا إله إلا هو، ولا ضد له، ولا ند له، ولا شريك معه.
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (قلت يا رسول الله! أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك) ].
وهناك تنديد في الربوبية كأن يجعل لله نداً في الخلق والرزق والإماتة والإحياء، وهذا أعظم وأشد من كفر كفار قريش.
وأعظم منه تنديد الملاحدة الشيوعيين، الذين ينكرون الخالق ويقولون: لا إله والحياة مادة، نسأل الله السلامة والعافية، فهؤلاء أعظم الناس كفراً وتنديداً له؛ لأنهم عبدوا الشيطان، وجعلوه لله نداً، نعوذ بالله.
قال بعضهم: تقدير الكلام لو عاينوا العذاب؛ لعلموا حينئذ أن القوة لله جميعاً، أي: أن الحكم له وحده لا شريك له، وأن جميع الأشياء تحت قهره وغلبته وسلطانه، وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ [البقرة:165]، كما قال: فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ [الفجر:25-26].
يقول: لو يعلمون ما يعاينونه هنالك، وما يحل بهم من الأمر الفظيع المنكر الهائل على شركهم وكفرهم؛ لانتهوا عما هم فيه من الضلال، ثم أخبر عن كفرهم بأوثانهم وتبري المتبوعين من التابعين، فقال: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [البقرة:166]، فتبرأت منهم الملائكة الذين كانوا يزعمون أنهم يعبدونهم في الدار الدنيا، فتقول الملائكة: تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ [القصص:63]، ويقولون: سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ:41].
والجن أيضاً تتبرأ منهم ويتنصلون من عبادتهم لهم، كما قال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:5-6].
وقال تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم:81-82].
وقال الخليل لقومه: إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [العنكبوت:25].
وقال تعالى : وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سبأ:31-33].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله: وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ [البقرة:166] أي: عاينوا عذاب الله، وتقطعت بهم الحيل وأسباب الخلاص، ولم يجدوا عن النار معزلاً ولا مصرفاً.
قال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ [البقرة:166] قال: المودة، وكذا قال مجاهد في رواية ابن أبي نجيح .
وقوله: وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا [البقرة:167] أي: لو أن لنا عودة إلى الدار الدنيا حتى نتبرأ من هؤلاء ومن عبادتهم فلا نلتفت إليهم، بل نوحد الله وحده بالعبادة، وهم كاذبون في هذا، بل لو رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:28] كما أخبر الله تعالى عندهم بذلك، ولهذا قال: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ [البقرة:167] أي: تذهب وتضمحل، كما قال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، وقال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ [إبراهيم:18] الآية، وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [النور:39] الآية، ولهذا قال تعالى: وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167].
حال المشركين يوم القيامة أن أعمالهم ضائعة حابطة باطلة، وسيندمون ندماً عظيماً، وليس لهم إلا النار نعوذ بالله، ولا حيلة ولا مهرب ولا خلاص منها.
والله سبحانه وتعالى قد أحصى عليهم أعمالهم، فتعرض عليهم أعمالهم وليس لهم إلا الحسرات، فيساقون إلى النار سوقاً، ويتساقطون فيها، والعياذ بالله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ لما بين تعالى أنه لا إله إلا هو، وأنه المستقل بالخلق شرع يبين أنه الرزاق لجميع خلقه فذكر في مقام الامتنان أنه أباح لهم أن يأكلوا مما في الأرض في حال كونه حلالاً من الله طيباً، أي: مستطاباً في نفسه غير ضار للأبدان ولا للعقول ].
قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا [البقرة:168]، وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29]، وقوله تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [الجاثية:13].
استدل العلماء بهذه الآيات وأمثالها على أن الأصل في الأشياء الحل والإباحة، فالأعيان كالمطاعم والملابس والمشارب الأصل فيها الحل والإباحة حتى يأتي الدليل على التحريم، كقوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [المائدة:3] الآية، وكتحريم ذبائح الكفار عدا أهل الكتاب، بخلاف الأبضاع -أي: الفروج- فإن الأصل فيها التحريم.
فالذبائح في بلاد المشركين الأصل فيها التحريم، وأما في بلاد المسلمين فالأصل فيها الإباحة إلا إذا كثر من يذبح على غير الطريقة الإسلامية، أو من يتولى الذبح وهو غير مسلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ونهاهم عن اتباع خطوات الشيطان، وهي طرائقه ومسالكه فيما أضل أتباعه فيه من تحريم البحائر والسوائب والوصائل ونحوها مما كان زينةً لهم في جاهليتهم، كما في حديث عياض بن حمار الذي في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يقول الله تعالى: إن كل مال منحته عبادي فهو لهم حلال، وفيه: وإني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم).
عياض بن حمار هو المحافلي الصحابي الجليل.
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه : حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا محمد بن عيسى بن شيبة المصري ].
ومردويه يقرأه المحدثون مَرْدَوَيْه ومَرْدُوْيَه، وكذا سيبويه وراهويه.
ومحمد بن عيسى بن شيبة بن الصلت السدوسي أبو علي البزار البصري ثم المصري ابن أخ يعقوب بن شيبة الحافظ، مقبول من الثالثة عشرة.
وسمي البصري ثم المصري لأنه سكن في البصرة ثم في مصر، فصار ينسب إليهما، وكذا الشافعي فقد سكن العراق وله القول القديم فيها، ثم سكن مصر وله القول الجديد، فيقال عن الشافعي العراقي ثم المصري، كما يقال عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم بأنه مكي ومدني؛ لأنه سكن مكة والمدينة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه : حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا محمد بن عيسى بن شيبة المصري حدثنا الحسين بن عبد الرحمن الاحتياطي حدثنا أبو عبد الله الجوزجاني رفيق إبراهيم بن أدهم حدثنا ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (تليت هذه الآية عند النبي صلى الله عليه وسلم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا [البقرة:168]، فقام سعد بن أبي وقاص فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال: يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوماً، وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به) ].
وهذا الحديث فيه كلام؛ فـالاحتياطي ضعيف وابن جريج مدلس وقد عنعن، لكن له شواهد، ومن شواهده حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم (إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً)، وفيه قصة (الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:168] تنفير عنه وتحذير منه، كما قال: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6].
وقال تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [الكهف:50].
وقال قتادة والسدي في قوله: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:168]: كل معصية لله فهي من خطوات الشيطان.
وقال عكرمة : هي نزغات الشيطان، وقال مجاهد : خطؤه أو قال: خطاياه.
وقال أبو مجلز : هي النذور في المعاصي.
وقال الشعبي : نذر رجل أن ينحر ابنه، فأفتاه مسروق بذبح كبش، وقال: هذا من خطوات الشيطان.
وقال أبو الضحى عن مسروق أتى عبد الله بن مسعود بضرع وملح فجعل يأكل، فاعتزل رجل من القوم، فقال ابن مسعود : ناولوا صاحبكم، فقال: لا أريده، فقال: أصائم أنت؟ قال: لا، قال: فما شأنك؟ قال: حرمت أن آكل ضرعاً أبداً، فقال ابن مسعود : هذا من خطوات الشيطان، فاطعم وكفر عن يمينك، رواه ابن أبي حاتم ].
لعل المراد بالضرع لحم العجل أو البقر أو الغنم أو اللبن، ولعل هذا الرجل من البراهمة الذين لا يأكلون إلا النبات فلا يأكلون اللحم، لأنه حرام عندهم، وخطوات الشيطان عامة فتشمل المعاصي كلها، فمنها النذر بالمعصية، وتحريم الحلال وغيرهما، وإنما ذكر بعض المفسرين بعض المعاني لخطوات الشيطان من باب التوضيح فقط وإلا فخطوات الشيطان تشمل المعاصي كلها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال أيضاً: حدثنا أبي حدثنا حسان بن عبد الله المصري عن سليمان التيمي عن أبي رافع قال: غضبت يوماً علي امرأتي فقالت: هي يوماً يهودية ويوماً نصرانية، وكل مملوك لها حر إن لم تطلق امرأتك ].
لعلها تكون سيدته وغضبت عليه، ثم أمرته بطلاق امرأته؛ لأن أبا رافع مولى من الموالي.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فأتيت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فقال: إنما هذه من خطوات الشيطان، وكذلك قالت زينب بنت أم سلمة -وهي يومئذ أفقه امرأة في المدينة-، وأتيت عاصماً وابن عمر فقالا مثل ذلك.
وقال عبد بن حميد : حدثنا أبو نعيم عن شريك عن عبد الكريم عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما كان من يمين أو نذر في غضب فهو من خطوات الشيطان، وكفارته كفارة يمين.
وقوله: إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:169].
أي: إنما يأمركم عدوكم الشيطان بالأفعال السيئة، وأغلظ منها الفاحشة كالزنا ونحوه، وأغلظ من ذلك وهو القول على الله بلا علم، فيدخل في هذا كل كافر وكل مبتدع أيضاً ].
ويدخل تحت القول على الله بلا علم الشرك.
والأقرب في قوله: (عاصماً وابن عمر ) أنه عاصم بن عمر بن الخطاب العدوي وابن حبان رحمه الله متساهل في التوثيق.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ يقول تعالى: وإذا قيل لهؤلاء الكفرة من المشركين: اتبعوا ما أنزل الله على رسوله، واتركوا ما أنتم عليه من الضلال والجهل، قالوا في جواب ذلك: بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا [البقرة:170] أي: ما وجدنا عليه آباءنا، أي: من عبادة الأصنام والأنداد، قال الله تعالى منكراً عليهم: أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ [البقرة:170] أي: الذين يقتدون بهم ويقتفون أثرهم لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة:170] أي: ليس لهم فهم ولا هداية.
وروى ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنها نزلت في طائفة من اليهود دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فقالوا: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، فأنزل الله هذه الآية ].
والأقرب أن هذه الآية عامة في المشركين واليهود وليست خاصة باليهود؛ لأن المشركين يتبعون آباءهم في الضلال والباطل، فهم يدخلون في هذه الآية دخولاً أولياً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ثم ضرب لهم تعالى مثلاً كما قال تعالى: لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ [النحل:60]، فقال وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة:171] أي: فيما هم فيه من الغي والضلال والجهل، كالدواب السارحة التي لا تفقه ما يقال لها، بل إذا نعق بها راعيها -أي: دعاها- إلى ما يرشدها لا تفقه ما يقول ولا تفهمه، بل إنما تسمع صوته فقط، هكذا روي عن ابن عباس وأبي العالية ومجاهد وعكرمة وعطاء والحسن وقتادة وعطاء الخراساني والربيع بن أنس نحو هذا.
وقيل: إنما هذا مثل ضرب لهم في دعائهم الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ولا تعقل شيئاً، اختاره ابن جرير، والأول أولى؛ لأن الأصنام لا تسمع شيئاً ولا تعقله ولا تبصره، ولا بطش لها ولا حياة فيها.
وقوله: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [البقرة:171] أي: صم عن سماع الحق، بكم لا يتفوهون به، عمي عن رؤية طريقه ومسلكه، فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة:171] أي: لا يعقلون شيئاً ولا يفهمونه، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام:39].
أي: أنهم بكم لا ينطقون بالحق، وعمي لا يبصرونه، وصم لا يسمعونه.
الجواب: لا أعلم أن الفرد من أسماء الله، لكن الصمد من أسماء الله، فيكون الفرد من باب الخبر.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر