والوفد: هم القادمون ركباناً ومنه الوفود، وركوبهم على نجائب من نور من مراكب الدار الآخرة، وهم قادمون على خير موفود إليه إلى دار كرامته ورضوانه.
وأما المجرمون المكذبون للرسل المخالفون لهم، فإنهم يساقون عنفاً إلى النار (ورداً) عطاشاً، قاله عطاء وابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وغير واحد، وههنا يقال: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا [مريم:73].
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو خالد عن عمرو بن قيس الملائي عن ابن مرزوق : (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً) قال: يستقبل المؤمن عند خروجه من قبره أحسن صورة رآها وأطيبها ريحاً، فيقول: من أنت؟ فيقول: أما تعرفني؟ فيقول: لا، إلا أن الله قد طيب ريحك وحسن وجهك، فيقول: أنا عملك الصالح وهكذا كنت في الدنيا حسن العمل طيبه، فطالما ركبتك في الدنيا فهلم اركبني فيركبه، فذلك قوله: (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً) ].
هذا موقوف على ابن مرزوق .
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً) قال: ركباناً، وقال ابن جرير : حدثني ابن المثنى حدثنا ابن مهدي عن سعيد عن إسماعيل عن رجل عن أبي هريرة (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً) قال: على الإبل، وقال ابن جريج : على النجائب، وقال الثوري : على الإبل النوق، وقال قتادة : (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً) قال: إلى الجنة.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه: حدثنا سويد بن سعيد أخبرنا علي بن مسهر عن عبد الرحمن بن إسحاق حدثنا النعمان بن سعد قال: (كنا جلوساً عند علي رضي الله عنه فقرأ هذه الآية: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا [مريم:85] قال: لا والله ما على أرجلهم يحشرون ولا يحشر الوفد على أرجلهم، ولكن بنوق لم ير الخلائق مثلها عليها رحائل من ذهب، فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة) وهكذا رواه ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث عبد الرحمن بن إسحاق المدني به، وزاد: (عليها رحائل من ذهب وأزمتها الزبرجد) والباقي مثله.
وروى ابن أبي حاتم ههنا حديثاً غريباً جداً مرفوعاً عن علي رضي الله عنه فقال: حدثنا أبي حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل النهدي حدثنا مسلمة بن جعفر البجلي سمعت أبا معاذ البصري قال: (إن
وهذا الحديث فيه غرابة، وذكر الحافظ ابن كثير أن الأشبه أنه موقوف على علي وليس مرفوعاً؛ لأنه قال: وهو أشبه بالصحة، أي: أشبه بأن يكون موقوفاً على علي وليس مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لكن يحتاج إلى نظر في سنده.
وهذا الحديث فيه أبو معاذ البصري وهو سليمان بن أرقم وهو ضعيف، من السابعة، قال أحمد بن حنبل فيه: ليس بشيء، وقال أبو داود : متروك الحديث، وقال أبو حاتم والنسائي والترمذي : متروك الحديث، وقال أبو زرعة : ضعيف الحديث، وقال الجوزجاني : ساقط، وقال ابن عدي : عامة ما يرويه لا يتابع عليه، والدارقطني : متروك الحديث، وقال مسلم : منكر الحديث، وقال النسائي : لا يكتب حديثه.
وهناك طرق أخرى للحديث وفيها الحارث الأعور وهو متهم ضعيف.
إذاً: قوله تعالى: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا أي: كل ما يتمناه المؤمنون يحصل لهم في الجنة، ولهم فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، ويحصلون على كل خير وكرامة.
وقوله: إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا [مريم:87] هذا استثناء منقطع، بمعنى: لكن من اتخذ عند الرحمن عهداً، وهو شهادة أن لا إله إلا الله والقيام بحقها.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا قال: العهد شهادة أن لا إله إلا الله، ويبرأ إلى الله من الحول والقوة، ولا يرجو إلا الله عز وجل ].
وقوله: مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا يعني: من مات على التوحيد وقام بحقها فهو من أهل الشفاعة وتناله الشفاعة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمار بن خالد الواسطي حدثنا محمد بن الحسن الواسطي عن المسعودي عن عون بن عبد الله عن أبي فاختة عن الأسود بن يزيد قال: قرأ عبد الله يعني ابن مسعود هذه الآية: إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ثم قال: اتخذوا عند الله عهداً، فإن الله يقول يوم القيامة: من كان له عند الله عهد فليقم، قالوا: يا أبا عبد الرحمن فعلمنا، قال: قولوا: اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة فإني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا ألا تكلني إلى عمل يقربني من الشر ويباعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عندك عهداً تؤديه إلي يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد.
قال المسعودي : فحدثني زكريا عن القاسم بن عبد الرحمن أخبرنا ابن مسعود وكان يلحق بهن: خائفاً مستجيراً مستغفراً راهباً راغباً إليك. ثم رواه من وجه آخر عن المسعودي نحوه ].
المسعودي ضعيف مختلط، لكن لا شك أن الدعاء واللجوء إلى الله مطلوب.
يعني: (إداً) و(أداً) و(أدا) بالألف.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله: تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا أي: يكاد ذلك عند سماعهن هذه المقالة من فجرة بني آدم إعظاماً للرب وإجلالاً؛ لأنهن مخلوقات ومؤسسات على توحيده، وأنه لا إله إلا هو، وأنه لا شريك له ولا نظير له ولا ولد له ولا صاحبة له ولا كفء له بل هو الأحد الصمد.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
قال ابن جرير : حدثني علي حدثنا عبد الله حدثني معاوية عن علي عن ابن عباس في قوله: تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا .. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا قال: إن الشرك فزعت منه السماوات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين، وكادت أن تزول منه لعظمة الله، وكما لا ينفع مع الشرك إحسان المشرك كذلك نرجو أن يغفر الله ذنوب الموحدين، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله، فمن قالها عند موته وجبت له الجنة قالوا: يا رسول الله فمن قالها في صحته؟ قال: تلك أوجب وأوجب، ثم قال: والذي نفسي بيده لو جيء بالسماوات والأرضين وما فيهن وما بينهن وما تحتهن فوضعن في كفة الميزان، ووضعت شهادة أن لا إله إلا الله في الكفة الأخرى لرجحت بهن) هكذا رواه ابن جرير ويشهد له حديث البطاقة والله أعلم].
هذه الآيات الكريمات فيها أن الشرك من أعظم الذنوب وأعظم الكبائر، وفيها أن نسبة الولد إلى الله من أعظم الكفر، والشرك ومن أعظم المحرمات التي عظمها الله سبحانه وتعالى، وجعلت صاحبها مشركاً تجب له النار إذا مات على ذلك، نسأل الله السلامة والعافية.
وذلك أن نسبة الولد إلى الله تنقص للرب عز وجل؛ لأن الذي يحتاج إلى الولد إنما هو المخلوق الناقص الضعيف، فالولد كمال في حق المخلوق؛ فالذي يولد له ولد أكرم من الذي لا يولد له، والعقيم الذي لا يولد له عنده نقص بخلاف الذي يولد له؛ لأن المخلوق ضعيف يحتاج إلى الولد ليعينه ويساعده ولاسيما في وقت الكبر، أما الرب سبحانه وتعالى فلا يحتاج إلى أحد، وهو سبحانه وتعالى القائم بنفسه المقيم لغيره الحي القيوم سبحانه وتعالى، ليس له شريك ولا نظير ولا وزير ولا ولد ولا صاحبة، فمن نسب الولد إلى الله فقد افترى على الله أعظم فرية، بل أشرك بالله وارتكب إثماً عظيماً وحوباً كبيراً، ولهذا قال سبحانه: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ، أي: لقد جئتم بهذه المقالة شيئاً عظيماً، تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ، يعني: السماوات والأرض أسستا على التوحيد، وكل المخلوقات أسست على التوحيد، وكلها تسبح بحمد الله: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44] إلا الثقلين الجن والإنس، ولهذا تكاد السماوات إذا سمعت هذا الشرك أن تتفطر وتكاد الأرض أن تنشق وتكاد الجبال أن تخر، أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا يعني: بسبب ادعائهم الولد لله.
قال الله: وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا أي: ما ينبغي ولا يليق به سبحانه أن يتخذ الولد؛ لأنه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، فهو واحد فرد صمد قيوم قائم بنفسه مقيم لغيره، وهو صمد في نفسه سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى أحد وتصمد إليه الخلائق في حوائجها ليس بحاجة إلى أحد، بخلاف المخلوق الضعيف فإنه يحتاج إلى الولد يحتاج إلى من يعينه ويساعده.
والتوحيد شأنه عظيم، من مات على التوحيد وقال: لا إله إلا الله عند موته وجبت له الجنة، يعني: من قالها عن إخلاص وصدق ولم يعمل ناقضاً من نواقضها وجبت له الجنة، وكذلك إذا قالها في صحته ومات على ذلك ولم يغير ولم يبدل وجبت له والجنة، الجنة أعدها الله للموحدين والنار أعدها الله للكفار، أما العاصي الموحد فهو من أهل الجنة، لكن هذه المعاصي وهذه الكبائر التي مات عليها من غير توبة لا بد من أن يطهر منها إما بعفو الله ومغفرته، فإن عفا الله عنه دخل الجنة من أول وهلة، وإن لم يعف الله عنه فلا بد أن يطهر في النار، حتى تزول هذه المعاصي وتغسل بالنار إذا لم تغسل بعفو الله، حتى يخرج نقياً سليماً بريئاً من الخبث الذي ينقص توحيده ويضعف توحيده.
إذاً: أهل التوحيد من أهل الجنة، وإذا قال المرء كلمة التوحيد عند الموت فله هذا الوعد، وإذا قالها في حياته ومات على ذلك وحصل له غيبوبة أو زال عقله وهو على التوحيد فهو على ما كان عليه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال الضحاك : تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ أي: يتشققن فرقاً من عظمة الله ].
فرقاً يعني: خوفاً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : (وتنشق الأرض) أي: غضباً لله عز وجل، (وتخر الجبال هداً) قال ابن عباس : هدماً، وقال سعيد بن جبير : هداً ينكسر بعضها على بعض متتابعات.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن سويد المقبري حدثنا سفيان بن عيينة حدثنا مسعر عن عون بن عبد الله قال : إن الجبل لينادي الجبل باسمه: يا فلان هل مر بك اليوم ذاكر الله عز وجل؟ فيقول: نعم، ويستبشر، قال عون : لهي للخير أسمع، أفيسمعن الزور والباطل إذا قيل ولا يسمعن غيره، ثم قرأ: تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا .
وقال ابن أبي حاتم أيضاً : حدثنا المنذر بن شاذان حدثنا هودة حدثنا عوف عن غالب بن عجرد حدثني رجل من أهل الشام في مسجد منى، قال: بلغني أن الله لما خلق الأرض وخلق ما فيها من الشجر لم يكن في الأرض شجرة يأتيها بنو آدم إلا أصابوا منها منفعة - أو قال - كان لهم فيها منفعة، ولم تزل الأرض والشجر بذلك حتى تكلم فجرة بني آدم بتلك الكلمة العظيمة قولهم: (اتخذ الرحمن ولداً) فلما تكلموا بها اقشعرت الأرض وشاك الشجر ].
يعني: نبت له الشوك وصار له شوك، وهذا الأثر ضعيف؛ لأن فيه مبهماً والمبهم رواه ببلاغ.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال كعب الأحبار : غضبت الملائكة واستعرت النار حين قالوا ].
كعب الأحبار يحكي عن بني إسرائيل، وهو أسلم زمن عمر رضي الله عنه.
وقوله: وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا أي: لا يصلح له ولا يليق به لجلاله وعظمته؛ لأنه لا كفء له من خلقه؛ لأن جميع الخلائق عبيد له؛ ولهذا قال: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا أي: قد علم عددهم منذ خلقهم إلى يوم القيامة ذكرانهم وإناثهم وصغيرهم وكبيرهم ].
وذلك لأنه سبحانه وتعالى هو الذي أوجدهم وهو الذي خلقهم من عدم وهو لا يخفى عليه شيء من خلقه أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14] قوله: وَمَا يَنْبَغِي هذه عامة، يقال للشيء المحرم: ما ينبغي للإنسان أن يفعل كذا، ويقال للشيء الذي تركه أولى: ما ينبغي، فهي عامة.
وهذه الكلمة قد يقولها بعض العلماء وبعض الأئمة في الفتوى من باب التورع، يقال: لا ينبغي للإنسان أن يفعل كذا، أو ينبغي للإنسان ألا يفعل هذا؛ لكونه محرماً أو لكون تركه أولى، والله تعالى يقول: وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا يعني: هذا أمر عظيم لا ينبغي ولا يليق به سبحانه؛ لكمال عظمته وكمال وحدانيته وألوهيته وربوبيته لا ينبغي له أن يتخذ ولداً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم:95] أي: لا ناصر له ولا مجير إلا الله وحده لا شريك له، فيحكم في خلقه بما يشاء، وهو العدل الذي لا يظلم مثقال ذرة، ولا يظلم أحداً ].
أي: لا نجاة ولا حول ولا قوة إلا بالله، فمن كان عمله صالحاً ولقي الله بالتوحيد والعمل الصالح نجا، ومن لقي الله بالشرك فهو هالك والعاصي على خطر نسأل الله السلامة والعافية.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر