إسلام ويب

تفسير سورة البقرة (29)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • اصطفى الله عز وجل من عباده رسلاً، وجعل توقيرهم توقيراً له سبحانه؛ لأن أوامرهم ونواهيهم وحي من الله، وفي قصة قرآنية آخرى يتجلى الجهل وسوء الأدب مع عباد الله المصطفين، كان أبطال هذه القصة بني إسرائيل! حيث قتل أحدهم وجُهل القاتل فأمرهم موسى بأن يذبحوا بقرة، فيضربوا المقتول ببعضها، لتعود إليه روحه -بإذن الله- ويكشف عن مرتكب الجريمة، فما كان من هؤلاء القوم إلا أن أكثروا الأسئلة، وأطالوا المراوغة، حتى فعلوا في نهاية الأمر، وكادوا ألا يفعلوا.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها، والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.

    قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ [البقرة:67-70] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!

    القصص القرآني من آيات النبوة المحمدية

    مثل هذا القصص يقصه رجل أمي لم يقرأ ولم يكتب قط، وبعد أن تجاوز سن الأربعين، فهل يعقل أن يكون هذا من غير نبي ورسول يوحي الله إليه؟ لا يعقل أبداً، بل يستحيل!

    فلهذا القصص القرآني من آيات النبوة المحمدية، ولن يستطيع ذو عقل من العرب والعجم أن يرد هذه الحقيقة.

    وهذا الحدث الجلل مضى عليه آلاف السنين، فكيف يحدث به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويفصل هذا التفصيل، وأهل الكتاب -وبخاصة اليهود وهم معنيون- يسمعون هذا بآذانهم، ويشهدون أنه الواقع الذي وقع في أمتهم؟!

    والله يقول لرسوله: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ [هود:120] وفي هذا القصص فائدة جلية وعظمى أن الله يثبت بذلك رسوله كيف وقد رفع صوته في الأرض كلها يشهد أن لا إله إلا الله، والعالم كله ضده؟ فلهذا يجد في هذا القصص ما يقوي عزيمته، ويشد ساعديه، ويقويه في دعوته.

    ثم هذا القصص جاء في عرض أحداث كانت لبني إسرائيل، وهذه الأحداث العظيمة كلها تشهد بانحراف اليهود وضلالهم، وبعدهم عن الحق، وتشهد أيضاً بعنادهم، ومكابرتهم، وحسدهم، وذلك من أول ما قال: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا ... وإلى الموضع الذي نحن فيه وما زال القصص مستمراً.

    ومن بين ذلك القصص أو تلك الأحداث هذه الحادثة العظيمة؛ إذ يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: اذكر وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ [البقرة:67] أو اذكروا أنتم يا بني إسرائيل المعاصرين للنبي في المدينة! اذكروا وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67].

    وهذه الآيات تضمنت قصصاً، قيل: هي عبارة عن قصتين. ولا مانع أن تكون قصتين؛ إذ الأحداث لا حد لها، ولكن كونها قصة تقدم ما ينبغي أن يتأخر، وتؤخر منها ما ينبغي أن يتقدم؛ لأن القرآن ليس كتاب قصص، بل هو كتاب هداية، وتعليم، وإصلاح، وتربية للبشرية.

    وما دامت الأحداث الأولى أشد قساوة على اليهود فقد بدأ بها.

    سبب أمر بني إسرائيل بذبح بقرة

    قوله تعالى هنا: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] لم؟ لأن أبناء أخ وجدوا عمهم ثرياً -ذا ثروة مالية كبيرة- ولا يرثه إلا ولد له، وما زال صغيراً، فقالوا: نقتل هذا الطفل وبعد أيام أو أعوام يموت العم الكبير، وقد أسن وشاخ، ونرث هذا المال، بخلاف إذا تركنا الولد يكبر، فإذا مات والده ورث المال وحرمنا منه!

    وسبحان الله! هذه الحادثة وقع لها نظير في قريتي التي نشأت فيها وتربيت: كان هناك رجل صعلوك كبير عنده ابن أخ، وهو عمه، فذبحه وألقاه تحت نخلة، وجاء يصرخ في القرية ويبكي: ابن أخي ذبح! واستمر البحث من قبل السلطة الفرنسية في ذلك الوقت، فما هي إلا جولة حتى اعترف بأنه هو الذي ذبح ابن أخيه، مع أن هذا الابن كان من تلاميذنا، بل من أحسنهم، فذبحه لأجل أن يرث المال الذي عنده، وحتى لا يقاسمه النخل الذي كان بينه وبين أخيه.

    هذا حدث في الإسلام أم لا؟ والله في الإسلام، وكما تسمعون! فلا عجب أن يحدث هذا في بني إسرائيل، وكانوا في تلك الأيام يعيشون على الجهل والضعف العقلي؛ لأني -والله أعلم- بحثت كثيراً فما وجدت من أهل العلم من ذكر هذه الحادثة أين وقعت، وكونها وقعت في التيه؛ في صحراء سيناء لا يعقل، فلا مال ولا توارث. أليس طعامهم المن والسلوى، وتظللهم السحب والغمام؟!

    وهذا فيما يظهر لي وقع في مصر أيام كان بنو إسرائيل هناك، فهذه الحادثة تمت في مصر قبل خروجهم من الديار المصرية، ومن عثر على هذا من أبنائنا من أهل العلم فليبشرنا، لأني أريد أن أعرف أين وقعت هذه الأحداث؟ أما أنها وقعت في سيناء فلا! فبعد سيناء مات موسى عليه السلام، وتولى أمرهم يوشع بن نون ، ولكن القصة تمت على عهد موسى وهو بطلها.

    قال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] لم؟ لما قتل الجماعة ابن الشيخ الكبير ليرثوه أخذوه ورموه في قرية بعيدة عن قريتهم، وجاءوا يصرخون إلى موسى: ابننا قتل، أو أبونا قتل، أو عمنا، يقولون ما شاءوا، من قتل؟ وأصبحوا يطالبون بالدية من القرية التي وجد فيها الرجل مذبوحاً أو مقتولاً.

    فأوحى الله تعالى إلى موسى أن يقول لهم: اذبحوا بقرة، واضربوا الميت بجزء منها، سواء بعظمها أو بلسانها أو بأي جزء اضربوه به ينطق بإذن الله! ويقول: قتلني فلان أو فلان. ولا عجب! فعيسى عليه السلام أحيا الله على يده الموتى، وهذه من معجزات الأنبياء.

    جواب بني إسرائيل لموسى بعدما أمرهم بذبح البقرة

    لكن اسمع كيف ردوا عليه؟ هو يقول لهم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] وكلمة بقرة نكرة تتناول هذا الجنس؛ كبيرة .. صغيرة، صفراء .. سوداء، بقرة فقط. قالوا: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا [البقرة:67] أتهزأ بنا، وتسخر منا يا موسى؟!

    وهل هذه الكلمة يقولها مؤمن لرسول؟! يقولها صحابي لمحمد صلى الله عليه وسلم؟!

    نعم قال الصحابة بدون علم: راعنا يا رسول الله! وهذه الكلمة فيها معنى الرعونة، وهي بالعبرية كلمة سخرية واستهزاء، فاستغلها اليهود والمنافقون فكانوا يقولون: راعنا يا رسول الله! ويضحكون في قلوبهم، فأنزل الله تعالى قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا [البقرة:104] استبدلوا كلمة راعنا بانظرنا .. أمهلنا حتى نسمع عنك أو نفهم وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة:104]. والذي يستهزئ بالرسول كفر، والإمام مالك يرى إعدامه، وغيره من الأئمة يرون توبته ثلاثة أيام، فالإمام مالك يقول: ساب الرسول لا يستتاب، ويجب أن يعدم، وعنده شاهد قوي في العجوز التي كان لها عبد يسب النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها، فما كان منها إلا أن جاءت وقتلته، وأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم، فسره ذلك وهنأها.

    والشاهد عندنا: أن سب الرسول والاستهزاء والسخرية به كفر بواح، فانظر موقف هؤلاء اليهود: قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا [البقرة:67] أتسخر منا وتستهزئ وتقول: اذبحوا بقرة؟! كيف يحيا بالبقرة إذا ضربناه بلحمها؟!

    ولا لوم ولا عتاب، والله يقول: قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ [البقرة:67] أي: قال موسى لأولئك المستهزئين: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [البقرة:67] أتحصن بجناب الله وألوذ بحمى الله أن أصبح جاهلاً كالجاهلين.

    وهنا عدنا من حيث بدأنا، قبنو إسرائيل عاشوا شبه رقيق .. شبه عبيد، مستذلين مسخرين للفراعنة، فما درسوا، ولا تعلموا، ولا قرءوا دهراً طويلاً، فجاء موسى عليه السلام وأخوه هارون أيضاً لا يستطيعون أن يعلموا أمة موزعة هنا وهناك في القرى. فهذه مظاهر الجهل.

    وهنا نذكر قصة أبي ذر لما قال لـبلال : يا ابن السوداء! فشكاه بلال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: ( إنك امرؤ فيك جاهلية ) قلَّت أو كثرت، أي: ظلام الجهل، فما كان من أبي ذر إلا أن وضع وجهه على الأرض وقال لـبلال : والله لتطأن على عنقي!

    هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    فكل الذي نشكوه في أنفسنا، وفي غيرنا، وفي العالم مرده إلى ظلمات الجهل، والذين ما تهذبوا وما تربوا في حجور الصالحين لا يسلم حالهم أبداً، ولا تطمئن إليهم النفس. كيف يستقيمون في ألفاظهم .. كلماتهم .. حركاتهم سكناتهم .. أعمالهم؟ من هذبهم؟! فلهذا احمدوا الله على ما نحن عليه!

    قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [البقرة:67]؛ لأن الجاهل هو الذي يسخر .. هو الذي يستهزئ .. هو الذي يقول ما ليس يعلم .. هو الذي يفعل بدون إرادة وعلم

    فهذا الجاهل يتخبط.

    فموسى يقول: كيف آمركم بشيء لم يأمرني الله تعالى به؟! ولولا علمي بأنكم إن ضربتم هذا الميت بقطعة من هذه البقرة حيي، وأجابكم، وأفصح عمن قتله ما قلت لكم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088539492

    عدد مرات الحفظ

    777208988