أخبرنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني والحسين بن محمد الذارع واللفظ له قالا: حدثنا عثام بن علي قال الأعمش عن عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقد التسبيح)].
يقول النسائي رحمه الله: باب عقد التسبيح؛ أي: عقد التسبيح بالأصابع، وذلك بأن يسبح بأصابع يمينه كما قد جاء في بعض الأحاديث عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، هذا هو المقصود من هذه الترجمة، وأورد فيها حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، وهذا يدلنا على أن السنة هو أن الإنسان يسبح بالأصابع، ولا يسبح بغير ذلك من المسابح أو غيرها، وإنما التسبيح بالأصابع.
ثم إن التسبيح بالأصابع -بالإضافة إلى أنه قد جاءت به السنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام- فيه فائدة؛ وهي أن أجزاء الإنسان تشهد يوم القيامة بما حصل منها من خير وشر، فالأيدي تشهد، والأرجل تشهد، والجلود تشهد؛ لأنه يحصل الختم على الأفواه، وتشهد الأيدي، والأرجل بما كان يعمل الناس، كما جاء ذلك في كتاب الله عز وجل، فالتسبيح بالأصابع فيه شهادة الأصابع والأيدي بما حصل منها من ذلك الذكر، أو عقد التسبيح بها.
ثقة، أخرج حديثه مسلم، وأبو داود في كتاب القدر، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وما خرج له البخاري ولم يخرج له أيضاً أبو داود في السنن، وإنما خرج له في كتابه القدر، والكتب التي أُلفت في هذا الباب التي هي الكمال، وتهذيب الكمال، وتهذيب التهذيب، وتقريب التهذيب، وخلاصة التذهيب، والتذهيب، كل هذه مبنية على أن التراجم إنما هي لرجال أصحاب الكتب الستة، وليست لرجال الكتب الستة فقط، وإنما لرجال أصحابها، بمعنى: أنه يذكر رجاله في غير السنن، وإن كان أصل العمل إنما هو للكتب الستة، ولكن عندما ألفوا في تراجمها، وسعوا الأمر حتى جعلوا ذلك شاملاً لرجال أصحابها في كتبهم الأخرى، مثل أبي داود في كتاب القدر، كما هنا في محمد بن عبد الأعلى الصنعاني ، خرج له أبو داود في كتاب القدر وما خرج له في السنن، فالرمز له (ق.د)، أي: أبو داود في كتاب القدر.
أما الكتاب الذي هو خاص برجال الكتب الستة، ولا يتعلق برجال الآخرين الذين خُرج لهم في غيرها، فذلك كتاب الكاشف للذهبي، فهو الذي اقتصر على رجال الكتب الستة، ليس رجال أصحاب الكتب الستة كما في تهذيب الكمال وفروعه، وإنما هو خاص بالكتب؛ مثل كتاب القدر لـأبي داود ، فـمحمد بن عبد الأعلى الصنعاني ما يأتي ذكره في الكاشف؛ لأنه إنما اقتصر على رجال الكتب الستة، وليس مراده رجال أصحاب الكتب، وكتاب الكاشف هو الذي اشتمل على تراجم الكتب الستة الذين جاء ذكرهم في الكتب الستة، وما جاء ذكرهم في الكتب الأخرى؛ مثل الأدب المفرد في البخاري ، والقراءة خلف الإمام وغيرها، وخلق أفعال العباد وغيرها، فالرجال الذين يأتون فيها لا يأتي لهم ذكر في الكاشف، وإنما الكاشف مختصر على رجال الكتب الستة، فهذا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني.
صدوق، أخرج حديثه الترمذي، والنسائي، قال النسائي: [واللفظ له]؛ لأنه لما ذكر الشيخين عين من له اللفظ منهم، وهو أن اللفظ للأخير، فقال: [واللفظ له]، أي: لـحسين بن محمد الذارع ، وليس اللفظ لـمحمد بن عبد الأعلى الصنعاني الأول، وإنما هو للثاني، والضمير يرجع إلى أقرب مذكور، وهذه طريقة النسائي رحمه الله أنه يذكر من له اللفظ، أو ينص على من له اللفظ، يعني: غالباً، وكذلك الإمام مسلم كثيراً ما ينص على من له اللفظ؛ لأنه يذكر الحديث عن عدة مشايخ، ولكن يعين من له اللفظ منهم، أما البخاري رحمه الله فإنه لا يعين من له اللفظ، ولكنه إذا ذكر شيخين من شيوخه يروي عنهما، فإن اصطلاحه -والذي عرف بالاستقراء من صنيعه- أنه يكون للثاني منهما.
وقد قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: وقد عرف بالاستقراء من صنيع الإمام البخاري أنه إذا روى الحديث عن شيخين من مشايخه، فإن اللفظ يكون للثاني منهما، وذلك أنه يذكر حديث الأول في موضع آخر من الصحيح؛ يأتي به في باب من الأبواب ليستشهد به، أو ليستدل به، ويكون لفظه مغايراً للفظ المذكور الذي ذكر مع غيره، فاللفظ هو للثاني منهما. وقد ذكر الحافظ ابن حجر هذه الفائدة في شرح حديث جابر بن عبد الله في حديث: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر).. إلخ الحديث، فإنه عند الكلام على هذا الحديث ذكر ابن حجر هذه القاعدة للبخاري؛ وهو أنه عندما يروي عن شيخين، وهو ليس من عادته أن يبين من له اللفظ، لكن عرف بالاستقراء من صنيعه أن اللفظ للثاني منهما؛ أي: للشيخ الثاني من الشيخين المذكورين.
فإذاً: طريقة النسائي أنه غالباً يسمي، ولكنه أحياناً لا يسمي، لكن ليس مطرداً فهذه ليست له قاعدة بأنه يكون للأول أو يكون للثاني، فأحياناً يكون اللفظ الأول، وأحياناً يكون اللفظ للثاني، وإذا نص على من له اللفظ عرف الذي له اللفظ.
[حدثنا عثام بن علي].
صدوق، أخرج له النسائي، والأربعة.
[قال الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي، وهو ثقة، يدلس، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عطاء بن السائب].
هو أبو السائب ، كنيته أبو السائب وأبوه السائب، فهو ممن وافقت كنيته اسم أبيه، وهذا نوع من أنواع علوم الحديث، فمن أنواع علوم الحديث معرفة من وافقت كنيته اسم أبيه، وفائدة معرفة هذا النوع ألا يظن التصحيف فيما لو ذكر بالكنية ولم يذكر في النسب، فإن ذلك صواب وليس بتصحيف؛ لأن من لا يعرف أن كنيته أبو السائب لو جاء عطاء أبو السائب لظن أن (أبو) مصفحة عن (ابن)، لكن ليست بتصحيف، ما دام أن الكنية موافقة لاسم الأب، فسواء جاء عطاء أبو السائب أو عطاء بن السائب ، كل ذلك صواب، ولا تصحيف في ذلك.
فإذاً: فائدة معرفة هذا النوع الأمن من أن يظن التصحيف فيما لو اشتهر عند أحد بالنسب ولم يعرف الكنية، فجاء ذكره مكنى ليس منسوباً، بأن قيل: عطاء أبو السائب ، يظن أن (ابن) صحفت وتحولت إلى (أبو)، وهذا هو فائدة معرفة هذا النوع، وهو الثقفي الكوفي ، وهو صدوق اختلط كما عرفنا ذلك من قبل، والطريقة في المختلط أنه إذا عرف من حدث عنه قبل الاختلاط، فهذا تقبل روايته، ولا يضر كونه مختلطاً؛ لأنه ما دام روي عنه قبل الاختلاط، فهذا الأمر واضح، وإنما الإشكال فيما إذا عرف أنه حدث عنه بعد الاختلاط، أو جهل هل حدث قبل الاختلاط أو بعد الاختلاط، فهذا لا يعول على روايته، ولكن إذا جاء ما يعضده، ويؤيده، ويساعده، فإنه يتقوى بذلك؛ إذا جاء شيء يعضده من الأحاديث، والأعمش لم أجد في ترجمة عطاء بن السائب في تهذيب التهذيب ذكر الأعمش في روايته قبل الاختلاط أو بعده، ولا أعلم الآن حالة رواية الأعمش عن عطاء بن السائب ، هل هي قبل الاختلاط أو بعد الاختلاط، لكن بعض العلماء حسنوا حديثه وأثبتوه، ومنهم الألباني في كتابه صحيح السنن، فإنه ذكر من قبيل ما هو ثابت، وما هو مقبول، فيمكن أن يكون ذلك، إما أنه عرف بأنه روى عنه قبل الاختلاط، أو أنه لما يقويه ويساعده من الرواية الأخرى المتعلقة في عقد التسبيح بالأصابع، وعطاء بن السائب أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد، وأصحاب السنن الأربعة.
[عن أبيه].
هو السائب بن مالك الثقفي الكوفي ، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد، وأصحاب السنن الأربعة.
[عن عبد الله بن عمرو].
هو عبد الله بن عمرو بن العاص صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من أصحابه الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وهو من الصحابة الذين رووا الكثير من حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولكنه ليس من السبعة الذين اشتهروا بالكثرة وفاقوا غيرهم في كثرة الحديث، والذين سبق أن مر ذكرهم في الدروس الماضية، فــعبد الله بن عمرو كان مكثراً، ولكنه ليس من السبعة الذين عرفوا بالكثرة الكاثرة، وقد جاء عن أبي هريرة ما يدل على إكثاره من الرواية؛ أي: عبد الله بن عمرو ، وذلك أنه كان يكتب في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما يسمع أحاديث رسول الله عليه الصلاة والسلام كان يكتبها، أما أبو هريرة رضي الله عنه فكان اعتماده على حفظه، وليس كاتباً رضي الله تعالى عن الجميع.
وحديث عبد الله بن عمرو أخرجه أصحاب الكتب الستة، وقد ذكرت من اللطائف المتعلقة بــعبد الله بن عمرو مع أبيه أن عمرو بن العاص رضي الله عنه ولد له ابنه عبد الله هذا وعمره ثلاث عشرة سنة، أي: أنه احتلم مبكراً، وتزوج مبكراً، وولد له في سن مبكرة رضي الله تعالى عنه.
أورد النسائي هذه الترجمة؛ وهي: باب ترك مسح الجبهة بعد التسليم. ومقصوده أنه لا تمسح الجبهة، أو أنه يترك مسحها، أي: ما علق بها من تراب بسبب أثر السجود فإنه يترك ذلك بعد السلام، والحديث ليس بواضح الدلالة على الترجمة، لكنه واضح الدلالة من حيث أنه لا يمسح في داخل الصلاة، لأنه سلم وعلى وجهه أثر الماء والطين عليه الصلاة والسلام، فمعنى ذلك أنه لو كان يمسحه ما بقي، لكن كونه انصرف، وعلى وجهه أثر الماء والطين وهم يرونه لا يدل على تركه المسح، وأنه تركه ولم يمسحه، وإنما عندما انصرف ولقيهم بوجهه عليه الصلاة والسلام بعدما استقبلهم، وانصرف إليهم وانحرف إليهم، كان أثر الماء والطين على وجهه عليه الصلاة والسلام، فهذا لا يدل على ترك المسح، وإنما يدل على حصول ذلك في الصلاة، وأنه لم يسمح في الصلاة، ولكن بعد التسليم ما يدل على أنه لا يمسح، نعم يمكن أنه في الفترة التي كان متجهاً إلى القبلة، وهي مقدار ما يقول: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام. نعم ما مسحه، فبقي عليه، فإذا كان المقصود من ذلك هذه الفترة فهذا حاصل، أما إذا أريد به بعد ذلك، وأنه يتركه ولا يمسحه، فليس في ذلك دليل على الترك، إلا إذا كان في مدة مقيدة، مثل تلك المدة التي كان يبقى مستقبلاً القبلة، فالحديث ليس بواضح الدلالة على الترك مطلقاً، ولكنه واضح الدلالة على الترك في الجملة؛ من جهة أنه لما كان مستقبلاً القبلة ما مسح، والتفت إليهم وعلى وجهه أثر الماء والطين عليه الصلاة والسلام.
هذه هي الترجمة، وهذا هو استدلال النسائي رحمه الله على تلك الترجمة بهذا الحديث الطويل الذي جاء في آخره ذكر أثر الماء والطين على وجه رسول الله عليه الصلاة والسلام.
والحديث فيه أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يعتكف العشر الوسط الوتر من رمضان، ثم إنه صار يعتكف العشر الأواخر، وكان عليه الصلاة والسلام اعتكف العشر الوسط، ثم بعد ذلك لما كنت الليلة التي يخرج فيها؛ وهي ليلة واحد وعشرين؛ لأن العشر آخرها ليلة عشرين؛ لأن واحد وعشرين من العشر الأواخر، فلما كان في ليلة واحد وعشرين بقي ولم يخرج عليه الصلاة والسلام، وخطب الناس وقال: [إنني كنت أجاور]؛ أي: أعتكف، [وأنه بدا لي أن أعتكف في العشر الأواخر، فمن اعتكف معي فليمكث]، يعني: فليبقى على اعتكافه في العشر الأواخر، ثم كان عليه الصلاة والسلام يعتكف العشر الأواخر فقط، وكان يلتمس ليلة القدر، ثم علم بأنها في العشر الأواخر، فكان اقتصاره في الاعتكاف على العشر الأواخر، وقال عليه الصلاة والسلام: [إنني كنت أُريت هذه الليلة]، أي: ليلة القدر، والمراد بالليلة، يعني العهد؛ لأنه ما قال: ليلة القدر، ولكن هنا المراد به العهد الذهني، الليلة؛ أي: ليلة القدر؛ لأن المقصود بها شيء معهود في الأذهان؛ لأن ما تقدم لليلة القدر ذكر، فالمراد به العهد الذهني، فالألف واللام للعهد الذهني، أي: الليلة المعهودة في الأذهان وهي ليلة القدر، ويأتي العهد يكون ذكرياً فيما إذا تقدم مذكور، ثم جاءت (أل) بعدها لترجع إلى المتقدم، مثل قوله سبحانه وتعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً [المزمل:15-16]، فكلمة (الرسول) ترجع إلى رسولاً التي قبلها، فهذا يقال له: عهد ذكري، يعني: يرجع إلى مذكور في الكلام، إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً [المزمل:15-16]، الرسول، الألف واللام هذه للعهد الذكري، ترجع إلى رسولاً المتقدمة، وأما إذا لم يتقدم شيء، مثل هذا الموضع الذي معنا (هذه الليلة)، أي: ليلة القدر، لأنها شيء معهود في الأذهان، ليلة القدر كان يتحراها، أو يأمل أن يحصلها عليه الصلاة والسلام.
ثم قال: [وقد رأيت هذه الليلة، فأنسيتها]، يعني: أخبر عنها، ثم إنه أنسيها، ثم قال: [ورأيت أنني أسجد في صبيحتها في ماء وطين]، يعني: رأى في المنام عليه الصلاة والسلام أنه يسجد في صبيحتها في ماء وطين، فحصل مطر في تلك الليلة ليلة واحد وعشرين، فوكف المسجد على مصلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فابتل، وكان يسجد، وعندما يسجد عليه الصلاة والسلام يعلق الماء والطين في جبهته، فانصرف إلى الناس من مصلاه وعلى وجهه أثر الماء والطين عليه الصلاة والسلام، فكانت تلك الليلة أو تلك السنة ليلة القدر ليلة واحد وعشرين؛ لأنها مطابقة للرؤية التي رآها رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهذا يدلنا على أن ليلة القدر تتنقل، وأنها ليست ثابتة في ليلة معينة لا تتقدم ولا تتأخر، هي في العشر الأواخر، وفي الأوتار أرجى، وفي ليلة سبعة وعشرين أرجى من غيرها، لكن لا يقطع بأنها هي هذه الليلة بعينها، ثم هذا الحديث مع الأحاديث الأخرى التي تدل على أنها ترجى في كل وتر، وما جاء من أن ليلة القدر أنها أرجاها التي هي سبع وعشرين، أرجى الليالي، وأنه حصل في تلك السنة أنها في ليلة واحد وعشرين، هذا يدل على أن ليلة القدر تتنقل، ولكنها في العشر فلا تخرج عنها، لا تخرج عن العشر، ولكنها لا تكون ثابتة دائماً وأبداً على ليلة واحدة لا تتقدم عنها ولا تتأخر عنها، بل تتنقل؛ لأن هذا الحديث الذي حصل، أو هذه السنة التي وقع فيها ليلة واحد وعشرين، مع حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تحريها في العشر الأواخر، وفي أوتار العشر الأواخر، وكذلك جاء في ليلة سبع وعشرين آثار عليها بخصوصها، لا يقطع بشيء من الليالي، ولكن بعضها يكون أرجى من بعض، ولكنها كما ذكرت تتنقل لدلالة هذا الحديث الذي معنا، وهو حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الذي كان أريها، وأنه كان يسجد في صبيحتها في ماء وطين صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
هو قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني، وبغلان قرية من قرى بلخ، وبلخ هي من أكبر مدن خراسان، فبغلان التي ينتسب إليها قتيبة بن سعيد هي قرية من قرى بلخ، وهو ثقة، ثبت، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وكانت وفاته سنة مائتين وأربعين، وولادته سنة مائة وخمسين، وعمره تسعون سنة، فعمر وأدرك المتقدمين؛ لأنه ولد في السنة التي مات فيها أبو حنيفة وولد فيها الشافعي، وهي سنة مائة وخمسين، والشافعي توفي سنة مائتين وأربع، وعاش قتيبة بعد الشافعي ستاً وثلاثين سنة، فعمره تسعون سنة، ولهذا أدرك المتقدمين، وهكذا يكون التفاوت بين الطبقات؛ يعني: وأنه أحياناً يكثر الإسناد بسبب كون الإنسان تطول حياته، فيدرك ما لم يدركه غيره، ويقل الإسناد، ويقل عدد رجاله، بسبب كونه يعمر بعضهم فيدرك المتقدمين، مثلما حصل للبخاري رحمة الله عليه توفي مائتين وست وخمسين، وقد حصل في صحيحه مقدار اثنين وعشرين حديثاً كلها ثلاثيات، بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أشخاص، صحابي وتابعي وتابع تابعي، وهذا يحصل بمثل هذا؛ يعني: شخص يكون عمره طويل فيدرك المتقدمين، ثم يعمر ويدركه من بعده، فيقل رجال الإسناد، وأحياناً يطول؛ يعني: تكثر الرواة في الإسناد حتى يبلغ عند البخاري إلى ثمانية، وإلى تسعة في بعض الأحيان؛ يتضاعف ثلاث مرات من ثلاثة إلى تسعة، وهذا إما بتعاقب الرواة وتتابعهم، وقد يكونوا في طبقة واحدة ثلاثة؛ يعني: في طبقة التابعين يكون ثلاثة أشخاص، وطبقة الصحابة يكون شخصين وهكذا، فــقتيبة بن سعيد ولد سنة مائة وخمسين، وتوفي سنة مائتين وأربعين.
كلمة (هو ابن مضر)، هذه قالها من دون قتيبة بن سعيد ؛ إما النسائي أو من دون النسائي، ولا يقولها قتيبة؛ لأن قتيبة يذكر شيخه كما يريد، ولا يحتاج إلى أن يقول: (هو)، وإنما يحتاج إليها الذي دونه عندما يأتي الإسناد، ويرى فيه شخص ذكر باسمه فقط، فيريد أن يوضحه حتى لا يلتبس بغيره، فيأتي بكلمة (هو) أو بكلمة (يعني)؛ حتى يعرف أنها ليست من التلميذ، وإنما هي ممن دون التلميذ، وهذه من عناية المحدثين ودقتهم في الرواية وفي الأمانة، وأن الواحد لا يزيد على كلام غيره، بحيث إذا ذكر التلميذ شيخه بكلمة واحدة، الذي بعده إذا أراد أن يوضح يقول: (هو ابن فلان) أو (يعني: ابن فلان)، وبكر بن مضر ثقة، خرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه.
[عن ابن الهاد].
هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد ، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن إبراهيم].
هو محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، وهو ثقة، خرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وهو من أوساط التابعين، وهو الذي روى عنه البخاري أول حديث في صحيحه؛ لأن البخاري رحمه الله أول حديث في صحيحه حديث: (إنما الأعمال بالنيات)، وقد ذكر فيه ثلاثة من التابعين، واحد من كبارهم، وواحد من أوساطهم، وواحد من صغارهم؛ وهم: علقمة بن وقاص الليثي من كبار التابعين، ومحمد بن إبراهيم التيمي من أوساط التابعين، ويحيى بن سعيد الأنصاري من صغار التابعين، ثلاثة من طبقة واحدة وهي طبقة التابعين، واحد من كبارهم، وواحد من أوساطهم، وواحد من صغارهم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سلمة بن عبد الرحمن].
هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، وهو مشهور بكنيته، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، وهو محدث، فقيه، وقد ذكر بعض أهل العلم أنه سابع الفقهاء السبعة، والفقهاء السبعة في عصر التابعين ستة منهم متفق على عدهم في الفقهاء السبعة، والسابع فيه ثلاثة أقوال، فالمتفق على عدهم في الفقهاء السبعة: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وسعيد بن المسيب، وخارجة بن زيد بن ثابت، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وسليمان بن يسار، وعروة بن الزبير بن العوام، هؤلاء الستة متفق على عدهم في الفقهاء السبعة، أما السابع فقيل فيه: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، وقيل: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وقيل: سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، ثلاثة أقوال في السابع، وستة لا خلاف في عدهم في الفقهاء السبعة، فإذا جاء في بعض المسائل: وهذه المسألة قال بها الأئمة الأربعة، والفقهاء السبعة، فهؤلاء هم الفقهاء السبعة.
وابن القيم رحمه الله في كتابه إعلام الموقعين ذكر في أوله الذين عرفوا بالفتوى في مختلف الأقطار؛ في مكة، والمدينة، والبصرة، والكوفة، ومصر، والشام، ذكر الذين اشتهروا بالفتوى في زمن الصحابة وزمن التابعين، وذكر جملة، ولما جاء عند المدينة وذكر جملة من فقهائها، ذكر الفقهاء السبعة، وذكر بيتين من الشعر يشتمل الثاني منهما على هؤلاء السبعة، والسابع منهم: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام على أحد الأقوال، وهو قول الشاعر:
إذا قيل من في العلم سبعة أبحر روايتهم ليست عن العلم خارجة
فقل: هم عبيد الله عروة قاسم سعيد أبو بكر سليمان خارجة
هؤلاء السبعة في البيت الثاني هم الفقهاء السبعة، والسابع: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام.
[عن أبي سعيد الخدري].
هو أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، وهو مشهور بكنيته ونسبته، وهو سعد بن مالك بن سنان أبو سعيد الخدري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام من أصحابه الكرام، والذين قال فيهم السيوطي في الألفية:
والمكثرون في رواية الأثر أبو هريرة يليه ابن عمر
وأنس والبحر كالخدري وجابر وزوجة النبي
أخبرنا قتيبة بن سعيد حدثنا أبو الأحوص عن سماك عن جابر بن سمرة قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر قعد في مصلاه حتى تطلع الشمس)].
أورد النسائي قعود الإمام في مصلاه بعد التسليم، وأورد فيه حديث جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه، [أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا صلى الغداة أو صلى الصبح قعد في مصلاه حتى تطلع الشمس].
فالرسول عليه الصلاة والسلام كان إذا سلم من صلاته بقي مستقبلاً القبلة مقدار ما يستغفر ثلاثاً، ويقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، ثم ينصرف إلى أصحابه، فإذاً: يكون المقصود من ذلك أنه ليس على الهيئة التي هو عليها وهو في الصلاة، يعني: ليس الهيئة أنه مستقبل القبلة؛ لأنه لا يقعد إلا مقدار ما يقول كذا وكذا، يعني: لا يقعد مستقبل القبلة، ثم يتجه إلى المأمومين ويستقبلهم ويستدبر القبلة؛ يستقبل المأمومين ويستدبر القبلة، فإذاً: ما جاء في الحديث من ذكر أنه لا يقعد في مصلاه إلا مقدار كذا، يعني: معناه أنه متجه إلى جهة القبلة، وهذا الحديث الذي معنا معناه أنه يكون في مصلاه، وإن كان ليس على الهيئة التي كان عليها وهو في الصلاة.
قد مر ذكره في الإسناد الذي قبل هذا.
[حدثنا أبي الأحوص].
هو سلام بن سليم الكوفي ، وهو ثقة، متقن، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وهو مشهور بكنيته، ومعرفة المشهورين بالكنى مع معرفة أسمائهم وأنسابهم هذه مهمة؛ لأن فائدتها ألا يظن الشخص الواحد شخصين فيما إذا ذكر باسمه مرة، وذكر بكنيته أخرى، فقد يظن هذا غير هذا، ولكن إذا عرف أن هذه الكنية لفلان فسواء جاء باسمه أو جاء بكنيته لا يلتبس على من له علم ومعرفة بهذا الأمر، توفي سنة مائة وتسع وسبعين، وهي السنة التي مات فيها الإمام مالك، وقتيبة بن سعيد ولد سنة مائة وخمسين كما عرفنا، فمعناه أنه أدرك تسعاً وعشرين من حياة أبي الأحوص ، إذ أن قتيبة عمر فأدرك المتقدمين؛ يعني: أدرك الإمام مالك ، وأدرك من قبل الإمام مالك.
[عن سماك].
هو سماك بن حرب ، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً، ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة.
[عن جابر بن سمرة].
هو جابر بن سمرة بن جنادة ، وهو صحابي ابن صحابي، رضي الله تعالى عنه، وعن أبيه، وعن الصحابة أجمعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
هنا أورد النسائي حديث جابر بن سمرة من طريق أخرى، وهو أطول من الطريق الأولى، وذلك أن جابر بن سمرة رضي الله عنه قيل له: [أنت تجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم، وكان عليه الصلاة والسلام إذا صلى الصبح جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس، ويتحدث أصحابه وينشدون الشعر ويضحكون، ويتبسم رسول الله عليه الصلاة والسلام]، يعني: مما يحصل منهم.
وهذا يدلنا على ما ترجم له النسائي من حيث الجلوس في المصلى حتى طلوع الشمس، ويدل أيضاً على أن التحدث في المسجد في الأمور الماضية التي فيها عبر وعظات، وتحدث الصحابة فيما كان في أمور الجاهلية، وما كانوا عليه من التفرق، وما كانوا عليه من الضلال، ثم بعث الله فيهم رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، فيتذكرون ما هم فيه من الضلال، وما هم فيه من الانحراف، ثم ما من الله تعالى به عليهم من بعث الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم؛ ليخرجهم به من الظلمات إلى النور بإذنه سبحانه وتعالى، فيتذكرون نعم الله عز وجل وفضله عليهم، وتلك النعمة العظمى التي هي أعظم النعم وهي نعمة الإسلام، وأن الله تعالى أنقذهم مما كانوا فيه من أمور الجاهلية، وهداهم الله عز وجل إلى الصراط المستقيم، الذي بعث الله به رسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك ينشدون الشعر، والذي فيه النصائح، وفيه العبر والعظات، وفيه الفوائد، وليس فيه أمور لا تصلح ولا تنبغي، فهذا يدلنا على جواز مثل ذلك، وعلى جواز إنشاد الشعر في المسجد، ولكنه الشعر الذي يكون فيه خير، وفيه نصح، وتوجيه وإرشاد، وفيه عبر وعظات، وفيه إرشاد إلى الخير، وفيه حكم، وأمور ترغب، ومن المعلوم أن الاشتغال في المسجد بقراءة القرآن أفضل وأحسن، ولكن مثل ذلك هذا الحديث يدل على جوازه، وأنه لا بأس به، ولكن كما هو معلوم غيره أولى منه، يعني قراءة القرآن أولى من الاشتغال بالشعر، ومن إنشاد الشعر، ولكن الحديث يدل على جواز ذلك، والشعر إذا شغل عن غيره فهو مذموم، ولو كان شيئاً محموداَ وشيئاً حسناً، ولهذا جاء في الحديث الذي في صحيح مسلم وغيره: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه خير من أن يمتلئ شعراً)، لا شك أنه ليس المقصود بالشعر هنا الشعر المذموم، أو الشعر القبيح؛ لأن الشعر القبيح لو كان بيتاً واحداً فهو قبيح ومذموم، ما هو يمتلئ جوفه، ويكون كثيراً عنده شعر كثير من هذا القبيل، البيت الواحد نفسه هو سيئ إذا كان عند الإنسان، وإذا كان يعتني به الإنسان، ويتحدث به الإنسان، ويعجب الإنسان إذا كان قبيحاً، بيت واحد من الشعر هو سيء مذموم، لكن المقصود من ذلك الذي هو غير مذموم، إذا أدى إلى الشغل عما هو خير، أو الاشتغال عما هو خير، لكن إذا حصل في بعض الأحيان لا بأس بذلك، وحسان رضي الله عنه كان ينشد الشعر في مسجد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو الشعر الذي كان يدافع فيه عن النبي عليه الصلاة والسلام، والذي كان فيه يهجو المشركين الذين كانوا يهجون رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
ثم هذا الفعل الذي فعلوه وسكوت النبي عليه الصلاة والسلام عليه دل على جوازه، وهذا من قبيل الإقرار؛ لأن السنة قول، وفعل، وتقرير؛ قول رسول الله عليه الصلاة والسلام وفعله، وتقريره، وهذا مثال للتقرير؛ لأنهم كانوا يتحدثون وينشدون والرسول صلى الله عليه وسلم يراهم ويتبسم، ولم ينكر عليهم، وهو عليه الصلاة والسلام لا يسكت على باطل، ولا يقر على باطل، فهو لما أقرهم علم أنه جائز، وأنه سائغ، وأنه لا بأس به.
هو أحمد بن سليمان الرهاوي ، وهو ثقة، حافظ، أخرج حديثه النسائي وحده.
[حدثنا يحيى بن آدم].
هو يحيى بن آدم الكوفي وهو ثقة، فاضل، مصنف، من كتبه كتاب الخراج، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا زهير].
هو زهير بن معاوية الكوفي وهو ثقة، خرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر