شروط جواز استعمال الإناء المضبب بفضة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.
وصلنا إلى قول المؤلف: [ إلا ضبة يسيرة من فضة لحاجة ] وقلنا: إن المؤلف استثنى أربعة شروط:
الشرط الأول: أن تكون من فضة، ولو كانت من ذهب لما جاز.
الشرط الثاني: أن تكون يسيرة، فلو كانت كبيرة لما جاز؛ لأن الجواز هنا إنما كان للحاجة، والقاعدة أن الحاجة تقدر بقدرها، وإذا كان الأمر كذلك فيمكن أن تزول الحاجة باليسيرة.
الشرط الثالث: أن تكون لحاجة، ومعنى الحاجة هو أن تدعو الحاجة إلى استعمال التشعيب، أو الربط، أو إزالة هذه الفتحة، واستعمال مثل هذه الضبة أياً كانت، وليس المراد أن تدعو الحاجة إلى استعمال الفضة نفسها، واضح الفرق؟ لأنه لو كانت الحاجة تدعو إلى استعمال الفضة نفسها لكان ضرورة، ولكن الفرق هنا أن تدعو الحاجة إلى التشعيب، مثلاً عندك كأس فيه ثلم أو فتحة، إذاً: دعت الحاجة إلى إزالة هذه الفتحة، أليس كذلك؟ لكن هذه الفتحة يمكن أن تزول بالفضة، ويمكن أن تزول بالصفر والنحاس، فنقول: لا يلزم أن تدعو الحاجة إلى استعمال الفضة، ولكن يلزم أن تدعو الحاجة إلى إزالة هذا التشعيب وإزالة هذا الثلم والكسر؛ لأن بعضهم يظن أن تدعو الحاجة إلى استعمال الفضة وليس هو المراد؛ لأنه لو دعت الحاجة إلى استعمال الفضة نفسها لكان ضرورة، وهذا يجوز حتى في الذهب، فلو دعت الضرورة إلى استعمال الذهب في ربط الأسنان لقلنا: جائز، مع أننا حرمنا استعمال الذهب ولو في اليسير.
وقولهم الحاجة هنا، لا بد أن يتعلق بها غرض غير الزينة، فلو استخدمت الفضة لأجل الزينة لما جاز، مثل ما ذكرنا في المنقوش، والمطعم، والمكفت، ونحو ذلك، فإنما جعل ذلك للزينة، فإذا كان للزينة فلا يجوز، واستثناء الحنابلة هنا لما روى البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: ( إن قدح النبي صلى الله عليه وسلم انكسر، فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة )، وظاهر هذا اللفظ: (فاتخذ مكان الشعب) من هو؟ النبي صلى الله عليه وسلم، والصحيح أن الذي فعل ذلك هو أنس بن مالك ، والذي قال هذا اللفظ هو محمد بن سيرين كذا بين البخاري في بعض طرق حديثه لهذا الباب، قال محمد بن سيرين: فاتخذ أنس مكان الشعب سلسلة من فضة، ولا يلزم أن يكون ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أو بعد وفاته، فلو كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ورآه فيكون هذا من الإقرار بالفعل، فيكون من ضمن السنة، ويحتمل أن أنساً صنع ذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون هذا من قول صحابي، ولعل الثاني أقرب.
الدليل على تحريم استعمال الإناء المضبب بذهب أو بفضة لغير حاجة أو كانت كبيرة
كراهة مباشرة ضبة الفضة المباحة لغير حاجة
قال المؤلف رحمه الله: [ وتكره مباشرتها -أي: الضبة المباحة- لغير حاجة؛ لأن فيها استعمالاً للفضة ].
إذا جوزنا الضبة اليسيرة من الفضة للحاجة، فيكره للإنسان أن يشرب منها، أو أن يضع فمه على الضبة من الفضة؛ لأن فيها استعمالاً للفضة، ولا تدعو الحاجة إلى ذلك، فإن دعت الحاجة لذلك فلا حرج، مثل تدفق الماء، مثلاً عندك كأس وفيه تشعيب، فجعلت مكان التشعيب فضة، وإذا وضعت فيه الماء بدأ يتدفق الماء على هذه الفتحات، فيقول المؤلف: إذا بدأ يتدفق الماء فلا حرج أن تضع فمك على هذه الفضة؛ لأن القاعدة أن ما كره فعله لغير حاجة جاز للحاجة مثل تدفق الماء، فلا بأس أن يباشر بفمه هذه الضبة للحاجة وهذا هو القول الأول.
القول الثاني: أنه لا يكره ولو لغير حاجة؛ لأننا إذا جوزنا الضبة اليسيرة، فإنها صارت بمنزلة الكأس نفسه، إلا إذا كان يتقصد هذا الفعل، فنقول: النهي أو الكراهة هنا ليس لفعله، ولكن لما وقع في قلبه من محبة هذا الأمر، أما الأصل فهو الجواز.
قال المؤلف رحمه الله: [ فإن احتاج إلى مباشرتها كتدفق الماءِ ونحو ذلك لم يكره، وتباح آنية الكفار إن لم تعلم نجاستها، ولو لم تحل ذبائحهم ].
حكم استعمال آنية الكفار
الفرق بين حكم آنية الكفار وذبائحهم
قال المؤلف رحمه الله: (ولو لم تحل ذبائحهم).
يعني: الأصل في الأواني الإباحة والحل، والأصل في الذبائح الحرمة؛ لأنه لا بد أن يذكر فيها اسم الله:
أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ
[الأنعام:119] فالأصل في اللحم الحرمة، إذا ثبت هذا، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل أواني الكفار، فكيف الجمع بين هذا وبين حديث أبي ثعلبة الخشني أنهم قالوا: (يا رسول الله! إنا نفتح بلاداً ونجد أوانيهم، فهل نستعملها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها)، فالجمع بين هذا قالوا: إنه محمول على الكراهة والتنزيه، وهذا بلا شك محل نظر؛ لأن غالب فعل النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يتوقى.
والقاعدة: أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا نهى عن شيء ثم فعله، فإن فعله إنما كان للحاجة، هذه القاعدة الأصولية، فإذا كان كل فعل النبي صلى الله عليه وسلم على عدم التوقي دل على أن فعله ليس لأجل الحاجة، بل هو الأصل؛ ولهذا الجمع الثاني وهو أولى، أن النبي صلى الله عليه وسلم علم من حال هؤلاء القوم عدم توقيهم للنجاسة، أو كثرة شربهم للخمور، وأنهم يكثرون من ملابسة النجاسات، ولعل هذا الأمر أقرب، بدليل أنه أمر بغسلها، مع العلم أنها لو كانت نظيفة، فلا معنى من الغسل، فهذا يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم علم من حال هؤلاء القوم عدم توقيهم للنجاسات.
حكم استعمال ثياب الكفار
قال المؤلف رحمه الله: [ (
لأنه صلى الله عليه وسلم توضأ، من مزادة مشركة ) متفق عليه، وتباح ثيابهم -أي: ثياب الكفار- ولو وليت عوراتهم كالسراويل إن جهل حالها ولم تعلم نجاستها ].
يعني: إن ثياب الكفار، ولو وليت هذه الثياب عوراتهم، يعني: مثل السراويل والتبان، وهي السراويل القصيرة التي يسميها العامة (الشورت)، فالأصل فيها الطهارة؛ لأن عرق الكافر طاهر قد يقول لك قائل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( إن المؤمن لا ينجس )، فدل ذلك على أن الكافر ينجس، ولكن الدليل على طهارة عرق الكافر أن الرسول صلى الله عليه وسلم جوز نكاح الكتابية، والغالب أن الزوج لا يتوقى من عرق زوجته، هذا هو الدليل.
وقول المؤلف: (إن جهل حالها) لأن الأصل الطهارة، فلا تزول بالشك، والجهل بواقع الحال شك وليس يقيناً.
قال المؤلف رحمه الله: [ لأَن الأصل الطهارة، فلا تزول بالشك، وكذا ما صبغوه أَو نسجوه، وآنية من لابس النجاسة ].
فالحكم في المنسوج وهو الذي يصنعونه، أو المصبوغ الذي صبغوه، وكان الصبغ أولاً يتم بوضع لون في قدح، ثم يوضع هذا الثوب في هذا القدح، حتى يأخذ هذا اللون المراد إشباع الثوب به أو منه، والآن أصبح النسج والصبغ بمواد كيميائية، وربما لا تمسه الأيدي.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.