إسلام ويب

قراءة موضوعية في كتاب الاعتصام [9]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • قد يلتبس على الإنسان الفرق بين البدعة والمصلحة المرسلة، والتي هي: ما اندرج تحت قاعدة عامة أو دليل عام، وهذا بخلاف البدعة إذ ليس لها أصل في الشرع، والخلاف بين العلماء في المصالح والاستحسان إنما هو خلاف لفظي، وأما في التطبيق العملي فإن جميع المذاهب قد أخذت بهما، ومع هذا فقد ذكر العلماء للمصالح شروطاً وضوابط لا بد من اعتبارها.

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وأصحابه أجمعين. أما بعد:

    فهذا هو المجلس الأخير في هذه المجالس، والمنعقد في اليوم الثالث من الشهر السادس من سنة سبع وعشرين وأربعمائة وألف من هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في جامع الشيخ عبد العزيز بن باز بمكة المكرمة.

    كنا أتينا على جملة من التعليقات على هذا الكتاب، وهو كتاب الاعتصام لـأبي إسحاق الشاطبي رحمه الله، وانتهينا إلى آخر الأبواب عند المصنف، وفي هذا المجلس باعتباره آخر المجالس نحاول أن نختصر، فإن المقصود من هذا الدرس ليس الوقوف على مفصل من كلامه رحمه الله، وإنما لذكر جملة من الإشارات والتنبيهات التي يستفيدها طالب العلم عند نظره في هذا الكتاب، فإن هذا الكتاب وإن كان فيه قدر من التحقيق، إلا أنه يرد في كلام المصنف ما ينبغي لطالب العلم أن يكون رفيقاً وهادئاً في أخذه، وربما التزم المصنف ببعض اللوازم العلمية التي لا يصح أن تكون على هذا الوجه من الالتزام، وهذا سبق التنبيه إليه في جملة من مسائل هذا الكتاب، فالكتاب فيه فقه وعلم كثير، ولكنه ليس على إطلاقه في سائر المسائل، فثمة مسائل تعرف برد هذا الكلام الذي ذكره الشاطبي رحمه الله إلى الأصول والقواعد، وإلى كلام السالفين من أهل العلم، ما يتبين به أن قدراً من هذا الكلام هو وجه من اجتهاد المؤلف رحمه الله، وليس بالضرورة أن يكون مناسباً الأخذ به، وربما ناسب أن يؤخذ به من جهة دون أختها، وهلم جرا.

    قال: [ الباب الثامن في الفرق بين البدع والمصالح المرسلة والاستحسان ] هذا الباب الثامن عقده المصنف لهذا المعنى، حيث أراد أن يفرق به بين البدعة وبين المصلحة المرسلة والاستحسان، والبدعة عُرف أنها مذمومة في الشريعة، ولما ذكر المصنف تعريف البدعة وأنها طريقة في الدين مخترعة، قال: وإنما ذكرنا هذا القيد وهو أنها مخترعة بمعنى أنه لا أصل لها، فإن ما له أصل لا يسمى بدعة، وإذا قيل: الأصل في هذه المسألة هو النص فهذا وجه بين، بمعنى أن ما فيه نص من نصوص الكتاب والسنة، فهذا لا يمكن أن يتبادر فيه قدر من الإشكال ألبتة، ما دام أنه جاء فيه نص عن الشارع، وإنما الإشكال في ما يتعلق بالمصالح المرسلة وما يتعلق بالاستحسان، فهل ما كان من باب المصلحة المرسلة لا يعد بدعة؟ وما كان من باب الاستحسان لا يعد بدعة؟

    الجواب المجمل أن نقول: نعم، إنه لا يكون كذلك، ولا سيما عند من يعتبرون الاستحسان في الاستدلال أكثر من غيرهم.

    معنى المصالح المرسلة والاستحسان وذكر الخلاف في ذلك

    انطلق المصنف رحمه الله من هذا المبدأ أن ما كان من المصلحة المرسلة، وما كان من الاستحسان فإنه لا يكون بدعة؛ يقول: لأننا إذا رجعنا إلى معنى البدعة، وقد عرفها في الباب الأول أنها طريقة في الدين مخترعة، وقال: إن المخترع ما لا أصل له، فيقول: إن الاستحسان أصل على أقل تقدير عند قوم من أهل العلم كما هو معروف في حكاية الخلاف فيه، والمصلحة المرسلة هي أصل كذلك عند قوم من أهل العلم بمعنى أنه وجه من الاستدلال، فبهذا لا يسمى هذا الأمر الذي هو من المصلحة المرسلة أو من الاستحسان بدعة.

    ما يتعلق بالمصلحة المرسلة وكلام الفقهاء وأهل الأصول في قدرها ورتبتها، المعروف أن المصلحة المرسلة والاستحسان تسجل في كتب أصول الفقه ضمن الأدلة المسماة بالأدلة المختلف فيها، فإذا تكلموا عن الاستحسان مثلاً فإنهم يذكرون ترك الشافعي له، ويذكرون اتخاذ أبي حنيفة و مالك له.

    المقدار المتفق عليه من المصالح المرسلة والاستحسان

    وأريد أن أنبه إلى أني لست بصدد تفصيل مسألة الاستحسان أو المصلحة المرسلة، ولكني أريد أن أنبه إلى أن المعنى الذي حصل فيه التنازع في باب المصلحة المرسلة أو حصل أكثر منه فيما يتعلق بالاستحسان قدر من هذا المعنى -فيما يظهر لي من كلام أهل العلم وتطبيقات المتقدمين منهم وخاصة تطبيقات الصحابة الموجودة في كتب المصنفات- لا نزاع فيه بين أهل العلم.

    فإذاً: ما حكي في مذهب الشافعي رحمه الله من ترك الاستحسان، بحيث صارت تذكر على أنها خلافية بين الشافعي و أبي حنيفة و مالك ، فهذا الخلاف قدر منه يعود إلى صور انتظم اسمها باسم الاستحسان، فصار يحكى أن مادة الاستحسان كمعنى شمولي فيه هذا القدر من الخلاف، مع أننا إذا رجعنا إلى تحقيق المسألة وجدنا أن قدراً من معنى الاستحسان، وأن قدراً من معنى المصلحة المرسلة متفق على اعتباره وتطبيقه، وإن كان من يطبقه لا يسميه استحساناً، فأراد خلق من أهل العلم ألا يجعلوا ضمن الدليل ما يستحسنه المجتهد بنظره، فيكون هذا كالدليل الذي يطرد؛ ولهذا قال من قال: (من استحسن فقد شرع)، حتى لا ينتظم دليل، وكأنه دليل العقل ليحكم في هذه المسائل، لكن من المعلوم أن القياس هو وجه من استصحاب حكم العقل، فالعقل يحكم على الفرع بمساواته لحكم الأصل، فهذا استصحاب للحكم الذي العقل متضمن في ماهيته.

    فإذاً: الذي أريد أن أصل إليه كنتيجة هنا أن ندرك أن قدراً من الاستحسان مطبق في سائر المذاهب الأربعة، وفي كلام عامة أهل العلم؛ لأنه مما أقرته الشريعة، ومما درج الصحابة على اعتباره، وتشهد له الأصول، ومن باب أولى ما يتعلق بالمصلحة المرسلة.

    بقي بعد ذلك أن يتحول هذا التطبيق إلى ترتيب أصل له اختصاصه وله استقلاله يسمى بالاستحسان، ويطرد كثيراً، فهذا هو الذي وقع في حكايته الخلاف، فتكون النتيجة: ليس كل ما تضمنه الاستحسان من المعنى فيه خلاف، بل قدر منه معتبر في التطبيق، وإن كان من يطبقه قد لا يسميه استحساناً، وأنا أرى أن ما سمي بالأدلة المختلف فيها لك أن تقول: إن أكثرها حصل الجدل في اعتباره كدليل مختص، مثل القياس حصل فيه شيء من الخلاف، خاصة ما أظهره أصحاب الظاهرية كـداود بن علي ، ثم جاء ابن حزم من بعده، وبعض أهل الحديث قيدوا القياس.

    إذاً: المسألة تعود إلى التقييد، يعني مثلما صار بين الكوفيين والمحدثين، الكوفيون كـأبي حنيفة يعتبرون القياس كثيراً، والمحدثون لا نقول: إنهم يبطلون دليل القياس، وإنما نقول: إنهم يقيدون مادة القياس؛ لميلهم إلى بناء الحكم على جمع الأثر فيه، لكن هل لأحد أن يقول: إن المحدثين كانوا يبطلون القياس مطلقاً؟ لا، ومن حكى هذا عن المحدثين فقد أخطأ في حكمه، حتى من صرحوا بجمل مفصحة بترك القياس كـأبي محمد بن حزم فإنه وإن صرح بترك القياس كمصطلح، وصرح بترك القياس كدليل يستصحبه وينص عليه على أنه هو الدليل، إلا أنك إذا قرأت في فقه ابن حزم رحمه الله وجدت أنه يجري بعض الأحكام على تطبيق في الفهم عنده، هو في تسمية آخرين من أهل العلم قياس، ولا سيما أن قياس الشمول تتداخل بعض معانيه مع قياس التمثيل، لكن هذا يرتب بطريقة وهذا بطريقة، والنتيجة واحدة.

    فمثلما يتعلق بعمل أهل المدينة، فإن مالكاً عُرف عنه الأخذ بهذا المعتبر من الدليل، فهل معناه أن غيره يتركون عمل أهل المدينة؟ لا، ربما اعتبروا في بعض الأحكام الترجيح في هذه المسألة، أو العمل على هذه المسألة؛ لتوارد عمل أهل المدينة النبوية عليه، لكن لا تجد أنه أصل مطرد، فكذلك ما يتعلق بالاستحسان والمصلحة المرسلة لا تفصل إلى هذه الدرجة على أنها أدلة خلافية، وأن الخلاف فيها متناه؛ وحينما تقول: النص هل هو دليل أو ليس دليلاً؟ النص شيء معين ولا خلاف فيه، لكن لما تذكر القياس فالقياس له مفهوم شمولي، وله حد أصولي معروف، وهو إلحاق الفرع بالأصل لعلة بينهما. هذا المفهوم الشمولي لم ينفك عنه فقيه من الفقهاء، لكن هل يسميه قياساً أو لا يسميه؟ درجة التطبيقات عنده بهذا المفهوم متسعة في فقهه أو محدودة في الفقه؟

    هذا هو الكلام الذي هو واقع، أما أن فقيهاً لا يوجد عنده مفهوم القياس، قد يمكنه التجرد من مصطلحه، لكنه من حيث مفهوم القياس ليس هناك فقيه يستطيع أن ينفك عن مفهوم القياس من كل جهة، حتى الظاهرية -كما أسلفت- وقعوا في تطبيقات هي من القياس ولكن لا يسمون ذلك قياساً، هذا يعود إلى باب الاصطلاح.

    ومثله المصلحة المرسلة، ما حدود هذه المصلحة المرسلة؟ فقد يتنازع أهل العلم في قدر منها، هذا أمر متحقق، ولكن المعنى الذي تتضمنه المصلحة المرسلة موجود فقهه وتطبيقه في سائر المذاهب، فمن هنا تكون النتيجة: أن ما انضبط أنه مصلحة مرسلة فإنه لا يكون من باب البدعة.

    الفرق بين المصلحة المرسلة والاستحسان والبدع عند الشاطبي

    والإمام أبو إسحاق رحمه الله كأنه أراد أن يقول: إن البدعة ما خالفت الدليل، سواء كان الدليل من الأدلة التي تسمى في كتب الأصول بالأدلة المجمع عليها، وهي النص والإجماع، أو كان مختلفاً فيها، فإذا وجد في المسألة دليل، سواء كان هذا الدليل من الأدلة المجمع عليها، أو كان من الأدلة المختلف فيها فإنه لا يسمى الفعل بدعة؛ لأن له دليلاً، فإذا كان دليله القياس أو المصلحة المرسلة أو ما إلى ذلك مما سمي بالأدلة المختلف فيها فإن هذا لا يسمى بدعة، فعنده نتيجة أن البدعة ما خالف الأدلة المجمع عليها والمختلف فيها.

    إطلاق البدعية على المسائل المفرعة من المصالح والاستحسان عند من لا يعتبرها أدلة

    هنا سؤال يطرأ وهو: أن الأدلة المختلف فيها عند من لا يعتبر الاستحسان مثلاً أو أوجهاً منه، هل يحق له أن يسمي هذا الفعل بدعة؟

    فيما يظهر أن هذا ما دام أنه على مادة الاجتهاد من الكبار من أهل العلم فإن المخالفة فيه واسعة، بمعنى الترك لهذا العمل، أو عدم استحباب هذا العمل، أو ما إلى ذلك، وأما أن يقال: إنه بدعة؛ لأنه لم يخرَّج على أصل يعتبره هذا الفقيه، وغيره يعتبره، فهذا فيما يظهر أنه أمر لا يسوء؛ لأننا أشرنا سابقاً إلى أن البدعة هي ما خالف السنن البينة، فأما إذا كان للشيء وجه من الاستدلال معتبر فإن هذا لا يسمى بدعة، وإلا لو جاز ذلك لساغ للظاهرية مثلاً أن يسموا كل ما خالف مذهبهم من أوجه القياس والنتائج الحكمية المبنية على القياس بدعة، والأمر لا شك أنه غلط من هذا الاعتبار.

    إذاً: إذا كان ثمة دليل وإن كان مختلفاً فيه فما ينتجه هذا الدليل من الحكم في نظر أهل الاجتهاد فإنه يسمى فقهاً يرد عليه الصواب والخطأ، لكن لا يرد عليه أن يسمى بدعة، ويكون مذموماً ذماً مستصحباً له في سائر أحواله؛ لأن البدعة مذمومة في سائر مواردها، وأما الاجتهاد المعتبر فإنه ليس مذموماً، بل صاحبه مأجور كما هو معروف.

    أهم ما يعتبر في باب الفرق بين البدع والمصالح

    إذاً: أهم ما في هذا الفصل: أن البدعة ما خالف الأدلة المتفق عليها والمختلف فيها، فإن قلت: إني على مذهب لا يعتبر هذا الدليل المختلف فيه كالاستحسان، فيقال: يترك الناظر هذا الحكم ولا يستحبه، ولكنه لا يحكم عليه بكونه بدعة، بل يقول: إن هذا لا يظهر له دليل مسبق، مثلما إذا تكلمت عن فرع فقهي ولم ترَ له دليلاً، ولكنك وجدت أن مذهباً آخر من المذاهب المعتبرة استحب هذا الأمر، ورأى له دليلاً، فلا يجوز أن تحكم على المذهب الثاني بأنه استحب أمراً بدعياً؛ لأنه في نظرك لا دليل عليه، فما دام أنه في ضمن الأدلة المستصحبة عند المجتهدين من فقهاء هذه الأمة السالفين فهذا ليس هو البدعة، وإنما البدعة مجالها مخالفة السنن البينة، فما لا أصل له في الشرع لا نصاً ولا ظاهراً، لا بدليل صريح ولا بدليل دون ذلك؛ فهذا الذي يسمى بدعة، وأما إذا كان مبنياً على أصل شرعي معتبر عند أهل الاجتهاد وأهل العلم فإن هذا لا يسمى بدعة، وإن كان يدخله الصواب والخطأ باعتباره من الاجتهاد الممكن.

    ثم ضرب المؤلف رحمه الله أمثلة لما هو من المصلحة المرسلة، فقال: ومنه جمع الصحابة للمصحف، واتفاق الصحابة على جعل حد الخمر ثمانين، مع أن هذا العدد في مسألة الخمر فيه خلاف في كتب الفقهاء، وذكر بعد ذلك أمثلة أخرى.

    شروط المصلحة المرسلة

    ثم نبه المصنف على معنى في المصلحة المرسلة أرى أنه من المعاني المهمة، يقول: [ وتبين لك اعتبار أمور: الأمر الأول: الملاءمة لمقاصد الشرع ] فهذا شرطه فيها أن تكون ملائمة لمقاصد الشارع، وأما إذا كان الشيء ليس ملائماً لمقاصد الشارع فلا يجوز أن يسمى مصلحة مرسلة، قال: [ الثاني: أن عامة النظر فيها - أي: في المصلحة المرسلة - إنما هو فيما عُقل معناه ] أي: إذا عُرض على العقول تلقته بالقبول، وعليه فلا مدخل لها في باب التعبدات، قال: [ الثالث: أن حاصل المصالح المرسلة يرجع إلى حفظ أمر ضروري، أو رفع حرج لازم في الدين ] هذه هي شروط المصلحة المرسلة:

    أولاً: أن تكون ملائمة لمقاصد الشارع.

    ثانياً: أن تكون في أمر يعقل معناه، فالعبادات المحضة لا يدخلها باب المصلحة المرسلة، فمثلاً: لماذا الشارع أمرنا بصفة معينة في الوضوء، وبصفة معينة في الصلاة؟

    يقال: هذه أمور تعبدية محضة، والمصلحة المرسلة لا تدخل في هذا الباب؛ ولهذا من استحب صفة من الصلاة، أو صفة من الذكر، أو صفة من الطهارة غير ما جاءت به الشريعة، وقال: هذا من باب المصلحة المرسلة، يمكن أو لا يمكن؟ هذا لا يمكن، بل هذا يكون بدعة؛ لأن المصلحة المرسلة تكون في أمر يعقل معناه، بمعنى أن الناظر يستطيع أن يدرك وجه تخصيص هذه الصفة، فإنها ليست من باب التعبد المحض؛ ولهذا قال المصنف: [ فلا مدخل لها - أي: للمصلحة المرسلة - في التعبدات ] أي: في التعبدات المحضة كصفة الصلاة، وصفة الصيام، وصفة الوضوء، ونحو ذلك.

    الثالث: أن حاصل المصلحة المرسلة يرجع إلى حفظ أمر ضروري، ورفع حرج في الدين؛ ولهذا جمع الصحابة المصحف لحفظ الدين، وكتب العلماء السنة ودواوينها؛ لحفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا يدخل في باب المصالح المرسلة.

    ثم أشار إلى معنى من الفاضل أن يستوعبه طالب العلم، قال: [ لأن موضوع المصلحة المرسلة ما عقل معناه على التفصيل ] قال: [ والتعبدات - أي: المحضة - من حقيقتها ألا يعقل معناها على التفصيل ] ما مراده بذلك؟ نعم ما شرعه الله لنا من صفة الصلاة والصيام ونحوه هو معقول المعنى، ومدرك المعنى، يقبله العقل، وتقبله الفطرة، هذا أمر ليس هو محل الإشكال، هذا أمر معروف ومستقر أن الشريعة في سائر مواردها موافقة للعقل وللفطرة، وموافقة لطباع النفوس الفاضلة، ولكن أراد بذلك أن التخصيص بالهيئات المعينة هذا أمر موكول إلى الشارع، لا تتدخل فيه العقول؛ ولهذا فإن المصلحة المرسلة لا يصح أن تدخل في العبادات المحضة من هذا الوجه، فإن موضوعها كما أشار الشاطبي هو ما عقل معناه.

    سبب الخلاف في الاستحسان

    ثم يذكر بعد ذلك المصنف ما يتعلق بالاستحسان، ويحكي أن فيه خلافاً قال: فيراه معتبراً مالك و أبو حنيفة بخلاف الشافعي فإنه أنكره، وعُرف الاستحسان بأنه ما يستحسنه المجتهد بعقله، واستدل من استدل له بمثل قوله تعالى وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الزمر:55]، الحقيقة أن من مشكلة بعض الأصوليين رحمهم الله أنهم حدوا الاستحسان بأنه ما يستحسنه المجتهد بعقله، مع أنك إذا تأملت هذا فليس هناك أحد من فقهاء المسلمين يقول: إن المجتهد إذا وصل رتبة الاجتهاد جاز له أن يحكم بعقله الأحكام التشريعية، فيصير مرجعية مطلقة، فله أن يحرم وله أن يبيح، وله أن يحل، هذا لا يوجد في فقهاء المسلمين أبداً، إنما المقصود بـ(ما يستحسنه المجتهد) أنه يرى أن هذا من مادة الشريعة، إما طرداً لعموم، أو استصحاباً لأصل، أو قياساً، أو ما إلى ذلك، فلا بد أن هذا المستحسن لهذا الحكم -سواء سميته استحساناً أو لم تسمه- لا بد أن يكون عنده دليل معتبر أخذ منه هذا الحكم، وأما أن الاستحسان هو ما استحسنه المجتهد بعقله -أي: بمجرد خاطره العقلي- فإن هذا لا وجود له عند أبي حنيفة و مالك ، وليس هو الأمر الذي ينبغي أن يحكى الخلاف فيه؛ ولهذا أقول: إن ثمة تفاوتاً بين الفقهاء في اعتبار الاستحسان مثلما تفاوتوا في اعتبار العمل بالقياس، فنقول: إن أهل الكوفة أكثر عملاً بالقياس من أهل الحديث، وفيما يتعلق بأقوال الصحابة، فإن المحدثين أكثر عملاً بآثار الصحابة من أهل الرأي لأسباب علمية معروفة، فمثله الاستحسان مادته موجودة، أما أن الاستحسان هو ما رآه المجتهد بمجرد العقل والخاطر، فهذا لا وجود له لا في مذهب مالك ولا في مذهب أبي حنيفة ؛ ولذلك فإن بعض الأصوليين يقولون: إن مالكاً يقول: هو تسعة أعشار العلم. لكن أولاً هل صحت هذه الكلمة عن مالك أو لم تصح عنه؟ وإن صحت فإن مالكاً رحمه الله وهو إمام في السنة والأثر لا يمكن أن يكون المقصود عنده المعنى الذي أشار إليه بعض المتأخرين من أهل الأصول.

    فإذاً: كنتيجة التصنيف الأصولي المتأخر لبعض هذه المسائل هو فيه نظر من جهة طريقة ترتيب الخلاف، أن الشافعي ينكر الخلاف جداً، و مالك يقول: هو تسعة أعشار العلم. وإذا قيل لهم: فما حد هذا الاستحسان؟

    قالوا: ما استحسنه المجتهد بعقله. هذا كلام عام ومجمل.

    ما معنى استحسنه بعقله؟ هل المقصود أنه توسط العقل في علاقاته بين دلائل الشريعة فأنتج حكماً، والحكم يكون مأخوذاً من دلائل الشريعة، فمن المعلوم أن الإنسان إذا لم يكن عاقلاً ويتسم بدرجة أكثر تميزاً من العقل ما صار مجتهداً؛ ولهذا المجنون لا يتصور أنه مجتهد، حتى بليد الذهن لا يتصور أنه يرقى إلى درجة الاجتهاد، ومعلوم أن العقل والذكاء له وجود، لكن لم يكن فقيه من فقهاء السنة يعتبر العقل المجرد دليلاً مستقلاً.. لا في مسائل الأصول ولا في مسائل الفروع.. لا في العلميات ولا في العمليات.. هو دليل تابع.. هو دليل مصدق.. هو دليل شاهد.. هذا يقع.. هو دليل يتوسط في نقل حكم إلى حكم آخر، مثلما قالوا في القياس: هو إلحاق فرع بأصل لعلة جامعة بينهما. هذا يحتاج إلى آلة، لكن المعنى نفسه هو تشريع الله سبحانه وتعالى، أو تشريع النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

    فإذاً: الحكاية في بعض كتب الأصول لقضية الاستحسان فيها مبالغة، الشافعي يقول: من استحسن فقد شرع. إنكاراً منه وإغلاقاً لمادة الاستحسان، ويحكون عن مالك أنه يقول: هو تسعة أعشار العلم. مع أننا إذا رجعنا إلى كلام مالك و الشافعي لم نجد بينهما ذلك الانفصال الواسع في العلم، فكلاهما إمام من أئمة السنة، وكلاهما إمام من أئمة الأثر والحديث، وكلاهما إمام في الأخذ بالآثار، وكلاهما إمام في اعتبار فقه الآثار، فليس محدثاً مطبقاً على الحديث، أو منصرفاً إلى جمع الرواية ولم ينقل له فقه، كلاهما له فقه معروف، وله فقه متبوع أيضاً، فلا أظن أن المسألة بهذا القدر، وبعض المتكلمين من أهل الأصول لما حكوا الاختلاف فيما سموه الأدلة المختلف فيها بالغوا في فصل العلاقة بين هذه الأدلة عند الأئمة المتقدمين كـمالك و الشافعي ، صحيح أن مالكاً أكثر تحريراً لهذه المسألة، لكن لك أن تقول: إن الشافعي يدخل على معانٍ في اللغة - وانظر هذا في كتاب الأم - ويرى أن هذا الحكم منتج من هذا الدليل بفقهه للسان العرب، بطريقة لا نجد أن مالكاً يستعملها بهذه الكثرة، فيكون مالك رحمه الله أكثر ظاهرية مع النصوص من الشافعي ، و الشافعي يولد فقهاً بحسب أساليب العرب، ومالك رحمه الله يولد فقهاً بحسب دلالة القياس ودلالة العقل على مقتضى هذا الحكم من النص، أي: تستخرج الأحكام من النص بتأثير أو باستصحاب آلة القياس وآلة العقل، و الشافعي باستصحاب اللغة أكثر، وفي الأخير لا تقول: إن الشافعي يبني الحكم على لغة العرب، لأن اللغة ليست مصدر تشريع، وإنما هي اللسان والآلة التي يُفقه بها نص التشريع؛ لأن التشريع من كلام الله ورسوله نزل بلسان العرب، ومثله مالك رحمه الله إذا استعمل هذا وهو النظر في الأدلة، فهذا النظر ليس هو النظر العقلي المجرد، وكلام الأئمة رحمهم الله في ترك النظر العقلي المجرد معروف ومحفوظ.

    إذاً: الحكاية لموضوع الاستحسان أرى أن فيها قدراً من المبالغة في صفتها أصلاً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088534119

    عدد مرات الحفظ

    777179597