قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله: وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ أي: الناس يومئذ، أي: يوم يدك هذا السد ويخرج هؤلاء فيموجون في الناس، ويفسدون على الناس أموالهم ويتلفون أشياءهم، وهكذا قال السدي في قوله: وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ قال: ذاك حين يخرجون على الناس ].
الصواب أن خروجهم بعد الدجال وبعد نزول عيسى عليه الصلاة والسلام، وخروجهم هو الشرط الرابع من أشراط الساعة التي تتلوها الساعة مباشرة؛ فنحن الآن نعيش مع أشراط الساعة الصغرى، وما زلنا فيها، وهي تزيد وتكثر، وأولها بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه نبي الساعة، قال عليه الصلاة والسلام: (بعثت أنا والساعة كهاتين).
ومن أشراط الساعة: موته صلى الله عليه وسلم، ومنها: فتح بيت المقدس، ومنها: الحروب التي جرت بين الصحابة، ومنها: إضاعة الأمانة وإسناد الأمور إلى غير أهلها، وتقارب الأيام، وغير ذلك مما ورد في الأحاديث، فهذه كلها أشراط الساعة الصغرى.
ثم تليها أشراط الساعة الكبرى التي تتبعها الساعة مباشرة، وهي مشبهة بالعقد الذي إذا انقطع تساقط الخرز، وأولها: خروج المهدي ، والمهدي رجل من سلالة فاطمة ، اسمه كاسم النبي صلى الله عليه وسلم، وكنيته ككنيته، فهو محمد بن عبد الله المهدي ، يملك الأرض ويملؤها عدلاً كما ملئت جوراً، ويبايع له في وقت ليس فيه إمام، ثم في زمن الفتن ونحصر الناس في الشام، ويقاتل المسلمون النصارى، والآن كثر النصارى كثرة هائلة، فيعقد المسلمون معهم صلحاً ثم يغدر النصارى ويكونون ثمانين راية تحت كل راية ثمانون ألفاً، وسيقاتلهم المسلمون، ثم تفتح القسطنطينية، وعند فتح القسطنطينية يعلق المسلمون سيوفهم بالزيتون، وهذا ظاهره أن الناس يرجعون إلى السلاح القديم، وأن هذه المخترعات تنتهي، فلهذا يقاتل الجيش الذي يخرج من المدينة المشركين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لأعرف أسماءهم وألوان خيولهم).
ثم إذا فتحت القسطنطينية -كما في صحيح مسلم - صاح الشيطان: إن الدجال قد خلفكم في أهليكم. وقد صاح قبل هذه المرة وهو يكذب، وفي هذه المرة يخرج الدجال بعد فتح القسطنطينية، وخروج الدجال هو العلامة الثانية، ويكون في زمن المهدي ، ثم ينزل عيسى بن مريم من السماء -وهو العلامة الثالثة- ويقتل الدجال ، ثم تخرج يأجوج ومأجوج في زمن عيسى عليه السلام، وهم العلامة الرابعة، ثم تتابع بقية الأشراط، ومنها: هدم الكعبة والعياذ بالله، ونزع القرآن من الصدور والمصاحف، والدخان الذي يملأ الأرض، ثم طلوع الشمس من مغربها، ثم الدابة التي تسم الناس في وجوههم، ثم آخرها نار تخرج من قعر عدن -وهي العلامة العاشرة- تسوق الناس إلى المحشر، تبيت معهم إذا باتوا وتقيل معهم إذا قالوا، وتأتي ريح طيبة فتقبض أرواح المؤمنين والمؤمنات قبل قيام الساعة، فتقوم الساعة على الكفرة والعياذ بالله.
وإذا خلت الأرض من التوحيد والإيمان، فلا يبقى فيها من يذكر الله ولا يقول كلمة التوحيد، حتى لا يقال: الله الله، حينها تقوم الساعة، وقبل ذلك تأتي ريح طيبة من جهة اليمن فتقبض أرواح المؤمنين والمؤمنات كما في الحديث، حتى لو كان أحدهم في كبد جبل لدخلته عليه حتى تقبضه، فتقوم الساعة على الكفرة -والعياذ بالله- الذين لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً، يتسافدون ويتناكحون في الطرقات كالحمر والعياذ بالله، فعليهم تقوم الساعة، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد) فهم شرار الناس، فنعوذ بالله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهذا كله قبل يوم القيامة وبعد الدجال ، كما سيأتي بيانه -إن شاء الله تعالى- عند قوله: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ الآية؛ وهكذا قال هاهنا: وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا قال ابن زيد في قوله: وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ قال: هذا أول يوم القيامة. وَنُفِخَ فِي الصُّورِ على أثر ذلك فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا وقال آخرون: بل المراد بقوله: وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ أي: يوم القيامة يختلط الإنس والجن.
روى ابن جرير عن محمد بن حميد عن يعقوب القمي عن هارون بن عنترة عن شيخ من بني فزارة في قوله: وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ قال: إذا ماج الإنس والجن قال إبليس: أنا أعلم لكم علم هذا الأمر، فيظعن إلى المشرق فيجد الملائكة قد بطنوا الأرض، ثم يظعن إلى المغرب فيجد الملائكة قد بطنوا الأرض، فيقول: ما من محيص، ثم يظعن يميناً وشمالاً إلى أقصى الأرض فيجد الملائكة قد بطنوا الأرض، فيقول: ما من محيص، فبينما هو كذلك إذ عرض له طريق كالشراك فأخذ عليه هو وذريته، فبينما هم عليه إذ هجموا على النار، فأخرج الله خازناً من خزان النار، فقال: يا إبليس! ألم تكن لك منزلة عند ربك؟ ألم تكن في الجنان؟ فيقول: ليس هذا يوم عتاب، لو أن الله فرض علي فريضة لعبدته فيها عبادة لم يعبده مثلها أحد من خلقه، فيقول: فإن الله قد فرض عليك فريضة، فيقول: ما هي؟ فيقول: يأمرك أن تدخل النار. فيتلكأ عليه، فيقول به وبذريته بجناحيه فيقذفهم في النار، فتزفر النار زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا لركبتيه ].
هذا حديث ضعيف؛ إذا فيه الشيخ المبهم.
ومن أسلم من الجن لا يسمى شيطاناً، والشيطان هو من بقي على كفره، فإبليس وذريته الشياطين كلهم في النار، نعوذ بالله، وهكذا لا إشكال فيه، لكن الحديث هذا فيه ضعف.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث يعقوب القمي به، رواه من وجه آخر عن يعقوب عن هارون بن عنترة عن أبيه عن ابن عباس : وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا قال: الجن والإنس يموج بعضهم في بعض ].
رواية ابن أبي حاتم ليس فيها مبهم.
قال في الخلاصة: يعقوب بن عبد الله بن مالك بن عامر القمي -بضم القاف- أبو الحسن الأشعري ، عن إخوته عبد الرحمن وعمران ، وعنه ابن مهدي ، وعبيد الله بن موسى ، وثقه الطبراني ، وقال النسائي : ليس به بأس، وقال الدارقطني : ليس بالقوي.
لاشك في أنهم من بني آدم كما ثبت في الصحيحين، لكن هذا فيه أنهم ثلاث أمم، وهذا يحتاج إلى دليل واضح.
فالقول بأن وراءهم ثلاث أمم يخالف ظاهر القرآن.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وروى النسائي من حديث شعبة عن النعمان بن سالم عن عمرو بن أوس عن أبيه عن جده أوس بن أبي أوس مرفوعاً: (إن يأجوج ومأجوج لهم نساء يجامعون ما شاءوا، وشجر يلقحون ما شاءوا، ولا يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفاً فصاعداً) ].
لله الحكمة البالغة في كثرتهم، وهم مفسدون في الأرض، ولهذا جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ينادي الله تعالى يوم القيامة يقول: يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك، فيقول: أخرج بعث النار، فيقول: يا رب! وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة، فشق ذلك على الصحابة، فقال: أبشروا فإن منكم واحداً ومن يأجوج ألفاً) وفي اللفظ الآخر: (أن يأجوج ومأجوج أمتان ما كانتا في شيء إلا كثرتاه)، يعني: أن عددهم كثير.
وقوله تعالى: وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ فيه قولان لأهل العلم: القول الأول: أن هذا في الدنيا، وأنهم -أي: يأجوج ومأجوج- إذا خرب السد وجعله الله دكاً صار بعضهم يموج في بعض؛ لكثرتهم وإفسادهم في الأرض.
والقول الثاني: أن هذا يوم القيامة، يعني: يموج الجن والإنس يوم القيامة، ولهذا قال: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا [الكهف:99].
قوله: (حسبنا) يعني: كافينا، وفي الحديث الصحيح: (حسبنا الله ونعم الوكيل الخليل قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173])، وذلك بعد غزوة أحد، حين قيل: إن المشركين يريدون أن يأتوا ليستأصلوا البقية الباقية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حسبنا الله ونعم الوكيل، فكفاهم الله شرهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله: فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا أي: أحضرنا الجميع للحساب، قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الواقعة:49-50]، وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا [الكهف:47] ].
النفخ في الصور نفختان: فالنفخة الأولى في آخر الدنيا، وهي نفخة الصعق والموت، وهي نفخة طويلة يطولها إسرافيل، أولها فزع وآخرها صعق وموت، وهما مذكورتان في القرآن الكريم، فالأولى: مذكورة في سورة النمل: وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ [النمل:87]، والأخرى: مذكورة في سورة الزمر: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ [الزمر:68] والصعق الموت، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى [الزمر:68] وهذه نفخة البعث فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68].
وجاء في حديث: أن النفخات ثلاث: نفخة الفزع، ونفخة الصعق، ونفخة البعث، ولكن هذا حديث ضعيف؛ لأنه من رواية إسماعيل بن رافع وهو ضعيف، وروى حديث الصور، وهو حديث طويل لفقه من أحاديث تصور أنها نفخة واحدة أولها الفزع ثم آخرها الصعق والموت.
وينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتاً ورفع ليتا، فلا يزال الصوت يقوى حتى يموت الناس، ثم يمكث الناس أربعين سنة، ثم ينزل الله مطراً في هذه المدة أبيض تنبت منه أجسام الناس، فإذا تم خلقهم ونشأ الناس نشأة أخرى، وتبدلت الصفات والذوات، أمر الله إسرافيل فنفخ في الصور فعادت الأرواح إلى أجسادها، فقام الناس من قبورهم ينفضون التراب عن رءوسهم، فيقفون بين يدي الله عز وجل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ يقول تعالى مخبراً عما يفعله بالكفار يوم القيامة أنه يعرض عليهم جهنم، أي: يبرزها لهم ويظهرها؛ ليروا ما فيها من العذاب والنكال قبل دخولها؛ ليكون ذلك أبلغ في تعجيل الهم والحزن لهم ].
إن النار في أسفل سافلين في الأرض السفلى، لكنها تبرز يوم القيامة والعياذ بالله، قال تعالى: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى [النازعات:36]، وتسجر البحار، وتكون جزءاً من النار والعياذ بالله، ونسأل الله السلامة والعافية.
وجاء في الحديث: (يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها) فجهنم تبرز وتسجر البحار فتكون جزءاً منها.
والجنة في أعلى عليين، وينصب الصراط على متن جهنم، ويجتاز الناس هذا الصراط، فمن اجتازه وصل إلى الجنة، والجنة في السماء وأعلاها الفردوس، والفردوس سقفها عرش الرحمن، وأعلى منزلة في الفردوس منزل نبينا صلى الله عليه وسلم، وهي منزلة تسمى الوسيلة، كما جاء في الحديث: (اللهم آت محمداً الوسيلة والفضيلة)، فالوسيلة منزلة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أعلى منزلة في الجنة.
وقول بعض العامة: (آت محمداً الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة) هو غلط؛ لأن الوسيلة هي الدرجة الرفيعة.
ويتخاطب أهل الجنة وأهل النار، وقال تعالى: وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ [الأعراف:44]، وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [الأعراف:50] فهم يتخاطبون مع البعد العظيم بينهم، فالمؤمنون في الجنة في أعلى عليين، والكفار في النار في أسفل سافلين، ومع ذلك يتخاطبون ويسمع بعضهم أصوات بعض، وليس ذلك بغريب على الله تعالى، فقد أرانا في الدنيا أن نجد الإنسان يتكلم في الهاتف وهو في المشرق ويسمعه من في المغرب، وكذلك المؤمنون ينظرون إلى الكفار وهم يعذبون في نار جهنم، فالمؤمنون في أعلى عليين، والكفار في أسفل سافلين، كما أخبر الله في سورة الصافات، في قصة الرجل من أهل الجنة له قريب من أهل النار وكان قرينه في الدنيا، فقال له في الدنيا: أتصدق أن الإنسان إذا مات وبليت عظامه وصارت نخرة يبعث؟ فالمؤمن في الجنة يرى قرينه الكافر وهو في النار فيقول: قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ [الصافات:51-53] يعني: مبعوثون ومدينون ومحاسبون، قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ [الصافات:54-55] أي: اطلع المؤمن من الجنة فرأى قرينه الكافر الذي كان ينكر البعث في الدنيا في وسط الجحيم يتقلب فيها، فقال له: تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [الصافات:56-59] فالآن بعثت وعذبت.
فلا مانع -إذاً- من أن يكون من في الجنة في أعلى عليين يرى من في النار وهم في أسفل سافلين على بعد عظيم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بجهنم تقاد يوم القيامة بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك).
ثم قال مخبراً عنهم: الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي أي: تغافلوا وتعاموا وتصامموا عن قبول الهدى واتباع الحق ].
هذا غطاء معنوي حادث، وإلا فليس فيها غطاء حسي؛ لأن الكفار ينظرون ويشاهدون أمور دنياهم ويسمعون، لكن هذا غطاء معنوي يمنعهم من رؤية الحق وقبول الحق واستماع الحق، ولهم عقول، لكن لم ينتفعوا بها والعياذ بالله، قال الله تعالى: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ [الأحقاف:26] يعني: لهم أسماع لكن لا يسمعون بها الحق، ولهم عقول وقلوب لا يعقلون بها الحق، ولهم أعين لا يبصرون بها الحق، نسأل الله السلامة والعافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ كما قال: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:36]، وقال هاهنا: وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا أي: لا يعقلون عن الله أمره ونهيه، ثم قال: أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ أي: اعتقدوا أنهم يصح لهم ذلك وينتفعون به، كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم:82] ولهذا أخبر الله تعالى أنه قد أعد لهم جهنم يوم القيامة نزلاً ].
هؤلاء الكفار تصامموا عن قبول الهدى واتباع الحق، كما قال: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:36]، وقال هنا: وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا [الكهف:101] أي: لا يعقلون عن الله أمره ونهيه، يعني: لا يستطيعون سماع الحق وقبوله، وإلا فهم يسمعون أمور دنياهم ومعاشهم، نسأل الله السلامة والعافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال البخاري رحمه الله: حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عمرو عن مصعب قال: سألت أبي -يعني: سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه- عن قول الله تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا أهم الحرروية؟ قال: لا، هم اليهود والنصارى، أما اليهود فكذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم، وأما النصارى فكفروا بالجنة وقالوا: لا طعام فيها ولا شراب، والحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، فكان سعد رضي الله عنهم يسميهم الفاسقين ].
الحرورية هم الخوارج، سموا حرورية لأنهم تجمعوا في بلدة تسمى حروراء في العراق، لما سأل سعد بن أبي وقاص ابنُه مصعب : هل هم المعنيون بقوله تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا ؟ قال: لا، إنما هم اليهود والنصارى، فاليهود كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم، والنصارى كذلك كذبوه، وقالوا: إن عيسى ابن الله، وأما الحرورية فيسمون الفاسقين، والصحابة قد عاملوهم معاملة العصاة المبتدعة ولم يعاملوهم معاملة الكفرة؛ لأنهم متأولون، ولما سئل علي رضي الله عنه عنهم: هل هم كفار؟ قال: من الكفر فروا.
وقد أنكروا عذاب القبر، مع أنه ثابت شرعاً، ومن الأدلة عليه حديث: (استعيذوا بالله من عذاب القبر) قالها مرتين أو ثلاثاً، وشرع للأمة أن تستعيذ بالله في آخر التشهد من عذاب القبر.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم -كما في حديث علي رضي الله عنه، (فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله)، لكن الجمهور على أنهم مبتدعة؛ لأنهم متأولون، ولهذا لما سأل مصعب أباه سعداً : هل هم الأخسرون أعمالاً ؟ قال: لا، هم اليهود والنصارى، أما الحرورية فهم الفاسقون.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه والضحاك رحمه الله وغير واحد: هم الحرورية.
ومعنى هذا عن علي رضي الله عنه أن هذه الآية الكريمة تشمل الحرورية كما تشمل اليهود والنصارى وغيرهم، لا أنها نزلت في هؤلاء على الخصوص ولا هؤلاء، بل هي أعم من هذا؛ فإن هذه الآية مكية قبل خطاب اليهود والنصارى وقبل وجود الخوارج بالكلية ].
يعني أنها تفسر بعمومها، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وإنما هي عامة في كل من عبد الله على غير طريقة مرضية يحسب أنه مصيب فيها وأن عمله مقبول وهو مخطئ وعمله مردود، كما قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً [الغاشية:2-4].
وقال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا [النور:39].
وقال في هذه الآية الكريمة: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ أي: نخبركم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا ، ثم فسرهم فقال: الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أي: عملوا أعمالاً باطلة على غير شريعة مشروعة مرضية مقبولة.
وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا أي: يعتقدون أنهم على شيء وأنهم مقبولون محبوبون ].
إن هؤلاء هم الأخسرون الذين يعملون أعمالاً يظنون أنهم فيها على هدى وهم ضالون، كما قال سبحانه وتعالى: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الأعراف:28-30]. فهذا هو مثل ما في هذه الآية: وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا .
فهؤلاء الذين حقت عليهم الضلالة هم الأخسرون أعمالاً، الذين يعملون أعمالاً يظنون أنهم فيها على هدى وهم ضالون، كما قال تعالى: اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الأعراف:30]، نسأل الله السلامة والعافية.
وهذا فيه دليل على أن الكافر لا يشترط لقيام الحجة عليه أن يفهم، بل يشترط في حقه قيام الحجة، فإذا بلغته النصوص فقد قامت عليه الحجة ولو لم يفهمها، ولهذا قال سبحانه: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الأعراف:30]، وقال سبحانه: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة:171]، ومع ذلك قامت عليهم الحجة مع أنه شبههم بالذي ينعق من الغنم، والغنم تسمع النعيق ولا تفهم، وهؤلاء بلغتهم النصوص وقامت عليهم الحجة وإن لم يفهموها، فلا يشترط فهم الحجة، فإذا بلغهم النص كفى، قال سبحانه: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، وقال سبحانه: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19].
فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ، أي: لا نثقل موازينهم؛ لأنها خالية عن الخير.
قال البخاري رحمه الله: حدثنا محمد بن عبد الله حدثنا سعيد بن أبي مريم أخبرنا المغيرة حدثني أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة. وقال: اقرءوا إن شئتم: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ) ].
فقد يأتي الرجل العظيم ولا يقام له وزن، وذلك بسبب عمله السيئ، فلا يزن عند الله جناح بعوضة، فالميزان يخف ويثقل حسب الأعمال، فإذا كان العمل صالحاً ثقل الميزان، وإذا كان العمل سيئاً خف الميزان، فالأعمال توزن وإن كانت أعراضاً؛ لأن الله تعالى يقلبها أعياناً، وكذلك الأشخاص يوزنون، كما في الحديث: (يؤتى بالرجل العظيم السمين لا يزن عند الله جناح بعوضة)، وثبت أيضاً في الحديث الصحيح أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان دقيق الساقين، فمشى فكشفت الريح عن ساقيه، فضحك الصحابة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مم تضحكون؟ قالوا: من دقة ساقيه يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده لهما في الميزان أثقل من جبل أحد) وذلك بسبب عمله الصالح، وأما الكفار فكما قال الله: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف:105].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وعن يحيى بن بكير عن مغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد مثله.
هكذا ذكره عن يحيى بن بكير معلقاً، وقد رواه مسلم عن أبي بكر محمد بن إسحاق عن يحيى بن بكير به.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو الوليد حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالرجل الأكول الشروب العظيم فيوزن بحبة فلا يزنها، قال: وقرأ: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ). وكذا رواه ابن جرير عن أبي كريب عن أبي الصلت عن ابن أبي الزناد عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً، فذكره بلفظ البخاري سواء.
وقال أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار : حدثنا العباس بن محمد حدثنا عون بن عمارة حدثنا هشام بن حسان عن واصل عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل رجل من قريش يخطر في حلة له، فلما قام على النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا
وقد قال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن الأعمش عن شمر عن أبي يحيى عن كعب قال: (يؤتى يوم القيامة برجل عظيم طويل، فلا يزن عند الله جناح بعوضة، اقرءوا: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ).
وقوله: ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا أي: إنما جازيناهم بهذا الجزاء بسبب كفرهم، واتخاذهم آيات الله ورسله هزواً، استهزءوا بهم وكذبوهم أشد التكذيب ].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر