ذم الله عز وجل من يخوض في آياته ويجادل فيها بغير علم ليضل عن سبيله، وذم فريقاً ممن دخلوا في الإسلام إن وجدوا فيه ما يرضيهم بقوا فيه وإلا ارتدوا على أدبارهم.
ثم ذكر الله عز وجل أنه يفصل بين عباده يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون، سواء كانوا مؤمنين أو يهوداً أو نصارى أو صابئين وغيرهم.
تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ...)
فالواجب على الإنسان أن يقبل الحق، وأن يحذر من الكبر ورد الحق، فإنه من أعظم الجرائم، فإن رد الحق والاستكبار من الكبائر العظيمة؛ ولهذا خسف الله رءوس الضلال، وأهل البدع وأهل الكفر بسبب الجدال ورد الحق، والإعراض والتكبر، نسأل الله السلامة والعافية.
قول المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ[الحج:9]قال بعضهم: هذه لام العاقبة؛ لأنه قد لا يقصد ذلك، ويحتمل أن تكون لام التعليل، ثم إما أن يكون المراد بها: المعاندين، أو يكون المراد بها أن هذا الفاعل لهذا إنما جبلناه على هذا الخلق الدنيء لنجعله ممن يضل عن سبيل الله ].
يعني: يحتمل أن تكون لام العاقبة، والمعنى أنه بفعله ذلك تكون العاقبة إضلاله الناس، ويحسب أن يكون قاصداً للإضلال؛ بخبثه وحقده فيقصد الإضلال، فإذا كان يقصد الإضلال صارت اللام للتعليل، وإن كان لا يقصد الإضلال، صارت اللام للعاقبة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال مجاهد وقتادة وغيرهما: [ عَلَى حَرْفٍ[الحج:11]: على شك، وقال غيرهم: على طرف، ومنه حرف الحبل أي: طرفه، أي: دخل في الدين على طرف فإن وجد ما يحبه استقر، وإلا انشمر ].
قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ[الحج:11] يعني: على طرف، أي: لم يتمكن الإيمان من قلبه؛ فإن وجد ما يناسبه من الدنيا استمر، وإن وجد شيئاً لا يناسبه؛ فإنه ينحرف ويرتد عن دين الله، نعوذ بالله.
سبب نزول قوله تعالى: (ومن الناس من يعبد الله على حرف)
لأنه ضعيف الإيمان، وكان بعض الذين دخلوا في الإسلام من البوادي وغيره، يأتي المدينة فإن ولدت امرأته وأنتجت خيله شيئاً يناسبه، قال: هذا دين صالح، وإن لم يحصل ما يناسبه، قال: هذا دين سوء، فارتد نعوذ بالله، تفسيراً لهذه الآية.
وذلك لأنهم دخلوا في الإسلام ولم يتمكن الإيمان من قلوبهم؛ فإذا أصابهم شيء يكدرهم.. جدب أو شيء في أهليهم ارتدوا والعياذ بالله، وإن أصابوا شيئاً من الدنيا استمروا؛ لضعف إيمانهم، وقلة ديانتهم، وعدم تمكن الإيمان من نفوسهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال العوفي عن ابن عباس : كان أحدهم إذا قدم المدينة وهي أرض وبيئة، فإن صح بها جسمه ونتجت فرسه مهراً حسناً وولدت امرأته غلاماً رضي به واطمأن إليه، وقال: ما أصبت منذ كنت على ديني هذا إلا خيراً، وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ[الحج:11] والفتنة: البلاء، أي: وإن أصابه وجع المدينة، وولدت امرأته جارية، وتأخرت عنه الصدقة، أتاه الشيطان فقال: والله ما أصبت مذ كنت على دينك هذا إلا شراً، وذلك الفتنة، وهكذا ذكر قتادة والضحاك وابن جريج وغير واحد من السلف في تفسير هذه الآية، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هو المنافق إن صلحت له دنياه أقام على العبادة، وإن فسدت عليه دنياه وتغيرت انقلب فلا يقيم على العبادة إلا لما صلح من دنياه، فإن أصابته فتنة أو شدة أو اختبار أو ضيق ترك دينه ورجع إلى الكفر، وقال مجاهد في قوله : انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ[الحج:11]أي: ارتد كافراً.
والحاصل: أن هذه الآية فيها قولان لأهل العلم: القول الأول: أنها في ضعفاء الإيمان من الأعراب الذين دخلوا في الإسلام، ولم يستقر الإيمان في قلوبهم، وقيل: إنها في المنافق، والأقرب أنه في الأول، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ[الحج:11] أي: على طرف من دينه، لم يتمكن الإيمان من قلبه.
فالمسلم إذا لم يصبر على المصائب، فهذا يدل على ضعف إيمانه وقلة يقينه، فالمؤمن صابر على البلاء.. شاكر عند النعمة.. مستغفر عند الذنوب والمعاصي، فإذا كان لا يصبر فهذا ضعيف الإيمان، ولا شك أن البلاء والمصائب والدنيا كلها اختبار وامتحان، كما أن الفقر والشدة والمرض كلها ابتلاء وامتحان، قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ[الأنبياء:35].
والقول الأول لَبِئْسَ الْمَوْلَى[الحج:13] يعني: هذا الصنم الذي يتولاه، ويستنصر به، يسترزقه، ويدعوه من دون الله، والعشير: المعاشر المخالط المصاحب ممن هو على شاكلته.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ لما ذكر أهل الضلالة الأشقياء، عطف بذكر الأبرار السعداء من الذين آمنوا بقلوبهم وصدقوا إيمانهم بأفعالهم، فعملوا الصالحات من جميع أنواع القربات، وتركوا المنكرات، فأورثهم ذلك سكنى الدرجات العاليات في روضات الجنات، ولما ذكر تعالى أنه أضل أولئك وهدى هؤلاء قال: إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ[الحج:14] ].
وله الحكمة البالغة سبحانه وتعالى، هو عليم بأحوال العباد، وعليم بنياتهم وأقوالهم وأفعالهم، وعليم بالذوات التي تصلح للخير فيوفقها له، وعليم بالذوات التي لا تصلح لذلك فيشقيها، له الحكمة البالغة سبحانه وتعالى، لا أحد يحسب عليه، وهو حسيب، قبض قبضة وقال: هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وقبض قبضة وقال: هؤلاء في النار ولا أبالي، لما يعلمه فيهم سبحانه وتعالى، فهو يعلم أن هؤلاء لا يصلحهم إلا الخير، وهؤلاء لا يصلحون للخير، فله الحكمة البالغة.
والله سبحانه وتعالى يقرن بين الأشقياء والسعداء في كثير من الآيات، فلما ذكر ضعيف الإيمان أو المنافق الذي يرتد لأقل سبب ذكر بعدهم المؤمنين الصادقين، الذين صدقوا أقوالهم وصدقوا إيمانهم بالأعمال الصالحة، وذكر أن لهم الجنات وهم السعداء الذين ثبت الإيمان في قلوبهم ورسخ وصدقوا أقوالهم بأعمالهم، وعملوا الصالحات، يعني: أدوا الفرائض، وانتهوا عن المحارم، واستقاموا على دين الله، ووقفوا عند حدود الله.
فهؤلاء لهم الجنة والكرامة، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.
تفسير قوله تعالى: (من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء...)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال ابن عباس رضي الله عنهما: من كان يظن أن لن ينصر الله محمداً صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة؛ فليمدد بسبب أي: بحبل إِلَى السَّمَاءِ[الحج:15] أي: سماء بيته، ثُمَّ لْيَقْطَعْ[الحج:15] يقول: ثم ليختنق به، وكذا قال مجاهد وعكرمة وعطاء وأبو الجوزاء وقتادة وغيرهم.
وقول ابن عباس وأصحابه أولى وأظهر في المعنى وأبلغ في التهكم ]
يعني: القول الأول: أن المراد بالسبب الحبل، يعلقه في سماء بيته، أي: في سقف بيته ثم ليختنق.
فالمعنى: أن الله سيظهر نبيه وحزبه المؤمنين، وأن الله ناصر عبده محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه، على رغم أنوف الكفرة والمنافقين، وأنه ليس لهم إلا الخيبة والندامة والنكد في قلوبهم، والله تعالى ناصر نبيه ومظهر دينه، ولو كره الكافرون، قال تعالى: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ[التوبة:33]، فلا يزال أعداء الله من الكفرة والمنافقين يكيدون للإسلام والمسلمين، والله تعالى خاذلهم ومظهر حزبه وأوليائه.
وهذا فيه تعجيز لهم وتبكيت، وبيان ما هم فيه من الغم والنكد؛ لأن أهل النفاق والريب والكفر يؤذيهم نصرة المؤمنين وظهور الإيمان وعلوه، والله تعالى يقول: من كان يظن ألن ينصر الله نبيه وحزبه المؤمنين فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ[الحج:15] أي: بحبل، فليختنق، والقول الثاني: أنه يمدد بسبب إلى السماء؛ لأن النصر إنما ينزل من السماء، فليقطعوا هذا النصر الذي يأتي من عند الله إن كانوا صادقين، فلا يستطيعون.
قال السدي : يعني: من شأن محمد صلى الله عليه وسلم، وقال عطاء الخراساني : فلينظر هل يشفي ذلك ما يجد في صدره من الغيظ ].
يعني: هل يزول ما في صدره ونفسه من الغيظ؟ لا يزيله إلا أن يقتل نفسه، ويهلك نفسه، وله الهلاك في الدنيا والآخرة، والظهور والغلبة والعزة والكرامة لرسوله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، ولو كره الكافرون، فالله تعالى مظهر دينه، وناصر حزبه على أنوف الكفرة والمنافقين، وسيظهر هذا الدين ويبلغ كل بيت.. مدراً أو شعراً.. بعز عزيز أو بذل ذليل، كما جاء في الحديث.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يخبر تعالى عن أهل هذه الأديان المختلفة، من المؤمنين ومن سواهم من اليهود والصابئين، وقد قدمنا في سورة البقرة التعريف بهم، واختلاف الناس فيهم، والنصارى والمجوس والذين أشركوا؛ فعبدوا مع الله غيره فإنه تعالى: يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ[الحج:17]ويحكم بينهم بالعدل، فيدخل من آمن به الجنة ومن كفر به النار، فإنه تعالى شهيد على أفعالهم، حفيظ لأقوالهم، عليم بسرائرهم وما تكن ضمائرهم ].