بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
إخوتي في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد:
فإن لله تعالى حكماً، وله في خلقه شئون، وهذه الشئون والحكم صادرة عن حكمه وعلمه، فهو سبحانه العليم الحكيم، وإن من حكمه أنه يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ [القصص:68]، فلذلك خلق هذا الخلق وأحصاهم عدداً، واختار من بينهم خيرته من خلقه، وجنده وحزبه، وجعلهم طبقات؛ أعلاها طبقة الأنبياء الذين اختارهم، واستخلفهم واجتباهم لنفسه، ثم يليهم الصديقون الذين هم في المنزلة الثانية، ثم الشهداء الذين استشهدهم على خلقه، ورضي منهم بأن قدموا أرواحهم بين يديه، تعظيماً لشأنه، وإعلاء لكلمته، وإعزازاً لدينه، ثم أردف هؤلاء ببقية الصالحين الذي اتصفوا بأوصاف جليلة يجمعها هذا الاسم العظيم.
وإن من معاملة الله تعالى لهؤلاء الخيرة من خلقه: أنه يبتليهم، ويجعل لهم في المحن منحاً، فكل محنة لهؤلاء في طيها منحة، وهذا من غريب الاتفاق بين اللفظين، وإحداهما ظرف للأخرى.
فلذلك فإن الله عز وجل ابتلى هؤلاء الرسل، وهؤلاء الصديقين، وهؤلاء الشهداء، وهؤلاء الصالحين بحكم ونعم عجيبة يجدونها في ذلك البلاء.
ومن أهم هذه المحن وهذه النعم: أنهم يجدون في صدورهم الإقبال على الله، ويجدون بغية الالتجاء إليه، ولا يتحقق هذا إلا في حال المحنة، وكثير من الناس لا يدرك حلاوة الصلة بالله تعالى، ولا حلاوة الفقر إليه. والمؤمنون الموحدون هم الذين إذا انقطعت صلاتهم بخلق الله، واتصلت صلتهم بالله، وجدوا حلاوة ذلك في نفوسهم، ووصلوا إلى قمة السعادة، وعندما تنقطع أسباب الدنيا، وتغلق أبوابها، ويفتح باب الحي القيوم، يجدون السعادة الكاملة التي لا يعدلها شيء، وفي ذلك يقول أحد الحكماء:
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب
وكذلك يقول أحد علماء هذا البلد، وهو: مولود بن أحمد الجواد رحمه الله تعالى:
أنا الضعيف فذاك الضعف يرحمه رب قوي فكان الضعف أقوى لي
ما ذل ما ذل من بالله عز وكم ذل العزيز بأعمام وأخوال
وكم رأينا ذليلاً بعد عزته من عزه بالموالي أو بالأموال
متى تفز بموالاة الإله يدي فعاد يا أيها المخلوق أو وال
لذلك فإن هذه النعمة العظيمة التي تباشر بشاشة قلوبهم، ويجدونها هي سعادة الدنيا والآخرة. سعادة الدنيا بقطع الصلات عن غير الله، والشواغل عنه، فينشغلون بالله، ويقبلون عليه، فيخلصون له الدعاء، ويرفعون أكفهم بين يديه بالضراعة، وهذا أشرف أحوال العبد، فإن أشرف أحوال العبد: إذا تحققت فيه صفة الفقر، وتحقق بذلك إيمانه بصفة جلال الله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15]، فإذا عرف المؤمن حقاً صفاته هو، فإنه بذلك يعرف ربه بضد هذه الصفات، ولهذا يقول أحد علمائنا، وهو: محمد بن فال بن سال رحمه الله تعالى:
بالذل والفقر تحقق تظفر بالعز والغنى من المقتدر
فهنا صفات خاصة بالمخلوق؛ وصفات مضادة لها خاصة بالخالق، فالمخلوق يتصف بهذه الصفات: بالذل والفقر، فيقتنع على أن البارئ سبحانه وتعالى متصف بالغنى والقدرة والعزة، ولذلك تحقق عزة المؤمنين عندما يلتجئون إلى الله تعالى، وينفردون.
ولاحظوا مواقع النصر التي حددها الله تعالى في كتابه، فاذكروا قول الله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:38-40]؛ لذلك فإن هذه هي النعمة الأولى من نعم البلاء.
أما النعمة الثانية فهي: أن الله عز وجل عندما يبتلي عبداً فيصبر، فإنه يعلي له الدرجة، ويثبت قدمه، ويكتب له البقاء، ومن المعلوم أن هذه الدنيا دار تقلب، وأنها لا تدوم على حال، وأن كل أمورها أعراض إلى الزوال، ولذلك لا تزن عند الله جناح بعوضة، أما الدار الآخرة فهي دار البقاء والخلود، وأنها لا تنال إلا بهذه العقبات، وأن سبيل الجنة محفوف بالأشواك، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات )؛ ولذلك ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل لما خلق الجنة، وبارك فيها، وجعل فيها من الأرزاق والأقوات أرسل إليها جبريل قبل أن يحفها بالمكاره، فقال: ( وعزتك وجلالك لا يراها أحد إلا دخلها فحفها بالمكاره، فأرسله إليها، فقال: وعزتك وجلالك لقد خشيت ألا يدخلها أحد، ولما خلق النار أرسل إليها جبريل فقال: وعزتك وجلالك لا يراها أحد، أو يسمع بها فيدخلها، فحفها بالشهوات، فأرسله إليها، فقال: وعزتك وجلالك لقد خشيت ألا يبقى عنها أحد )؛ لذلك فإن هؤلاء الأنبياء وهؤلاء الصالحين يعلي الله تعالى منزلتهم في الآخرة لما يتعرضون له من البلاء، وأما في الدنيا فإن الله عز وجل متصف بصفة تسمى: اللطف، واللطف: إدراج الأمور في صور أضدادها.
فمثلاً: حين رمي يوسف وهو ولد صغير قبل أن يبلغ الحلم في جب، أي: في بير، واستخرجته تلك السيارة، وباعته في مصر بثمن بخس بعيد عن أهله، واشتغل في الخدمة، فلما وصل إلى الحلم، وبلغ أشده، وقوته امتحن بامرأة العزيز، ثم بعد ذلك أودع في السجن فترة طويلة، ليخرج منه وهو عزيز مصر وواليها، والمشرف على وضع الخطة التي دامت خمس عشرة سنة، وهذه الخطة الاقتصادية المحكمة أنتجها يوسف من خلال وضعه في السجن، يقول تعالى: قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ [يوسف:47-49] فهذه خطة اقتصادية لمدة خمس عشرة سنة، وهي خطة متكاملة بكل ما فيها من نقاط القوة، ونقاط الضعف، ومن الوجوه المتاحة، ومن التلبيات المفتوحة، وقد وضعها يوسف للملك.
وأخرج من هذا السجن عزيزاً منتصراً، وكتب الله له البراءة على لسان من اتهمته، يقول تعالى: الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ [يوسف:51-52]، وهذه البراءة التي كتب الله ليوسف على لسان هذه المرأة التي ادعت عليه زوراً وبهتاناً ما برأه الله منه، وحال بينه وبينه لذتها مثل لذة الوجدان، لو لم يكن يوسف في قفص الاتهام لما نال لذة البراءة، ولذة البراءة أمر عظيم، ونعمة جلى من رب العالمين.
وكذلك من هذه النعم: أن الله عز وجل يثبت أقدام هؤلاء، فيعلي منزلتهم، ويقربهم على ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( عجباً لأمر المؤمن، كل أمر المؤمن له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له )، ولا شك أن العبد الموحد يلاحظ صفات الله عز وجل المتداولة، وهي صفات الأفعال، وصفات الأفعال منها اشتقت الأسماء، فتجدون من صفاته: القابض الباسط، وتجدون النافع الضار، وتجدون المعز المذل.
وهكذا من صفات الأفعال التي فيها تقابل، والتي استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعضها ببعض، إلى أن وصل إلى ما لا بد له وهو الله، فاستعاذ به منه، كما ثبت عنه في صحيح مسلم والموطأ أنه كان يقول في سجوده: ( اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك )، فهؤلاء العباد الذين اختارهم الله تعالى ليقدرهم ويقويهم على الأذى؛ ليعلي بذلك منزلتهم، فيجعلهم وجهاء، ولاحظوا قول الله تعالى في موسى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا [الأحزاب:69].
ولا شك أن كل أمر بذل في سبيله الكثير لا بد أن يخلد الأزمنة المتطاولة، وأما الأمر الذي لم يضح في سبيله، وإنما نيل بأبسط الأسباب، فإنه عرضة للزوال، وإن هؤلاء الذين امتن الله تعالى عليهم ببراءتهم وتبرئتهم من الناس سيبقى ذكرهم خالداً تتداوله الألسنة، ويعلي به الله تعالى منزلتهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ولاحظوا قول إبراهيم عندما طرده أبوه وقومه: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ [الشعراء:78-84]، وهذا اللسان أعطاه الله تعالى لإبراهيم وقد أمر محمداً صلى الله عليه وسلم، وأتباعه أن يتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين، فجعل الله له لسان صدق في الآخرين.
كذلك من هذه النعم التي من أجلها امتحن الله تعالى هؤلاء العباد: نعمة التثبيت، وأنتم تعرفون أن الناس يركنون إلى أولي الشجاعة والثبات، ويصفونهم بأوصاف الكمال؛ ولذلك فإن الشجاعة مرتبطة بالرجولة، ولا شك أنها وصف حميد حتى في الحيوانات البهيمية، ولا شك أن كثيراً منكم يميز بين الأرنب والأسد، فالأسد متصف بوصف شريف، وهو الشجاعة، والأرنب تتصف بوصف مخالف لذلك، وهو عدم الشجاعة والجراءة، فجرأة الأسد وصف حميد يتصف به الرجال الأشداء عندما يمتحنون فيثبتون، أما قبل المحنة فإنهم لا يدرون هل هم متصفون بهذا الوصف أو لا.
أنتم اليوم قبل أن تمتحنوا لعل فيكم كثيراً من الشجعان، كثيراً من الأقوياء، كثيراً من ذوي الجلد والجراءة، ولكن ذلك مستور بستار لا نطلع عليه اليوم؛ لأنه إنما يكون تحت المحك، فإذا جاء المحك فسيبرز أهل الجلد والقوة والشجاعة، لكن قبل أن يأتي هذا المحك لا يمكن لنا أن نمدح أحداً بأنه شجاع من بين الحاضرين؛ لأننا لا ندري لعلنا نمدحه بخلاف ما فيه، فنكون متهكمين، لكنه إذا وقف تلك الوقفة الشجاعة، وثبت في ذلك الموقف العظيم كما وقف أبو بكر الصديق عندما ارتد العرب عن دين الله، فقال: ( بأبي أنت وأمي يا رسول الله، أما الموتة التي كتب الله عليك فقد متها، ثم قام خطيباً على المنبر، وقال: أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، فقاتلوا عن دينكم، ثم كسر قراب سيفه، وقال: أينقص هذا الدين وأنا حي ) أي: لا يمكن أن يتعرض لهذا الدين أحد وأنا معافى في بدني، وفي صحتي، وفي كل أموري، فهذا الموقف الذي ظهر منه لو لم يمتحن الله تعالى هذه الأمة بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عرفته، ولما سجله التاريخ لـأبي بكر الصديق ، فإنه لو عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا لما عرفنا شجاعة أبي بكر الصديق ، ولا كتب له هذا الموقف المشرف الذي ما زال يذكر على رءوس الملأ فيشكر، وهو الذي يعلي الله به منزلته في الدار الآخرة.
وكذلك موقف ذلك الطفل الصغير الذي اتسع فمه من ثدي أمه، فقال: يا أماه! نار الدنيا خير من نار الآخرة، قال لها ذلك عندما كانت تعرض على الأخدود لترمى فيه، وتفتن عن دينها؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ، ورجل جاء إلى سلطان جائر، فأمره ونهاه، فأضجعه فذبحه )، فهذا سيد الشهداء، وأفضلهم بعد حمزة بن عبد المطلب ؛ لأنه قد امتحن فصبر، وبان جلده، وبانت شجاعته، فلذلك هانت عليه الدنيا في سبيل مرضاة الله.
وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الدجال عندما يأتي، يخرج له رجل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: ( إنك للدجال الذي أخبرنا عنك رسولنا صلى الله عليه وسلم، فيأمر به فيفلق، ويجعل فلقتين، ويمر الدجال بينهما ثم يدعوه فيقوم ما به بأس، فيقول: والله ما ازددت فيك إلا يقيناً، فيضجعه ويريد أن يذبحه، فيجعل الله ما بين ذقنه إلى ترقوته من النحاس، فلا يستطيع ذبحه )، وهذا من أولى الناس بالشهادة، ومن أفضلهم.
ولذلك نوه به الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك فإن ثبات مؤمن آل فرعون الذي قال: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ [غافر:28]، فهذا الموقف الشريف الذي سجله الله لهذا الرجل في كتابه، وبقي يتلى إلى أن يرفع القرآن، هو بسبب تلك الشجاعة التي لم تكن لتظهر ما دام مختفياً.
وكثير من الناس اليوم متصف بصفات جميلة، ومتصف بصفات يمكن أن تؤدي إلى الأجر، وإلى الذكر، وإلى الشكر، ولكنها لا تبدو ولا يطلع عليها؛ لأنها بمثابة الكبريت الأحمر، والصورة بالفكر أنه ناقص الثقة في نفسه فلا يجربها، ولا يضعها على المحك، ولكنه عندما ينفي الأوهام عن نفسه، ويبرز للبارئ الذي فطره وسواه، ويحقق إيمانه بالله سبحانه وتعالى، ويعلم علم اليقين أنه لا نافع ولا ضار إلا الله، يمكن أن يقول ما قال نوح : فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود:55-56].
ويمكن أن يقول ما قال محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، الذين قال الله فيهم: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ [آل عمران:173-174].
ويمكن أن يقول ما قال إبراهيم عندما رمي بالمنجنيق في النار، فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فقال الله: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ [الأنبياء:69-70]، ولا شك أن هذه من النعم العظيمة في هذا البلاء.
وهذا الامتحان مدعاة للتأثير في حياة أصحابه، وفي حياة أعدائهم أيضاً، فلا شك أن الذي يبتلى فيصبر في ذات الله، ويرضى بقدر الله، ويعلم أن ما أصابه من عند الله، فإنه يحب البلاء بسبب كونه من عند الله.
هناك فرق فيما يتعلق بالإيمان بالقدر، وما يتعلق بالرضا بقضاء الله تعالى، فالإيمان بالقدر شامل لخيره وشره، وأما الرضا بقضاء الله تعالى فإنما يجب بعد أن يكون، ولا يجب بالكفر، وإنما يجب الرضا بقضاء الله تعالى إذا كان في الإيمان وغيره، أما في الكفر فليس الرضا به مطلوباً؛ لأن الله تعالى يقول: وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر:7].
فإذاً هذا الفرق الدقيق في ما يتعلق بين الرضا بقضاء الله وقدره، وبين الإيمان بقدر الله تعالى، وهذا هو الذي يلاحظه أهل اليقين من المؤمنين الذين يحبون الله عز وجل حباً شديداً، فإنهم إذا أتاهم أمر من عند الله تعالى رضوا به وأحبوه؛ لأنهم لا ينظرون إلى ذات الأمر، وإنما ينظرون إلى من أتى هذا الأمر من قبله؛ فلذلك يحبونه؛ لأنهم يرضون بكل ما قدره الله سبحانه وتعالى لهم.
إن الأنبياء ومن دونهم قد امتحنوا في سبيل دعوتهم، فوصلوا بذلك إلى الدرجة الرابعة من درجات المجاهدة، وقد سمعتم في أكثر من موقف أن المجاهدة تمر بأربع مراتب:
المرتبة الأولى: المجاهدة على التعلم.
المرتبة الثانية: المجاهدة على العمل بما تعلمه الشخص.
والمرتبة الثالثة: المجاهدة على الدعوة.
والمرتبة الرابعة: المجاهدة على تحمل الأذى في سبيل ذلك. وهذه كلها مأخوذة من وصية لقمان لابنه التي حدثنا الله تعالى عنها في قوله: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، وهذا هو المقام الأول، وهو: التعليم. ثم قال بعده: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ [لقمان:17]، وهذا هو مقام العمل. ثم بعده:
وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ [لقمان:17]، وهو المقام الثالث، وهو: الدعوة. ثم قال بعده: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [لقمان:17]، وهذا هو المقام الرابع، وهو: الصبر على الأذى في سبيل الدعوة.
ثم إن هذا الدين كله امتحان، ولهذا ثبت في صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الطويل: ( إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم غير بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك )، فالرسول صلى الله عليه وسلم بعثه الله ليبتليه، هل يصبر على أداء رسالة ربه، ويقف ذلك الموقف المشرف الذي وقفه، وشهد له الله به، فقال: مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور:54]، وقال: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ [الذاريات:54]؟
ونحن أيضاً ممتحنون مبتلون ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلينا، هل نقدر على إقامة ما جاء به، وعلى الدعوة إليه، وعلى البذل والتضحية في سبيله؛ لأن كل دعوة لا يمكن أن تقوم ولا أن تنتشر ويعلو شأنها إلا على أشلاء الرجال، وإلا بتفليق الهامات، وإزالة الرءوس عن الرقاب، ولذلك قال الله تعالى للملائكة: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [الأنفال:12] وهذا في مجاهدة الكافرين، ولهذا فإن بيعة الله تعالى التي هي في أعناقنا جميعاً تشترط علينا هذا القدر من التضحية والجهاد، في قول الله تعالى: فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ [التوبة:111]، وفي قول الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:76].
إن الرسل عليهم الصلاة والسلام قد تعرض لهم أصحابهم، والذين أرسلوا إليهم بأنواع الإيذاء، فـنوح عليه السلام عندما كذبه قومه صبر على أذاهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، ولاحظوا أن الجلداء منا والأقوياء قد يصبر أحدهم على لحظة واحدة من الأذى فيعد ذلك مزية عظيمة، ولكن أولئك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يصبر أحدهم مثل هذه الفترة، ألف سنة إلا خمسين عاماً على أنواع الأذى، سواء منه ما تعرض للبدن، وما تعرض للعرض، وما تعرض للمال، وسواء منه ما كان في الأقربين، وما كان في الأبعدين، وإن الله عز وجل يختار لهم شرار خلقه، فيسلطهم عليهم، فالذين يقفون في وجه الدعوات، ويكافحون دعوات الأنبياء هم شرار الخلق عند الله تعالى؛ ولذلك صنفهم في حزب إبليس، وجعلهم أنداداً للرسل، وأنداداً للصالحين، فهؤلاء الذين يمتحن بهم الرسل دائماً هم أراذل الناس وشرارهم عند الله تعالى، ولذلك يقول الحكيم:
والحر ممتحن بأولاد الزنا ومكائد السفهاء لاحقة بهم
وعداوة العلماء بئس المقتنى..
وأنتم تعلمون أن شرار كل أمة عندما يسلطون على الأنبياء فستكون العاقبة للتقوى، وسيهلك هؤلاء، وبذلك يحكم عليهم بالفتن في وقت قد كان لهم فيه صولة وجولة، ثم يضمحل باطلهم، فللباطل صولة فيضمحل، ولكن النفوس المؤمنة هي التي تصبر مع بناء عقدة الباطل، حتى يصل إلى أقصى درجاته، ثم ينهار بنيانه، ويعود أدراجه، ويتهدم؛ ولهذا قال الله تعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يوسف:110]، ويقول الله تعالى في الآية الأخرى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ [الأنعام:34].
وهذا تقوية لفؤاد محمد صلى الله عليه وسلم ليصبر على ما ادخر الله له لما يعلي درجته من البلاء؛ فلذلك ثبته؛ لأنه في حلقة واحدة من سلسلة طويلة، وهذه السلسلة هي سلسلة المبتلين في ذات الله، الصابرين على الأذى في سبيل الله من الأنبياء والصالحين في مختلف العصور، وهذه السلسلة محمد صلى الله عليه وسلم حلقة من حلقاتها.
ولاحظوا يا معشر المؤمنين أنكم بنيلكم لهذه المنزلة، وبإبلائكم في سبيل الله تتصلون بهذه السلسلة، وتكونون في حلقات متصلة بحلقة محمد صلى الله عليه وسلم، واذكروا قول المحدثين في الإجازة عندما يقولون: كفى بالرجل شرفاً أن يكون اسمه أدنى سلسلة أعلاها اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا فيما يتعلق بالإجازة ورواية الحديث.
أما في ما يتعلق برواية العمل، فهو أشرف وأعلى؛ لأن الشخص إذا سلك على أقدام محمد صلى الله عليه وسلم، واتبع منهجه، فإنه لا بد أن ينال ما يناله.
ولذلك فإن من وراء هذه المحن فائدة عظيمة يغفل عنها كثير من الناس، وهي: التثبيت، أن يعلم الناس أنهم على الحق إذا امتحنوا، فكل طريق لا يؤدي إلى محنة، ولا يفتن أصحابه فليس طريق الله، ليس طريق الأنبياء، فطريق الأنبياء هو الذي يمتحن أهله، ويؤذون ويعذبون، ولهذا قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:1-3].
فلذلك فإنهم إذا امتحنوا وابتلوا عرفوا أنهم على الصراط المستقيم فثبتوا، ولاحظوا في سورة هود عندما قص الله تعالى امتحان الأنبياء وابتلاءهم على رسوله صلى الله عليه وسلم عقب ذلك التعقيب الجليل، وهو قول الله تعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود:120]، ولهذا قال عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى: إن حكايات الصالحين جند من جنود الله يثبت الله بها قلوب عباده المؤمنين، ومصداق ذلك قول الله تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ [هود:120].
فإذا عرف المؤمن أنه مهما أصيب به من الأذى فلن يكون إلا كما قالت أسماء بنت أبي بكر لابنها عبد الله بن الزبير : إن الشاة لا تألم بالسلخ بعد الذبح، فما بينه وبين الجنة إلا أن يسجد لحظة فتخرج هذه الروح إلى بارئها الذي فطرها، ونفخها في هذا البدن، وبعد ذلك ليفعلوا بالبدن ما شاءوا، وليفعلوا بالعرض ما شاءوا، ولهذا كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول في الصباح والمساء: ( اللهم إني قد وهبت نفسي وعرضي لك )، فكل ما يلقاه من الأذى في سبيل الله محتسب عند الله تعالى، ولن يضيع؛ ولذلك قال الله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [التوبة:120-121].
إن أنواع البلاء المذكورة في حياة الأنبياء والصالحين تنقسم إلى قسمين:
بلاء من قبل حزب الشيطان الذي يسلطه الله تعالى بباطله، ثم يكتب العاقبة للمتقين، ويمكن لهم، ويقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.
وبلاء آخر من قبل الله تعالى للتمحيص وللتثبيت، ويأتي من قبل الله دون واسطة، وهذا البلاء هو المذكور في قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ [المائدة:94] وكذلك البلاء الثاني هو المذكور في قول الله تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [آل عمران:186].
إن الدعوات التي قامت وجددت ملل الرسل، وسلكت أثرهم، وأقامت دين الله تعالى حتى دخل كل بيت فوق المعمورة ما قامت إلا على أساس صبر أولئك الصالحين المضحين الذين كان أحدهم عندما يوضع عنقه في المشنقة، ويوضع به الحبل فوق رأس الخشبة، ويوضع ما تحت رجليه من الكراسي والمقاعد، يعرض عليه أن يتراجع بكلمة واحدة تخلص حياته، فيقول: إن أصبعي التي أرفعها في التشهد، وشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله لا يمكن أن أسطر بها تكذيب ذلك، فكيف تكون هذه الأصبع التي سماها الرسول صلى الله عليه وسلم بالمسبحة -والجاهليون سموها بالسبابة؛ لأنهم يسبون الناس بها، ونحن نسبح الله بها، ونهلله، فلذلك اسمها الشرعي المسبحة- التي يشهد الشخص بها شهادة الحق، ويشهد الله على ما في قلبه، كيف يسطر بها خلاف ذلك، ويكذب بها نفسه بين يدي الله، فهذا لا يمكن أن يصدر عن قلب مؤمن مخلص.
كذلك تجدونهم عندما يتعرضون للتهديد بهذه المصائب المستقبلة، يبتسمون في وجه ذلك التهديد؛ لأنهم يعلمون أن معناه أنهم على الصراط المستقيم، وأنهم حينئذ قد أتيح لهم المجال لعقد صفقة مع الله، وكثير من الناس اليوم لا يفتح أمامه مجال في الاتجار مع الله، وأنتم تعلمون أن التاجر الراغب في الربح إذا وجد صفقة مربحة مع من يحب بادر إليها وانتهز الفرص، وفرح بها فرحاً شديدًا، وإن أربح صفقة في هذه الدنيا هي: الصفقة مع الله تعالى بالنفس، ثم الصفقة معه بما ينال دون ذلك من الأذى في البدن أو في العرض، أو في المال، وكلها صفقات مع الله، فإذا أتيحت الفرصة لعبد من عباد الله بأن يبيع الله عز وجل نفسه أو شيئاً من بدنه، أو وقته، أو عرضه، أو ماله، فإنه يبادر إلى ذلك، فينال به فرصة ذهبية لا تضيع، ولا يضيعها أبداً، لذلك يقربه الله تعالى إليه ويدنيه، ويوفقه لما هو أعظم من ذلك في سبيل التضحية.
لاحظوا تضحية مصعب بن عمير عندما تعرض لأذى أمه، فحبسته بين أربعة جدر، وقطعت رزقه، ونزعت عنه ملابسه، وآذته بأنواع الإيذاء، فصبر على ذلك في سبيل الله، ومع ذلك وفقه الله تعالى لما هو أعظم من هذا البلاء، فابتلي بأن قتل وفي يده لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فقد رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرفع لواء التوحيد في تلك الوقعة التي شهدتها الملائكة، في تلك الوقعة التي التقى فيها الصفان، وباع فيها المؤمنون أنفسهم، ونفائسهم لله تعالى، كما وصفها أحد المحبين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم من شعراء هذا البلد بقوله:
قامت بنصر الله أنصار دينه وبيعت من الله النفوس النفائس
وأنتم عندما ترون ذلك الموقف، وتأتون إلى تلك البقعة التي باع فيها أولئك الرجال أرواحهم لله، فتقفون عليهم، وتستشعرون وقوف رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم قبل وفاته بثمانية أيام عندما وقف عليهم، وقال: ( إني شهيد على هؤلاء بأن صدقوا ما عاهدوا الله عليه )، فإنكم تشعرون أنهم في قبورهم يرضون عن الله عز وجل، إذ شرفهم بهذه المكانة العالية، وأنهم بذلك أمنيتهم على الله واحدة، وهي ما تمناه عبد الله بن عمرو بن حرام على الله عندما لقيه وهو عنه راض، فإنه سأله أن يتمنى عليه، فقال: (أمنيتي أن تعيدني إلى الدنيا حتى أقتل فيك مرة أخرى)، وهذه الأمنية قد تمناها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ثبت عنه في صحيح البخاري وغيره أنه قال: ( ولوددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل، ثم أحيا فأقاتل فأقتل، ثم أحيا فأقاتل فأقتل )، فهذا الرسول الذي أعلى الله منزلته يتمنى على الله تعالى هذا الأذى في سبيله بالقتل ثلاث مرات، وأن يعاد إلى الدنيا بعد ذلك.
ولاحظوا أن هؤلاء الرجال بعد ست وأربعين سنة نبشت قبورهم، واستخرجت منهم مجموعة فإذا هم يبتسمون كأنهم يوم وضعوا في قبورهم، وإذا دماؤهم ما زالت كعهدها يوم وضعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبورهم، فرفعت يد خيثمة والد سعد بن خيثمة عن جرحه في خصره، فسال الدم فأعيدت عليه.
وجاء جابر إلى والده فكشف عن وجهه وهو مسجى بثوب، فما عهد شيئاً منه إلا رآه، إلا شعرات كانت أطول من لحيته فعادت إليها فحسن الله منظره وصورته بذلك.
وقد كان أولئك محقين فيما قالوا، فقد قال عمرو بن الجموح : إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة، فحقق الله ذلك، وقال اليمان لولده حذيفة : لا يمكن أن نترك أحداً للدنيا، أليست البيعة مع الله؟ فخرجا، فلقي اليمان الشهادة في سبيل الله بأسياف إخوانه على وجه الخطأ، فتصدق حذيفة بدمه على المؤمنين، وقال عبد الله بن عمرو بن حرام لولده جابر : إن لنا تسع نسوة ولو كان غير الجنة آثرتك، فدعني أخلف اليوم، فإذا أنا مت فقد انقطع ما كنت أريده، وما كنت أرغب فيه، ولك الحرية في أمري، فخرج عبد الله فلقي الله وهو عنه راض، ونال الشهادة، وبقي أمر النسوة التسع إلى جابر ، فلما كان من الغد سمع جابر رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي: حي على الجهاد، حي على الجهاد في سبيل الله، ولا يخرج معنا إلا من خرج بالأمس، وكان ذلك في اليوم الموالي لغزوة أحد، وهو يوم حمراء الأسد، فخرج جابر يشتد عدواً تحقيقاً لوصية والده، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( يا رسول الله! إني منعني أبي أمس من الخروج معك، فو الله ما منعني إلا أنه قال: إن لنا تسع نسوة، وإنهن ليس لهن كاف من غيري وغيره، ولو كان غير الجنة لآثرني، وإذا هو مات فافعل ما شئت، وإني أريد أن تجعلني في مكانه، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرج معه، ولم يأذن لأحد لم يشهد أحداً بالخروج معه إلا جابر بن عبد الله ).
وكذلك لاحظوا تلك المرأة المؤمنة المخلصة فاطمة بنت يزيد بن السكن التي قتل ثمانية رجال من أهل بيتها، قتل زوجها وولداها، وأبوها، وعمها، وعم أبيها، وأبناء عمها، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد المسلمون أن يردوها عنه؛ لأنها امرأة ضعيفة العاطفة، خشية أن تبكي، أو أن تدعو على نفسها، أو أن تعمل بعض أعمال الجاهلية في المصائب من اللطم والشق وغير ذلك، فلما جاءت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( دعوها، فإن ثمانية من أهل بيتها قد قتلوا، وهم يدافعون عني بين يدي )، فجاءت هذه المرأة، فلما رأت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تغشاها الفرح، فقالت: ( يا رسول الله! بأبي أنت وأمي كل مصيبة بعدها رؤيتك جلل )، أي: كل مصيبة أياً كانت ترى بعدها وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها لا تعدها مصيبة؛ وذلك لإيمان هذه المرأة وصدقها، وتضحيتها، ورضاها بهذه المصائب عندما حققت بها هذا المشهد العظيم من بقاء رسول صلى الله عليه وسلم ونصرته.
إن ذكرنا لهؤلاء الصالحين الذين أقدموا على هذه الصفقة، وتحدثنا بأخبارهم، وذكرنا لتاريخهم وحياتهم، ليس من باب السرد، وذكر الأخبار والقصص، والتلهي، وشهوات النفس، ومجرد الاطلاع، والثقافة، فليس هذا الكلام الذي كنا نتكلم به كلام الجرائد، وليس كلام وسائل الإعلام، بل هذا كلام كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلذلك إذا نحن قلناه، فمعناه أننا نقيم الحجة على أنفسنا أولاً ألا نكون مثل هؤلاء الذين نريد أن نزاحمهم في الفردوس الأعلى من الجنة، فكلنا يريد القرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومجاورته في الفردوس الأعلى من الجنة، ومع ذلك فأين ما نقدمه مما قدمه أولئك الرجال الذين تحدثنا عن بعض سيرهم، فإننا ندعي جميعاً أننا نحب الله تعالى حباً شديداً، ونحب رسوله صلى الله عليه وسلم حباً شديداً، وهذا شرط في الإيمان، لا يصح الإيمان دونه، فالله تعالى يقول: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165] والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( فوالذي نفس محمد بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين )، ويقول لـعمر : ( لا، حتى أكون أحب إليك من نفسك التي بين جنبيك ).
فمع هذا فإن هذا الحب المشروط علينا لا نجد كثيراً من آثاره في حياتنا، وقد رأينا أثر الابتلاء والامتحان في حياة الرسل والصالحين، ولكن أين أثر ذلك في حياتنا نحن؟ أين نحن منهم؟ وأين سلوكنا لطريقهم؟ وأين تمعر وجوهنا في ذات الله؟ هل الدين الذي جاءوا به وقاموا به قد رفع وانتهى؟ ورفعت المحنة به؟ لا، بل الدين باق مستمر خالد، هل النصرة التي دعانا إليها الله تعالى بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ [الصف:14]، قد نسخت ورفعت؟ لا، بل هي خالدة ناطقة علينا بالحق، هل المصائب والهجوم الذي يتعرض له الدين قد توقف؟ لا، بل قد ازداد، وتضاعف، فأين الرجال الذين يستحقون هذا اللقب؟ الذين ليسوا مجرد ذكور آدميين، الذين يستحقون لقب الرجولة عند الله تعالى، فالله تعالى جعل الرجولة وصفاً عظيماً، فقال تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب:23] وقال: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ [النور:36-37]، وقال: قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا [المائدة:23].
وهذا الوصف هنا، وهو: وصف الرجولة ليس مختصاً بالذكور، بل يدخل فيه النساء، فإنهن يتصفن بهذا الوصف من التضحية والإيمان، والإخلاص لله تعالى، ومن كان منهن كذلك كان استحقاقهن لهذا الوصف أعلى وأسمى من استحقاق غيرهن؛ لأن امتحانهن حينئذ سيكون أشد، ولاحظوا اللاتي رفع الله منزلتهن فضرب بهن المثل للمؤمنين في مقابل المثل السوء الذي ضربه الله تعالى للكافرين في سورة التحريم، فإنه ضرب مثلاً لامرأتين كانتا تحت عبدين من عباد الله صالحين، وامرأتين ابتليتا في دينهما فصبرتا، فضرب بالأوليين مثلاً للكافرين، وبالأخريين مثلاً للمؤمنين.
أقول هذا القول، وقد قامت به الحجة على نفسي، فأسأل الله تعالى أن يعين على تحمل المسئولية فيه، وقد قامت به الحجة أيضاً على كل من سمع، وكل من بلغ، وبذلك فإن هذه الكلمة التي هي كلمة الحق المدوية في هذا الهواء الذي خلقه الله تعالى، وسخره بين السماء والأرض، كل من مرت عليه، وكل ما مرت عليه فقد قامت الحجة عليه لله سبحانه وتعالى، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، فنسك بأصبعه في السماء وقال: اللهم فاشهد، اللهم فاشهد، اللهم فاشهد )، فلذلك فما على المؤمنين إلا أن ينجحوا في هذا الامتحان، فينالوا الجنة، أو أن يرسبوا فيه، فلا يلومن إلا أنفسهم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
والسلام عليكم ورحمة الله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر