إسلام ويب

قراءة موضوعية في كتاب الاعتصام [6]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لا بد لكل قول من دليل وحجة، والدليل عند أهل السنة الكتاب والسنة والإجماع والقياس.. إلخ. ووقوع أهل البدع في المخالفات عند الاستدلال يكون لسببين: الجهل بلسان العرب، والجهل بقواعد ومقاصد الشريعة، فالمستدل إما عالم راسخ، وإما جاهل زائغ متبع للمتشابهات، وقد ذم الله عز وجل الزائغين في سورة آل عمران ووصفهم بعدم الرسوخ. والسبب الرئيسي في رد المبتدع للمحكمات والأحاديث الصحيحات هو عدم موافقتها لهواه. وإن مما يعرف به الزائغ أيضاً ترك المقيد والخاص والأخذ بالعام والمطلق، وتحريف الأدلة، وتقديم المحتمل على البين الواضح.

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

    فقد انتهينا إلى الباب الرابع من الأبواب العشرة التي ذكرها الشاطبي في كتابه، وسبق معنا التعليق على الأبواب الأولى من كتابه، وهذا الباب الرابع تضمن جملة من المسائل:

    المسألة الأولى: تكلم فيها الشاطبي عن منهج الاستدلال، وكأن هذا الباب بعامة مسائله هو كلام عن منهج الاستدلال وتطبيقاته عند المخالفين للسنة، فالأقوال والأحكام هي نتائج لمقدمات سابقة، والمقدمات هي ما نقصده بالأدلة وبطريقة الاستدلال ونحو ذلك، فإذا تحصل قول عند أهل السنة والجماعة فلا بد أن هذا القول إنما جاء عن استدلال، وإذا تحصل قول عند أي طائفة من طوائف المسلمين أو عند أي معين من الناس فلا بد أن هذا القول جاء عن وجه من الاستدلال، أو تقليد لمن استدل، فالأقوال من حيث هي لا بد لها من استدلال سابق.

    وفرق بين الدليل من حيث هو وبين الاستدلال وهي الطريقة والسلوك الذي يستعمله المعين، قد يكون الدليل من حيث هو مما يصح اعتباره، ولكن الاستدلال لا يكون معتبراً، وقد لا يكون الدليل من حيث هو معتبراً، بل يكون الدليل مخترعاً محدثاً لا يصح أن يكون دليلاً في هذا الباب، وربما صح أن يكون دليلاً في مسائل دون مسائل وهلم جرا.

    الأصل المعتمد عند أهل السنة في الاستدلال

    والأصل الذي بنى عليه أهل السنة والجماعة ما يتعلق بمسائل أصول الدين وأصول السنن هو أنهم يبنون قولهم على الكتاب والسنة والإجماع، فهذه الأصول الثلاثة هي الأصول المحكمة في الاستدلال؛ ولهذا إذا تكلموا في الأصول من العلم فإنهم يعتبرونه بالكتاب والسنة والإجماع، وأما إذا تكلموا عما يتعلق بفروع الشريعة فإنهم يأخذون بهذه الأصول الثلاثة، ولكنهم يوسعون في مدلولها إلى درجة أوسع، ويستدلون بطريقة الإلحاق التي تسمى "القياس"، والقياس حقيقته إذا صح استدلال إما بالكتاب وإما بالسنة، فهو جاء من طرد الدليل، وليس معنى أنهم يوجدون دليلاً مستقلاً عن الكتاب والسنة، فإن الذي درج عليه أئمة المسلمين من الفقهاء والمحدثين أن الاستدلال في الشريعة مقصور على الكتاب والسنة، هذه كلمة ممكنة، وهو أن الاستدلال في سائر مسائل الدين هو بالكتاب والسنة، فإن قال قائل: فالإجماع؟ قيل: الإجماع دليل ولكنه يكون مأخوذاً من دليل الكتاب والسنة، بمعنى لا يتصور في العلم أن يوجد الإجماع إلا وعليه دليل، وكذلك إذا تكلمت عما دونه مما سمي بالأدلة المختلف فيها في مسائل الفروع كالقياس ونحوه، فإن هذه عند من يستعملها تكون من تحقيق وطرد دلالة الكتاب أو السنة، وأن القياس هو الإلحاق، وكما يقولون في قياس التمثيل: إنه إلحاق الفرع بالأصل لعلة جامعة بينهما، ثم علم أن الشريعة لا تفرق بين المتماثلات، فإن المسكوت عنه يلحق فقهه بالمنطوق فيه، وهلم جرا.

    أهمية معرفة منهج الاستدلال

    إذاً: البحث في منهج الاستدلال من أهم موارد العلم، وقبل أن ندخل في كلام الشاطبي رحمه الله أنبه إلى أن هذا باب شريف الفقه، دقيق المسالك؛ لأنك إذا اعتبرت الأمور من جهة أخرى وجدت أن جميع الطوائف في الجملة -أعني: الطوائف التي تدين بدين الإسلام- تعتمد على الكتاب والسنة كأصل عام، وإن كانوا يقيدون بعد ذلك، فدلالة الكتاب عندهم لها منهج، وربما لا يقبلون من السنة إلا نوعاً من الأحاديث دون نوع، إلى آخره، لكن أقصد أنه لا توجد طائفة كذّبت القرآن؛ لأن من كذّب القرآن لا يعد من أهل القبلة، ولا توجد طائفة كذبت السنة أجمع، فإن من كذب السنة أجمع لا يعد من المسلمين.

    أقسام الخارجين عن السنة

    فإذاً: الإشكال هو في منهج الاستدلال، وكيف يقال: إن هذا من دلالة الكتاب والسنة أو ليس منها؟ فهذا الباب يقول الشاطبي رحمه الله في مقدمه: [كل خارج عن السنة ممن يدعي الدخول فيها والكون من أهلها لا بد له من تكلف في الاستدلال بأدلتها على خصومات مسائلهم].

    قوله: (كل خارج عن السنة ممن يدعي الدخول فيها والكون من أهلها) هل الشاطبي أراد بذلك الكلام عن قوم من أهل البدع الذين ينتسبون إلى السنة ولكنهم مخالفون لها؟ فهناك تنبيه علمي وهو أن الذين خرجوا عن أصول أهل السنة والجماعة التي كان عليها الصحابة وأئمة السلف، هم في الجملة على قسمين: منهم من لا ينتحل السنة والجماعة، أي: لا ينتسب إلى السنة والجماعة، وهؤلاء كما يسميهم الإمام ابن تيمية رحمه الله بأنهم أهل البدع المغلظة، الذين شطوا واشتدوا في المخالفة لمنهج الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فهؤلاء لا ينتسبون أصلاً للسنة والجماعة، وإنما ينتسبون لطائفة مختصة بأصول معروفة أو باسم معروف، والقسم الثاني وهم القوم الذين ينتسبون للسنة والجماعة، ولكنهم مخالفون لأصول من أصول الأئمة التي مضى فيها الإجماع عند الصحابة والقرون الفاضلة التي فضلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي رواه عمران بن الحصين ، وهو حديث مخرج في الصحيحين.

    إذاً: أهل البدع ينقسمون في الجملة إلى قسمين: منهم من لا ينتسب للسنة والجماعة، ومنهم من ينتسب للسنة والجماعة ويذم البدع المغلظة وأهلها، ولكنه يقع في جملة من هذه المخالفات أو ما هو من الأصول أيضاً، ولا شك أن الدرجة الثانية أكثر قرباً إلى السنة والجماعة من الدرجة الأولى؛ ولهذا ليس كل ما قيل في الدرجة الأولى وأصحابها يصح أن يقال في الدرجة الثانية، بل حتى الدرجة الأولى أهلها على مراتب، وكذلك الدرجة الثانية أصحابها على مراتب، وإن كان طالب العلم ليس مكلفاً - خاصة في ابتداء نظره - أن يتتبع هذه المسالك بالتفصيل، وإنما المقصود أن يعرف أصول الأحكام الشرعية في هذا الباب القائمة على العلم والعدل واتباع المنهج الوسط الذي لا إفراط فيه ولا تفريط.

    لكن ما مقصود الشاطبي رحمه الله بقوله: [ كل خارج عن السنة ممن يدعي الدخول فيها والكون من أهلها ] هل أراد رحمه الله أن يتكلم عن الدرجة الثانية أم أنه أراد أن يتكلم عن الدرجتين معاً؟ هو في معرض كلامه هنا تكلم عن الدرجتين كحقيقة علمية، فما معنى قوله: (من يدعي ذلك)؟ أحياناً الناظر أو الباحث يستصحب في ذهنه جملاً من الأحوال، فربما جاءت حروفه على هذا الاستصحاب، فإذا دخل في التقرير العلمي تجرد به التقرير العلمي إلى درجة من ذكر الحقائق العلمية المجردة، دون الالتزام بما أشارت إليه الحروف الأولى، وهكذا ما يظهر من كلام الشاطبي ؛ لأنه بعد ذلك سيذكر تأويلات باطنية، مع أن الباطنية -كما تعرفون- ليسوا من الدرجة الثانية، فهذا مما ينبه إليه؛ لأن الشاطبي ما استحكم في الإيرادات هنا على المصطلحات المعروفة، إنما قدم هذه المقدمة باعتبار استصحاب حال في ذهنه، وهذا أمر يعرض في تفكير الإنسان -وهو شيء طبيعي- أنه يستصحب أحوالاً ثم تجره الحروف إلى هذا الاستصحاب، فإذا دخل في التقارير العلمية تجرد به التقرير العلمي على الحرف الأول.

    وعلى كل حال نقول: وهؤلاء المستدلين لم يبلغوا مبلغ الناظرين فيها بإطلاقها.

    سبب الخطأ في منهجية أهل البدع في الاستدلال

    ثم نبه الشاطبي إلى أن ثمة غلطاً من ثلاثة أوجه في منهج هؤلاء الذين وصفهم الشاطبي بأنهم يدعون الانتساب للسنة وليسوا من أهلها، قال: إنهم يغلطون من ثلاثة وجوه، فبين سبب الغلط، وهذا بيان للسبب قبل المسبب، يقول:

    السبب الأول: [ إما لعدم الرسوخ في معرفة كلام العرب والعلم بمقاصدها ] أي: مقاصد اللغة.

    السبب الثاني قال: [ وإما لعدم الرسوخ في العلم بقواعد الأصول التي من جهتها تستنبط الأحكام الشرعية ]

    السبب الثالث: قال: [ وإما للأمرين معاً ].

    يقول: إن الغلط الذي يقع فيه من ينتسب للسنة وليس من أهلها عند التحقيق يكون سبب غلطه إما عدم الرسوخ في كلام العرب، أو عدم الرسوخ في فقه القواعد الشرعية والمقاصد الشرعية، وإما للأمرين معاً.

    وقد يقول قائل: لماذا لم يذكر عدم الأخذ بالنص والدليل؟ لأنه الآن يتكلم عن قوم عندهم استجابة إلى قصد الأخذ بالدليل، ولكن إذا استدلوا دخل عليهم السقط والغلط، فهم ليسوا مخطئين من جهة قصدهم للدليل، هم يقولون: إنهم يقصدون الدليل من كتاب أو سنة، ولكن منهج الاستدلال عندهم يوجب نتائج فيها غلط، وهذا ليس من ذات الدليل الذي استدلوا به، وإنما من طريقة الاستدلال، وسبب ذلك يقول: إما لأنهم ليسوا فقهاء في كلام العرب، وليسوا عارفين بحقيقة السياق العربي والمقاصد في لغة العرب، وإما أنهم ليسوا فقهاء في قواعد ومقاصد الشريعة، وإما للأمرين معاً.

    الأوجه التي ينظر إليها فيما يتعلق باللسان العربي

    وأرى أن هذه الجملة من العلم التي ذكرها الشاطبي حقيقتها من أشرف التقريرات في هذا الكتاب، وهي حقيقة قائمة ومؤثرة في كثير من المتأخرين الذين كتبوا في مسائل من النظر، أو مسائل من الأصول، أو حتى مسائل من الفقه، فإن هذا السبب العلمي هو سبب مؤثر كثير الاطراد، ولا سيما في الطوائف الكلامية المنتسبة للسنة والجماعة، وكأن من سبب هذا أن ما يتعلق بلغة العرب أصلها يقوم على السماع، وعلى أشبه ما يكون بالذوق من اللسان، فلما دخلت العجم وفتحت البلاد وتداخلت الألسنة، بقي ما يتعلق بلسان العرب ينظر فيه من وجهين:

    الوجه الأول: أن الإدراك البسيط للمعنى العربي في أكثر السياقات من كلام الله ورسوله لا يزال قائماً.

    ويبقى الإدراك للمعاني التي تتضمنها اللغة من حيث السياق المعين، وكيف يقيد هذا السياق المطلق بما يقيده، وهذا العام بالمخصص، والمجمل متى يفصل بهذا المفصل، وأن هذا مفصل له؟ أم أن الأصل بقاؤه على الإجمال؟ وما أشبه ذلك.

    إذاً: لغة العرب من حيث ما يتعلق بكلماتها وسياقها يمكن أن نقول: إنها على وجهين:

    الوجه الأول: لم يزل ولله الحمد باقياً، والله جل وعلا لما جعل كتابه، وهو الكتاب الخاتم، وجعل نبيه الخاتم نزل عليه الوحي بلسان العرب، فإن هذه اللغة لا بد أن تبقى محفوظة حفظاً مجملاً؛ لأن بعض أهل العلم الذين كتبوا في هذه المسائل يقررون الآن أن اللغة فسدت، والحقيقة أن وصف اللغة بأنها فسدت فيه تكلف، والدليل على ذلك أن العرب ومن ينطقون بكلمات العرب ممن ليست أصولهم عربية، مع أن العامية دخلت كثيراً على لغتهم، وصار اللحن فاشياً فيهم، وهذا لا جدل فيه، لكن إذا تكلمنا عن الإدراك العام فنجد أن من يقرأ القرآن الآن من عوام المسلمين الذين هم عرب من حيث الأصل، لم يتكلفوا اللغة بالتعلم أو ما إلى ذلك، وتجدهم يفهمون المعنى الإجمالي في سياق القرآن، فعندما يقول الله تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ [آل عمران:133] المعنى العام مفهوم، عندما يقول الله جل وعلا: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة:2] المعنى العام مفهوم أيضاً والكتاب بمعنى هذا القرآن لا شك فيه، وعندما يقول الله جل وعلا: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء:11] المعنى العام مدرك، وعندما يقول النبي عليه الصلاة والسلام مثلاً: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ) المعنى هنا مفهوم، ما وصلت الأمور إلى حد أن يقال: فسدت اللغة، بحيث أصبح لا يفسر للعوام كلام الله وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام إلا بمنظّر من أهل اللغة وبما إلى ذلك، فأنا أرى أن هذه الدرجة ينبغي ألا نشكك فيها، وألا نبالغ في فرض الخطأ فيها، بل إن من أصل دين المسلمين، ومن صميم قيام دينهم وحفظ كتابهم أن اللغة في الجملة محفوظة، ولا تزال باقية على ألسنة العامة، والقصد بالحفظ أن اللغة كلها محفوظة عند التحقيق، لكن المحفوظ هنا بمعنى أنه شائع في نطق الناطقين به، وخاصة في الأقاليم والبلاد التي أهلها عرب من حيث الأصل، فهذا ما يتعلق بهذا الوجه.

    تداخل اللغات واختلال التركيب وبيان تأثيره على فهم الدليل

    الوجه الثاني من اللغة: هو ما يتعلق بفقه اللغة، وقانون السياقات والتراكيب في اللغة وما إلى ذلك، فلا شك أن هذا هو الذي تأثر كثيراً بالأمور التي دخلت بعد فتح البلاد، ودخول العجم، وتداخل الألسنة، تأثرت هذه الأمور إلى درجة كبيرة جداً، ومن هذا السبب حصل كثير من الاختلاف في فهم بعض دلالات النصوص التفصيلية، سواء في مسائل الإيمان والعقائد أو في مسائل الفروع، حصل كثير من الاختلاف بين الطوائف أو بين الفقهاء، ومن سبب هذا الاختلاف اختلاف الفقه والإدراك للسان العرب؛ ولهذا فإن مما يوصى به طالب العلم أن يكثر من القراءة في كلام العرب، وأقول: إن أخص ما يفصح باللسان وينطق به هو الإكثار من قراءة القرآن؛ لأن هذا القرآن نزل كما وصفه الله جل وعلا: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:195] ، فالإكثار من قراءة القرآن، والتأمل في سياقاته وأوجه ذكره هذا فيه هذه المعاني، فمثلاً: الله جل وعلا يقول: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:271] في الأول يقول: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا [البقرة:271] ولم يقل: فنعما هو؛ لأن الكمال هنا ألا تكون الصدقة مبداة من حيث الأصل، قد تكون مصلحة شرعية تقتضي الإظهار للصدقة هذه مسألة أخرى، لكن من حيث أصل التقرير فإن الالتفاف في السياق العربي يقول: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ [البقرة:271] قال: وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ [البقرة:271] أي: الفعل الذي يكون من الفاعلين، فالأول تزكية للماهية القائمة وهي الصدقة، وإن كان فعلهم ليس مذموماً، لكنه لم يقل: فنعما هو، وإنما قال: فَنِعِمَّا هِيَ [البقرة:271] ، قال: وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ [البقرة:271] أي: فعلكم، خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:271] ، فمثل هذه الأنماط من اللغة وفقهها هو الذي حصل فيه اختلاط، وحصل فيه تأخر، وحصل فيه قلة فقه، هذا أمر لا إشكال فيه.

    فإذاً: ما يتعلق بفساد اللغة لا بد أن طالب العلم يكون مدركاً له، ولا ينفي ذلك مطلقاً، وكأن هذا الأمر لم يؤثر في الحقائق العلمية وحتى الفقهية، ولكن لا يبالغ في فرضه وإثباته ودعواه إلى درجة تقول بفساد اللغة عند الخاصة والعامة في أكثر سياقاتها أو في جميع سياقاتها.

    كيفية الوصول إلى فهم اللغة العربية

    فإذاً: لا شك أن الرسوخ في فقه كلام العرب يعد من الرسوخ في العلم؛ ولهذا من كان فقيهاً في الشريعة وقواعدها لا بد له أن يقرأ لسان العرب قراءة مفصلة، فينظر في كتب اللغة وفي كتب فقه اللغة، كما أسلفت ينظر في السياقات العربية الصافية من التكلف، وخاصة ما يتعلق بالكتاب الذي هو كلام الله والذي نزل بلسان عربي، وكلمات الرسول عليه الصلاة والسلام، فإنه نطق بلغة العرب، بل بجوامع اللغة التي لا ينطق بها آحاد العرب من الذين كانوا ينطقون بهذا اللسان؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أوتي جوامع الكلم، فهذه كأساليب هي أجود الأساليب العربية بلا جدل، وبعد ذلك ينظر في شعر العرب وفي كلامهم، ويقرأ لمن عني من الأئمة بتطبيق اللغة على نص الشريعة، وأخص من تكلم في هذا الإمام الشافعي رحمه الله؛ ولهذا أنا أوصي طلبة العلم أن يعنوا بقراءة كتاب "الأم" و "الرسالة"، للشافعي رحمه الله، خاصة كتاب "الأم" ينبغي لطالب العلم أن يكثر من قراءته، ليس ليأخذ فقط النتائج الفقهية التي وصل إليها الشافعي ، فهذه إشكالية في القراءة العلمية، بعضهم يقرأ مثلاً عشر صفحات، ويقول: نتيجة هذه الصفحات العشر أن الشافعي اختار هذا القول في مسألة كذا، كالقول مثلاً بأن هذا الطلاق لا يقع، أو أن هذا الطلاق يقع، أو يجوز كذا، أو لا يجوز كذا، هذه النتيجة المختصرة، ليست هي المقصودة وحدها، أو هي المقصود الأكبر في قراءة كتاب "الأم"، أرى أن كتاب "الأم" يُقرأ لا لتعرف منه النتائج الفقهية عند الشافعي ؛ لأنه ما أتى بأكثر النتائج الفقهية في مذهب الشافعي ، وإذا أردت النتائج الفقهية عند الشافعي فانظر في كتب الشافعية التي درست فقه الشافعي دراسة شمولية، وتتبعت النقل عنه وما إلى ذلك، لكن أرى أن الأصل في قراءة كتاب (الأم) أنه يقرأ لمعرفة منهج الاستدلال، ومنهج الجواب عن الدليل الذي ليس كذلك، ومن أخص معاقد هذا المعنى في منهج الاستدلال أن الشافعي عني بتطبيق فقه اللغة على النصوص من حيث طريقة الاستدلال بهذه النصوص من الكتاب أو السنة، بحسب البيان والسياق العربي، فكتاب (الأم) للشافعي يعتبر كتاب منهج تطبيقي؛ ولهذا يقال: إن كثيراً من المستشرقين الذين كتبوا فيما يتعلق بهذا العلم كانوا يقرءون هذا الكتاب، بل يوجد بعض غير المسلمين من العرب الذين لهم اهتمام بالعلم والثقافة كبعض النصارى العرب مثلاً، لهم عناية بقراءة كتاب (الأم) للشافعي ؛ للمعنى العربي الذي فيه؛ لأنه يعطي فقهاً دقيقاً في طريقة التطبيق؛ ولأننا إذا تكلمنا عن اللغة كنظرية فكتب اللغة كما هو معروف كثيرة، لكن إذا احتجنا إلى مثال متميز في تطبيق اللغة مع النص الشرعي فتعتبر كتب الشافعي هي أجود الكتب في هذا الباب.

    الحث على قراءة كتاب الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام

    ومن التطبيقات العقدية المتميزة وإن كان تطبيقاً مختصراً كتاب (الإيمان) لـأبي عبيد القاسم بن سلام ، وهو كتاب مختصر ليس بالمطول، ولكن فيه جمال من حيث تطبيق اللغة على النصوص، ومعلوم أن أبا عبيد القاسم بن سلام يعد من كبار الفقهاء وأهل الحديث، وهو إمام متمكن في اللغة؛ ولهذا أرى أنه ينبغي لطالب العلم أن يقرأ كتابه لا ليعرف جملة النتائج ماذا يقول أهل السنة، وماذا يقول المرجئة الغلاة وغير الغلاة؟ أهل السنة يقولون: الإيمان قول وعمل، والمرجئة يقولون: قول واعتقاد ولا عمل، والغلاة يقولون: تصديق أو علم محض. هذه نتائج سهلة التلخيص، لكن نريد أن نقرأ هذا الكتاب لمعرفة المنطق اللغوي الذي يطبقه أبو عبيد في كتابه هذا؛ كيف يستدل بالآيات على زيادة الإيمان ونقصانه، وكيف يستدل على أن الفسق هنا يكون مطلقاً، والفسق هنا لا يكون مطلقاً، وكيف يستدل على أن الوصف العارض لا يستلزم الوصف المطلق، وهلم جراً، فله تطبيقات في فقه اللغة على هذه النصوص، وأرى أن رسالته هذه من أجود ما يوصل إلى ذلك.

    أهمية اختيار الكتب التي تبني الملكة العلمية لدى طالب العلم

    والكتب العلمية عموماً منها كتب يقرؤها طالب العلم لمعرفة النتائج ليس إلا دون أن يكون معنياً بمسألة الأسلوب عند المصنف، مثل المختصرات، فإن كثيراً من المختصرات في الفقه أو في المعاني العلمية الأخرى تُقرأ أو تُحفظ لمعرفة جمل النتائج العلمية أكثر من كون هذا المختصر يتمتع بجمال في فقه اللغة، أو بجمال في تطبيقات الاستدلال، وربما يكون ليس فيه أدلة أصلاً، وبعض الكتب تقرأ لأنها كتب جامعة لكنها لا تعنى بالتحقيق، لكن إذا أردت جمعاً في هذه المسألة فتقصد إلى مثل هذه الكتب التي غلب عليها مادة الجمع للعلم، وهذا في كل العلوم أو ما تسمى بالفنون كتب موجودة وليست محققة، ولكن غلب عليها مادة الجمع، فهي حسنة من هذا الوجه.

    وثمة كتب أخرى تقرأ لجملة من المعاني، ومن أخص المعاني التي يقرأ فيها أنها كتب تبني الملكة العلمية لطالب العلم، فإن ملكة اللغة كما أشرنا في كتاب الشافعي ، وكما يوجد في كلام الشافعي أو في كلام غيره من كبار الفقهاء ما يبني ملكة العقل والتفكير والقياس الذي يمكن ويصح، والذي لا يمكن ولا يصح، مثل كتب شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فإنها تجعل ما يتعلق بالقياس والعقل ومراتب التفكير أمام تطبيق متميز من عالم محقق، لا يتجافى عن دلالة العقل والقياس مطلقاً ويتكلف في إبطالها وهجرها، ولكنه أيضاً لا ينجر مع دلالة العقل والقياس إلى درجة من التأويل للنصوص وما إلى ذلك، بل تجد أن منهجه رحمه الله يكون وسطاً، مثلاً من يقرأ في (درء تعارض العقل والنقل) فهو يقرأ الكتاب من أجل أن يحصل على نتائج علمية مجردة فقط، أهم ما في قراءة الكتاب أن يُقرأ مع معرفة النتائج، لكن لا بد أن يُقرأ لمعرفة منهج التطبيق، يعني: العلاقة بين النقل والعقل، مثلما يُقرأ كتاب الشافعي ؛ لفهم العلاقة بين اللغة وبين الشريعة، فتقرأ (درء تعارض العقل والنقل) لتعرف العلاقة بين العقل والشريعة، ومثل هذه القراءات إذا كان القارئ أعطاه الله ذكاءً ابتداء فهي التي تبني الملكة العلمية عند طالب العلم، وهو فقه العلاقات بين العلوم، وكما أسلفت أن من أفضل التطبيقات للعلاقة بين العقل والشريعة كتاب (درء تعارض العقل والنقل) لشيخ الإسلام ابن تيمية ، والعلاقة بين اللغة والشريعة كتاب (الأم) للإمام الشافعي رحمه الله، وهلم جرا.

    أنا أنبه إلى هذا لأني أرى أنه يغلب على طلبة العلم أنهم يهتمون بمعرفة النتائج دون أن يبنوا الملكة العلمية؛ ولهذا نجد أن بعض العلماء حتى من علمائنا المعاصرين الذين منهم من ذهب وتوفي، إذا نظرت إلى مكتبته التي في بيته أحياناً لا تجد أنها تلك المكتبة الممتلئة بآلاف الكتب، بل تجد أن تركيزه على كثير من الكتب التي عنيت ببناء الملكة العلمية؛ ولهذا إذا جرى به الزمن على مثل هذا المنهج الأصيل والقوي تجد أنه يصبح في درجة من الفقه في المسائل إذا استوى عمره، وتجد أن فقهه هذا ليس رجوعاً إلى نتيجة نص عليها فلان أو فلان من أهل العلم كنتيجة معينة، وإنما هي فقه استوعبه، ويحكى أن ابن قتيبة صاحب اللغة سئل عما كتبه من هذا الجمال اللغوي، هل أخذه من السابقين أم أنه شيء اخترعه؟ فقال: هو كلام السابقين -يعني: من أهل اللغة- غاض ثم فاض. يعني: دخل في نفسه واستوعبه في عقله وفي مكونات تفكيره، أي: كأنه دخل ذهنه وتفكيره، قال: ثم فاض. أي ظهر بتنظير ابن قتيبة وسياقه، قال: فليس هو إياه وليس هو غير الكلام الذي كان عليه من سبق من أهل اللغة، فكذلك طالب العلم أهم ما يكون له اليوم العناية ببناء الملكة العلمية.

    الحث على العناية بمقاصد وقواعد الشريعة

    قال: [ لعدم الرسوخ في معرفة كلام العرب ]، وهذا لاشك أنه سبب وجيه. قال: [ وإما لعدم الرسوخ في معرفة المقاصد الشرعية وقواعد الشريعة ] وهذا أيضاً من العلم الذي يفوت كثيراً، ليس فقط من خالف السنة من أهل البدع، بل ومن أصحاب العلم والعناية بالسنة، وهو أن فقههم وعنايتهم بمعرفة قواعد ومقاصد الشريعة فيه كثير من النقص، ولعل من سبب ذلك أننا إذا سألنا الآن عن كتب القواعد والمقاصد نجد أنها تدور ربما على عدد ليس بالكثير من الكتب التي كتبها بعض الفقهاء من أصحاب المذاهب الأربعة والتي نظَموا بها القواعد الفقهية المقولة عندهم، ولا شك أن هذه الكتب لها قدرها ووقارها، لكنها ليست هي التي تعبر وحدها عن الفقه لهذا الأصل العظيم، بل فقه هذا الأصل لا يكون إلا بتتبع كلام الله سبحانه وكلام رسوله، والعناية بالمقارنة بين أوجه العلم في القرآن، وأوجه العلم في الحديث، فهذه هي التي تبني الفقه -أعني: فقه المقاصد- القراءة في كتب العلماء المحققين إلى غير ذلك، فهذا سبب لا شك أنه وجيه.

    قال: [ وإما للأمرين معاً ] أي: أن هذا يؤثر وهذا يؤثر.

    إذاً هو ذكر من حيث السبب إما نقص في فقه كلام العرب، أو نقص في فقه مقاصد الشريعة، أو للأمرين معاً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088540823

    عدد مرات الحفظ

    777219373