إسلام ويب

تفسير سورة الكهف [107-110]للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تميزت سورة الكهف في خاتمتها ببيان عاقبة المؤمنين المتقين بعد ذكر مآل الكافرين، حيث أعد الله لعباده الصالحين الجنة وجعلها داراً لهم لا يسأمون من المكث فيها، ولا يبغون الحول عنها، وقد بين الله تعالى أن من كان يرجو مثل هذا اللقاء فليلزم العمل الصالح والإخلاص لله تعالى في العبادة؛ إذ هو وحده المستحق لها دون سواه، فهو الملك العظيم الذي وسع كل شيء رحمة وعلماً، ومن عظمته نفاد البحر لو كان مداداً لكلمات الله.
    قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا * قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا * قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:107-110].

    معنى الفردوس

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ يخبر تعالى عن عباده السعداء -وهم الذين آمنوا بالله ورسوله وصدقوا المرسلين فيما جاءوا به- أن لهم جنات الفردوس.

    قال مجاهد : الفردوس هو البستان بالرومية. وقال كعب والسدي والضحاك : هو البستان الذي فيه شجر الأعناب. وقال أبو أمامة : الفردوس سرة الجنة. وقال قتادة : الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها ].

    الربوة، المكان المرتفع، وسرة الجنة: وسطها.

    وقد جاء في الحديث: (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن)؛ فهو الوسط وهو الأعلى، ولا يكون الوسط هو الأعلى إلا إذا كان الفردوس مستديراً كالقبة، وهذا يدل على أن الجنة مستديرة الشكل وليست مربعة ولا مسدسة، إذ لو كانت مربعة أو مسدسة لما كان الوسط هو الأعلى، فالذي وسطه أعلاه هو الشيء المستدير، والفردوس فوقه عرش الرحمن، وهو مستدير، بل إن الأفلاك كلها مستديرة، السماوات والأرضون والجنة، فكلها مستديرة الشكل.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد روي هذا مرفوعاً من حديث سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (الفردوس ربوة الجنة أوسطها وأحسنها) ].

    هذا الحديث فيه ضعف بهذا السند، لكنه ثابت صحيح بغير هذا السند، وهذا السند فيه عنعنة قتادة ، والحسن في روايته عن سمرة كلام، فقد قال بعضهم: لم يسمع الحسن من سمرة إلا حديث العقيقة.

    واستدارة الفردوس لا تنافي أن تكون السماوات والأرض مستديرة.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهكذا رواه إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن سمرة مرفوعاً، وروي عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعاً بنحوه، روى ذلك كله ابن جرير رحمه الله.

    وفي الصحيحين: (إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس؛ فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة) ].

    الإقامة الدائمة في الجنة

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله تعالى: نُزُلًا أي: ضيافة؛ فإن النزل: الضيافة، وقوله: خَالِدِينَ فِيهَا أي: مقيمين ساكنين فيها لا يظعنون عنها أبداً لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا أي: لا يختارون عنها غيرها، ولا يحبون سواها، كما قال الشاعر:

    فحلت سويدا القلب لا أنا باغياً سواها ولا عن حبها أتحول ].

    يعني: تمكنت محبتها مني حتى وصلت إلى سويداء القلب، ووصلت إلى شغافه.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وفي قوله: لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا تنبيه على رغبتهم فيها وحبهم لها ].

    ورد في الحديث الصحيح: (أن أهل الجنة إذا دخلوا الجنة ينادي مناد فيقول: يا أهل الجنة! إن لكن لكم أن تصحوا فلا تسقموا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا). ففي الجنة يكون المؤمن في شباب دائم وصحة دائمة وخلود دائم، فليس فيها مرض، ولا هموم، ولا موت، ولا شيخوخة، ولا أحزان، ولا أكدار، ولا بول، ولا غائط، ولا مخاط، ولا نوم، ولا حيض، ولا نفاس بالنسبة للنساء، بل هناك نعيم دائم، وسرور دائم، وتنزع من قلوب المؤمنين الأغلال والأحقاد؛ لأن الله يقتص للمؤمنين بعضهم من بعض، وذلك أنهم إذا تجاوزوا الصراط أوقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص بعضهم من بعض، ونرد المظالم التي كانت بينهم في الدنيا ثم تنزع السخائم من نفوسهم، فيدخلون الجنة على غاية من الصفاء وسلامة الصدر، إخواناً على سرر متقابلين، قال تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47]، نسأل الله الكريم من فضله، ونسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ مع أنه قد يتوهم فيمن هو مقيم في المكان دائماً أنه قد يسأمه أو يمله، فأخبر أنهم مع هذا الدوام والخلود السرمدي لا يختارون عن مقامهم ذلك متحولاً ولا انتقالاً ولا ظعناً ولا رحلة ولا بدلاً ].

    وذلك لما هم فيه من السرور، بخلاف منازل الدنيا، فإن الإنسان يسأم منها ويملها، وهذا أمر مشاهد، فإذا أقام الإنسان مدة طويلة في المكان سأمه، فيحب أن يغير المكان، وترى اليوم الناس إذا جاءت الإجازة الصيفية فإن أغلبهم يتحركون للرحلات، وإن كان فيها تعب؛ لأنهم سئموا الإقامة في ذلك المكان، أما أهل الجنة فيمكثون فيها المقام السرمدي الأبدي، ولكنهم يحبون البقاء فيها لما هم فيه من النعيم الدائم، والصحة الدائمة، والسلامة الدائمة، والحبور الدائم، نسأل الله الكريم أن يجعلنا منهم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088463773

    عدد مرات الحفظ

    776879986