لأن هذا أصل الاشتقاق، فيكون مالك أصله ملك، ومالك وملك في اشتقاقها مأخوذة من الملك؛ لأنه مصدر وهو أصل الاشتقاق، فيقول: إن مالك هي نفس ملك، يعني: حذفت الألف من مالك وهي بمعنى ملك.
ملكه ليوم الدين ليس معناه أن الله تعالى لا يملك غيره، بل هو مالك الدنيا والآخرة، فهو رب العالمين، وإنما الحكمة والسبب أنه في ذلك اليوم تزول الأملاك كلها، ولا يبقى ملك إلا لله، ولا يتكلم أحد إلا بإذن الله، وجاء في بعض الأحاديث أن الرب سبحانه ينادي العباد ويقول: (إني أنصت لكم منذ خلقتكم، فأنصتوا لي الآن) أو كما جاء عن الله عز وجل.
ففي ذلك اليوم تزول الفوارق، وتزول الأملاك، ولا أحد يتكلم، وليس لأحد سلطان، ويأتي الناس كلهم يقفون بين يدي الله ليس معهم شيء من الدنيا، ولا يكون الفرق إلا بالحسنات والسيئات، وكل ينتظر قضاء الله، فلذلك قال سبحانه: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ[الفاتحة:4] و(ملك يوم الدين)، فالفوارق بين العباد تزول كلها، وليس لأحد ملك، وأما الدنيا ففيها اختلاط الحابل بالنابل، واختلاط الكفار بالمؤمنين، والفجرة بالمتقين، وهناك ملوك في الدنيا وعبيد وأسياد، وأغنياء وفقراء ووضعاء وشرفاء، وأما في يوم القيامة فتزول هذه الفوارق كلها، ويكون التصرف لله عز وجل، ولا أحد يتصرف ولا أحد يتكلم إلا بإذن الله، والرسل حينما يجوزون على الصراط كلمتهم: اللهم سلم سلم.
فإن قيل: أيهما أفضل: مالك أو ملك؟ قيل: الذي يظهر أنه ملك، والمعنى واحد.
معنى: (يوم الدين)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: ويوم الدين، يوم الحساب للخلائق، وهو يوم القيامة يدينهم بأعمالهم إن خيراً فخير، وإن شراً فشر إلا من عفا عنه].
يدينهم: من أدان يُدين، وأما يَدَين من فهو دان، يدين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وكذلك قال غيره من الصحابة والتابعين والسلف، وهو ظاهر، وحكى ابن جرير عن بعضهم أنه ذهب إلى أن تفسير مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ[الفاتحة:4] أنه القادر على إقامته، ثم شرع يضعفه، والظاهر أنه لا منافاة بين هذا القول وما تقدم، وأن كلاً من القائلين هذا القول وبما قبله يعترف بصحة القول الآخر ولا ينكره ].
لا شك أنه سبحانه القادر على إقامة يوم الدين، وهذه الآية إثبات البعث والجزاء والحساب، وأن الله يحكم بين عباده بالعدل؛ لأن الدين هو الجزاء بالعدل، وفيها الرد على منكري البعث من المشركين والفلاسفة والوثنيين وغيرهم.
وفيها إثبات الجزاء على الأعمال، وأن الله يجازي على الأعمال بالعدل، وهو أعدل العادلين سبحانه وتعالى، وهو أحكم الحاكمين.
أخنع: أوضع، وفي لفظ: (أخبثه)، فأخنع وأوضع اسم من تسمى بهذا الاسم الذي هو من خصائص الله، أي: جعله الله وضيعاً حقيراً ذليلاً؛ لتجاوزه حده وتسميه بما لا ينبغي له، كما أن مسيلمة الكذاب لما تسمى بالرحمن لزمه وصف الكذب وصار ملاصقاً لاسمه، فلا يذكر مسيلمة إلا ويقرن اسمه بالكذب فيقال: مسيلمة الكذاب ؛ لأنه تجاوز حده وتسمى بما لا يليق به، فكذلك من تسمى بملك الأملاك جعله الله وضيعاً حقيراً ذليلاً.
ومن ذلك: وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي[يوسف:54]، وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ[يوسف:43]، لكنه ملك قاصر مؤقت، والملك الكامل إنما هو ملك الله، وهذا من الأسماء المشتركة، فمن أسماء الله الملك، والمخلوق يسمى ملكاً، وكذلك من أسماء الله السميع، والمخلوق يسمى سميعاً، ومن أسماء الله البصير ويسمى المخلوق بصيراً، ومن أسماء الله الحي والمخلوق حي.. وهكذا؛ لكنها في حق المخلوق أسماء ناقصة تليق بالمخلوق، وهي في حق الله كما يليق به.
ومن أسماء الله قسم لا يسمى به إلا الله: كالله، والرحمن، والرب، ومالك الملك، وملك الأملاك، وخالق الخلق، والمعطي المانع، والنافع الضار، فهذه لا يسمى بها إلا الله.
وأما قوله: إنها في حق المخلوق مجاز، فالصواب أنه ليس في اللغة مجاز، كما سبق.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ كما قال عمر رضي الله عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على من لا تخفى عليه أعمالكم، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ[الحاقة:18] ].