إسلام ويب

قراءة موضوعية في كتاب الاعتصام [5]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • مما ينضبط به منهج طالب العلم أصلان عزيزان: الأول: الحذر من القول على الله بغير علم، والثاني: الحذر من الكتمان، فالعالم يبين الحق ويرد الباطل، ومن الباطل البدع، وهي على درجات ومستويات متفاوتة، ويكون الرد على البدع بالإرشاد والتعليم، أو الهجران لأهلها، أو غيرها من الأساليب.

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين. أما بعد:

    فسبقت الإشارة في المجلس الماضي إلى جملة من القواعد الشرعية في هذا الباب، وقبل أن ننتقل إلى الفصل الذي بعده أحب أن أذكر أن في كلام الله سبحانه وتعالى وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم ذكراً لأصلين من أصول العلم، وهما من أخص القواعد التي تضبط العلم عند طالب العلم، فهذان الأصلان بهما ينضبط المنهج عند طالب العلم:

    عدم القول على الله بغير علم

    الأصل الأول: أن الله سبحانه وتعالى حرم القول بلا علم عموماً، وحرم القول بلا علم في شرعه خصوصاً، فإن القول بغير علم مما نهت عنه الشريعة حتى في أمور الصناعة وأمور بني آدم، فإنه ينهى أن يتكلم الإنسان في أمر حتى ولو كانت من الأمور التي تتعلق بحياة الإنسان كأمور الصنائع ونحو ذلك؛ لما يقع بذلك من فساد العلم وفساد التطبيقات وما إلى ذلك، وعظم الله جل وعلا في كتابه تعظيماً شديداً القول عليه بغير علم، ومعلوم أن من المقاصد في القول على الله بغير علم القول في شرعه، فهذا باب معظم في كتاب الله سبحانه وتعالى، وهذا المعنى مما يسلم به عند المسلمين في الجملة كأصل، ولكن الفقه في هذا الأصل والعناية بتطبيقه يقع فيه نقص كثير، وهذا الذي جعل كثيراً من كبار الأئمة يتوقفون في بعض المسائل، ويتجافون عن بعض المسائل، ويتباعدون عن أوجه من مادة الإفتاء وما إلى ذلك من الأمور المعلومة؛ لأنهم فقهاء في هذه القواعد الشرعية؛ ولهذا فإن من أعظم ما حرمه الله في كتابه، ويعد هذا من أصول المحرمات وأشد المحرمات هو القول عليه بغير علم، وإن كان الله جل ذكره قال: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36] فهذا تحريم عام، ولكن القول عليه بغير علم هو من أشد المنكر وأشد الإثم، ويقع في أوجه من مادة الفسق، وربما وقع في أوجه من مادة الكفر.

    فإذاً: ينبغي لطالب العلم أن يكون فقيهاً في هذا الأصل، معظماً له ورعاً في شأنه.

    عدم كتمان العلم

    وهذا الأصل يقع معه أصل آخر هو متمم له وليس منافياً له، وهو: أن الله جل وعلا عظم في كتابه تعظيم نهي -أي: من باب النهي والتحذير- الكتمان للعلم، وجعل كتمان العلم وكتمان الحق وكتمان الشهادة بالحق من شأن أئمة الضلال، وكلام الله سبحانه وتعالى فيه ذم شديد لمن كتم البينات والعلم؛ ولهذا فإن هذا الأصل والأصل الذي قبله هما أصلان على معنى واحد، ولا يقال: إن هذا الظاهر يقابل هذا أو يعارض هذا، كلا؛ لأن الذي حرمه الله سبحانه وتعالى هو القول عليه بغير علم، والذي حرمه في الأصل الثاني هو كتمان البينات، ولا شك أن من تكلم بالبينات تكلم بعلم إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ [البقرة:159] وحتى في قيام الحجة قال الله تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى [النساء:115].

    فإذاً: من تكلم بالبين من العلم فهذا لا يوصف بأنه قال على الله بغير علم حتى لو أخطأ في فهمه لهذا البين؛ لأن هذا إذا أخطأ فيكون خطؤه مغفوراً، واجتهاده مأجوراً فيه، كما قال عليه الصلاة والسلام: ( وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر ) ، ولكن من لم يتكلم بالبين من العلم، وإنما تكلم بالخرص وغلبت عليه مادة الظن، فهذا هو المذموم؛ ولهذا قال الله تعالى في صفة المخالفين لرسله: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [الأنعام:116] والإنسان في أمور الفروع وكثير من التفصيلات يحتاج إلى الأحكام التي ليست قطعية وإنما هي أحكام ظنية، لكن إذا كانت مادة الظن تغلب على حكم الإنسان، وينزل الظن منزلة القطع، وهذا إشكال آخر، أي: إذا غلبت مادة الظن فهذا وجه من السقط، والوجه الآخر من السقط ألا تغلب عليه مادة الظن، ولكنه ينزل الظني منزلة القطعي في كلامه أو أحكامه أو درجة الإلزام أو ما إلى ذلك؛ ولهذا فإن أهل العلم وأئمة الصحابة رضي الله عنهم والقرون الفاضلة كانوا يعظمون هذا وهذا، فكانوا بصيرين بالحق صريحين به؛ لأن الله يقول: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ [الحجر:94]، ولكن كانوا أيضاً ورعين في درجة العلم التي يقولونها، وإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام قال كما ثبت في صحيح البخاري من حديث خولة بنت حكيم : ( إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق لهم النار يوم القيامة )، فإذا كان هذا فيمن يتخوض في المال، فكيف بمن يتخوض في الدين؛ لأن التخوض في الدين أشد من التخوض في المال، فإذاً لا بد لطالب العلم أن يكون جامعاً لفقه هذين الأصلين اللذين بينهما اتفاق، وأن يعظم القول على الله فلا يقول على الله -أي: في دين الله- إلا بعلم، خاصة في التفاصيل كما أسلفنا، في الحكم على الناس بأن هذا مسلم، وهذا خرج ببدعته، وهذا صار فاسقاً، وهذا صار كذا، وهذا صار كذا؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ينبه في مقامات من هديه وسيرته أصحابه على كثير من هذه المسائل لما جيء بـ عبد الله الذي كان يدعى حماراً أو يلقب بذلك، وقد شرب الخمر كما في الصحيح من حديث أبي هريرة ، (فقال رجل: ما أكثر ما يؤتى به في شرب الخمر لعنه الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله)، وكما في حديث عتبان : ( لما دخل النبي عليه الصلاة والسلام وصلى في دار رجل من الأنصار أصابه في بصره ما أصابه، وتكلم من تكلم من الصحابة في مالك بن الدخشم ، والنبي صلى الله عليه وسلم في صلاته، ورماه بالنفاق )، قال في الرواية: ( ودوا لو دعا عليه بشيء فهلك، وودوا أنه أصابه شر، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته قال: أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله. فقال رجل: يا رسول الله! إنه يقول ذلك وليس في قلبه، قال: لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فيدخل النار ) أو كما قال، وليس مقصوده عليه الصلاة والسلام أن يبرئ المنافقين، فإن المنافقين كما قال الله عنهم: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145]، ولكن الافتئات على أحكام الدين المتعلقة بالأعيان بنوع من الظلم هذا أمر ما جرت به الشريعة، وإنما يقف الإنسان بما تحقق عنده من العلم في هذا الباب.

    فإذاً هذا ما يمكن أن يقال في الفصل الذي تقدم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088556850

    عدد مرات الحفظ

    777306319