قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فرض الوضوء.
أخبرنا قتيبة حدثنا أبو عوانة عن قتادة عن أبي المليح عن أبيه رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول)].
يقول الإمام النسائي رحمه الله: باب فرض الوضوء، والمراد بالترجمة كما هو واضح من الحديث الذي أورده تحتها: أن الوضوء فرض لازم، وأمر متحتم، هذا هو المراد بفرض الوضوء، بل إنه شرط لصحة الصلاة، وإذا لم يوجد الشرط، لم يوجد المشروط الذي هو الصلاة، فلا بد لكل صلاة من الوضوء لها حيث وجد الماء، فإذا لم يوجد، ينتقل إلى ما ينوب عنه، وهو التيمم.
إذاً: فالوضوء شرط من شروط الصلاة التي تسبق المشروط، والتي لا بد من فعلها قبل فعل المشروط، والتي لا تصح الصلاة بدون ذلك الشرط، ولهذا ترجم بقوله: باب: فرض الوضوء، ويعني: أنه فرض لازم متعين، لا تفيد الصلاة بدون وضوء.
ثم أورد النسائي رحمه الله حديث أبي المليح عن أبيه أسامة بن عمير رضي الله تعالى عنه، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: [(لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول)]، والمقصود هو الجملة الأولى، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: [(لا يقبل الله صلاة بغير طهور)] والطهور يشمل: الطهارة بالماء، والطهارة بالتراب الذي هو الأصل، وما ينوب عنه الذي هو التيمم، ولهذا جاء التعبير بالطهور، فيكون شاملاً للوضوء، وما يقوم مقام الوضوء إذا عدم الماء وهو التيمم، فلا بد للصلاة من طهارة، ولا بد أن يسبقها وضوء، أو تيمم إن عدم الماء، أو لم يقدر على استعماله.
ونفي القبول معناه: أن الصلاة التي لا تكون بوضوء، فإن صاحبها لم يؤد ما فرض الله عليه، ولم تبرأ ذمته، ولم تقع الصلاة صحيحة، بل يتعين الوضوء ثم الصلاة، فلو أن إنساناً نسي، وصلى بغير وضوء، فإن صلاته لا تعتبر، ولا تجزئ، ولا يترتب عليها أثرها الذي هو الثواب، بل يجب عليه ويتعين عليه أن يتطهر بالوضوء، أو التيمم إذا لم يوجد الماء، أو لم يقدر على استعماله، ثم يؤدي الصلاة.
إذاً: فالنفي هنا -نفي القبول- لنفي الإجزاء، ونفي الصحة، ونفي الأثر المترتب على ذلك وهو الثواب.
فالنفي يدخل فيه نفي الصحة، ومعنى ذلك: أنه لا بد من الوضوء والصلاة، لكن في بعض المواضع يأتي نفي القبول، ولكنه لا يلزم معه الإعادة، وإنما يحصل حرمان الثواب، وعدم حصول الثواب المترتب على الصلاة، ومن ذلك: ما جاء في الحديث: (من أتى عرافاً لم تقبل له صلاة أربعين يوماً)، فمعنى (لم تقبل) أنه يحرم ثوابها، ويحرم الأجر المترتب على الصلاة، وهذا عقاب على إتيانه العراف، وذهابه للعراف، بأنه فعل فعلاً حرم ثوابه، لكنه لا يقال: إن صلاته غير مجزئة، وأن عليه أن يعيد الصلوات، لأن صلاته غير مقبولة؛ فإن نفي القبول هنا غير نفي القبول في حديث الباب؛ لأن حديث الباب يدل على عدم الإجزاء وعدم الصحة، وأما ذاك فالصلاة قد حصلت، ولا يؤمر بالإعادة، ولكنه يحرم ثوابها.
أما الذي معنا هنا في قوله: (لا يقبل الله صلاة بغير طهور) فمعنى ذلك: أنها لا تجزئ ولا تصح، ويتعين على من صلى بغير وضوء أن يتوضأ ويصلي؛ لأن صلاته التي قد حصلت بغير وضوء هي لاغية، ووجودها كعدمها؛ لأنه فُقد شرط من شروطها، الذي لا تعتبر، ولا تنفع، ولا تفيد إلا إذا وجد الشرط قبل وجود المشروط.
قوله: (لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول) الغلول: هو بمعنى الخيانة، وهو يشمل ما يدخل تحته من كل مال حرام، كل مال حرام لا ينتفع صاحبه بالتصدق به؛ لأن الصدقة المقبولة هي: الطيبة التي هي من كسب طيب، وقد جاء في حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم في صحيحه: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، ثم ذكر بعد ذلك الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام؛ فأنى يستجاب له؟!).
فالغلول يدخل فيه الخيانة، ويدخل فيه أكل المال الحرام، وما يدخل فيه دخولاً أولياً: الغلول من الغنيمة؛ لأن فيه خيانة، وكذلك كل خيانة فهي من الغلول، وكل مال حرام فهو أيضاً داخل في هذا المعنى، بمعنى: أن الصدقة منه لا تقبل، وإنما الصدقة المقبولة النافعة لصاحبها هي التي كانت من مال حلال؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.