قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ سبب قول موسى عليه الصلاة والسلام لفتاه -وهو يوشع بن نون - هذا الكلام أنه ذكر له أن عبداً من عباد الله بمجمع البحرين عنده من العلم ما لم يحط به موسى، فأحب الرحيل إليه، وقال لفتاه ذلك: ( لا أَبْرَحُ ) أي: لا أزال سائراً، ( حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ) أي: هذا المكان الذي فيه مجمع البحرين. قال الفرزدق :
فما برحوا حتى تهادت نساؤهم ببطحاء ذي قار عياب اللطائم ].
وهذا البيت مذكور في تفسير الطبري .
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال قتادة وغير واحد: هما بحر فارس مما يلي المشرق، وبحر الروم مما يلي المغرب، وقال محمد بن كعب القرظي : مجمع البحرين عند طنجة، يعني: في أقصى بلاد المغرب. فالله أعلم.
وقوله: ( أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ) أي: ولو أني أسير حقباً من الزمان.
قال ابن جرير رحمه الله: ذكر بعض أهل العلم بكلام العرب أن الحقب في لغة قيس سنة، ثم قد روى عن عبد الله بن عمر أنه قال: الحقب ثمانون سنة. وقال مجاهد : سبعون خريفاً. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: ( أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ) قال: دهراً. وقال قتادة وابن زيد مثل ذلك ].
فالحقب: السنون والدهور التي لا نهاية لها. فكلما انتهى حقب جاء حقب غيره، قال سبحانه وتعالى عن أهل النار: ( لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ) يعني: دهوراً، كل ما انتهى حقب أعقبه آخر، وهكذا إلى ما لا نهاية.
فكأن موسى عليه الصلاة والسلام قال على جهة المبالغة: لا أزال أمضي حتى أبلغ مجمع البحرين وأجد هذا العبد الصالح لأتعلم منه، ولو أمضيت حقباً ودهوراً، يعني: لن أزال سائراً حتى أبلغ مجمع البحرين مهما كلف الأمر، ولو أمضيت دهوراً وحقباً من السنين. وهذا يدل على رغبته عليه الصلاة والسلام في طلب العلم وحرصه العظيم عليه، فإذا كان موسى عليه الصلاة والسلام -وهو نبي الله- يحرص هذا الحرص على طلب العلم، وسافر ورحل في طلبه، حتى ركب البحر من أجل طلبه وتعلمه، وقد أعطاه الله النبوة واصطفاه بالرسالة والتكليم، وهو من أولي العزم، ومع ذلك يسافر في طلب العلم، ويحرص كل هذا الحرص عليه، ويقول لفتاه: لا أزال أسير حتى أبلغ مجمع البحرين، أو أمضي حقباً، وإذا كان الله تعالى قد قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114]، فأولى بطالب العلم أن لا يفتأ يتعلم ويستفيد ويحرص على طلب العلم، وقد كان الأئمة يكتبون الحديث ويتعلمون، حتى قال بعضهم: من المحبرة إلى المقبرة.
قال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا [الكهف:60]، يعني: ولو أمضي حقباً حتى أصل إليه. وفتاه هذا هو يوشع بن نون، وقد أصبح نبياً بعد موسى عليه الصلاة والسلام، وهو الذي فتح بيت المقدس، وهو الذي حبست له الشمس، ولم تحبس لأحد؛ لأن موسى عليه الصلاة والسلام مات في التيه في الصحراء فيما بين مصر وفلسطين، وهو التيه الذي عاقب الله به بني إسرائيل لما امتنعوا من دخول بيت المقدس وقتال الكفار، وقالوا لنبيهم: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]، وقال موسى عليه الصلاة والسلام: رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة:25]، فقال الله: فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ [المائدة:26] فحرمت عليهم تحريماً قدرياً، وهذا مثل قوله تعالى: وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ [القصص:12]، والتحريم قد يكون شرعياً وقد يكون قدرياً، فهذا تحريم قدري، فالله تعالى قدر عليهم العصيان وعاقبهم بالتيه، وقدر عليهم ألا يدخلوها، قال العلماء: مات هذا الجيل الذي تربى على الخوف من فرعون وامتنع عن دخول الأرض المقدسة، وخرج جيل جديد رباهم موسى عليه الصلاة والسلام على الشجاعة والقوة، ثم توفي موسى عليه الصلاة والسلام في التيه، ففتح فتاه يوشع بن نون بيت المقدس ودخلها، ولما فتحها كان قد قرب غروب الشمس لتدخل ليلة السبت، فقال للشمس يخاطبها: إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا. فحبست الشمس حتى تم الفتح، فدخلها يوشع عليه الصلاة والسلام، ولم تحبس الشمس لأحد إلا له، وما جاء في بعض الآثار من أنها حبست لـعلي فهو أقوال ضعيفة من وضع الرافضة والشيعة، والصواب أن الشمس ما حبست إلا ليوشع بن نون عليه الصلاة والسلام.
(ثَمَّ) ظرف مكان، يعني: فهو هناك. والمعنى: إذا فقدت الحوت فستجده هناك. وهذه علامة جعلها الله لموسى لما قال: يا رب! أين أجده؟ فقال: في مجمع البحرين. وجعل الله له ذلك علامة، وهي فقد الحوت، فإذا فقده رجع إليه ليجد هذا العبد - الخضر - هناك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فسارا حتى بلغا مجمع البحرين، وهناك عين يقال لها: عين الحياة، فناما هنالك، وأصاب الحوت من رشاش ذلك الماء فاضطرب، وكان في مكتل مع يوشع عليه السلام، وطفر من المكتل إلى البحر، فاستيقظ يوشع عليه السلام، وسقط الحوت في البحر فجعل يسير في الماء، والماء له مثل الطاق لا يلتئم بعده، ولهذا قال تعالى: ( فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا )، أي: مثل السراب في الأرض ].
وهذا من آيات الله العظيمة، وهو دليل على قدرته العظمة، ودليل على البعث، فإن هذا الحوت كان مملوحاً ومشوياً فأحياه الله، فاضطرب ودخل في البحر، وقد كان هذا الحوت المملوح المشوي غداءً لموسى ويوشع بن نون يحملانه في مكتل، فلما ناما أصابه رشاش من هذه العين، فأحياه الله، فاضطرب فقفز، و(طفر) بمعنى: (قفز) فقفز من المكتل وسقط في البحر وجعل يمشي فيه، وأمسك الله جرية الماء، كما جاء في بعض الآثار من أن الماء أصبح مثل الطاق يشاهده يوشع، وموسى عليه الصلاة والسلام نائم، وهذا من آيات الله العظيمة، وهو دليل على قدرة الله العظيمة، وأنه لا يعجزه شيء، كما قال تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، وهو دليل على البعث وعلى أن الله يحيي الأرض بعد موتها، وهذه إحدى القصص التي فيها إحياء الله للموتى.
وقد ذكر الله في سورة البقرة قصصاً أحيا الله فيها الموتى، منها قتيل بني إسرائيل، فقد أحياه الله لما ذبحوا البقرة وضربوه بشيء منها.
ومنها: أن بني إسرائيل أصابتهم الصاعقة، ثم أحياهم الله بعد أن ماتوا، قال الله: ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:56]، وذلك لما ذهبوا مع موسى وقالوا: أرنا الله جهرة، فأخذتهم الصاعقة فماتوا، فجعل موسى عليه الصلاة والسلام يبتهل إلى ربه ويسأله حتى أحياهم الله.
وكذلك الذين خرجوا من ديارهم، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ [البقرة:243].
وكذلك قصة عزير الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها فقال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها؟! فأماته الله هو وحماره، ثم أحياه الله وأحيا له حماره وهو ينظر إليه، وقد أماته الله مائة عام، وكان معه طعامه وماؤه فلم يتغيرا، ووجد أن فاكهته بعد مائة سنة على حالها لم تتغير، ولم يكن يوجد برادات ولا ثلاجات، وإنما الله تعالى لا يعجزه شيء.
وكذلك طيور إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فقد سأل ربه قائلاً: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260]، فإبراهيم عليه السلام أراد أن ينتقل من علم اليقين إلى عين اليقين، وكان موقناً مصدقاً، ولكنه أراد أن ينتقل من درجة إلى درجة؛ ليترقى في المراتب من رتبة إلى رتبة، فأراد أن ينتقل من رتبة العلم إلى رتبة المعاينة؛ لأن رتبة المعاينة فوق رتبة العلم، فأمره الله أن يأخذ أربعة من الطير فيصرهن أي: يقطعهن، فقطع الطيور الأربعة، وجعل على كل جبل منهن جزءاً، وأخذ الرءوس بيده، فصارت تتطاير وهي جثث، فإذا ركب الرأس الذي ليس له امتنع حتى تأتي الجثة التي له فيركب فيها، وهذا من آيات الله العظيمة.
وهذه القصة التي في سورة الكهف هي منها، وهي أن الله أحيا الحوت الميت المشوي الذي كان غداءً لهم، فأحياه الله بمجرد ما أصابه رشاش من هذه العين، فاضطرب وقفز من المكتل وسقط في البحر، وأمسك الله جرية الماء عنه، حتى صار مثل الطاق، وشاهده يوشع وهو يسير في البحر.
ثم أنساه الله ذلك فنسي، وهو إنما جاء مع موسى لهذه المهمة، فقد كان عمله أن يحمل الغداء، ومع ذلك نسي وقال: وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [الكهف:63] وهذه الآية فيها دليل على أن عدو الله الشيطان يتسلط على الإنسان فينسيه، وفيها أنه قد يتسلط على الأنبياء وغيرهم، فسارا يوماً وليلة حتى أصاب موسى النصب، فقال: (آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ)؛ لأنه جُعل له علامة، فرجعا فوجدا الخضر هناك، كما جاء في الآثار.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال ابن جريج : قال ابن عباس : صار أثره كأنه حجر ].
أي: مثل الطاق. يعني: لما دخل الحوت في البحر صار أثره كأنه حجر، فكان أثره فرقاً في البحر مثل الطاق يشاهد، والماء لا يلتئم، ومشى الحوت مسافات ويوشع يشاهده.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال العوفي عن ابن عباس : جعل الحوت لا يمس شيئاً من البحر إلا يبس حتى يكون صخرة. وقال محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر حديث ذلك: (ما انجاب ماء منذ كان الناس) ].
قوله (انجاب) أي: وقف الماء حتى صار كالطريق للحوت، يقول: ما انجاب الماء ولا انفتح إلا لهذا الحوت المذكور في هذه القصة.
يعني: حتى رجع موسى وأراه يوشع الطريق، فقد كان الطريق مفتوحاً بعد أن سار فيه الحوت، كأنه طريق في البحر، فقد وقف الماء عن يمينه وعن شماله.
و محمد بن إسحاق مدلس، وقد عنعن، وهو ثقة.
فقوله: ( غير مسير ذلك الحوت الذي فيه ) يعني: أن الماء سنة الله فيه أنه يمشي ولا يقف، فلم يقف إلا في هذه الحادثة، فقد انجاب وانفتح وانقبض وتجمع يميناً وشمالاً حتى صار كالطريق وكالكوة، وهذا من آيات الله العظيمة؛ لأن سنة الله الكونية في البحر أنه يمشي ولا يقف، ومثل هذا ما حدث عندما أمر الله موسى أن يضرب البحر بعصاه، فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، وذلك لما تبعهم فرعون ومن معه، فصار اثني عشر طريقاً، وصار كالطود، أي: كالجبل، فقد صار يبساً في الحال، وأصبح طريقاً، وأصبح الماء عن اليمين وعن الشمال كالجبال، فدخل بنو إسرائيل هذه الطرق، فتبعهم فرعون وجنوده، فلما اكتمل خروج موسى وقومه من الجهة الأخرى، ودخل فرعون وجنوده فيه؛ أمر الله البحر بأن يعود إلى حالته فانطبق عليهم، وهذا من آيات الله العظيمة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال قتادة : سرب من البحر حتى أفضى إلى البر ]يعني: قفز من المكتل وهو في البر فسقط في البحر [ ثم سلك فيه فجعل لا يسلك طريقًا فيه إلا صار ماء جامداً ].
وهذا فيه من آيات الله العظيمة وقدرته، فمن ذلك أن الله تعالى أحيا هذا الحوت بعد أن كان مشوياً مملوحاً معداً للأكل.
وأمسك الله جرية الماء، فصار طريقاً، قال سبحانه: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، وهو سبحانه وتعالى الذي خلق البحر وخلق الحوت، وسخر البحر، فبيده كل شيء، وبيده السنن الكونية، سبحانه وتعالى فلا يعجزه شيء.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله: ( فَلَمَّا جَاوَزَا) أي: المكان الذي نسيا الحوت فيه، ونسب النسيان إليهما -وإن كان يوشع هو الذي نسيه- كقوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن:22]، وإنما يخرج من المالح في أحد القولين ].
يعني: نسبه تغليباً، فقال: ( نَسِيَا حُوتَهُمَا ) مع أن الذي نسيه هو يوشع، فقال: (نسيا) بالتثنية من باب التغليب، وإلا فالذي نسيه هو يوشع؛ لأنه كان هو الموكل بهذا الأمر، وقد أتى معه لهذه المهمة.
هنا تقديم وتأخير، والتقدير: وما أنسانيه أن أذكره إلا الشيطان، أي: ما أنساني ذكر الحوت إلا الشيطان.
وقراءة ابن مسعود تحتمل: (أن أذكِّركه) وتحتمل: (أن أذكركه) بمعنى: أن أذكره لك، أي: أذكر لك خبر الحوت، فالمعنى: وكاف الخطاب يعود إلى موسى؛ لأنه هو المخاطب، والمتكلم فتاه يوشع.
وفي نسخة أخرى: [ وقرأ ابن مسعود : وما أنسانيه أن أذكره إلا الشيطان ].
فلعل هناك تقديماً وتأخيراً في النسخ، والقراءة المشهورة هي: ( أَنْ أَذْكُرَهُ ) مع أن الحافظ يذكر القراءة، ويقول: هذه قراءة شاذة، أو قراءة كذا.
قال أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله تعالى: [ يقول تعالى ذكره: قال فتى موسى لموسى حين قال آتنا غداءنا لنطعم ( أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ ) هنالك: ( وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ ) يقول: وما أنساني الحوت إلا الشيطان، ( أَنْ أَذْكُرَهُ ) فـ(أن) في موضع نصب رداً على الحوت؛ لأن معنى الكلام: وما أنساني أن أذكر الحوت إلا الشيطان، سبق الحوت إلى الفعل ].
ويمكن أن تكون الجملة: نسب الحوت إلى الفعل.
قال: [ ورد عليه قوله: ( أَنْ أَذْكُرَهُ ) وقد ذكر أن ذلك في مصحف عبد الله : وما أنسانيه أن أذكره إلا الشيطان ].
وهذا يحتاج إلى رجوع إلى كتب القراءات، فإن ابن جرير يقول: إن في نسخة عبد الله ( وما أنسانيه أن أذكره إلا الشيطان).
والظاهر أن موسى لم ير الحوت لما سقط في البحر، وإنما رآه فتاه، ويحتمل أنه رآه بعد ذلك، فالله أعلم، والذي جاء في الحديث أن الذي رآه يوشع، كما جاء ذلك في الأثر الذي ذكره المؤلف، ولو رآه موسى لما قال له: ( آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ) فموسى عندما قال: ( آتِنَا غَدَاءَنَا )، كان يريد الحوت.
قال المؤلف رحمه الله: [ ولهذا قال: ( وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ ) أي: طريقه ( فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ) ( ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ ) أي: هذا هو الذي نطلب ( فَارْتَدَّا ) ، أي: رجعا ( عَلَى آثَارِهِمَا )، أي: طريقهما، ( قَصَصًا )، أي: يقصان أثر مشيهما ويقفوان أثرهما.
قال البخاري : حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمرو بن دينار أخبرني سعيد بن جبير قال: قلت لـابن عباس : إن نوفاً البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر عليه السلام ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل. قال ابن عباس : كذب عدو الله ].
وهذا من باب الشدة في الإنكار، ومعنى (كذب): أخطأ. فمن أخطأ يقال له: كذب، وإن لم يتعمد الكذب، فهذا من باب الشدة في الإنكار، ومن الكلمات التي لا يراد بها معناها، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لـصفية: (عقرى حلقى ). وهذا لا يراد به حقيقته.
فقول ابن عباس : (كذب عدو الله)، يعني: أخطأ في هذا، بل هو موسى بني إسرائيل. ومنه ما جاء في الحديث في قصة الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ( إن بطن أخي استطلق. فقال: أسقه عسلاً. فجاءه فقال له: زاد استطلاقه. فقال: اسقه عسلاً. فأتاه في المرة الثالثة، فقال: اسقه عسلاً، ثم قال: (صدق الله وكذب بطن أخيك).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال البخاري : حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمرو بن دينار أخبرني سعيد بن جبير قال: (قلت لـ
أي: سارا يوماً وليلة، ونسي يوشع أن يخبر موسى بما رآه، ثم لما طلب موسى منه الغداء بعد أن أحس بالجوع والتعب أخبره بأنه نسي الحوت، وأنه ليس معهما شيء، فقال: ( وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ) ، وفيه تسلط الشيطان على الإنسان حتى في الأمور الواضحة؛ لأن أمراً مثل هذا لا ينسى؛ إذ إن مهمة يوشع هي أن يحمل المكتل، وليس معه شيء آخر يشغله، ومع ذلك نسي هذه المهمة التي هي حمل الغداء.
أي أن الله تعالى جعل لموسى علامة على العثور على الخضر، وذلك عند فقدانه للحوت، فأخبره فتاه أنه فقد الحوت، فقال: هذا هو الذي نريد، فقد حصلت العلامة، فرجعا إلى مكانهما فوجدا الخضر.
وهذا فيه فوائد، منها أن السلام مشروع في الأمم السابقة، فلهذا سلم موسى، والسلام تحية المؤمنين في الدنيا وتحية المؤمنين في الجنة، فلما جاء موسى وفتاه وجدا هذا الرجل مسجى، أي: مغطى بثوب، فسلم موسى، فرفع الخضر رأسه لما سمع السلام، فقال: (وأنى بأرضك السلام؟!) أي: من أين أنت؟ وكأن -والله أعلم- أن هذه الأرض أرض سوء ليس فيها سلام، فالسلام محل استغراب، فقال له: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم.
وهذا فيه دليل واضح على أن موسى التي حصلت له القصة هو موسى بني إسرائيل، ويدل -أيضاً- على أن موسى مرسل إلى بني إسرائيل خاصة، وليست رسالته عامة كرسالة نبينا صلى الله عليه وسلم، لأن الخضر كان في أرض بعيدة، ولم يكن موسى مرسلاً إليه، ولا هو مكلف بشريعة موسى، ولهذا لما قال: أنا موسى قال: موسى بني إسرائيل؟! قال: ما جاء بك، قال: جئت لتعلمني مما علمت رشداً، وفي بعض الآثار أنه قال: (أما تكفيك التوراة التي أنزلها الله عليك؟!) .
وهذا فيه تواضع موسى عليه الصلاة والسلام، حيث قال: ( هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ) ولا شك في أن موسى أفضل من الخضر؛ لأن موسى من أولي العزم من الرسل، أما الخضر فمختلف في نبوته، فقيل: عبد صالح، وقيل: نبي، والصواب أنه نبي، كما جاء في الحديث أنه قال: (أنا على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمكه لا أعلمه) يعني: كل واحد منا عنده علم، وفيه دليل على أنه قد يكون عند المفضول ما ليس عند الفاضل، فالخضر كان عنده علم لا يعلمه موسى، فدل ذلك على أن العلم مشترك، وقد يكون عند الصغير ما ليس عند الكبير، وقد يكون عند التلميذ ما ليس عند الشيخ، فينبغي للإنسان أن يأخذ العلم من كل أحد، ممن فوقه وممن دونه وممن هو مماثل، ولهذا قال العلماء: لا ينبل الإنسان حتى يأخذ العلم ممن فوقه وممن دونه وممن هو مماثل له.
وهناك رواية الأصاغر عن الأكابر، كما هو معلوم في مصطلح الحديث، وكذلك رواية الآباء عن الأبناء، فقد يستفيد الأب من ابنه، وقد يستفيد الشيخ من تلميذه، فهذا موسى عليه السلام استفاد من الخضر لما كان عنده علم لا يعلمه موسى.
وفيه أن الله تعالى عتب على موسى إذ لم يرد العلم إليه، فلما سئل: من أعلم أهل الأرض؟ فقال: أنا.
وفيه أن النبي قد يغلط وقد يخطئ وقد يعتب الله عليه، ولا يقره على الخطأ.
وفيه التواضع في طلب العلم.
وفيه أنه لابد من الصبر، ولذا قال الخضر لموسى: إنك لا تستطيع أن تصبر، فأجابه: ( سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ).
وفيه تعليق الأمر بمشيئة الله في قوله: ( سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ ) ، وكما في الآية: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24]، فعليك بتفويض الأمر إلى الله عز وجل.
وفيه سعة علم الله عز وجل.
أي: حملوا الثلاثة: الخضر وموسى وفتاه بدون أجرة؛ لأنهم عرفوا الخضر، أما موسى فليس معروفاً في هذه الأرض البحرية البعيدة، وقوله: (لقد جئت شيئاً إمراً) أي: أمراً عظيماً.
قال: [ (فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا و
يعني: فاجأهم الخضر بأن أخذ الفأس وصار يضرب ضرباً قوياً حتى خرق السفينة، فانزعج موسى لهذا الأمر ولم يصبر، فموسى عليه السلام كان شديداً في أمر الله، فقد جبله الله على الشدة والقوة وإنكار المنكر؛ لأنه يرى أن هذا مخالف لظاهر الشرع، فلذلك انزعج موسى واستغرب استغراباً عظيماً، وقال منكراً على الخضر: أناس حملونا بغير أجرة وأحسنوا إلينا تفسد عليهم سفينتهم، ( هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ) ؟!
فذكره الخضر بما قال له فقال: قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف:72] أي: قد أخبرتك ابتداءً أنك لا تستطيع أن تصبر.
قال: [ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا [الكهف:72-73] ].
يعني: ذكره الخضر بأنه اشترط عليه أن يصبر، فتذكر فقال: هذه نسيان مني.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فكانت الأولى من موسى نسياناً) ].
هذا فيه سعة علم الله وإحاطته، قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب : ما نعلم أنه جاء مثل هذا في بيان سعة علم الله، حيث قال: ما نقص علمي وعلمك إلا كما ينقص هذا العصفور بمنقاره من البحر، ولعمري ماذا ينقص من بحر متلاطم الأمواج وقد غطى أربعة أخماس العالم؟! فهذه نسبة علم موسى والخضر إلى علم الله.
ولهذا خلق الله السماوات والأرض ليعلم الناس سعة علمه وإحاطته وعظيم قدرته، قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:12].
هذه المسألة الثانية هي أشد وأشنع من الأولى، فكانت الأولى في البحر، والثانية في الساحل، فإنه لما نزل من السفينة وجد غلاماً يلعب مع الصبيان، فأخذ برقبته وانتزعها ورماه في الأرض، فانزعج موسى انزعاجاً عظيماً، وأنكر عليه أشد الإنكار، وقال: (أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا) أي: قتلت نفساً زكية معصومة بغير مسوغ للقتل؟!ولهذا قال: (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا) إذ القتل لا يجوز إلا بمقابل، فكيف تقتل غلاماً يلعب مع الصبيان بدون سبب؟! فقال له الخضر: ( أَلَمْ أَقُلْ لَكَ )، فأكد بقوله: (لك)؛ لأنه قال له في الأولى: ( أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا )، أما هنا فقال له: ( أَلَمْ أَقُلْ لَكَ) ففيه زيادة تأكيد، وهذا يدل على أنه فعل هذا بوحي من الله، وهذا مما يؤيد أن الخضر نبي يوحى إليه.
وكذلك الجدار، فمن كان يعلم أن تحته كنزاً، وأنه لغلامين يتيمين في المدينة؟! والقول بأن هذا بإلهام من الله ومن العلم اللدني هو من خرافات الصوفية الذين يفعلون الفواحش ويقولون: هذا بإلهام من الله.
وفي آخر القصة قال: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الكهف:82] يعني أنه قاله عن أمر الله.
يعني: قال له موسى: إن سألتك عن شيء بعدها فأنت معذور بمفارقتي وعدم مصاحبتي، فأمهلني مرة واحدة فقط، فإن لم أصبر ففارقني ولا تصاحبني بعدها، ولهذا فارقه الخضر بعدها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما) ].
يعني أن الخضر أراد أن يجعل في السفينة عيباً حتى لا تؤخذ.
قوله: ( وَكَانَ وَرَاءَهُمْ ) يعني: أمامهم ( ملك ) ظالم، ( يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ ) أي: صالحة، أما السفينة التي فيها عيب فلا يأخذها، فأراد الخضر أن يجعل فيها عيباً حتى تبقى السفينة للمساكين.
وهذا فيه دليل على أن المسكين يكون عنده شيء من المال، فهو أحسن حالاً من الفقير، إذ الفقير هو الذي لا يجد شيئاً، أو يجد أقل من نصف كفايته، فيعطى كفاية لمدة سنة، والمسكين يجد أكثر من النصف، إلا أنه لا يجد الكفاية، فيعطى ما يكفيه لمدة سنة نفقة وكسوة وسكنى، فهؤلاء كانوا مساكين، ومع ذلك يملكون سفينة.
إذاً: فالخضر أراد أن يجعل في السفينة عيباً حتى تبقى لهم، ولا يأخذها هذا الملك الظالم؛ لأنها لو بقيت سليمة لأخذها، فكان يرسل من ينظر في السفن، فالتي فيها عيب يتركونها، والسفينة الصالحة يأخذونها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وكان يقرأ: (وأما الغلام فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين) ].
هذه ليست قراءة سبعية، وإنما تحمل على أنها تفسير، ومعلوم أن القراءة الشاذة تحمل على أنها تفسير.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال البخاري أيضاً: حدثنا إبراهيم بن موسىحدثنا هشام بن يوسف أن ابن جريج أخبرهم قال: أخبرني يعلى بن مسلم وعمرو بن دينار عن سعيد بن جبير يزيد أحدهما على صاحبه، وغيرهما قد سمعته يحدث عن سعيد بن جبير قال: إنا لعند ابن عباس في بيته إذ قال: سلوني، فقلت: أي أبا عباس -جعلني الله فداك-! بالكوفة رجل قاص يقال له: نوف يزعم أنه ليس بموسى بني إسرائيل. أما عمرو فقال لي: قال: كذب عدو الله، وأما يعلى فقال لي: قال ابن عباس : حدثني أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (موسى رسول الله ذكّر الناس يوماً حتى إذا فاضت العيون ورقت القلوب ولى، فأدركه رجل فقال: أي رسول الله! هل في الأرض أحد أعلم منك؟) ].
قوله: (أي) حرف نداء، مثل: (يا)، والمعنى: يا رسول الله!
قال الحريري في الملحة:
وناد من تدع بيا أو بأيا أو همزة أو أي وإن شئت هيا
العَلَم هو العلامة، كما في قوله تعالى في شأن عيسى عليه السلام: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا [الزخرف:61] وفي قراءة: (وإنه لَعَلَمٌ للساعة) أي أن نزول عيسى في آخر الزمان علامة من علامات الساعة، ومنه قول زكريا لما سأل الله الولد: اجْعَلْ لِي آيَةً [آل عمران:41]، أي: علامة: قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا [آل عمران:41].
قال: [ وقال لي يعلى : (خذ حوتاً ميتاً حيث ينفخ فيه الروح، فأخذ حوتاً فجعله في مكتل، فقال لفتاه: لا أكلفك إلا أن تخبرني حيث يفارقك الحوت) ] .
يعني حين كلفه بهذه المهمة قال له: كن معي بحيث تكون مهمتك أن تكلمني إذا فقدت الحوت؛ لأنه جُعل لموسى علامة، لكن أنساه الشيطان حتى سارا مسافة يوم وليلة.
قال: [ قال: (ما كلفت كبيراً) ].
أي: ليس هو أمراً شاقاً.
فكان الحوت علامة، ويحتمل أن يكون معهما طعام آخر، لكن جاء في بعض الروايات أن الحوت طعامهما، والله أعلم.
قال: [ فذلك قوله: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ)، يوشع بن نون -ليست عند سعيد بن جبير - قال: (فبينا هو في ظل صخرة في مكان ثريان) ].
قال في القاموس: ولبس أعرابي عريان فروة فقال: التقى الثريان، أي: شعر العانة ووبر الفروة، ويقال ذلك -أيضاً- إذا رسخ المطر في الأرض حتى التقى ونداها. يعني: جلسا في مكان مبلول.
والمعنى: كأن أثره في حجر مثل الصخرة.
ففيه أن موسى حين نام اضطرب الحوت ودخل في البحر ويوشع يشاهده، فقال: لا أوقظه، فلما استيقظ موسى نسي يوشع أن يخبره، حتى سارا يوماً وليلة ثم أخبره.
قال: [ فقال لي عمرو (هكذا كأن أثره في حجر، وحلق بين إبهاميه والتي تليهما) ].
يعني: كأنه في حجر وليس في ماء.
قال: [ (قال: ( لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ) ، قال: وقد قطع الله عنك النصب، -ليست هذه عند
يعني أن الخضر كان على طنفسة -أي: بساط- على ساحل البحر.
قال: [ قال سعيد بن جبير : (مسجى بثوب قد جعل طرفه تحت رجليه وطرفه عند رأسه، فسلم عليه موسى فكشف عن وجهه وقال: هل بأرضي من سلام؟!) ].
أي أن السلام لا يعرف في هذه الأرض.
يعني: يكفيك التوراة التي أعطاك الله، ففيها علم عظيم، حتى إن الله تعالى كلف بني إسرائيل الذين أتوا بعد موسى كلهم أن يعملوا بالتوراة، قال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ [المائدة:44]، حتى جاء عيسى فأنزل الله عليه التخفيف، فخفف بعض الأحكام وأحل لهم بعض الذي حرم عليهم، وقال: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمران:50].
قوله: (معابر) يعني: قوارب صغيرة، وكانت تحملهم من ساحل إلى ساحل، ومن جزيرة إلى جزيرة في البحر، فلما وثبوا إليها خرقها وجعل فيها وتداً حتى لا يدخل الماء، وإنما أراد أن يجعل فيها عيباً، حتى إذا جاء الذي ينظر في السفن وجد فيها عيباً فيتركها.
قال: [ (قال موسى: ( أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا؟! ) قال
(الحنث) هو الإثم، والمعنى أنه لم يبلغ حداً يؤاخذ فيه عليه؛ لأنه لم يبلغ الحلم، فهو غلام غير مكلف، حتى ولو قتل؛ لأن قتل الصبي يعتبر خطأً؛ لأنه ما بلغ الحلم.
قال: [ وابن عباس قرأها: زكية زاكية مسلمة، كقولك: غلاماً زكياً ].
وهذه القراءة تدخل في التفسير، أعني زيادة (مسلمة)، أما (زاكية) فهي قراءة من القراءات.
قال: [ فَانطَلَقَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ [الكهف:77] قال بيده هكذا -ودفع بيده- فاستقام قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا [الكهف:77] قال يعلى : حسبت أن سعيداً قال: فمسحه بيده فاستقام قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا [الكهف:77] قال سعيد : أجراً نأكله، وكان وراءهم ملك، وكان أمامهم، قرأها ابن عباس : أمامهم ملك، يزعمون عن غير سعيد أنه هدد بن بدد، والغلام المقتول اسمه -يزعمون- حيسور ].
وهذا كله من أخبار بني إسرائيل، والله أعلم، ولا يترتب على معرفة اسم الملك ولا اسم الغلام شيء، ولو كان يترتب عليه شيءٌ لبينه الله.
قال: [ (مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا) فأردت إذا هي مرت به أن يدعها بعيبها ] .
يعني: يتركها ولا يأخذها، وهذا بيان من الخضر، يقول: أردت من خرقها أنهم إذا رأوا بها عيباً تركوها للمساكين.
قال: [ فإذا جاوزوا أصلحوها فانتفعوا بها ].
أي: إذا انتهى التفتيش، فقد كانوا يفتشون على المعابر، فالتي يجدون فيها عيباً يتركونها، فإذا جاوزوا أتوا بالخشب ووضعوه في مكانه وثبتوه بمسامير، وزال المحذور.
قال: [ منهم من يقول: سدوها بقارورة، ومنهم من يقول: بالقار ].
قال: [ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ [الكهف:80] وكان هو كافراً فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا [الكهف:80] أي: يحملهما حبه على أن يتابعاه على دينه، فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً [الكهف:81] كقوله: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً [الكهف:74] ].
أي: يحملهما حبه على متابعته في الكفر، نعوذ بالله، وهذا من علم الغيب الذي أطلع الله تعالى الخضر عليه، فأمره بقتله.
قال: [ وَأَقْرَبَ رُحْمًا [الكهف:81]، هما به أرحم منهما بالأول الذي قتل خضر، وزعم غير سعيد بن جبير أنهما أبدلا جارية، وأما داود بن أبي عاصم فقال عن غير واحد: إنها جارية ].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر