قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ لما ذكر تعالى أحكام الصيام وعطف بذكر الجهاد؛ شرع في بيان المناسك، فأمر بإتمام الحج والعمرة، وظاهر السياق إكمال أفعالهما بعد الشروع فيهما، ولهذا قال بعده: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ أي: صددتم عن الوصول إلى البيت ومنعتم من إتمامهما، ولهذا اتفق العلماء على أن الشروع في الحج والعمرة ملزم، سواء قيل بوجوب العمرة أو باستحبابها، كما هما قولان للعلماء، وقد ذكرناهما بدلائلهما في كتابنا الأحكام مستقصى، ولله الحمد والمنة ].
الصواب أن من دخل في الحج والعمرة يجب عليه إتمامهما بإجماع العلماء؛ لهذه الآية الكريمة: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ولو كان الحج تطوعاً والعمرة تطوعاً، فمن أحرم بالحج أو أحرم بالعمرة وجب عليه أن يتمهما، بخلاف نفل الصيام والصلاة، فإن الأولى أن يتمه، ولكن له أن يخرج منه، فلو صلى ركعتين نفلاً وقطعهما فلا حرج، لكن الأفضل أن يستمر فيهما، وكذلك الصوم، فلو صام يوماً تطوعاً ليس قضاء من رمضان ولا نذراً ولا كفارة فإنه يجوز له الخروج منه، لكن الأفضل أن يتمه، وقد يكون الأفضل قطعه، كما إذا جاءه ضيف وكان يشق عليه أن يبقى صائماً، فالأفضل أن يفطر في هذه الحالة.
أما الحج والعمرة فإنه إذا أحرم بهما فإنه يجب عليه أن يتمهما، وليس له أن يخرج منهما، ولو كانا نفلين؛ لهذه الآية الكريمة.
وقد اختلف في العمرة هل هي واجبة أو ليست بواجبة على قولين لأهل العلم:
فمن العلماء من قال: إن العمرة واجبة في العمر مرة كالحج، ومنهم: من قال إنها مستحبة، ومنهم: من قال إنها واجبة على غير أهل مكة.
والصواب أن العمرة واجبة في العمر مرة، ومن أصرح الأدلة على وجوب العمرة حديث عائشة رضي الله عنها: (أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم: هل على النساء جهاد؟ قال: عليهن جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة).
وكذلك أيضاً حديث الدارقطني في سؤال جبرائيل للنبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام؟ فقال: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج وتعتمر، وتغتسل من الجنابة، وتتم الوضوء).
فقوله: (وتحج وتعتمر)، فيه وجوب العمرة، فالصواب أن العمرة واجبة في العمر مرة كالحج.
فإن قيل: أليس الله يقول: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33] فهي عامة في الحج وغيره؟
فالجواب: هذه الآية عامة مخصصة بما ثبت من أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لمن صام أن يخرج من الصوم، ولأن الله تعالى لم يوجب إلا خمس صلوات في اليوم والليلة، ولم يوجب إلا رمضان، ولو كان يجب على الإنسان صوم النفل لوجب عليه أكثر من صيام رمضان وكذلك الصلاة.
فإن قيل: إذا دعي الصائم للطعام فهل يفطر أم يتم صومه؟
الجواب: هذا فيه تفصيل، فالصائم يجيب الدعوة ويدعو وينصرف، فإن كان يشق على صاحب البيت فالأفضل له الفطر في هذه الحالة.
وكذا قال ابن عباس وسعيد بن جبير وطاوس ، وعن سفيان الثوري أنه قال في هذه الآية: إتمامهما أن تحرم من أهلك، لا تريد إلا الحج والعمرة وتهل من الميقات، ليس أن تخرج لتجارة ولا لحاجة، حتى إذا كنت قريباً من مكة قلت: لو حججت أو اعتمرت، وذلك يجزئ، ولكن التمام أن تخرج له ولا تخرج لغيره.
وقال مكحول : إتمامهما إنشاؤهما جميعاً من الميقات.
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن الزهري قال: بلغنا أن عمر رضي الله عنه قال في قول الله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ : من تمامهما أن تفرد كل واحد منهما من الآخر ].
وهذا منقطع عن عمر ، والصواب أن إتمامهما أن تأتي بهما كما شرع الله، وكون الإنسان ينشئ الحج أو العمرة من بلده هذا هو الأولى والأفضل، لكن إتمامهما معناه أن يأتي بهما المسلم كما شرع الله، فهذا هو إتمام الحج والعمرة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن الزهري قال: بلغنا أن عمر رضي الله عنه قال: في قوله الله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ : من تمامهما أن تفرد كل واحد منهما من الآخر، وأن تعتمر في غير أشهر الحج؛ إن الله تعالى يقول: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197] ].
هذا منقطع ضعيف كما ذكرت، لكن الثابت عن عمر وعن الصديق وعن عثمان أنهم كانوا يفتون -رضي الله عنهم- بإفراد الحج، وأن تكون العمرة في وقت آخر؛ حتى يكثر العمار والزوار، فلا يزال هذا البيت يُحج ويُعتمر، هذا هو الثابت عن الخلفاء الثلاثة، الصديق وعمر وعثمان ، وثبت عن علي وأبي موسى وابن عباس وجماعة أن التمتع هو الأفضل، وهذا هو الصواب الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم بالصحابة وألزمهم به حتى أحلوا كلهم إلا من ساق الهدي؛ لأنه عليه الصلاة والسلام خيرهم في الميقات في الأنساك الثلاثة، ثم لما دنوا من مكة أمرهم أن يجعلوا إحرامهم عمرة، إلا من ساق الهدي، ثم لما طافوا بالبيت وسعوا بين الصفا والمروة ألزمهم أن يتحللوا، فحلوا كلهم إلا من ساق الهدي؛ لأنه لا يتحلل من ساق الهدي إلا إذا رمى ونحر، حتى إنهم شق عليهم فقالوا: (يا رسول الله! كيف جعلها متعة وقد سمينا الحج؟! فقال: افعلوا ما آمركم به، فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم به)، فسألوه عن الحل فقال: الحل كله، حتى قال أحدهم: يا رسول الله، أيذهب أحدنا إلى منى وذكره يقطر منياً. يعني أنه تحلل وجامع النساء؛ لأن هذا ليس معروفاً عندهم في الجاهلية، فالنبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يزيل اعتقاد الجاهلية، فقد كانوا لا يرون العمرة في أشهر الحج، بل يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، وكانوا يقولون: العمرة لا تكون إلا بعد أشهر الحج، إذا جاء شهر الصفر وعاش الدبر حلت العمرة لمن اعتمر، أي: أن الإبل كانت تأتي من المسافات البعيدة، فيصيب ظهرها الدبر والجروح، فإذا برئت من الجروح التي أصابتها في أشهر الحج، ودخل شهر صفر حلت العمرة لمن اعتمر، فالنبي صلى الله عليه وسلم ألزمهم بأن يتحللوا إلا من ساق الهدي، ولهذا ذهب ابن عباس إلى أن كل من طاف بالبيت وسعى فإنه قد حل شاء أم أبى، وهذا هو رواية عن الإمام أحمد، أنه يجب على الإنسان أن يتمتع، وليس له أن يفرد، واختار هذا -أيضاً- ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد، وقال: أنا إلى قول ابن عباس أميل منه إلى قول شيخنا. فـشيخ الإسلام يرى أنها خاصة بالصحابة لإزالة اعتقاد الجاهلية، وابن القيم يميل إلى هذا، واختار الشيخ محمد ناصر الدين الألباني من المتأخرين أنه يجب التمتع، والجمهور على أنه لا يجب، بل الحاج مخير بين الإفراد، والتمتع، والقران، وهذا يدل على أن الصديق وعمر وعثمان -وهم أفضل الناس بعد الأنبياء وأفضل الصحابة- أخطئوا في اجتهادهم، فقد اجتهدوا وقالوا: إن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر الناس أن يتمتعوا لإزالة اعتقاد الجاهلية، فالأفضل أن يفرد الناس الحج، ويجعلوا العمرة في وقت آخر، وهذا يدل على أن الإنسان -وإن كان عظيماً، وإن كان عالماً، وإن كان كبيراً- غير معصوم، فقد يخطئ في اجتهاده، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنه لما ناظره بعض الناس في المتعة، وكان ابن عباس يفتي بأنه يجب على الإنسان أن يتمتع كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة أن يتمتعوا، فقال بعض الناس: أنت -يا ابن عباس- تفتي بالمتعة وتلزم الناس بها وأبو بكر وعمر يفتيان بالإفراد؟ فاشتد إنكاره عليهم حيث عارضوا السنة بقول أبي بكر وعمر وقال: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر! أي: كيف تعارضون السنة بقول أبي بكر وعمر، فإذا كان الذي يعارض السنة بقول أبي بكر وعمر -وهما من هما- يخشى عليه من العقوبة، فكيف بمن عارض السنة بقول فلان وعلان من المتأخرين؟!
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال هشيم عن ابن عون قال: سمعت القاسم بن محمد يقول: إن العمرة في أشهر الحج ليست بتامة ].
والصواب أنها تامة كما سبق، بل أفضل الأنساك العمرة في أشهر الحج، والنبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر كلها في ذي القعدة، وهو من أشهر الحج، فعمرة الحديبية في السنة السادسة، وعمرة القضاء في السنة السابعة في ذي القعدة، وعمرة الجعرانة في ذي القعدة من السنة الثامنة من الهجرة، والعمرة التي مع حجته حجة الوداع كانت في ذي القعدة، فكلها في ذي القعدة، فلهذا قال ابن القيم رحمه الله: هذا مما نستخير الله فيه، أيهما أفضل: العمرة في أشهر الحج أو في رمضان؟ لأن عمر النبي صلى الله عليه وسلم كلها وقعت في ذي القعدة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (عمرة في رمضان تعدل حجة معي)، والله لم يكن يختار لنبيه إلا الأفضل والأكمل.
والصواب أن العمرة في رمضان أفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على هذا، وقال: (عمرة في رمضان تعدل حجة)، والقول مقدم على الفعل، والنبي صلى الله عليه وسلم ما لم يتيسر له أن يعتمر في رمضان لأسباب متعددة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فقيل له: فالعمرة في المحرم؟ قال: كانوا يرونها تامة. وكذا روي عن قتادة بن دعامة رحمهما الله، وهذا القول فيه نظر ].
هذا القول ليس بصحيح، والصواب أنها تامة، وهذا اجتهاده، والاجتهاد يخطئ ويصيب، وهو هنا اجتهاد مخالف للنصوص، فالنصوص فيها الأمر بالتمتع، ولهذا قرر العلماء أن التمتع أفضل، وقال آخرون: الإكمال أفضل، والصواب أن التمتع أفضل، قال الإمام أحمد رحمه الله: ليس في قلبي شيء من أن التمتع فيه سبعة عشر حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ لأنه قد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر كلها في ذي القعدة: عمرة الحديبية في ذي القعدة سنة ست، وعمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع، وعمرة الجعرانة في ذي القعدة سنة ثمان، وعمرته التي مع حجته أحرم بهما معاً في ذي القعدة سنة عشر، وما اعتمر في غير ذلك بعد هجرته، فهذا وهم.
ولكن قال لـأم سنان : (عمرة في رمضان تعدل حجة معي)، وما ذاك إلا لأنها قد عزمت على الحج معه عليه الصلاة والسلام فاعتاقت عن ذلك بسبب الظهر، كما هو مبسوط في الحديث عند البخاري ، ونص سعيد بن جبير على أنه من خصائصها، والله أعلم. ].
وفي صحيح مسلم أن أم سنان اعتذرت لما سألها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ذهب أبو فلان بناضح ولم يبق عندنا ناضح، فهي اعتاقت بسبب الظَهر، أي: البعير الذي يركبونه.
وهذا عام وليس من خصائصها، والقاعدة أن الشريعة عامة إلا بدليل يدل على الخصوص، فالحكم لواحد حكم للجميع، فإذا أمر واحداً أو نهى واحداً فهو للجميع، إلا إذا دل الدليل على الخصوصية، كما في حديث أبي بردة في الضحية بجذعة من المعز قال: (تجزيك ولا تجزئ عن أحد بعدك)، أما دعوى الخصوص بغير دليل فلا تقبل.
فإن قيل: يوجد الآن في رمضان زحمة شديدة، فهل يقال يستحب للمرأة أن تعتمر في رمضان؟
فالجواب: الأصل أن الشريعة عامة، وكل واحد ينظر في الوقت المناسب له، ورمضان طويل والحمد لله، وهناك أوقات لا يكون فيها زحام، فتأتي فيها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال السدي في قوله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196] أي: أقيموا الحج والعمرة.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196] يقول: من أحرم بالحج أو بالعمرة فليس له أن يحل حتى يتمهما، وتمام الحج يوم النحر، إذا رمى جمرة العقبة، وطاف بالبيت وبالصفا والمروة فقد حل.
وقال قتادة عن زرارة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الحج عرفة، والعمرة الطواف ].
قوله: (والحج عرفة) يعني: الركن الأعظم، وتسمى عرفة الحج لأنها الركن الأعظم، وكذلك (العمرة الطواف) لأنه أهم أركانها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وكذا روى الأعمش عن إبراهيم عن علقمة في قوله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196] قال: هي قراءة عبد الله : وأتموا الحج والعمرة إلى البيت، لا يجاوز بالعمرة البيت.
قال إبراهيم : فذكرت ذلك لـسعيد بن جبير فقال: كذلك قال ابن عباس.
وقال سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة أنه قال: وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت ].
وهذا يحمل على أنه تفسير من ابن عباس .
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وكذا روى الثوري -أيضاً- عن إبراهيم عن منصور عن إبراهيم أنه قرأ: وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت.
وقرأ الشعبي : وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196] برفع العمرة، وقال: ليست بواجبة، وروي عنه خلاف ذلك.
وقد وردت أحاديث كثيرة من طرق متعددة عن أنس وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع في إحرامه بحج وعمرة) .
وثبت عنه في الصحيح أنه قال لأصحابه: (من كان معه هدي فليهل بحج وعمرة) ].
وقال الإمام أحمد : إنها سبعة عشر حديثاً، وساق ابن القيم كثيراً منها في زاد المعاد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وثبت عنه في الصحيح أنه قال لأصحابه: (من كان معه هدي فليهل بحج وعمرة).
وقال في الصحيح أيضاً: (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة) .
وقد روى الإمام أبو محمد بن أبي حاتم في سبب نزول هذه الآية حديثاً غريباً، فقال: حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أبو عبد الله الهروي ، حدثنا غسان الهروي ، حدثنا إبراهيم بن طهمان عن عطاء عن صفوان بن أمية أنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم متضمخ بالزعفران عليه جبة فقال: كيف تأمرني يا رسول الله في عمرتي؟! قال: فأنزل الله: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين السائل عن العمرة؟ فقال: هأنذا. فقال له: ألق عنك ثيابك، ثم اغتسل واستنشق ما استطعت، ثم ما كنت صانعاً في حجك فاصنعه في عمرتك) هذا حديث غريب وسياق عجيب.
والذي ورد في الصحيحين عن يعلى بن أمية في قصة الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة فقال: (كيف ترى في رجل أحرم بالعمرة وعليه جبة وخلوق؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاءه الوحي ثم رفع رأسه فقال: أين السائل؟ فقال: هأنذا. فقال: أما الجبة فانزعها، وأما الطيب الذي بك فاغسله، ثم ما كنت صانعاً في حجك فاصنعه في عمرتك) ، ولم يذكر فيه الغسل والاستنشاق، ولا ذكر نزول هذه الآية، وهو عن يعلى بن أمية لا صفوان بن أمية، فالله أعلم ].
يعني: لم يذكر فيه الغسل والاستنشاق كما في الحديث الأول، وهذا هو المعروف في الصحيح، والخلوق هو: الطيب. وسكوت النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل عليه الوحي يدل على أن الإنسان يتوقف في الأشياء التي لا يعلمها، ولهذا توقف النبي صلى الله عليه وسلم حتى جاءه العلم والوحي من الله عز وجل.
ولما قال له: (انزع عنك الجبة) ولم يأمره بفدية دل على أن الجاهل معذور.
والحنابلة يفرقون بين ما فيه إتلاف وما ليس فيه إتلاف، فيقولون: حلق شعر الرأس، وتقليم الأظفار، والصيد، جميع هذا فيه الفدية، وأما ما ليس فيه إتلاف، كتغطية الرأس ولبس المخيط فليس فيه فدية، والأول لا يعذر فيها الجاهل ولا الناسي، والصواب أنه معذور في الجميع، كما في هذا الحديث، وأما أمره له بأن يغسل الطيب فلأن ملابس الإحرام لا تطيب، أما الجسد إذا طيب فلا يغسل.
أي: في الحدود على طريق جدة، وهي الحديبية، يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان على الحدود وجاءت الصلاة دخل الحرم فصلى على حد الحرم، والله أعلم.
فقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ ، حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس، وابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس، وابن أبي نجيح عن ابن عباس أنه قال: لا حصر إلا حصر العدو، فأما من أصابه مرض أو وجع أو ضلال فليس عليه شيء، إنما قال الله تعالى: (فَإِذَا أَمِنتُمْ) فليس الأمن حصراً.
قال: وروي عن ابن عمر وطاوس والزهري وزيد بن أسلم نحو ذلك.
والقول الثاني: إن الحصر أعم من أن يكون بعدو أو مرض أو ضلال -وهو التوهان عن الطريق- أو نحو ذلك ].
القولان ثابتان عن أهل العلم، فالقول الأول: أن الحصر لا يكون إلا بالعدو، وهذا اختيار ابن عباس وجماعة، أي: إذا صده العدو عن البيت فإنه يعتبر محصوراً، فيذبح ويحلق ثم يتحلل.
أما إذا مرض، أو ضل الطريق، أو انتهت النفقة فلا يكون ذلك حصراً، بل يبقى على إحرامه حتى يصل إلى البيت ولو جلس سنة، فإذا وصل إلى البيت وطاف وسعى، وإذا فاته الحج تحلل بعمرة.
والقول الثاني لأهل العلم: أن الحصر ليس حصراً بالعدو فقط، بل يكون بالعدو وبضياع النفقة، وبالمرض، ويكون -أيضاً- بالكسر والعرج، ويكون بضلال الطريق، وهو التوهان، ويدل عليه ما جاء في حديث عمرو بن الحجاج : (من كسر أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى) وهو حديث له طرق وإن كان في سنده يحيى بن أبي كثير، والصواب أن الحصر عام، فيكون بالعدو، والمرض والكسر، والعرج، وضياع النفقة، وبضلال الطريق، وهو التوهان.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا حجاج الصواف عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن الحجاج بن عمرو الأنصاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كسر أو وجع أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى) ].
هذا الحديث لا بأس به، وهو حديث في سنده يحيى بن أبي كثير ، لكن له طرق، وقوله: (من كسر أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى) دليل على أن التحلل يكون بالكسر والعرج ونحو ذلك.
قال: فذكرت ذلك لـابن عباس وأبي هريرة فقالا: صدق.
وأخرجه أصحاب الكتب الأربعة من حديث يحيى بن أبي كثير به.
وفي رواية لـأبي داود وابن ماجة : (من عرج أو كسر أو مرض) فذكر معناه، ورواه ابن أبي حاتم عن الحسن بن عرفة ].
وهذا الحديث يكون شاهداً له.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ورواه ابن أبي حاتم عن الحسن بن عرفة عن إسماعيل بن علية عن الحجاج بن أبي عثمان الصواف به، ثم قال: وروي عن ابن مسعود وابن الزبير وعلقمة وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير ومجاهد والنخعي وعطاء ومقاتل بن حيان أنهم قالوا: الإحصار من عدو أو مرض أو كسر.
وقال الثوري : الإحصار من كل شيء آذاه.
وثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على
قولها: (شاكية) يعني: مريضة، وفيه دلالة على مشروعية الاشتراط للمريض والخائف، ولهذا قال لها: (حجي واشترطي)، أي: تقول: لبيك عمرة، وإن حبسني حابس فهو محلي، أو لبيك حجاً، وإن حبسني حابس فهو محلي.
فإذا كان الإنسان مريضاً أو خائفاً فإنه يشترط، أما إذا لم يكن مريضاً ولا خائفاً فلا يشترط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة لم يشترطوا، وهذا هو اختيار المحققين مثل شيخ الإسلام ابن تيمية، وأما الجمهور من فقهاء الحنابلة وغيرهم فيقولون: يجوز لكل واحد أن يشترط، فإنه إن حج يقول: اللهم إني نويت الحج، وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني.
وقوله: (نويت) هو عند المتأخرين، حيث يذكرون التلفظ بالنية، والصواب أنه لا تلفظ بالنية، لا في الحج ولا في الصلاة ولا في غيرهما، وإنما تذكر بصفة التلبية، وهي: (لبيك عمرة)، (لبيك حجاً)، أما أن يقول: نويت الحج، أو نويت العمرة، أو نويت الصلاة، وغير ذلك، فهذا غير مشروع.
ولا يتحلل حتى يذبح الهدي، فإن عجز صام عشرة أيام ثم تحلل، وهذا عند الفقهاء قياساً على حج التمتع، فلا يتحلل إلا بواحد من ثلاثة أمور:
الأمر الأول: إكمال الحج أو إكمال العمرة.
الأمر الثاني: العذر المانع من الإتمام عند الاشتراط، فإذا كان مشترطاً فإنه يتحلل ولا شيء عليه.
الأمر الثالث: الإحصار والتحلل بالهدي بالذبح، فلا يحصل التحلل إلا بواحد من هذه الأمور الثلاثة.
وإذا حل فهل عليه القضاء من قابل؟
فيه خلاف، فبعض العلماء يرى أنه يقضي، وقال آخرون: لا يجب عليه القضاء إلا إذا كان لم يحج حجة الإسلام، أما إذا كان قد حج حجة الإسلام فلا يجب عليه.
وكذا في العمرة، فإنه لا يلزمه أن يعتمر، وهذا على الصحيح، وإلا فهناك خلاف.
والمرأة إذا حاضت فلها أن تشترط، أفتى بهذا جمع من أهل العلم، وأفتى بهذا سماحة الشيخ ابن باز رحمة الله عليه، فإنه كان يفتي بأنها تشترط؛ لأنها محصورة شرعاً.
وغير المشترط لا يتحلل حتى يذبح أو يصوم عشرة أيام، فإذا صام عشرة أيام حل؛ لأن قوله تعالى: وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:196] هذا في المحصرين.
والهدي يكون في الحرم إن استطاع، وإلا في مكانه، فالنبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ذبحوا في الحديبية في مكانهم؛ لأنه قد لا يمكن إيصاله إلى الحرم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ورواه مسلم عن ابن عباس بمثله، فذهب من ذهب من العلماء إلى صحة الاشتراط في الحج لهذا الحديث، وقد علق الإمام محمد بن إدريس الشافعي القول بصحة هذا المذهب على صحة هذا الحديث.
قال البيهقي وغيره من الحفاظ: وقد صح ولله الحمد ].
فعلى هذا يكون الشافعي قائلاً به.
قال الإمام مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أنه كان يقول: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196] شاة.
وقال ابن عباس : الهدي من الأزواج الثمانية: من الإبل والبقر والمعز والضأن.
وقال الثوري عن حبيب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهم في قوله: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196] قال: شاة.
وكذا قال عطاء ومجاهد وطاوس وأبو العالية ومحمد بن علي بن الحسين وعبد الرحمن بن القاسم والشعبي والنخعي والحسن وقتادة والضحاك ومقاتل بن حيان وغيرهم مثل ذلك، وهو مذهب الأئمة الأربعة.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج قال: حدثنا أبو خالد الأحمر عن يحيى بن سعيد عن القاسم عن عائشة وابن عمر رضي الله عنهم أنهما كانا لا يريان ما استيسر من الهدي إلا من الإبل والبقر.
قال : وروي عن سالم والقاسم وعروة بن الزبير وسعيد بن جبير نحو ذلك. قلت: والظاهر أن مستند هؤلاء فيما ذهبوا إليه قصة الحديبية، فإنه لم ينقل عن أحد منهم أنه ذبح في تحلله ذلك شاة، وإنما ذبحوا الإبل والبقر ].
وكانوا يشتركون فيها كل سبعة في بقرة، أو في بعير.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ففي الصحيحين عن جابر رضي الله عنه قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر، كل سبعة منا في بقرة) .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196] قال: بقدر يسارته.
وقال العوفي عن ابن عباس : إن كان موسراً فمن الإبل، وإلا فمن البقر، وإلا فمن الغنم.
وقال هشام بن عروة عن أبيه: (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) قال: إنما ذلك فيما بين الرخص والغلاء.
والدليل على صحة قول الجمهور فيما ذهبوا إليه من إجزاء ذبح الشاة في الإحصار أن الله أوجب ذبح ما استيسر من الهدي، أي: مهما تيسر مما يسمى هدياً، والهدي من بهيمة الأنعام، وهي: الإبل والبقر والغنم، كما قاله الحبر البحر ترجمان القرآن وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: (أهدى النبي صلى الله عليه وسلم مرة غنماً) .
وقوله: وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:196] معطوف على قوله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196] وليس معطوفاً على قوله: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196] كما زعمه ابن جرير رحمه الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية لما حصرهم كفار قريش عن الدخول إلى الحرم حلقوا وذبحوا هديهم خارج الحرم، فأما في حال الأمن والوصول إلى الحرم فلا يجوز الحلق حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:196] ].
يعني أن قوله تعالى: وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ [البقرة:196] معطوف على قوله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، ومحله داخل الحرم.
فلو كان قوله: وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:196] معطوفاً على قوله: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ [البقرة:196] لكان يجب على المحصر أن يذبح في الحرم، وقد لا يتمكن في الحرم، فهذا هو توجيه الحافظ ابن كثير رحمه الله راداً على ابن جرير في قوله: إنه معطوف على: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ [البقرة:196]، ولكن قول ابن جرير له وجه، وهو أن قوله: وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:196] يكون معطوفاً على: (فإن أحصرتم) على أن المراد به: المكان الذي أحصر فيه من حل أو حرم، وهذا هو هو الذي ذكره ابن تيمية .
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ويفرغ الناسك من أفعال الحج والعمرة إن كان قارناً، أو من فعل أحدهما إن كان منفرداً أو متمتعاً، كما ثبت في الصحيحين عن حفصة رضي الله عنها أنها قالت: (يا رسول الله! ما شأن الناس حلوا من العمرة ولم تحل أنت من عمرتك؟ فقال: إني لبدت رأسي، وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر) ].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر