قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: غسل الوجه
أخبرنا قتيبة حدثنا أبو عوانة عن خالد بن علقمة عن عبد خير: (أتينا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد صلى؟ فدعا بطهور، فقلنا: ما يصنع به وقد صلى، ما يريد إلا ليعلمنا، فأتي بإناء فيه ماء وطست، فأفرغ من الإناء على يديه فغسلها ثلاثاً، ثم تمضمض واستنشق ثلاثاً من الكف الذي يأخذ به الماء، ثم غسل وجهه ثلاثاً، وغسل يده اليمنى ثلاثاً، ويده الشمال ثلاثاً، ومسح برأسه مرة واحدة، ثم غسل رجله اليمنى ثلاثاً، ورجله الشمال ثلاثاً، ثم قال: من سره أن يعلم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو هذا) ].
هنا أورد النسائي رحمه الله هذه الترجمة وهي باب غسل الوجه.
وغسل الوجه هو أول فروض الوضوء التي بينها الله عز وجل بقوله:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ
[المائدة:6]، وهنا عقد هذه الترجمة لغسل الوجه، وأورد تحتها حديث علي المشتمل على صفة الوضوء كاملة، ولكنه أورد الحديث بكماله للاستدلال به على غسل الوجه؛ لأن الحديث يدل عليها وعلى غيرها.
وأورد فيه حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن عبد خير يروي فيه (أن علياً رضي الله عنه صلى ثم دعا بطهور) أي: دعا بوضوء، (قالوا: ما يصنع به وقد صلى؟) أي: قالوا ذلك في أنفسهم، أو فيما بينهم؛ يعني: إما كل واحد في نفسه قال هذا الكلام، أو أنهم فيما بينهم تكلموا؛ لما دعاء بالوضوء؟ يعني: فيما بينهم يتسارون، قالوا ذلك؛ لأن الأصل أن الوضوء قبل الصلاة، فقالوا: (ما يريد إلا ليعلمنا)، أي: أن هذا الفعل الذي قصده وأراده بعد أن فرغ من الصلاة ما فعله إلا ليعلمنا كيفية وضوء رسول الله عليه الصلاة والسلام، هكذا فهموا من عمله، وأن هذا يكون بعد الصلاة؛ لأنه لو كان قبلها فسيكون في وقته المناسب الذي لا يُستغرب، ولكن كونه يكون قد صلى، ثم يدعوا بماء ويتوضأ أمام الناس إنما يكون قصده أن يعلم الناس كيفية وضوء النبي عليه الصلاة والسلام.
وهذا يدلنا على ما كان عليه أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، ورضي الله عنهم وأرضاهم من الحرص على بيان السنن، وإيضاحها للناس، وتعليمهم إياها ولو لم يسألوا، فهذا يدل على ما كانوا عليه من الفضل، وعلى الصدق والإخلاص، وعلى قيامهم بتبليغ سنة الرسول عليه الصلاة والسلام بالقول والفعل؛ أحياناً يكون بالقول، وأحياناً يكون بالفعل، وأحياناً يكون بالقول والفعل؛ لأن هنا علياً رضي الله بين ذلك بالفعل، ثم بين ذلك بالقول بعد الفعل فقال: (من سره...) وهذا هو الذي به تبين أن الحديث مرفوع؛ لأن فعل علي هذا العمدة فيه ما أخذه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولهذا لما توضأ وهم يشاهدون ويعاينون قال رضي الله عنه: (من سره أن يعلم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو هذا).
(فأتي بإناء فيه ماء وطست، فأفرغ من الإناء على يديه فغسلها ثلاثاً).
هذا فيه أيضاً ما تقدم في الأحاديث السابقة: أنه عندما يريد الوضوء من إناء لا يغمس يده في الإناء ابتداءً، وإنما يفرغ عليها من الإناء فيغسلها خارج الإناء، وبينا -كما سبق- أن هذا مستحب إلا فيما إذا كان في القيام من النوم، فإن فيه خلاف؛ هل هو واجب أو مستحب؟ أما هنا فهو مستحب؛ كونه يغسلها خارج الإناء هو للاستحباب؛ حتى إذا وجد فيها وسخ زال خارج الإناء لا في داخله، ثم بعد ذلك يغمس يده اليمنى، ويخرج منها الماء لإكمال بقية أعضاء الوضوء.
(ثم تمضمض واستنشق ثلاثاً من الكف الذي يأخذ به الماء) أي تمضمض واستنشق ثلاثاً من الكف الذي يأخذ به الماء؛ وهي اليد اليمنى، ثم قيل: إن المقصود من ذلك: أن المضمضة والاستنشاق من كف واحدة؛ بمعنى أنه أخذ ماءً فوضع بعضه في فمه فتمضمض به، وبعضه رفعه إلى أنفه فاستنشقه، ثم استنثره، وهذا فيه الجمع بين المضمضة والاستنشاق بغرفة واحدة، وقد جاء في بعض الروايات: (أنه تمضمض ثلاثاً واستنشق ثلاثاً)، فيكون معناه: أنها تفصل المضمضة عن الاستنشاق بأن يكون لكل منهما غرفة؛ لأن الغرفة لهذا غير الغرفة لهذا، وكل هذا صحيح، والأمر فيه واسع.
(ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل يده اليمنى ثلاثاً، ويده الشمال ثلاثاً)، الغسل لليدين لكاملهما؛ يعني: بما في ذلك الكف الذي غسله خارج الإناء في البداية؛ لأن ذاك لتنظيفه عن أن يكون به وسخ، أما غسله هنا فهو غسل الواجب الذي هو فرض من فروض الوضوء، فهو يغسل اليدين كاملتين من أطراف الأصابع إلى المرفقين، والمرفقان داخلتان؛ لأن الغاية داخلة في المغيا، فالمرفقان مغسولتان مع اليدين.
(ومسح برأسه مرة واحدة)، هذا المسح جاء مبين في بعض الروايات؛ أنه يبدأ من مقدم رأسه حتى ينتهي إلى مؤخره، ثم يعود إلى المكان الذي بدأ منه، ففي الحديث قال: ( أقبل بهما وأدبر)؛ يعني: يذهب بهما إلى مؤخر الرأس ثم يأتي بهما إلى مقدم الرأس.
وقوله: (ثم غسل رجله اليمنى ثلاثاً، ورجله الشمال ثلاثاً).
علي رضي الله عنه صرح بالغسل، ويروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه غسلهما، وهذا أمير المؤمنين علي الذي تزعم الرافضة بأنهم من أتباعه ومن أحبابه، ويقولون: بأن فرض الرجلين المسح وليس الغسل، فهم في الحقيقة مخالفون لـعلي رضي الله عنه، وإنما الذين يتبعونه ويحبونه ويحبون الصحابة جميعاً هم أهل السنة والجماعة، الذين وفقهم الله عز وجل للحق والهدى والسداد، وأما الرافضة المخذولون فإنهم غلوا في علي وبعض أهل البيت، وجفوا في حق أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، ورضي الله تعالى عن الصحابة أجمعين.
ثم أيضاً من علامة هذه الأمة يوم القيامة أنهم يأتون غراً محجلين من أثر الوضوء، ومن المعلوم أن التحجيل إنما يكون بغسل أعضاء الوضوء -اليدين والرجلين- ويأتون غراً محجلين من أثر الوضوء ومن علامات الوضوء، وكل هذا يبين أن الفرض للرجلين إنما هو الغسل، وليس المسح الذي تزعمه الرافضة.
وما يذكر عن ابن جرير الطبري أنه كان يرى المسح وليس الغسل فإن هذا لم يصح عنه، وإنما الذي جاء عنه هو واحد من الرافضة اسمه: أبو جعفر محمد بن جرير، وافق ابن جرير الطبري في كنيته وفي اسمه واسم أبيه، وذاك الرافضي أبو جعفر محمد بن جرير بن رستم، وقد ذكر الذهبي، وابن حجر العسقلاني في اللسان، والميزان ترجمة الاثنين: الإمام من أهل السنة، وابن جرير الرافضي الذي هو صاحب الكلام في هذه المسألة، فالمصيبة أو البلية التي حصلت أن ظن بعضهم أن ابن جرير الطبري هو الذي يُحكى عنه المسح في الرجلين، وفي الحقيقة إنما هو ذاك الرافضي.
ومن المعلوم أن الرافضة عقيدتهم في الأصول مباينة لعقيدة أهل السنة والجماعة، وأعظم ما ابتلوا به أنهم أخذوا دينهم من الأئمة الإثني عشر، أولهم علي رضي الله عنه، وآخرهم صاحب السرداب، فعقيدتهم مأخوذة من هؤلاء، وما جاء عن الصحابة لا يعولون عليه؛ لأنهم يعولون على ما جاء عن المعصومين، وهم الأئمة الاثنا عشر، فعقائدهم وأصولهم وفروعهم مأخوذة من هذا المنهج.
إذاً: فهم مباينون لأهل السنة تمام المباينة؛ ولهذا فهم يبغضون الصحابة ويسبونهم، وفي مقدمتهم أبو بكر, وعمر, وعثمان رضي الله تعالى عن الجميع. وقد قال أبو زرعة الرازي، وهو من علماء القرن الثالث الهجري، وكلامه موجود في الكفاية للخطيب البغدادي: (إذا رأيتم من ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام, فاعلموا أنه زنديق، وذلك أن الكتاب حق، والرسول حق، وإنما بين لنا الكتاب والسنة أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة)، وكلامه في غاية الوضوح؛ لأن القدح في الناقل قدح في المنقول، والكتاب والسنة إنما عرفناهما عن طريق الصحابة، فإذا قدح القادح في الصحابة فقد قدح في الكتاب والسنة.